hqreeq
19 Apr 2005, 08:19 AM
ابتهال بيتلو .. وذكريات تحت الأسر
--------------------------------------------------------------------------------
ءأسف على الأطالة ولكن لنعرف الحقيقة........
"و كأنه حلم يا صديقتي ...كانت الأيام تمرّ ببطء في الأسر ... و الآن أعود إلى بيتي ، أهلي ، غرفتي ، وذاك الوجه الذي ما فارقني ليلة واحدة ... أصحو كلّ ليلة ، أفكّر أن كلّ هذا غير حقيقيّ ، وأنّ المشهد سيزول بعد ثوان ، إيمان، فاطمة، أصرخ بأسمائهن،لا مجيب سوى هدوء الغرفة ... وكأنه حلم ، وكأنّ السجن لا ينتهي فينا، وكأنني لم أغادره منذ أيام طويلة ... أجلس أمامهم لا أقوى على الحديث وبداخلي كلامٌ لا ينتهي إليهم" . "لا أصدق أنني انتهيت أخيراً من كابوس الأسر، أدعو الله أن لا يذيقها أحدا. لقد كانت أياما صعبة لا أعرف إنْ كنت سأنساها يوماً..."
انتهت ابتهال يوسف بيتلو من كابوس الأسر فعلاً ، بعد عامين و نصف العام لم ترَ الشمس فيها سوى لدقائق قليلة في الطريق إلى المحكمة،و الكثير كان ينتظرها خارج سجن الرملة،و في الحياة الطبيعية- كما تصفها- هناك الوالد ،الصديق، الأخ، الأم التي أثقلتها الأحزان، و.. وجدي ذاك الذي أتوا به يوماً إلى غرفة التحقيق التي أعدّت لها وفي حالة لم تصدّق يوماً أنها ستراه بها وقد انتهى من جلسة شبحٍ وتعذيب، أخبروها يومها أنّه لن يخرج من السجن وأن تعذيبه وشبحه سيتواصل ما دامت لا تتكلّم ، قالت : "منظر خطيبي وجدي يقف أمامي متعباً وفاقد القدرة على التحرّك بسبب التعذيب ... لن يغيب عن ذهني ما دمت حية ..." .
"كنت أعرف أنهم قادمون":
في الحادي و العشرين من كانون الثاني 2003 ، كانت ابتهال (20 عاماً) في حينها ، تنهي مكالمة مع وجدي العاروري ، خطيبها الذي لم يمضِ على عقد قرانها به سوى ثلاثة أيام ، و إذا بالجنود الصهاينة يحاصرون سكن الطالبات الذي تقيم به في منطقة العيزرية و التابع لكلية الدعوة وأصول الدين في أبو ديس حيث كانت تدرس ، تقول ابتهال : "كنت أعرف أنهم سيأتون لاعتقالي .. حدسي أنبأني بذلك عندما علمت باعتقال صديقتي: فاطمة زايد ، و إيمان أبو سارة ، و لم أكن خائفة ؛ إذ إنني قلت لنفسي: قدر الله سينفذ مهما كان ، و يجب أن أواجه الموضوع بكل رباط و صبر ..." ، و في اليوم الذي اقتحموا فيه المكان كانت ابتهال في حالة صحية سيئة ، "عندما فتحت لهم الباب علمت على الفور أنهم أتوا لاعتقالي ، و لأنني في حالة صحية سيئة ، قلت لهم إنني لست ابتهال .. لكنهم اكتشفوا عكس ذلك لاحقاً ... و قاموا باقتيادي إلى بيت إيل و تم إيقافي هناك حتى الصباح ، حيث تم اعتقالي في الساعة التاسعة مساء ، و بقيت حتى التاسعة صباحاً " . تضيف ابتهال عن ليلة اعتقالها الأولى : "كانت ليلة صعبة جداً ، و البرد يجتاح الإنسان و كأنني لم يمر عليه مثل ذلك الشتاء .. وضعت في زنزانة صغيرة بلا أغطية و لا تدفئة ... و في البداية كنت وحدي و من ثم التقيت بالفتاتين اللتين اعتقلتا في نفس القضية لمدة دقائق معدودة و بعد ذلك وضعوني في زنزانة أخرى مع زوجة الأسير أحمد سعدات ، و كنت في حالة صحية يرثى لها ، و قد ازداد وضعي سوءاً بسبب تركي في العراء تحت المطر بالقرب من بيت إيل لمدة تزيد عن الساعة و نصف و عندما أدخلوني إلى الزنزانة كانوا قد صادروا حقيبة ملابسي ، و لم أستطع النوم طيلة تلك الليلة ، و في الثالث و العشرين من كانون ثاني تم نقلي إلى مركز تحقيق المسكوبية في القدس" .
