الريحان
07 May 2006, 02:26 AM
قصص قصيرة من الأدب الياباني
الـــــتَخـــــــرج
تشيرو أكاجاوا
ولد أكاجازا عام 1948 .كتب مجموعة كبيرة من قصص
الألغاز الغامضة عقب حصوله على جائزة الكتَّاب للناشئين
عن كتابة "القطار الشبح"في عام 1976 .عُرفت أعماله
بتميزها بروح الفكاهة وإيقاعها اللاهث وانتشرت بصورة
خاصة في صفوف الشباب ،وقد نُشرت قصته هذه لأول
مرة باليابانية في عام 1984 في إطار مجموعة أصدرتها
دار كودانشا انترناشيونال المتخصصة في إصدارها
لعام 1987 لأعمال الإبداعية ،ثم تُرجمت إلى العديد
من لغات العالم .
تدحرجت كرة أمام سيارة الأُجرة.فضغط موراكامي بقوة على الكوابح ، قُـذفَ الراكبُ الجالس في المقعد الخلفي بشدةٍ إلى الأمام ، فارتطم رأسه بالحاجز الزجاجي الذي يفصل بينه وبين السائق وقال : " اللعنة ! ما الذي تفعله بحق الجحيم ؟" أدار موراكامي محرّك السيارة من جديد، وقال : " المعذرة يا سيدي !عندما رأيت الكرة ، فإنني ..".
- "كرة؟ دست الكوابح بهذه القوة بسبب كرة لعينة ؟ ".
صاح موراكامي الذي تملَّـكه الغضب فجأة : " من أجل طفلٍ قد يكون منطلقا خلفها . أم أنه لا يهمك أن يُـقتل طفل ؟ ".
استرخى الراكب على المقعد وقال : " طيب ، طيب " ثم غرق في صمت ٍ كئيب .
وبعودته إلى القيادة أحسَّ موراكامي بقطرات العرق تنساب على عموده الفقري ، وكانت الذكريات المرعبة ، تلك التي مضت عليها ست سنوات ، الآن ، ما زالت متوهجة كأوضح ما تكون .
كان موراكامي قد قاد سيارة الأُجرة لمدة تزيد عن العشر سنوات ، لم يتسبب خلالها في أي حادث ، ولم يتلقَّ أي مخالفة سَيْـر، ولكن في ذات يومٍ كان مشغولا أكثر من المعتاد وراح يفكر في أن يكف عن العمل مبكراً . وبينما كان يمضي بسيارته عبر منطقة سكنية هادئة ، في طريقه إلى الكاراج رأى سيارة شحن صغيرة تقترب في الاتجاه المقابل . كان الشارع ضيقا لكن هناك مساحة كافية للعبور . قاد موراكامي السيارة ببطء على بعد بوصات من السياج الممتد على يساره.
وكادت السيارتان ترتطمان عندما ضربت مرآة الشاحنة الجانبية شيئا ما ، وأحدثت صوتا مرتفعا ، كان غصن شجرة على ما يبدو.
جفل موراكامي ، وأشاح بنظره عن الشارع لدقيقة فقط لكنها كانت كافية لاندفاع طفل صغير من بوابة مفتوحة أمام سيارة موراكامي ، الذي ضغط على الكوابح بكل قوة .أطلقت الإطارات صرخة طويلة حادة ، وشعر بأنه لطم شيئا محدثا صوتا مكتوما . فأغمض عينيه ...
كان ذلك قبل ست سنوات .<O
تطلع موراكامي إلى ساعته بينما كان الراكب يهم بالنزول من سيارة الأجره، ورأى أن الوقت قد حان لإنهاء مناوبته ، وقال للراكب بينما هو يترجل من السيارة : " شكرا لك سيدي " لقد عملت بشكل جيد اليوم ، أفضل من المعتاد ، فلا خير في العودة الآن .
كان ذلك في أصيل يوم دافئ من أيام شهر مارس . وفي طريقه على المرآب انعطف موراكامي في طريق ضيق ، هادئ . قال لنفسه : " هذه الضاحية لا تتغير البتة . إنها لم تتغير إطلاقا خلال ست سنوات " .
