أبو القعقاع القيرواني
23 Jun 2005, 08:54 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة النذر
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى....أما بعد:
* النذر لغة:
النَّذْرُ: النَّحْبُ، وهو ما يَنْذِرُه الإِنسان فيجعله على نفسه نَحْباً واجباً، وجمعه نُذُور،
يقال: نَذَرْتُ نَذْراً، إذا أوجبتَ على نفسِك شيئا تبرُّعا؛ من عبادة، أو صدقة، أو غير ذلك.
وأصل النحب النذر فلما كان كل حي لا بد له من الموت، فكأنه نذرٌ لازم له فإذا مات فقد قضاه.
وشرعا:
النذر: أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر، يقال: نذرت لله أمرا ، قال تعالى: {إني نذرت للرحمن صوما} (مريم/26)، وقال: {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر} (البقرة/270) ، قال القرطبى: والنذر حقيقة العبارة عنه أن تقول: هو ما أوجبه المكلف على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه، تقول: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله، ينذر- بضم الذال - وينذر – بكسرها.
قال في النهاية النحب: النذر كأنه ألزم نفسه أن يصدق أعداء الله في الحرب فوفى به، وقيل النحب الموت كأنه يلزم نفسه أن يقاتل حتى يموت انتهى. وقال التوربشتي: النذر والنحب المدة والوقت. ومنه قضى فلان نحبه إذا مات وعلى المعنيين يحمل قوله سبحانه: {فمنهم من قضى نحبه} فعلى النذر أي نذره فيما عاهد الله عليه من الصدق في مواطن القتال والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الموت: أي مات في سبيل الله وذلك أنهم عاهدوا الله أن يبذلوا نفوسهم في سبيله.
قال ابن حجر: والنذور جمع نذر وأصله الإنذار بمعنى التخويف . وعرفه الراغب بأنه إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر .
قال القرطبى: النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه.
* حكمه شرعا:
* فى الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ" [.خ...ك...الأيمان والنذور].... وفي لفظ لمسلم من هذا الوجه " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن النذر " وجاء بصيغة النهي الصريحة في رواية عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ " لا تنذروا " .
* وعن سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنْ النَّذْرِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ النَّذْرَ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْبَخِيلِ"..[خ...ك..الأيمان والنذور].
* وهذه الروايات تبين أن النذر منهى عنه...وجاء فى بعض الروايات ما يعتبر تعليل لهذا النهى كما فى هذه الرواية قوله ( لا يقدم شيئا ولا يؤخر ) وفي رواية " لا يرد شيئا " وهي أعم , ونحوها في حديث أبي هريرة " لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قدر له " وفي رواية " فإن النذر لا يغني من القدر شيئا " وفي لفظ " لا يرد القدر " وفي حديث أبي هريرة عنده " لا يُقَرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له " ومعاني هذه الألفاظ المختلفة متقاربة , وفيها إشارة إلى تعليل النهي عن النذر .
* وقد اختلف العلماء في هذا النهي : فمنهم من حمله على ظاهره , ومنهم من تأوله . قال ابن الأثير في النهاية : تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه , ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم , وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضرا ولا يغير قضاء فقال : لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم أو تصرفوا به عنكم ما قدره عليكم , فإذا نذرتم فاخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم , انتهى كلامه .
وأصله من كلام أبي عبيد فيما نقله ابن المنذر في كتابه الكبير فقال : كان أبو عبيد يقول وجه النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما , ولو كان كذلك ما أمر الله أن يوفى به ولا حمد فاعله , ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يتهاون به فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به . ثم استدل بما ورد من الحث على الوفاء به في الكتاب والسنة , وإلى ذلك أشار المازري بقوله : ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر والحض على الوفاء به . قال : وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث . ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صار عليه لازم , وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار , ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم ينذر القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب . قال : ويشير إلى هذا التأويل قوله " إنه لا يأتي بخير " وقوله " إنه لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له " وهذا كالنص على هذا التعليل ا هـ .
قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن تكون الباء للسببية كأنه قال لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر وطبعه في طلب القربة والطاعة من غير عوض يحصل له , وإن كان يترتب عليه خير وهو فعل الطاعة التي نذرها , لكن سبب ذلك الخير حصول غرضه , . وقال النووي : معنى قوله " لا يأتي بخير " أنه لا يرد شيئا من القدر كما بينته الروايات الأخرى .
وقد ذكر أكثر الشافعية - ونقله أبو علي السنجي عن نص الشافعي - أن النذر مكروه لثبوت النهي عنه وكذا نقل عن المالكية وجزم به عنهم ابن دقيق العيد , وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم والجزم عن الشافعية بالكراهة , قال : واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة لأنه لم يقصد به خالص القربة وإنما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضررا بما التزمه . وجزم الحنابلة بالكراهة , وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم وتوقف بعضهم في صحتها , وقال الترمذي بعد أن ترجم كراهة النذر وأورد حديث أبي هريرة ثم قال : وفي الباب عن ابن عمر العمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كرهوا النذر , وقال ابن المبارك : معنى الكراهة في النذر في الطاعة وفي المعصية , فإن نذر الرجل في الطاعة فوفى به فله فيه أجر ويكره له النذر .
ولما نقل ابن الرفعة عن أكثر الشافعية كراهة النذر وعن القاضي حسين المتولي بعده والغزالي أنه مستحب لأن الله أثنى على من وفى به ولأنه وسيلة إلى القربة فيكون قربة قال : يمكن أن يتوسط فيقال : الذي دل الخبر على كراهته نذر المجازاة وأما نذر التبرر فهو قربة محضة لأن للناذر فيه غرضا صحيحا وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب وهو فوق ثواب التطوع ا هـ . وجزم القرطبي في " المفهم " بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال : هذا النهي محله أن يقول مثلا إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا , ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكور على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى لما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعاوضة , ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه , وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبا . وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث لقوله " إنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه " قال وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض , أو أن الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر , وإليهما الإشارة بقوله في الحديث أيضا " فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا " والحالة الأولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح . قلت : بل تقرب من الكفر أيضا . ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة وقال : الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرما والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك ا هـ . وهو تفصيل حسن , وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى ( يوفون بالنذر ) قال كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبرارا , وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة , ثم نقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه " ولم يفرق بين المعلق وغيره انتهى , والاتفاق الذي ذكره مسلم ,
*النذر يستخرج به من البخيل مالم يكن يخرجه:
*فى الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قُدِّرَ لَهُ فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ"..[.خ...ك...الأيمان والنذور].... وفي رواية لمسلم " فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج "
قال البيضاوي : عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة أو دفع مضرة , فنهي عنه لأنه فعل البخلاء إذ السخي إذا أراد أن يتقرب بادر إليه والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض يستوفيه أولا فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له , وذلك لا يغني من القدر شيئا فلا يسوق إليه خيرا , لم يقدر له ولا يرد عنه شرا قضى عليه , لكن النذر قد يوافق القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليخرجه , قال ابن العربي : فيه حجة على وجوب الوفاء بما التزمه الناذر , لأن الحديث نص على ذلك بقوله " يستخرج به " فإنه لو لم يلزمه إخراجه لما تم المراد من وصفه بالبخل من صدور النذر عنه , إذ لو كان مخيرا في الوفاء لاستمر لبخله على عدم الإخراج.
وقال ابن العربي : النذر شبيه بالدعاء فإنه لا يرد القدر ولكنه من القدر أيضا , ومع ذلك فقد نهي عن النذر وندب إلى الدعاء , والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله والتضرع له والخضوع وهذا بخلاف النذر فإن فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة والله أعلم.أ.هـ
حقيقة النذر
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى....أما بعد:
* النذر لغة:
النَّذْرُ: النَّحْبُ، وهو ما يَنْذِرُه الإِنسان فيجعله على نفسه نَحْباً واجباً، وجمعه نُذُور،
يقال: نَذَرْتُ نَذْراً، إذا أوجبتَ على نفسِك شيئا تبرُّعا؛ من عبادة، أو صدقة، أو غير ذلك.