التحقيق ... و صوره التي لا تغيب:
لا تزال تجربة التحقيق التي عايش الألم فيها جسدها و روحها ماثلة أمامها ، إذ إن فترة إخضاعها للتحقيق تجاوزت الخمسة و سبعين يوماً ، ستعرف ابتهال لاحقاً أنها الأيام الأصعب في حياتها ، و فيها رأت ما لم تكن تتوقّع في أسوأ كوابيسها ، تقول : "فقط الإيمان و الصبر هو الذي جعلني أصمد كلّ تلك الأيام الطويلة و المليئة بالحزن ..." ، و تضيف ابتهال أنهم خلال فترة التحقيق معها بتهمة مساعدة مطاردين فلسطينيين وتوفير المأوى لهم ، استعملوا أسوأ أساليب انتزاع الأقوال التي استخدمت مع المعتقلين الفلسطينيين عامة ، حيث لجأوا إلى أسلوب الشبح و الذي ترك في جسدي مشاكل صحية كبيرة و مضت فترة طويلة قبل أن أتخلص منها ، بالإضافة إلى أنّ أبشع الطرق هي أسلوب الضغط النفسي ، "أخبروني أن والدي تعرض لجلطة دماغية و أنه في المستشفى ، و أنهم قاموا بترحيل والدتي إلى الأردن ، و أنهم سيمنعون زواج إخوتي بأي طريقة ، و أن بيتنا أصبح كومة تراب، قالوا لي: طالما أنت في التحقيق و لم تعترفي سيظل خطيبك وجدي تحت التعذيب في المسكوبية، لم أصدق ما يقولون و قلت لهم: إنهم يكذبون و إن هذا الحديث لمجرد الضغط عليّ و إنني لا يوجد لدي ما أقوله مهما فعلوا..."
بعد أيامٍ و عندما كانت ابتهال تخضع لجلسة تعذيب أحضروا لها مجموعة صور، "كانت صوراً لخطيبي وجدي ، و عندما رأيته تمنيت لو أنني مت قبل هذا ، كانوا يلتقطون له الصور أثناء تعذيبه من أجل الضغط عليّ، قلت لهم: هذه الصور مفبركة و غير صحيحة، بعد دقائق كان وجدي أمامي ، و ما استطعت أن أقول كلمة ؛ كان متعباً للغاية و في حالة يرثى لها، يبدو أنه تعرض للشبح فترة طويلة ... سلَّم علي و سأل عني، و من ثم اقتادوه مباشرةً إلى الخارج،حاولت أن أتماسك،أخبروني أن حال وجدي سيظل كما رأيته حتى أدلي باعترافاتي و أنهي الموضوع" ..
و تضيف : "و في بعض المرات كانوا يتركونني وحيدة في غرفة التحقيق لمدة تزيد عن سبع ساعات و عندما يعودون يسألونني إذا كنت قد تعبت ، أجيبهم: أريد العودة إلى الزنزانة ، و يعودون لتركي ساعات أخرى،و في آخر أيام التحقيق كنت قد فقدت الكثير من وزني؛ حيث إنني كنت أصوم معظم الأيام بلا طعام صحيّ أو مناسب و في ظروف معيشية سيئة ، حيث إنّ الزنزانة لا يتوفر فيها أي شرط من شروط الحياة الصحية و هي عبارة عن غرفة مظلمة جدرانها مطلية بلون رمادي و مساحتها لا تزيد عن متر مربع و مفتوحة على الحمام،المكان رديء للغاية و يصدر منه روائح و أصوات غريبة ... كنت أقضي معظم الليالي في تلاوة القرآن و الأدعية ، و في بعض المرات كنت أنشد حتى أخفف عن نفسي..".
مع العصفورة :
و في قصة أخرى ترويها ابتهال ، تقول : "نُقِلت بعد انتهاء أيام التحقيق في المسكوبية إلى مركز التحقيق في عسقلان لمدة ثلاثة أيام و هناك تعرفت على ما يسمى بالعصافير ، حيث تركوني في زنزانة في اليوم الأول وحيدة ، و في اليوم التالي أحضروا لي فتاة غريبة ، حتى أنّ منظرها مقرف ، عرفت في الحال أنها ليست معتقلة و إنما عصفورة ... حاولت أن تسألني عن قضيتي لكنني ادعيت المرض و كنت طول الوقت نائمة" .
و في عسقلان أيضاً تعرضت ابتهال للشبح من جديد : "وضعوني على كرسي 45 درجة و قاموا بتقييد يدي و قدمي و وضع غطاء على عيني و بقيت هكذا منذ فترة الصباح و حتى المساء و بعد انتهاء جلسة الشبح تكون أصعب وضعية يمر فيها المعتقل إذ أنه لا يستطيع تحريك أي عضو من شدة الألم .... ، و كانوا يعلمون في حينها أنني صائمة و عندما طلبت منهم أن يحضروا لي شربة ماء أحضروا لي ماء ملوّثاً بالكاز استخدمته في الوضوء و هكذا قضيت يومين بلا طعام و لا شراب ، و المختلف هناك أن الزنزانة كان يوجد بها قطط و كلاب و حشرات من شتى الأنواع ..." ..
الحياة تحت الأرض :
بعد احتجازها في تحقيق عسقلان تم نقل ابتهال إلى سجن النساء في الرملة حيث يتمّ احتجاز أكثر من مائة و عشرين أسيرة فلسطينية في ظروفٍ لا يمكن وصفها إلا ممن عايش الألم و الأمراض و الإضرابات و اقتحام الغرف ، و كانت تنام مع الرطوبة و الحشرات في فراش واحد ... تتحدث ابتهال عن وضع الأسيرات في "مقبرة الأحياء" كما أطلقت عليها : "وضع الأسيرات خطيرٌ جداً و صعبٌ للغاية ، لا أحد يتحرّك من أجل حلّ قضيّتهنّ و الإفراج عنهنّ لأنهم لا يدركون مدى المعاناة التي يعشنها ... تعيش في الغرفة الواحدة ست أسيرات و لا يوجد فيها سوى أسرّة عبارة عن قواعد من الباطون يوضع عليها فرشات ، و لا يوجد أية نوافذ أو فتحات للتهوية ، كثيراً ما كنّا نصحو ليلاً من أجل تنشيف الفرش الذي يصبح و كأنّه غرق في الماء بسبب الرطوبة ، و مع كلّ هذا لا يوجد في الغرفة وسائل للتدفئة إلا ما يسمى بالبلاطة ، قطعة بلاطة على شكل دائرة يتم تسخينها و استخدامها لأغراض الطبخ و ما شابه .. و كنا نستخدمها في تجفيف الفراش أيضاً و الملابس ... كلّ شي في الغرفة بحاجة للتجفيف ، حتى في عزّ الصيف لا تفارقنا الرطوبة، لم نكن نعلم إنْ كان الوقت في الخارج نهاراً أم ليلاً، فقد انتهت علاقتنا مع الشمس و النهار منذ تم إلقاؤنا على أبواب سجن الرملة ...".