عبر موراكامي هذا الشارع مرات لا حصر لها منذ وقوع الحادث . ولطالما شعر كلما طاف به بأنه مجبر على القيام بهذا كنوع من التخليد لذكرى ذلك الطفل الصغير . كأنها زيارة لقبر .
لم يوجه أحد اللوم له يومها ، فالكل أجمع على أن الحادث كان شيئا لا يمكن تجنبه . وبالطبع ، قام موراكامي بكل ما يستطيع من أجل عائلة الصغير . ولكن حقيقة أن هذه الأسرة لم تطالب بأي تعويض ، ولم تذكر شيئا إطلاقا عن المال ، جعلت العبء أسوأ وأثقل بالنسبة لموراكامي ، وكان يذكر نفسه مرات ومرات بأن كل أموال العالم لن تستطيع أن تعيد هذا الطفل للحياة من جديد.
كان رجل في نحو السبعين من العمر يعرج ماضيا باتجاه الحاجز الحجري ، عند حافة الطريق ، وعندما لاحظ سيارة الأجره توقف ورفع يده فتوقف موراكامي أمام العجوز وفتح له الباب .
كان الرجل يرتدي بذلة أنيقة وربطة عنق وتفوح منه رائحة طيبة .
قال العجوز :
" آه .. الحمد لله .ليس هناك من سيارات أجره متوفرة في هذه المنطقة . كنت أخاف من الاضطرار للمشي حتى بلوغ الشارع الرئيسي ".
- " إلى أين يا سيدي " .
- " حسنا .. إنها تدعى مدرسة ك.الابتدائية ، إنها .. كيف لي أن أشرح لك ..".
- " لا حاجة لذلك يا سيدي إنني أعرف أين تقع "
- " آه . أتعرف لك ؟ كم أنا محظوظ ! ".
- تنهد الرجل في ارتياح ، وقال : " إنني لا أتذكر أسماء الشوارع بوضوح . ينبغي عليّ أن أطلب من أحدهم أن يكتبها لي .. على ما أعتقد .. لكنني ..".
خفف موراكامي من سرعة السيارة ، وقال : "في الحقيقة ، لقد ذهبت إلى هذه المدرسة مرة أو مرتين ".
كان الطفل الذي دهسه موراكامي قد التحق لتوه بهذه المدرسة .
وعادة ما يوقف موراكامي سيارة الأجره بالقرب من ملعب المدرسة ليقوم بمشاهدة الأطفال وهم يلعبون ، ولولا وقوع الحادث لكان ذلك الطفل يلعب الآن مع الأطفال الآخرين .
التقط الراكب العجوز نفسا عميقا وقال : " آه ، يا له من يوم رائع! " فرد موراكامي :" إنه كذلك ! هل هناك مناسبة خاصة يجري الاحتفال بها في هذه المدرسة ؟ ".
- " في الواقع ، نعم ، إنه حفل تخريج حفيدي".
- " كم هو رائع! "
- " كنت أخشى أن أتأخر على الحفل. لكن والحالة هذه فبإمكاني أن أصل هناك في الوقت المحدد".
انعطف موراكامي إلى الشارع الرئيسي . كان طريق المشاة مزدحما بأطفال المدرسة الذين يلعبون معا . وهم يسيرون.لقد تخرجوا أيضا لتوهم ، وكل منهم يحمل شهادة مطوية في يده ، ويقوم بعضهم بتمثيل دوره في معارك الساموراي وهم يستخدمون شهاداتهم المطوية كسيوف .
توقف موراكامي عند الإشارة لحمراء ، بينما أخذت مجموعة من الأطفال تعبر الشارع أمام سيارته.
- " إن الأطفال رائعون ، أليس كذلك ؟ بإمكاني أن أقضي وقتا يمتد للأبد وأنا أتطلع إليهم " .<O
انحنى الرجل العجوز إلى الأمام وناول نوراكامي صورة فوتوغرافية ، تناول موراكامي الصورة ونظر إليها ، ثم قربها أكثر من ناظريه .
