سنا البرق
02 Apr 2006, 03:04 PM
بناء الثقة
بقلم: أ.د.عبدالكريم بكار
تشكل (الثقة) بين الناس رأسمالاً اجتماعياً في غاية الأهمية وقد فطر الله تعالى العباد على أن يثقوا ببعضهم، وأن يحملوا ما يسمعونه على الصدق، لكن التجارب السيئة تعلم الناس كيف يدققون في مسموعاتهم وكيف يرتابون ويترددون. إذا فقد الناس الثقة في تعاملاتهم، فإن هناك شكوكاً كبيرة في قدرتهم على استعادتها وقد يستغرق ذلك جيلين أو ثلاثة، وقد لا يكون ممكناً أبداً. ومن هنا فإن تعزيز الثقة في المجتمع الإسلامي يشكل مسؤولية عامة. ويتحمل الدعاة والخطباء والمتحدثون والموجهون التربويون قسطاً مهماً من هذه المسؤولية. وأعتقد أن المصداقية بكل تجلياتها تشكل المدخل الأساسي لذلك، وأحياناً نعبر عن الثقة بالمصداقية بسبب شدة التداخل بينهما. وأود أن أبدي في هذا السياق الملاحظات التالية:
1 - الصدق بوصفه مطابقة إخبار المرء لمعتقده، يعد حجر الزاوية في بناء الثقة ومن المهم في هذا الإطار أن نكون دقيقين في تعبيراتنا عن مكنونات أنفسنا فإذا كان الواحد جازماً عبر عن ذلك بصيغة الجزم. وإذا كان يغلب على ظنه وقوع أمر: قال: أظن ذلك، أو يغلب على ظني ذلك، أو أميل إلى رؤية ذلك.. وإذا كان شاكاً، فليقل: أشك، أو أنا متردد في ذلك، أو الأمر أمامي ليس واضحاً إن النفوس تعزف عن التعبيرات الرخوة لأنها تشعر الناس بحالة من عدم اليقين، وبأنهم يقفون على أرض هشة، لكن القيام لله - تعالى - بالقسط لا يكون إلا إذا فعلنا ذلك. الدقة في التعبير منتج حضاري ودلالة على النضج المعرفي والمنهجي، ويمكن أن نتخذ منها معياراً لما وصلنا إليه من رقي وتقدم.
2 - مما يدعم الثقة بالمتكلم أن يحرص على أن يكون كلامه مطابقاً للواقع وليس بالأمر السهل في واقع اليوم، حيث تعقد الكثير من الأمور، وزاد التباساً وكلما كان ما نخبر عنه يميل إلى أن يكون ظاهرة أو وضعية عامة كانت مهمتنا أعظم مشقة. حين يتحدث خطيب أو واعظ عن الأمية أو البطالة أو الإعراض عن القراءة واصطحاب الكتاب.. فإنه يتحدث عن قضايا كبرى، لها تعريفات وتفصيلات كثيرة، وأجزاء منها محجوبة وغامضة. الظواهر الكبرى تكثر حولها الأرقام والاحصاءات. نظراً لأهمية الرقم في كشف الواقع، ونظراً للبلاغة الفريدة التي يتمتع بها، فإن الناس يتداولونه على نحو مفرط. وهذا يؤدي إلى تعرضه للكثير من الغلط والتشويه ثم إن طبيعة الأرقام تسمح للمغرضين بالتلاعب بها دون أن يتمكن الناس من معرفة ذك، ولهذا فإن هناك جهات عديدة تتاجر بالأرقام، وتزيد فيها، وتنتقص منها بحسب مصالحها الخاصة. ومن هنا فإن من المصداقية التحلي بالحذر عند الإخبار عن الواقع. أما بالنسبة للأرقام الدالة على ملامح بعض الظواهر الكبرى فإن من المنهجية أن نتعامل معها على أنها مؤشرات للواقع ليس أكثر، وكثيرون منا لا ينتبهون إلى هذه النقطة.
إذا قدم أحدنا رأياً أو اقتراحاً أو مشروعاً إلى جهة ما فإن من المصداقية أن يبذل جهده في بلورته وانضاجه. والحقيقة ان الاتقان من المصادر المهمة لبناء الثقة وحين تتمكن جهة ما من انتاج أشياء متقنة فإنها تكتسب مصداقية عالية، وتقبض ثمن تلك المصداقية في ارتقاع قيمة منتجاتها لتكون أضعاف قيمة منتجات شركات وجهات لم يعرف عنها الجودة والاتقان العالي.