تتابع ابتهال بعبارات الذكريات المرتجعة : "لن أنسى هذا ما حييت ... حتى في ساحة الفورة لم نكن لنشعر بالحياة ... في ذلك المكان الذي يسمّونه ساحة الفورة لا تتجاوز المساحة الثلاثة أمتار مربعة و مغطاة بالأسمنت المسلح ... و كأننا في صندوقٍ مغلق لا شيء فيه سوى الاختناق ..." .
ووسط هذه الأوضاع بات الوضع الصحيّ للأسيرات في سجن الرملة-خاصة -مأساوياً ، إذ إن أمراضا عدة انتشرت بين الأسيرات خاصة الفطريات و الأمراض الجلدية و تساقط الشعر بشكلٍ كبيرٍ إضافة إلى آلام العظام و الروماتيزم خاصة في الشتاء ، تقول ابتهال : "إن أيّاً من وسائل التدفئة غير متوفرة في الغرف مما يدفع الأسيرات إلى تسخين المياه و تعبئة العبوات البلاستيكية و وضعها في الفراش من أجل الحصول على القليل من الدفء .. مهما استطعت الوصف لا يمكنني التعبير عن قسوة العيش في ذلك المكان،لا يوجد أطباء،و العلاج الموجود فقط الأكامول،لا يوجد أغطية أو ملا بس كافية إذ إن الإدارة لا تسمح بإدخالها، في الكثير من الأحيان كنا نلجأ لاستخدام الجلابيب و ما يتوفر من الملابس كأغطية، تشعر الأسيرة أن كل شيء فيها يرتجف ، كنت أشعر بقلبي يكاد يخرج من مكانه، حتى الحمام الملحق بالغرفة عبارة عن مكان مفتوح بلا أبواب و برائحة كريهة و لا نستطيع استخدامه إلا إذا جلست بقية الأسيرات في زاوية واحدة من الغرفة؛ إذ أنه مكشوف، نادراً ما يكون هناك ماء ساخن خاصة في الشتاء،أما بالنسبة للأكل فلا يمكن الاعتماد عليه بتاتاً و كنا نشتري ما نحتاج من الكانتينا التي في معظمها معلبات مليئة بالمواد الحافظة و الملونات مما أثر على صحتنا العامة بشكل سلبي" .
"و كأنني طفل ذاهب للعيد":
وعلى الرغم من هذه الظروف إلا أن الأسيرات يعشن في حالة عزلة عن الناس حيث لا يسمح لهن بالاتصال بأهاليهن ، و لا تتمكن معظمهن من زيارة ذويهن ، تصف ابتهال هذا الأمر : "ليس كل المعتقلات يسمح لهن بالزيارة ، فقط الأسيرات من مدينة القدس ، و لكن هناك الكثير منهن لم يشاهدن أياً من عائلاتهن منذ ما يزيد عن أربع سنوات ، بالنسبة لي تمكنت من مشاهدة أمي في زيارة سمح لي بها بعد 8 أشهر من اعتقالي ..." ، لم تستطع ابتهال تصديق الأمر في البداية ، كانت تستمع إلى برنامج الأسرى مع بقية الأسيرات عندما سمعت إحدى صديقاتها تسلم عليها وتبارك لها بالزيارة التي سمح لوالدتها فقط بالقيام بها ، تقول : "لم أصدق،رحت أبكي و كل من كان معي من الأسيرات خاصة أنهن جميعاً في غرفتي ممنوعات من الزيارة ، غسلت ملابسي واغتسلت وحضرت نفسي كأنني طفل ذاهب للعيد ، لم أستطع النوم طيلة الليل، رحت أفكر كيف سأرتمي في أحضان والدتي، و كيف سألمس وجهها، وعندما أتت لم أستطع حتى سؤالها عن حال أهلي ، رحت أبكي بدون انقطاع، ثم حاولت معرفة أحوال والدي ، ذلك الرجل الصديق و الأخ وكل ما هو جميل في حياتي ... عن إخوتي وعن وجدي ، أخبرتني أنهم أطلقوا سراحه .. فرحت كثيراً ... و رغم أنه كان يفصل بيننا الزجاج والشبك إلا أنني كنت ومن خلال فتحت صغيرة أصرخ علّها تسمعني ... و كانت أصعب اللحظات عندما أعلن الجندي انتهاء الزيارة ... حينها شعرت أنني بدأت السجن من جديد ..." .
و ما أدراك ما الإضراب ؟!!