كان ما يزال يحدق في وجه الطفل ، عندما أطلقت السيارة الواقفة خلفه إشارة تحذير . أرجع موراكامي الصورة للرجل ، وأدار محرك السيارة .<O
- " إنها صورة قديمة إلا أنها جيدة . ألا تعتقد ذلك ؟ ".
تجمدت عينا موراكامي باتجاه الشارع أمامه . لقد سبق له وأن رأى هذا الوجه ، في صورة أكبر حجما ، يحيط بها شريط أسود . كان ذلك منذ ست سنوات مضت .
لقد قابل جد الطفل في مراسم التشييع . لكن الآن فقط ، وهو يختلس نظرة خاطفة عبر المرآة الخلفية أدرك أنه الوجه ذاته .لقد كبر كثيرا خلال السنوات الست هذه .
تذكر موراكامي أن الجد حرفي ماهر من نوع ما .رجل هادئ ، مبجل ، حتى أنه قد يحسبه المرء بطريق الخطأ من المثقفين ، على الرغم من أن أحدهم قال إنه لم يتلق أي تعليم رسمي إطلاقا .
قال الرجل عندما هم موراكامي بالتوقف أمام المدرسة : " شكرا جزيلا لك " . دفع أجرة التاكسي دون أن ينتظر الباقي .اندفع مسرعا عبر بوابة المدرسة .
أوقف موراكامي الأُجرة بعيدا شيئا ما عن المكان الذي نزل فيه العجوز ، وترجل ليتبع الرجل .وعبر بوابة المدرسة أخذ يرقب زبونه وهو يدخلها .
سأل رجل في خريف العمر كان يقف قريبا مرتديا زي حارس موراكامي : " هل من خدمة ؟".
-" لا أنا سائق تاكسي ، لقد أحضرت هذا الرجل الذي مرَّ لتوه من هنا ".
أومأ الرجل رأسه بالإيجاب وقال : " آه ..هذ الرجل ".
- " ذكر شيئا عن تخرج حفيده ".<O
- " حفيده؟ إن حفيده ميت يا سيد! صدمته سيارة أليس هذا حادثا بشعا ؟ أتعلم ما الذي كنت سأفعله لو كنت مكانه ؟ كنت سأسحق ذلك السائق. قطب الحارس وجهه وأضاف :
" ولم تمضِ سنة أخرى حتى ماتت والدة الصبي بدورها ".
أحس موراكامي بالدم ينسحب من وجهه. كان على علم بأن الوالد توفي في وقت ما قبل وقع الحادث ، لكن تلك هي المرة الأولى التي يسمع فيها بوفاة الوالدة .فإن كان هذا صحيحا فمعنى ذلك أن الجد عاش طوال هذه المدة وحيدا ...<O
إذن الأمر على هذا النحو. ففي وقت ما بدأ الجد في الاعتقاد بأن الصبي ما يزال حيا .<O
-" هل بدأت مراسم الاحتفال ؟ ".
-" أقدر أن نصفها انقضى ".
مضى موراكامي بخطوات سريعة باتجاه المدرسة. لم يكن ليدع هذا العجوز يذل نفسه أمام هذا الحشد من البشر. ما من شك في أن هذا العجوز بدأ يترنح في الزحام ، باحثا عن حفيده الوهمي .
فجأة تراجع موراكامي. كان المكان مزدحما بطوابير وراء أخرى من الطلاب وأولياء أمورهم. والجميع جلوس بهدوء لمتابعة خشبة المسرح .
استطاع بمشقة السير متبعا عبر الممشى بين الكراسي ، قالت امرأة شابة ، هي مدرِّسة ،حسبما خمن مةراكامي وهي تربت على كتفه :"المعذرة .إن كنت تنظر أحدا ..".
- " لا .أنا ..إنه ..".
دوت أركان المدرسة بأصوات التصفيق الحار. فنظر موراكامي باتجاه خشبة المسرح .هناك مع كل الطلبة الخريجين وقف العجوز الذي سُـلِّـم شهادة التخرج .
