فيض
28 Jun 2005, 02:08 PM
في الثلاثين من عمرها .. تفترش الأرض .. يتحلق حولها ثلاثة صبية بملابس رثة بالية .. علامات الإنكسار والبؤس تخيم على وجوههم .. وبعد انتظار طويل تمتد يد أحدهم لتلتقط في استحياء وعجل ما جادت به يد أحد المارة .. يبعد أصابعه عن ظاهر كفه ليجد مئة بيسة .. تلتفت الأم لترى جوهرة تتلألأ في يد ابنها .. " الحمد لله .. الحمد لله " تهمس وتتمتم بخشوع.. الطفلان الأخران ترتسم على وجهيهما الناحلين ابتسامة عريضة .. يرقصان فرحا وكأنهما ربحا صفقة تجارية كبيرة .. لقد اطمأنا أنهما لن يناما اليوم جائعين .. خبزة تلمع بسمن أعطاهم إياه جارهم العزيز منذ زمن بعيد .. تلك كانت وجبة عشاء كل واحد منهم .. تسقط الورقة من يده وتسقط معها دمعة من عينه .. غاب في تفكير عميق .. ذكريات ماضية .. يسند رأسه بركبتيه .. تبدو عليه ملامح الرجوله بيد أنه لم يمض عليه ربيعه الثاني عشر .. يتوقف شريط الذكريات عند مشهد أمطر عليه بسهام من الحزن .. تذكر عندما كان والده المسكين يناوله بعظمه المكسو بجلد مخطط بالأوردة والشرايين حبات الباقل ويقول له والبسمة تشرق في وجهه : " كل يابني كل .. من أكل الباقل لم ينم جائعا " .. أب عطوف حنون كان يحضن هذه العائلة في غرفة صغيرة مسقوفة بسعف النخيل .. يعمل في إحدى الشركات بأجر يومي زهيد ، لكنه يسد حاجات أسرته اليومية مع قوة الصبر وسعة القناعة .. بجسمه المنهك كان يقضي اسبوعه في تلك الشركة إلا يوم الجمعة .. مساء الخميس يرجع إلى أولاده وكأنه قمر يطل من بين التلال .. يتسابقون إلى أحضانه ويرضعون من فيض حنانه ..
في ليلة حالكة السواد.. غيوم كثيفة .. عواصف مزمجرة .. أمطار غزيرة .. يرجع هو وصديقه غسان من عملهما إلى القرية الهادئة وقد اشتاقا إلى نسماتها الباردة ليعانق جسماهما تربتها الوديعة إلى فجر الجمعة بعد ستة أيام من المشقة والتعب .. كانا يتخيلان كيف سيلتقيان بأطفالهما البريئين وبأسرتيهما اللتين تنتصبا منذ غروب الشمس تستقبل كل منهما بكل سرور وكأنها تستقبل عيدا جديدا ..
" هون عليك يا غسان .. لا داعي للعجلة في مثل هذا الجو العصيب وتذكر كذلك أن سيارتك العتيقة قد جاوزت سنتها العشرين وأنت تجوب بها هذه الطرق التي لا تزيها إلا هرما وشيخوخة " يخرج صالح هذه الكلمات من حنجرته المتصلبة بصوت عانقته قطع الليل .. البصيص الذي بقي فيه كلما فتح عينيه .. أما باقي جسده فقد استسلم لإرهاق شديد وجوع أليم..
يشجعه غسان ويبث فيه الأمل بقرب الوصول : " لا تخف يا صالح .. لم يبق إلا بضعة كيلومترات وبإذن الله سنلتقي بعد ذلك بــ ..."
تتقطع الكلمات في فمه عندما زمجر الرعد وقصف البرق ودخلا في كهف مظلم .. توقف محرك السيارة فجأة ليشعرا بعد لحظات أنهما أصبحا أسيرا واد عظيم ..
بدأ الصراع مع الموت يشتعل ضراوة .. حاولا ركوب خيول النصر لتفر بهما من وسط المعمعة.. وبعد وقت ليس بطويل استطاع أن ينتصر عليهما عندما أنشب أظفار المنية لتنزع روحيهما وتسافر بهما إلى مستقرها الأخير ..
رؤوس أطفالهما على مسافة غير بعيدة من الوادي بدأت تتمايل بعد طول انتظار ثم عطف عليهما الليل ونجومه الزاهرة وضمهم بحضن معطر بشذا الأبوة ..