و رغم القصص المتراصة في ذهنها إلا أن ابتهال و من بين أيام الاعتقال الطويلة استطاعت أن تروي تجربة خوض الإضراب عن الطعام و التي خاضها الأسرى و الأسيرات في سجون الاحتلال في آب الصيف الماضي ، تقول : "أضربت الأسيرات في هذه المرة 13 يوماً ... بلا سكر و لا ملح ، حاولنا وضع عبوات من الماء و الملح في الثلاجة إلا أنهم قاموا بمصادرتها ، و كنا نرفض تناول أي طعام أو شراب .. إضراب شامل ... و في اليوم الخامس توقفنا عن شرب الماء و التزمنا الفراش جميعاً ... هناك فتيات فقدن الذاكرة حتى لم تعدْ الواحدة تتعرف على زميلتها في الغرفة ... كنت أحمد الله دوماً و أتمسك بالصبر و كنت حريصة على الخروج للفورة يومياً ، بالرغم من أننا كنا نتحامل على بعضنا و نستند إلى الجدران .. فقط كي نطمئن على باقي الفتيات .. و عندما كنا نلجأ إلى شرب الماء كنت أستفرغ مباشرة إذ إن هذه العملية تصبح صعبة جداً، وفي أحد أيام الإضراب شاهدت فاطمة زايد الفتاة التي اعتقلت في نفس قضيتي و عندما اقتربت منها و سألتها عن وضعها لم تتعرف عليّ ؛ كانت قد فقدت ذاكرتها، و قد تأثرت كثيراً لمنظرها".
تضيف ابتهال : "كانوا يقتحمون الغرف يومياً لأكثر من ثلاث مرات و يقلبون كلّ شيء رأساً على عقب في محاولة للعثور على الملح ... و لم نكن في وضعٍ نستطيع من خلالها رفع الفراش، و في الكثير من المرات كنا ننام عليه و هو ملقى على أرضية الغرفة ... و في الأيام الأولى للإضراب نفقد القدرة على الوصول إلى الأسِرَّة التي في الطابق العلوي ... خفنا كثيراً على وضع البنات .. و بالنسبة لي بشكلٍ خاص ساءت أوضاعي الصحية بشكلٍ كبير حتى أنني فقدت الرؤية بشكل سليم ، و أصابني ضعف في الذاكرة و شلّت قدرتي على الحركة ، لكنني بقيت مصمّمة على رفض أخذ (إبرة الكيلو) التي يحاولون إعطاءها لنا من أجل فك الإضراب و إخلاء مسؤوليتهم .. في الأيام الأخيرة رحت أحرص على شرب الماء على الرغم من صعوبة نتائجه إلا أنه كان كفيلاً بإعادتي إلى الوعي ..." .
الكثيرات تشوهت أجسادهن :
و لكن انتهاء إضراب الأسيرات في الرملة لم يوقف حملات القمع واقتحام الغرف كما قالت ابتهال : "أتذكر حملات القمع المستمرة ، حيث يأتي الجنود و المجندات بشكلٍ وحشي و يشرعون بضرب الأسيرات بالهراوات دون رحمة ... الكثير من الأسيرات تشوهت أجسادهن خاصة عندما كانوا يستخدمون خراطيم المياه الشديدة السخونة في الصيف و الباردة جداً في الشتاء، و في بعض المرات كانوا يرشون الغرف بالغاز و يغلقون كافة المنافذ كاملة مما يؤدي إلى إغماء كافة الأسيرات و تدهور أوضاع المريضات منهن ...".
"و أنا لا زلت مصدومة" ...
و مع اقتراب الأيام الأخيرة من العامين و النصف التي قضتها ابتهال في سجن الرملة صار مشهد الإفراج يرتسم بصورةٍ أوضح في ذاكرتها، و صار حلم الخروج من قبر الرملة إلى جنة الحياة يقترب أكثر، ومعه أصبح كلّ شيء مختلفاً : "لم تكن الفترة التي جلست أنتظر فيها يوم الإفراج عني بالسهلة؛ كنت أشعر أنني لن أستطيع استيعاب الأمر و العودة إلى الحياة العادية، وكنت أتمنى لو أنني ألتقي أولاً بأسيرة محررة علني أعرف كيف يمكنني استيعاب الأمر. في الأسبوع الأخير فقدت القدرة على النوم ، أقضي الليل وأنا أفكر كيف سأرى أهلي وإخوتي ... وكيف سأحتضن والدي الذي ما اشتقت لأحد مثله ، صورته لم تفارق خيالي حتى في لحظات فقدان الوعي كنت أراه ، و أشتاق إليه ... إخوتي الذين تزوجوا و أنجبوا أطفالاً في غيابي ... و كذلك وجدي الذي أرهقني انتظاره في أيامٍ لا تنتهي كنت أشعر بالدقائق تمرّ بطيئة و قاتلة أحياناً "، و تضيف ابتهال : "في الأسر يشعر الإنسان أنه أصبح شخصاً آخر، عامان و نصف تحت الأرض تجعل منا غرباء عن أنفسنا وأهلنا ، و هذا ما أخافني، عمدت (إسرائيل) إلى قلب الواقع في السجون ، لا شيء فيها يدلّ على حياة طبيعية وكأن الإنسان يعيش في خيال قاسٍ ، كل شيء في السجن غير شبيه بما هو عليه في الخارج: الغرف ، الأسرّة ، الحمام ، حتى ما يسمى بغاز الطبخ ليس كما هو في الحياة الطبيعية، كل شيء غريب" .
عندما أفرج عن ابتهال في الثالث من شباط الماضي كادت تلقي بنفسها من السيارة التي أقلتها من حاجز مودعين إلى رام الله عندما شاهدت والدها : "كنت أشعر أنهم جميعاً فرحون لكنني كنت في حالة من الذهول أفزعتني ، حتى الآن لا أصدق أنني خرجت إلى الحياة أخيراً، وأنهم أمامي جميعاً .. وعندما التقيت وجدي كانت أصعب اللحظات ، حتى اليوم لا أستطيع أن أعبّر له عن امتناني؛ صبر و تحمل مدة طويلة ، و اختار أن ينتظرني ، و ها هو اليوم أمامي و كأن شيئاً لم يكن.