نحن في كثير من الأحيان نؤثر الكم على الكيف، ونبدو وكأننا في عجلة من أمرنا، مما يجعل مصداقية ما نكتبه ونقوله ضعيفة أو معدومة.
3 - لا يحوز أي إنسان المصداقية إذا لم يكن يملك نوعاً من التطابق بين قوله وفعله وأن حساسية الناس نحو هذه المسألة عالية جداً. والقرآن الكريم واضح في هذا، حيث قال - سبحانه - {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2.3) إن كل شكل من أشكال المعصية يؤسس في حياة صاحبه لشكل من أشكال ضعف المصداقية وذلك لأن المعصية تعلن عن نوع من الفصام والمفارقة بين المعتقد والسلو ك كيف يمكن للناس أن يتقبلوا كلام إنسان عن أضرار التدخين، وهو يدخن؟! وكيف يمكن لهم أن يتقبلوا كلامه حول أهمية الصلاة في المسجد وهو يتخلف عنها؟
4 - يشهد عصرنا فورة للدعاية والإعلام، ينفق العالم سنوياً في هذا النشاط ما يزيد على أربعمائة مليار دولار، إن انتشار الدعاية على هذا النحو من السعة قد أضعف المصداقية وأوهن الثقة، حيث تتحدث الدعاية باستمرار عن مزايا غير موجودة أو تضخيم في تعداد مزايا قائمة وقد بدأ الناس يكتشفون الزيف الذي ينطوي عليه الإعلان ومن ثم فإن نسبة التصديق لما يقال آخذة في الانخفاض وقد ذكرت إحدى الدراسات الأمريكية أنه خلال عشر سنوات (من 1986 - 1996) انخفضت نسبة من يصدق بمضمون الدعاية من 61% إلى 38% .
التقدم الحضاري الذي يحدث اليوم وسع في طموحات الناس وتطلعاتهم، ومن ثم فإن أشخاصا كثيرين وجدوا أنفسهم منغمسين في الكذب والرشوة والخداع والسرقة.. من أجل إشعاع رغباتهم، وهذا جعل المصداقية في حالة صعبة. إن ما هو موجود في مجتمعاتنا من مصداقية يحتاج إلى تدعيم ورعاية دائمة، وإلا فقدنا المزيد منه، ومع فقده نفقد الكثير من المعاني الجميلة.
بقلم: أ.د.عبدالكريم بكار
تشكل (الثقة) بين الناس رأسمالاً اجتماعياً في غاية الأهمية وقد فطر الله تعالى العباد على أن يثقوا ببعضهم، وأن يحملوا ما يسمعونه على الصدق، لكن التجارب السيئة تعلم الناس كيف يدققون في مسموعاتهم وكيف يرتابون ويترددون. إذا فقد الناس الثقة في تعاملاتهم، فإن هناك شكوكاً كبيرة في قدرتهم على استعادتها وقد يستغرق ذلك جيلين أو ثلاثة، وقد لا يكون ممكناً أبداً. ومن هنا فإن تعزيز الثقة في المجتمع الإسلامي يشكل مسؤولية عامة. ويتحمل الدعاة والخطباء والمتحدثون والموجهون التربويون قسطاً مهماً من هذه المسؤولية. وأعتقد أن المصداقية بكل تجلياتها تشكل المدخل الأساسي لذلك، وأحياناً نعبر عن الثقة بالمصداقية بسبب شدة التداخل بينهما. وأود أن أبدي في هذا السياق الملاحظات التالية:
1 - الصدق بوصفه مطابقة إخبار المرء لمعتقده، يعد حجر الزاوية في بناء الثقة ومن المهم في هذا الإطار أن نكون دقيقين في تعبيراتنا عن مكنونات أنفسنا فإذا كان الواحد جازماً عبر عن ذلك بصيغة الجزم. وإذا كان يغلب على ظنه وقوع أمر: قال: أظن ذلك، أو يغلب على ظني ذلك، أو أميل إلى رؤية ذلك.. وإذا كان شاكاً، فليقل: أشك، أو أنا متردد في ذلك، أو الأمر أمامي ليس واضحاً إن النفوس تعزف عن التعبيرات الرخوة لأنها تشعر الناس بحالة من عدم اليقين، وبأنهم يقفون على أرض هشة، لكن القيام لله - تعالى - بالقسط لا يكون إلا إذا فعلنا ذلك. الدقة في التعبير منتج حضاري ودلالة على النضج المعرفي والمنهجي، ويمكن أن نتخذ منها معياراً لما وصلنا إليه من رقي وتقدم.