في الصباح .. السيارة العتيقة في قعر الوادي .. حولها تربة شربت من ماء السماء .. بداخل السيارة جثتان نائمتان .. ترشف من رحيق الشمس ضوءها الوهاج بعد سباحة في واد عميق..
تلك كانت نهاية الوالد الحنون الذي ترك أرملة فقيرة وثلاثة براعم في عمر الزهور ..
ابن الحادية عشر ذهب ليبحث عن الشركة التي كان يعمل فيها أبوه فلعله يحصل على حقوق أو على الأقل يحل محله في عمله ولكنه لم يهتد إليها أبدا وفي النهاية عطف عليه مدير أحد الشركات وأمر له بوظيفة مقابل أن تتكفل له بقوت يومه وموضع نومه ومقدار قليل من النقود التي كان ينفقها لسارة الأجرة التي توصله إلى قريته ..
الأسبوع الأول هناك ...
في الأسبوع الثاني رجع إلى أمه وأخوته وليس معه إلا عكاز يتكيء عليه ..
وفي الأسبوع الثالث كانوا يباتون في الطريق لعل عطوف يلقي عليهم بكسرة خبز يواسون بها معداتهم البائسة ..
في ليلة حالكة السواد.. غيوم كثيفة .. عواصف مزمجرة .. أمطار غزيرة .. يرجع هو وصديقه غسان من عملهما إلى القرية الهادئة وقد اشتاقا إلى نسماتها الباردة ليعانق جسماهما تربتها الوديعة إلى فجر الجمعة بعد ستة أيام من المشقة والتعب .. كانا يتخيلان كيف سيلتقيان بأطفالهما البريئين وبأسرتيهما اللتين تنتصبا منذ غروب الشمس تستقبل كل منهما بكل سرور وكأنها تستقبل عيدا جديدا ..
" هون عليك يا غسان .. لا داعي للعجلة في مثل هذا الجو العصيب وتذكر كذلك أن سيارتك العتيقة قد جاوزت سنتها العشرين وأنت تجوب بها هذه الطرق التي لا تزيها إلا هرما وشيخوخة " يخرج صالح هذه الكلمات من حنجرته المتصلبة بصوت عانقته قطع الليل .. البصيص الذي بقي فيه كلما فتح عينيه .. أما باقي جسده فقد استسلم لإرهاق شديد وجوع أليم..
يشجعه غسان ويبث فيه الأمل بقرب الوصول : " لا تخف يا صالح .. لم يبق إلا بضعة كيلومترات وبإذن الله سنلتقي بعد ذلك بــ ..."
تتقطع الكلمات في فمه عندما زمجر الرعد وقصف البرق ودخلا في كهف مظلم .. توقف محرك السيارة فجأة ليشعرا بعد لحظات أنهما أصبحا أسيرا واد عظيم ..
بدأ الصراع مع الموت يشتعل ضراوة .. حاولا ركوب خيول النصر لتفر بهما من وسط المعمعة.. وبعد وقت ليس بطويل استطاع أن ينتصر عليهما عندما أنشب أظفار المنية لتنزع روحيهما وتسافر بهما إلى مستقرها الأخير ..
رؤوس أطفالهما على مسافة غير بعيدة من الوادي بدأت تتمايل بعد طول انتظار ثم عطف عليهما الليل ونجومه الزاهرة وضمهم بحضن معطر بشذا الأبوة ..
في الصباح .. السيارة العتيقة في قعر الوادي .. حولها تربة شربت من ماء السماء .. بداخل السيارة جثتان نائمتان .. ترشف من رحيق الشمس ضوءها الوهاج بعد سباحة في واد عميق..
تلك كانت نهاية الوالد الحنون الذي ترك أرملة فقيرة وثلاثة براعم في عمر الزهور ..
ابن الحادية عشر ذهب ليبحث عن الشركة التي كان يعمل فيها أبوه فلعله يحصل على حقوق أو على الأقل يحل محله في عمله ولكنه لم يهتد إليها أبدا وفي النهاية عطف عليه مدير أحد الشركات وأمر له بوظيفة مقابل أن تتكفل له بقوت يومه وموضع نومه ومقدار قليل من النقود التي كان ينفقها لسارة الأجرة التي توصله إلى قريته ..
الأسبوع الأول هناك ...
في الأسبوع الثاني رجع إلى أمه وأخوته وليس معه إلا عكاز يتكيء عليه ..
وفي الأسبوع الثالث كانوا يباتون في الطريق لعل عطوف يلقي عليهم بكسرة خبز يواسون بها معداتهم البائسة ..