--------------------------------------------------------------------------------
ءأسف على الأطالة ولكن لنعرف الحقيقة........
"و كأنه حلم يا صديقتي ...كانت الأيام تمرّ ببطء في الأسر ... و الآن أعود إلى بيتي ، أهلي ، غرفتي ، وذاك الوجه الذي ما فارقني ليلة واحدة ... أصحو كلّ ليلة ، أفكّر أن كلّ هذا غير حقيقيّ ، وأنّ المشهد سيزول بعد ثوان ، إيمان، فاطمة، أصرخ بأسمائهن،لا مجيب سوى هدوء الغرفة ... وكأنه حلم ، وكأنّ السجن لا ينتهي فينا، وكأنني لم أغادره منذ أيام طويلة ... أجلس أمامهم لا أقوى على الحديث وبداخلي كلامٌ لا ينتهي إليهم" . "لا أصدق أنني انتهيت أخيراً من كابوس الأسر، أدعو الله أن لا يذيقها أحدا. لقد كانت أياما صعبة لا أعرف إنْ كنت سأنساها يوماً..."
انتهت ابتهال يوسف بيتلو من كابوس الأسر فعلاً ، بعد عامين و نصف العام لم ترَ الشمس فيها سوى لدقائق قليلة في الطريق إلى المحكمة،و الكثير كان ينتظرها خارج سجن الرملة،و في الحياة الطبيعية- كما تصفها- هناك الوالد ،الصديق، الأخ، الأم التي أثقلتها الأحزان، و.. وجدي ذاك الذي أتوا به يوماً إلى غرفة التحقيق التي أعدّت لها وفي حالة لم تصدّق يوماً أنها ستراه بها وقد انتهى من جلسة شبحٍ وتعذيب، أخبروها يومها أنّه لن يخرج من السجن وأن تعذيبه وشبحه سيتواصل ما دامت لا تتكلّم ، قالت : "منظر خطيبي وجدي يقف أمامي متعباً وفاقد القدرة على التحرّك بسبب التعذيب ... لن يغيب عن ذهني ما دمت حية ..." .
"كنت أعرف أنهم قادمون":
في الحادي و العشرين من كانون الثاني 2003 ، كانت ابتهال (20 عاماً) في حينها ، تنهي مكالمة مع وجدي العاروري ، خطيبها الذي لم يمضِ على عقد قرانها به سوى ثلاثة أيام ، و إذا بالجنود الصهاينة يحاصرون سكن الطالبات الذي تقيم به في منطقة العيزرية و التابع لكلية الدعوة وأصول الدين في أبو ديس حيث كانت تدرس ، تقول ابتهال : "كنت أعرف أنهم سيأتون لاعتقالي .. حدسي أنبأني بذلك عندما علمت باعتقال صديقتي: فاطمة زايد ، و إيمان أبو سارة ، و لم أكن خائفة ؛ إذ إنني قلت لنفسي: قدر الله سينفذ مهما كان ، و يجب أن أواجه الموضوع بكل رباط و صبر ..." ، و في اليوم الذي اقتحموا فيه المكان كانت ابتهال في حالة صحية سيئة ، "عندما فتحت لهم الباب علمت على الفور أنهم أتوا لاعتقالي ، و لأنني في حالة صحية سيئة ، قلت لهم إنني لست ابتهال .. لكنهم اكتشفوا عكس ذلك لاحقاً ... و قاموا باقتيادي إلى بيت إيل و تم إيقافي هناك حتى الصباح ، حيث تم اعتقالي في الساعة التاسعة مساء ، و بقيت حتى التاسعة صباحاً " . تضيف ابتهال عن ليلة اعتقالها الأولى : "كانت ليلة صعبة جداً ، و البرد يجتاح الإنسان و كأنني لم يمر عليه مثل ذلك الشتاء .. وضعت في زنزانة صغيرة بلا أغطية و لا تدفئة ... و في البداية كنت وحدي و من ثم التقيت بالفتاتين اللتين اعتقلتا في نفس القضية لمدة دقائق معدودة و بعد ذلك وضعوني في زنزانة أخرى مع زوجة الأسير أحمد سعدات ، و كنت في حالة صحية يرثى لها ، و قد ازداد وضعي سوءاً بسبب تركي في العراء تحت المطر بالقرب من بيت إيل لمدة تزيد عن الساعة و نصف و عندما أدخلوني إلى الزنزانة كانوا قد صادروا حقيبة ملابسي ، و لم أستطع النوم طيلة تلك الليلة ، و في الثالث و العشرين من كانون ثاني تم نقلي إلى مركز تحقيق المسكوبية في القدس" .
التحقيق ... و صوره التي لا تغيب:
لا تزال تجربة التحقيق التي عايش الألم فيها جسدها و روحها ماثلة أمامها ، إذ إن فترة إخضاعها للتحقيق تجاوزت الخمسة و سبعين يوماً ، ستعرف ابتهال لاحقاً أنها الأيام الأصعب في حياتها ، و فيها رأت ما لم تكن تتوقّع في أسوأ كوابيسها ، تقول : "فقط الإيمان و الصبر هو الذي جعلني أصمد كلّ تلك الأيام الطويلة و المليئة بالحزن ..." ، و تضيف ابتهال أنهم خلال فترة التحقيق معها بتهمة مساعدة مطاردين فلسطينيين وتوفير المأوى لهم ، استعملوا أسوأ أساليب انتزاع الأقوال التي استخدمت مع المعتقلين الفلسطينيين عامة ، حيث لجأوا إلى أسلوب الشبح و الذي ترك في جسدي مشاكل صحية كبيرة و مضت فترة طويلة قبل أن أتخلص منها ، بالإضافة إلى أنّ أبشع الطرق هي أسلوب الضغط النفسي ، "أخبروني أن والدي تعرض لجلطة دماغية و أنه في المستشفى ، و أنهم قاموا بترحيل والدتي إلى الأردن ، و أنهم سيمنعون زواج إخوتي بأي طريقة ، و أن بيتنا أصبح كومة تراب، قالوا لي: طالما أنت في التحقيق و لم تعترفي سيظل خطيبك وجدي تحت التعذيب في المسكوبية، لم أصدق ما يقولون و قلت لهم: إنهم يكذبون و إن هذا الحديث لمجرد الضغط عليّ و إنني لا يوجد لدي ما أقوله مهما فعلوا..."