وأصل النحب النذر فلما كان كل حي لا بد له من الموت، فكأنه نذرٌ لازم له فإذا مات فقد قضاه.
وشرعا:
النذر: أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر، يقال: نذرت لله أمرا ، قال تعالى: {إني نذرت للرحمن صوما} (مريم/26)، وقال: {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر} (البقرة/270) ، قال القرطبى: والنذر حقيقة العبارة عنه أن تقول: هو ما أوجبه المكلف على نفسه من العبادات مما لو لم يوجبه لم يلزمه، تقول: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله، ينذر- بضم الذال - وينذر – بكسرها.
قال في النهاية النحب: النذر كأنه ألزم نفسه أن يصدق أعداء الله في الحرب فوفى به، وقيل النحب الموت كأنه يلزم نفسه أن يقاتل حتى يموت انتهى. وقال التوربشتي: النذر والنحب المدة والوقت. ومنه قضى فلان نحبه إذا مات وعلى المعنيين يحمل قوله سبحانه: {فمنهم من قضى نحبه} فعلى النذر أي نذره فيما عاهد الله عليه من الصدق في مواطن القتال والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الموت: أي مات في سبيل الله وذلك أنهم عاهدوا الله أن يبذلوا نفوسهم في سبيله.
قال ابن حجر: والنذور جمع نذر وأصله الإنذار بمعنى التخويف . وعرفه الراغب بأنه إيجاب ما ليس بواجب لحدوث أمر .
قال القرطبى: النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه.
* حكمه شرعا:
* فى الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّذْرِ وَقَالَ إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ" [.خ...ك...الأيمان والنذور].... وفي لفظ لمسلم من هذا الوجه " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن النذر " وجاء بصيغة النهي الصريحة في رواية عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ " لا تنذروا " .
* وعن سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنْ النَّذْرِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ النَّذْرَ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُ وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنْ الْبَخِيلِ"..[خ...ك..الأيمان والنذور].
* وهذه الروايات تبين أن النذر منهى عنه...وجاء فى بعض الروايات ما يعتبر تعليل لهذا النهى كما فى هذه الرواية قوله ( لا يقدم شيئا ولا يؤخر ) وفي رواية " لا يرد شيئا " وهي أعم , ونحوها في حديث أبي هريرة " لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم يكن قدر له " وفي رواية " فإن النذر لا يغني من القدر شيئا " وفي لفظ " لا يرد القدر " وفي حديث أبي هريرة عنده " لا يُقَرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له " ومعاني هذه الألفاظ المختلفة متقاربة , وفيها إشارة إلى تعليل النهي عن النذر .
* وقد اختلف العلماء في هذا النهي : فمنهم من حمله على ظاهره , ومنهم من تأوله . قال ابن الأثير في النهاية : تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه , ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم , وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضرا ولا يغير قضاء فقال : لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم أو تصرفوا به عنكم ما قدره عليكم , فإذا نذرتم فاخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم , انتهى كلامه .
وأصله من كلام أبي عبيد فيما نقله ابن المنذر في كتابه الكبير فقال : كان أبو عبيد يقول وجه النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما , ولو كان كذلك ما أمر الله أن يوفى به ولا حمد فاعله , ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يتهاون به فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به . ثم استدل بما ورد من الحث على الوفاء به في الكتاب والسنة , وإلى ذلك أشار المازري بقوله : ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر والحض على الوفاء به . قال : وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث . ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صار عليه لازم , وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار , ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم ينذر القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب . قال : ويشير إلى هذا التأويل قوله " إنه لا يأتي بخير " وقوله " إنه لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له " وهذا كالنص على هذا التعليل ا هـ .
قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن تكون الباء للسببية كأنه قال لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر وطبعه في طلب القربة والطاعة من غير عوض يحصل له , وإن كان يترتب عليه خير وهو فعل الطاعة التي نذرها , لكن سبب ذلك الخير حصول غرضه , . وقال النووي : معنى قوله " لا يأتي بخير " أنه لا يرد شيئا من القدر كما بينته الروايات الأخرى .
وقد ذكر أكثر الشافعية - ونقله أبو علي السنجي عن نص الشافعي - أن النذر مكروه لثبوت النهي عنه وكذا نقل عن المالكية وجزم به عنهم ابن دقيق العيد , وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم والجزم عن الشافعية بالكراهة , قال : واحتجوا بأنه ليس طاعة محضة لأنه لم يقصد به خالص القربة وإنما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضررا بما التزمه . وجزم الحنابلة بالكراهة , وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم وتوقف بعضهم في صحتها , وقال الترمذي بعد أن ترجم كراهة النذر وأورد حديث أبي هريرة ثم قال : وفي الباب عن ابن عمر العمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كرهوا النذر , وقال ابن المبارك : معنى الكراهة في النذر في الطاعة وفي المعصية , فإن نذر الرجل في الطاعة فوفى به فله فيه أجر ويكره له النذر .
ولما نقل ابن الرفعة عن أكثر الشافعية كراهة النذر وعن القاضي حسين المتولي بعده والغزالي أنه مستحب لأن الله أثنى على من وفى به ولأنه وسيلة إلى القربة فيكون قربة قال : يمكن أن يتوسط فيقال : الذي دل الخبر على كراهته نذر المجازاة وأما نذر التبرر فهو قربة محضة لأن للناذر فيه غرضا صحيحا وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب وهو فوق ثواب التطوع ا هـ . وجزم القرطبي في " المفهم " بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال : هذا النهي محله أن يقول مثلا إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا , ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكور على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى لما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعاوضة , ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه , وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبا . وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث لقوله " إنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه " قال وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض , أو أن الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر , وإليهما الإشارة بقوله في الحديث أيضا " فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئا " والحالة الأولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح . قلت : بل تقرب من الكفر أيضا . ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة وقال : الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرما والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك ا هـ . وهو تفصيل حسن , وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى ( يوفون بالنذر ) قال كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله أبرارا , وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة , ثم نقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه " ولم يفرق بين المعلق وغيره انتهى , والاتفاق الذي ذكره مسلم ,
*النذر يستخرج به من البخيل مالم يكن يخرجه:
*فى الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قُدِّرَ لَهُ فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ"..[.خ...ك...الأيمان والنذور].... وفي رواية لمسلم " فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج "
قال البيضاوي : عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة أو دفع مضرة , فنهي عنه لأنه فعل البخلاء إذ السخي إذا أراد أن يتقرب بادر إليه والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عوض يستوفيه أولا فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له , وذلك لا يغني من القدر شيئا فلا يسوق إليه خيرا , لم يقدر له ولا يرد عنه شرا قضى عليه , لكن النذر قد يوافق القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليخرجه , قال ابن العربي : فيه حجة على وجوب الوفاء بما التزمه الناذر , لأن الحديث نص على ذلك بقوله " يستخرج به " فإنه لو لم يلزمه إخراجه لما تم المراد من وصفه بالبخل من صدور النذر عنه , إذ لو كان مخيرا في الوفاء لاستمر لبخله على عدم الإخراج.
وقال ابن العربي : النذر شبيه بالدعاء فإنه لا يرد القدر ولكنه من القدر أيضا , ومع ذلك فقد نهي عن النذر وندب إلى الدعاء , والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله والتضرع له والخضوع وهذا بخلاف النذر فإن فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة والله أعلم.أ.هـ