2 - مما يدعم الثقة بالمتكلم أن يحرص على أن يكون كلامه مطابقاً للواقع وليس بالأمر السهل في واقع اليوم، حيث تعقد الكثير من الأمور، وزاد التباساً وكلما كان ما نخبر عنه يميل إلى أن يكون ظاهرة أو وضعية عامة كانت مهمتنا أعظم مشقة. حين يتحدث خطيب أو واعظ عن الأمية أو البطالة أو الإعراض عن القراءة واصطحاب الكتاب.. فإنه يتحدث عن قضايا كبرى، لها تعريفات وتفصيلات كثيرة، وأجزاء منها محجوبة وغامضة. الظواهر الكبرى تكثر حولها الأرقام والاحصاءات. نظراً لأهمية الرقم في كشف الواقع، ونظراً للبلاغة الفريدة التي يتمتع بها، فإن الناس يتداولونه على نحو مفرط. وهذا يؤدي إلى تعرضه للكثير من الغلط والتشويه ثم إن طبيعة الأرقام تسمح للمغرضين بالتلاعب بها دون أن يتمكن الناس من معرفة ذك، ولهذا فإن هناك جهات عديدة تتاجر بالأرقام، وتزيد فيها، وتنتقص منها بحسب مصالحها الخاصة. ومن هنا فإن من المصداقية التحلي بالحذر عند الإخبار عن الواقع. أما بالنسبة للأرقام الدالة على ملامح بعض الظواهر الكبرى فإن من المنهجية أن نتعامل معها على أنها مؤشرات للواقع ليس أكثر، وكثيرون منا لا ينتبهون إلى هذه النقطة.
إذا قدم أحدنا رأياً أو اقتراحاً أو مشروعاً إلى جهة ما فإن من المصداقية أن يبذل جهده في بلورته وانضاجه. والحقيقة ان الاتقان من المصادر المهمة لبناء الثقة وحين تتمكن جهة ما من انتاج أشياء متقنة فإنها تكتسب مصداقية عالية، وتقبض ثمن تلك المصداقية في ارتقاع قيمة منتجاتها لتكون أضعاف قيمة منتجات شركات وجهات لم يعرف عنها الجودة والاتقان العالي.
نحن في كثير من الأحيان نؤثر الكم على الكيف، ونبدو وكأننا في عجلة من أمرنا، مما يجعل مصداقية ما نكتبه ونقوله ضعيفة أو معدومة.
3 - لا يحوز أي إنسان المصداقية إذا لم يكن يملك نوعاً من التطابق بين قوله وفعله وأن حساسية الناس نحو هذه المسألة عالية جداً. والقرآن الكريم واضح في هذا، حيث قال - سبحانه - {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2.3) إن كل شكل من أشكال المعصية يؤسس في حياة صاحبه لشكل من أشكال ضعف المصداقية وذلك لأن المعصية تعلن عن نوع من الفصام والمفارقة بين المعتقد والسلو ك كيف يمكن للناس أن يتقبلوا كلام إنسان عن أضرار التدخين، وهو يدخن؟! وكيف يمكن لهم أن يتقبلوا كلامه حول أهمية الصلاة في المسجد وهو يتخلف عنها؟
4 - يشهد عصرنا فورة للدعاية والإعلام، ينفق العالم سنوياً في هذا النشاط ما يزيد على أربعمائة مليار دولار، إن انتشار الدعاية على هذا النحو من السعة قد أضعف المصداقية وأوهن الثقة، حيث تتحدث الدعاية باستمرار عن مزايا غير موجودة أو تضخيم في تعداد مزايا قائمة وقد بدأ الناس يكتشفون الزيف الذي ينطوي عليه الإعلان ومن ثم فإن نسبة التصديق لما يقال آخذة في الانخفاض وقد ذكرت إحدى الدراسات الأمريكية أنه خلال عشر سنوات (من 1986 - 1996) انخفضت نسبة من يصدق بمضمون الدعاية من 61% إلى 38% .
التقدم الحضاري الذي يحدث اليوم وسع في طموحات الناس وتطلعاتهم، ومن ثم فإن أشخاصا كثيرين وجدوا أنفسهم منغمسين في الكذب والرشوة والخداع والسرقة.. من أجل إشعاع رغباتهم، وهذا جعل المصداقية في حالة صعبة. إن ما هو موجود في مجتمعاتنا من مصداقية يحتاج إلى تدعيم ورعاية دائمة، وإلا فقدنا المزيد منه، ومع فقده نفقد الكثير من المعاني الجميلة.