بعد أيامٍ و عندما كانت ابتهال تخضع لجلسة تعذيب أحضروا لها مجموعة صور، "كانت صوراً لخطيبي وجدي ، و عندما رأيته تمنيت لو أنني مت قبل هذا ، كانوا يلتقطون له الصور أثناء تعذيبه من أجل الضغط عليّ، قلت لهم: هذه الصور مفبركة و غير صحيحة، بعد دقائق كان وجدي أمامي ، و ما استطعت أن أقول كلمة ؛ كان متعباً للغاية و في حالة يرثى لها، يبدو أنه تعرض للشبح فترة طويلة ... سلَّم علي و سأل عني، و من ثم اقتادوه مباشرةً إلى الخارج،حاولت أن أتماسك،أخبروني أن حال وجدي سيظل كما رأيته حتى أدلي باعترافاتي و أنهي الموضوع" ..
و تضيف : "و في بعض المرات كانوا يتركونني وحيدة في غرفة التحقيق لمدة تزيد عن سبع ساعات و عندما يعودون يسألونني إذا كنت قد تعبت ، أجيبهم: أريد العودة إلى الزنزانة ، و يعودون لتركي ساعات أخرى،و في آخر أيام التحقيق كنت قد فقدت الكثير من وزني؛ حيث إنني كنت أصوم معظم الأيام بلا طعام صحيّ أو مناسب و في ظروف معيشية سيئة ، حيث إنّ الزنزانة لا يتوفر فيها أي شرط من شروط الحياة الصحية و هي عبارة عن غرفة مظلمة جدرانها مطلية بلون رمادي و مساحتها لا تزيد عن متر مربع و مفتوحة على الحمام،المكان رديء للغاية و يصدر منه روائح و أصوات غريبة ... كنت أقضي معظم الليالي في تلاوة القرآن و الأدعية ، و في بعض المرات كنت أنشد حتى أخفف عن نفسي..".
مع العصفورة :
و في قصة أخرى ترويها ابتهال ، تقول : "نُقِلت بعد انتهاء أيام التحقيق في المسكوبية إلى مركز التحقيق في عسقلان لمدة ثلاثة أيام و هناك تعرفت على ما يسمى بالعصافير ، حيث تركوني في زنزانة في اليوم الأول وحيدة ، و في اليوم التالي أحضروا لي فتاة غريبة ، حتى أنّ منظرها مقرف ، عرفت في الحال أنها ليست معتقلة و إنما عصفورة ... حاولت أن تسألني عن قضيتي لكنني ادعيت المرض و كنت طول الوقت نائمة" .
و في عسقلان أيضاً تعرضت ابتهال للشبح من جديد : "وضعوني على كرسي 45 درجة و قاموا بتقييد يدي و قدمي و وضع غطاء على عيني و بقيت هكذا منذ فترة الصباح و حتى المساء و بعد انتهاء جلسة الشبح تكون أصعب وضعية يمر فيها المعتقل إذ أنه لا يستطيع تحريك أي عضو من شدة الألم .... ، و كانوا يعلمون في حينها أنني صائمة و عندما طلبت منهم أن يحضروا لي شربة ماء أحضروا لي ماء ملوّثاً بالكاز استخدمته في الوضوء و هكذا قضيت يومين بلا طعام و لا شراب ، و المختلف هناك أن الزنزانة كان يوجد بها قطط و كلاب و حشرات من شتى الأنواع ..." ..
الحياة تحت الأرض :
بعد احتجازها في تحقيق عسقلان تم نقل ابتهال إلى سجن النساء في الرملة حيث يتمّ احتجاز أكثر من مائة و عشرين أسيرة فلسطينية في ظروفٍ لا يمكن وصفها إلا ممن عايش الألم و الأمراض و الإضرابات و اقتحام الغرف ، و كانت تنام مع الرطوبة و الحشرات في فراش واحد ... تتحدث ابتهال عن وضع الأسيرات في "مقبرة الأحياء" كما أطلقت عليها : "وضع الأسيرات خطيرٌ جداً و صعبٌ للغاية ، لا أحد يتحرّك من أجل حلّ قضيّتهنّ و الإفراج عنهنّ لأنهم لا يدركون مدى المعاناة التي يعشنها ... تعيش في الغرفة الواحدة ست أسيرات و لا يوجد فيها سوى أسرّة عبارة عن قواعد من الباطون يوضع عليها فرشات ، و لا يوجد أية نوافذ أو فتحات للتهوية ، كثيراً ما كنّا نصحو ليلاً من أجل تنشيف الفرش الذي يصبح و كأنّه غرق في الماء بسبب الرطوبة ، و مع كلّ هذا لا يوجد في الغرفة وسائل للتدفئة إلا ما يسمى بالبلاطة ، قطعة بلاطة على شكل دائرة يتم تسخينها و استخدامها لأغراض الطبخ و ما شابه .. و كنا نستخدمها في تجفيف الفراش أيضاً و الملابس ... كلّ شي في الغرفة بحاجة للتجفيف ، حتى في عزّ الصيف لا تفارقنا الرطوبة، لم نكن نعلم إنْ كان الوقت في الخارج نهاراً أم ليلاً، فقد انتهت علاقتنا مع الشمس و النهار منذ تم إلقاؤنا على أبواب سجن الرملة ...".