استدار موراكامي إلى المدرسة الشابة وقال : " ذلك الرجل ...".
أخذت المدرسة تشرح " آه .نعم .لقد فقد حفيدا له منذ سنوات مضت .وهو شخصيا لم يتلق أي تعليم في المدارس.لذلك قال إنه سيذهب بدلا من حفيده .فقد نفَّـذ ذلك بالفعل ، كل يوم ، ومنذ ست سنوات ". أضافت وهي تهز رأسها بإعجاب : " إنني حقيقة أحترم هذا الرجل "
على خشبة المسرح كان الرجل العجوز ينحني باحترام فائق للاحتفاء الحماسي الكبير الذي يتلقاه .
تبسَّم العجوز وهو يرى موراكامي يلوح له في سيارة الأجرة وهو خارج من البوابة وقال : " آه لقد انتظرتني "
- "هل لي أن أوصلك إلى المنزل ؟ ".
فتح موراكامي باب السيارة للراكب ، وأدار المحرك .
- " تهانينا يا سيدي ".
ضحك العجوز ضحكة خافته وتنهد قائلا : " آه لقد سمعت الخبر ؟ ... إن الأمر محرج نوعا ما .لم يكن باستطاعتي أن أشرح أن التخرج كان تخرجي أنا .على أية حال .. لقد حققت ذلك .لقد وعدت حفيدي ..أنني بعد موته ،
سأتخرج من أجله ".
قطع موراكامي مسافة بالسيارة قبل أن يقول : " أنا السائق الذي صدم حفيدك أو ربما تعرف أنت بدورك ذلك ".
لم يكن هناك مِنْ رد.توقف موراكامي عند حافة الطريق واستدار باتجاه العجوز .
لم يتحرك العجوز.كانت عيناه مغمضتين ، ويداه ممسكتان بالشهادة المطوية بإحكام . لقد أوفى بوعده لحفيده وشق طريقه عبر نوع آخر من التخرج .
وراء الســتـار
كيوكو أوتشاي
كاتبة روايات ومقالات أدبية،
تخرجت من جامعة ميجي بشهادة في
الأدب الإنجليزي والأمريكي.
تمتلك "دار كراوين" للنشر ومكتبة للأطفال
والآباء.حازت على جائزة " جالاكسي "
وجائزة المجلس الياباني للصحافيين.
كان ذلك في أصيل يوم من أيام شهر سبتمبر ، من خلف ستار رقيق في زاوية بأحد المطاعم تعالت أصوات رجل وامرأة ، في البداية كانت الأصوات عبارة عن وشوشة مكتومة إلا أن النقاش ازداد سخونة وصخبا بالتدريج ، ولم يعد هناك من شك في أن الشخصين هما زوجان في طريقها إلى الانفصال ، يتصرفان للوصول إلى ذلك بأسلوب يفتقر إلى المودة .
وبالحكم من خلال ما كان يصدر من المرأة تكرارا ، بصوت حاد وصاخب ، بدا واضحا أنها ليست الطرف الذي يطلب الانفصال.
- " بعد كل هذا الوقت الذي عشناه معا . هذا ليس عدلا ! كيف بإمكانك أن تكون..تكون قاسيا إلى هذا الحد ؟! "
في مثل هذه المواقف فإن النهج التقليدي المسلم به كقاعدة إلى حد ما هو أن الطرف الذي يتعرض للنكث بعهده يكون في موقف الهجوم .. ومن الأمور المتوقعة والمعتادة في مثل هذه المواقف أن التلفظ بقليل من الألقاب النابية والاتهامات الحادة والاهتياج العصبي يعد من الأمور المتوقعة والطبيعية ، ومن الواضح أن المرأة لم تر ضرورة لانتهاك هذا التقليد المعمول به .
- " عندما أفكر في كل تلك التضحيات ..ما الذي فعلته أنت في المقابل ؟ كذب .. غش .. خداع .. أنت .. أنت ..طاعن بالخنجر في الظهر !