تتابع ابتهال بعبارات الذكريات المرتجعة : "لن أنسى هذا ما حييت ... حتى في ساحة الفورة لم نكن لنشعر بالحياة ... في ذلك المكان الذي يسمّونه ساحة الفورة لا تتجاوز المساحة الثلاثة أمتار مربعة و مغطاة بالأسمنت المسلح ... و كأننا في صندوقٍ مغلق لا شيء فيه سوى الاختناق ..." .
ووسط هذه الأوضاع بات الوضع الصحيّ للأسيرات في سجن الرملة-خاصة -مأساوياً ، إذ إن أمراضا عدة انتشرت بين الأسيرات خاصة الفطريات و الأمراض الجلدية و تساقط الشعر بشكلٍ كبيرٍ إضافة إلى آلام العظام و الروماتيزم خاصة في الشتاء ، تقول ابتهال : "إن أيّاً من وسائل التدفئة غير متوفرة في الغرف مما يدفع الأسيرات إلى تسخين المياه و تعبئة العبوات البلاستيكية و وضعها في الفراش من أجل الحصول على القليل من الدفء .. مهما استطعت الوصف لا يمكنني التعبير عن قسوة العيش في ذلك المكان،لا يوجد أطباء،و العلاج الموجود فقط الأكامول،لا يوجد أغطية أو ملا بس كافية إذ إن الإدارة لا تسمح بإدخالها، في الكثير من الأحيان كنا نلجأ لاستخدام الجلابيب و ما يتوفر من الملابس كأغطية، تشعر الأسيرة أن كل شيء فيها يرتجف ، كنت أشعر بقلبي يكاد يخرج من مكانه، حتى الحمام الملحق بالغرفة عبارة عن مكان مفتوح بلا أبواب و برائحة كريهة و لا نستطيع استخدامه إلا إذا جلست بقية الأسيرات في زاوية واحدة من الغرفة؛ إذ أنه مكشوف، نادراً ما يكون هناك ماء ساخن خاصة في الشتاء،أما بالنسبة للأكل فلا يمكن الاعتماد عليه بتاتاً و كنا نشتري ما نحتاج من الكانتينا التي في معظمها معلبات مليئة بالمواد الحافظة و الملونات مما أثر على صحتنا العامة بشكل سلبي" .
"و كأنني طفل ذاهب للعيد":
وعلى الرغم من هذه الظروف إلا أن الأسيرات يعشن في حالة عزلة عن الناس حيث لا يسمح لهن بالاتصال بأهاليهن ، و لا تتمكن معظمهن من زيارة ذويهن ، تصف ابتهال هذا الأمر : "ليس كل المعتقلات يسمح لهن بالزيارة ، فقط الأسيرات من مدينة القدس ، و لكن هناك الكثير منهن لم يشاهدن أياً من عائلاتهن منذ ما يزيد عن أربع سنوات ، بالنسبة لي تمكنت من مشاهدة أمي في زيارة سمح لي بها بعد 8 أشهر من اعتقالي ..." ، لم تستطع ابتهال تصديق الأمر في البداية ، كانت تستمع إلى برنامج الأسرى مع بقية الأسيرات عندما سمعت إحدى صديقاتها تسلم عليها وتبارك لها بالزيارة التي سمح لوالدتها فقط بالقيام بها ، تقول : "لم أصدق،رحت أبكي و كل من كان معي من الأسيرات خاصة أنهن جميعاً في غرفتي ممنوعات من الزيارة ، غسلت ملابسي واغتسلت وحضرت نفسي كأنني طفل ذاهب للعيد ، لم أستطع النوم طيلة الليل، رحت أفكر كيف سأرتمي في أحضان والدتي، و كيف سألمس وجهها، وعندما أتت لم أستطع حتى سؤالها عن حال أهلي ، رحت أبكي بدون انقطاع، ثم حاولت معرفة أحوال والدي ، ذلك الرجل الصديق و الأخ وكل ما هو جميل في حياتي ... عن إخوتي وعن وجدي ، أخبرتني أنهم أطلقوا سراحه .. فرحت كثيراً ... و رغم أنه كان يفصل بيننا الزجاج والشبك إلا أنني كنت ومن خلال فتحت صغيرة أصرخ علّها تسمعني ... و كانت أصعب اللحظات عندما أعلن الجندي انتهاء الزيارة ... حينها شعرت أنني بدأت السجن من جديد ..." .
و ما أدراك ما الإضراب ؟!!
و رغم القصص المتراصة في ذهنها إلا أن ابتهال و من بين أيام الاعتقال الطويلة استطاعت أن تروي تجربة خوض الإضراب عن الطعام و التي خاضها الأسرى و الأسيرات في سجون الاحتلال في آب الصيف الماضي ، تقول : "أضربت الأسيرات في هذه المرة 13 يوماً ... بلا سكر و لا ملح ، حاولنا وضع عبوات من الماء و الملح في الثلاجة إلا أنهم قاموا بمصادرتها ، و كنا نرفض تناول أي طعام أو شراب .. إضراب شامل ... و في اليوم الخامس توقفنا عن شرب الماء و التزمنا الفراش جميعاً ... هناك فتيات فقدن الذاكرة حتى لم تعدْ الواحدة تتعرف على زميلتها في الغرفة ... كنت أحمد الله دوماً و أتمسك بالصبر و كنت حريصة على الخروج للفورة يومياً ، بالرغم من أننا كنا نتحامل على بعضنا و نستند إلى الجدران .. فقط كي نطمئن على باقي الفتيات .. و عندما كنا نلجأ إلى شرب الماء كنت أستفرغ مباشرة إذ إن هذه العملية تصبح صعبة جداً، وفي أحد أيام الإضراب شاهدت فاطمة زايد الفتاة التي اعتقلت في نفس قضيتي و عندما اقتربت منها و سألتها عن وضعها لم تتعرف عليّ ؛ كانت قد فقدت ذاكرتها، و قد تأثرت كثيراً لمنظرها".
تضيف ابتهال : "كانوا يقتحمون الغرف يومياً لأكثر من ثلاث مرات و يقلبون كلّ شيء رأساً على عقب في محاولة للعثور على الملح ... و لم نكن في وضعٍ نستطيع من خلالها رفع الفراش، و في الكثير من المرات كنا ننام عليه و هو ملقى على أرضية الغرفة ... و في الأيام الأولى للإضراب نفقد القدرة على الوصول إلى الأسِرَّة التي في الطابق العلوي ... خفنا كثيراً على وضع البنات .. و بالنسبة لي بشكلٍ خاص ساءت أوضاعي الصحية بشكلٍ كبير حتى أنني فقدت الرؤية بشكل سليم ، و أصابني ضعف في الذاكرة و شلّت قدرتي على الحركة ، لكنني بقيت مصمّمة على رفض أخذ (إبرة الكيلو) التي يحاولون إعطاءها لنا من أجل فك الإضراب و إخلاء مسؤوليتهم .. في الأيام الأخيرة رحت أحرص على شرب الماء على الرغم من صعوبة نتائجه إلا أنه كان كفيلاً بإعادتي إلى الوعي ..." .
الكثيرات تشوهت أجسادهن :
و لكن انتهاء إضراب الأسيرات في الرملة لم يوقف حملات القمع واقتحام الغرف كما قالت ابتهال : "أتذكر حملات القمع المستمرة ، حيث يأتي الجنود و المجندات بشكلٍ وحشي و يشرعون بضرب الأسيرات بالهراوات دون رحمة ... الكثير من الأسيرات تشوهت أجسادهن خاصة عندما كانوا يستخدمون خراطيم المياه الشديدة السخونة في الصيف و الباردة جداً في الشتاء، و في بعض المرات كانوا يرشون الغرف بالغاز و يغلقون كافة المنافذ كاملة مما يؤدي إلى إغماء كافة الأسيرات و تدهور أوضاع المريضات منهن ...".
"و أنا لا زلت مصدومة" ...
و مع اقتراب الأيام الأخيرة من العامين و النصف التي قضتها ابتهال في سجن الرملة صار مشهد الإفراج يرتسم بصورةٍ أوضح في ذاكرتها، و صار حلم الخروج من قبر الرملة إلى جنة الحياة يقترب أكثر، ومعه أصبح كلّ شيء مختلفاً : "لم تكن الفترة التي جلست أنتظر فيها يوم الإفراج عني بالسهلة؛ كنت أشعر أنني لن أستطيع استيعاب الأمر و العودة إلى الحياة العادية، وكنت أتمنى لو أنني ألتقي أولاً بأسيرة محررة علني أعرف كيف يمكنني استيعاب الأمر. في الأسبوع الأخير فقدت القدرة على النوم ، أقضي الليل وأنا أفكر كيف سأرى أهلي وإخوتي ... وكيف سأحتضن والدي الذي ما اشتقت لأحد مثله ، صورته لم تفارق خيالي حتى في لحظات فقدان الوعي كنت أراه ، و أشتاق إليه ... إخوتي الذين تزوجوا و أنجبوا أطفالاً في غيابي ... و كذلك وجدي الذي أرهقني انتظاره في أيامٍ لا تنتهي كنت أشعر بالدقائق تمرّ بطيئة و قاتلة أحياناً "، و تضيف ابتهال : "في الأسر يشعر الإنسان أنه أصبح شخصاً آخر، عامان و نصف تحت الأرض تجعل منا غرباء عن أنفسنا وأهلنا ، و هذا ما أخافني، عمدت (إسرائيل) إلى قلب الواقع في السجون ، لا شيء فيها يدلّ على حياة طبيعية وكأن الإنسان يعيش في خيال قاسٍ ، كل شيء في السجن غير شبيه بما هو عليه في الخارج: الغرف ، الأسرّة ، الحمام ، حتى ما يسمى بغاز الطبخ ليس كما هو في الحياة الطبيعية، كل شيء غريب" .
عندما أفرج عن ابتهال في الثالث من شباط الماضي كادت تلقي بنفسها من السيارة التي أقلتها من حاجز مودعين إلى رام الله عندما شاهدت والدها : "كنت أشعر أنهم جميعاً فرحون لكنني كنت في حالة من الذهول أفزعتني ، حتى الآن لا أصدق أنني خرجت إلى الحياة أخيراً، وأنهم أمامي جميعاً .. وعندما التقيت وجدي كانت أصعب اللحظات ، حتى اليوم لا أستطيع أن أعبّر له عن امتناني؛ صبر و تحمل مدة طويلة ، و اختار أن ينتظرني ، و ها هو اليوم أمامي و كأن شيئاً لم يكن.