لو أن الرجل في المقابل قال شيئا ساعتها للدفاع عن نفسه فمن المؤكد أنه لم يكن مسموعا على الإطلاق ..ربكا كانت الاستراتيجية التي يتبعها هي أن ينحني لعاصفة الكلمات هذه ، فمن المؤكد أنها لن تستمر للأبد.
- " كل تلك الثقة وذلك الإخلاص.. هل هذا هو الشكر الذي يناله المرء ؟ أليس لديك أدنى شعور ؟ كيف بإمكانك أن تفعل هذا لشخص يحبك كيف ..كيف ؟
تراجع الغضب الأخلاقي الذي بدأت به المرأة ثورتها مفسحا الطريق لإشفاق على الذات متعثر وممتزج بالنحيب ، وسرعان ما انخرطت في البكاء..غير أنه لم يكن بكاء فتاة في صدر العمر ، وإنما كان هناك شيء ناضج وعقلاني ، على نحو مذهل في بكائها الذي غدا مكتوما متقطعا وموحيا بالإعياء والسأم في الدنيا .
وبافتراض أن الجانب الذكوري من الصورة هو لشاب في مقتبل العمر ، فإن المرء يتساءل عما إذا لم تكن قصة الحب هذه في لقاء بين شاب في ريعانه وامرأة في خريف العمر ..
قالت المرأة بعد أن استعادت هدوءها : إلى هنا ويكفي.لقد عرفت إلى أي نوع من الأشخاص أنت ، إنها لمضيعة للوقت محاولة الحديث مع شخص على شاكلتك ..إنني ذاهبة .
أحدث الكرسي ضجيجا باحتكاكه على الأرض ، وللتو ظهرت امرأة من خلف الستار ، كانت ترتدي كيمونو غالي الثمن ويبدو أنها في نهاية الخمسينات من عمرها أو ربما أكثر بقليل ، ولعله من المدهش أن تجد امرأة في مثل عمرها تكمل بنجاح إنجازا عاطفيا وجريئا كهذا الموقف !
اتجهت رأسا نحو المخرج وأطراف الكيمونو الذي ترتديه تتموج بغضب ، وبعد أن سارت نحو ثلاث أوأربع خطوات ، توقفت عائدة .ربما نسيت شيئا ما ،أو ربما فكرت في عبارة تختم بها هذا الوداع .
عندما وصلت إلى الستار.توقفت هناك غاضبة لثوان ، ثم بدأت في الصراخ : " اكيو ، ماذا تنتظر ؟ في البداية كل ما قمت به هو الجلوس هناك منتحبا ، في الحين تعيد على والدتك أن تحـدّث تلك المرأة بدلا عنك .. حسنا .. لقد أخبرتها أنا ..ألم أفعل ذلك ؟ ألا ترى أن الموضوع بلا جدوى ؟
تمالك نفسك توا وهُــمَّ معي !
من خلف الستار ، خرج شاب يافع يبلغ نحو الخامسة أو السادسة والعشرين من العمر مترددا وقد احمرت عيناه ، كان يرتدي بدلة جميلة ذات لون أزرق داكن. فور خروجه من خلف الستار توقف وألقى نظرة للخلف كما لو كان لا يريد المغادرة .
"اكيو .." لا بد وأن تنسى هذه المرأة البغيضة ، أمك ستجد لك امرأة جديرة بحبك ..تعال ، لنذهب إلى البيت !.
تـجـارة مُــهلكــة<O
ياسوناري كاواباتا
حدث ذلك ذات ربيع ، منذ وقت طويل ، طويل ، في "أراشياما " ، في طوكيو.
أقبلت سيدات من عائلات "كيوتو" البارزة وبناتهن للاستمتاع بمشهد براعم الكرز (1)<O
- آسفة لطلب ذلك ،ولكن هل لي في استخدام دورة المياة ؟
كانت النسوة يطلبن ذلك وقد احمرت وجوهن خجلا ، عند بوابة دار ريفية ، شديدة التواضع .وعندما يمضين إلى مؤخرة الدار كن يجدن دورة المياة عتيقة وقذرة ، تتدلى حولها حصر من القش .
تفتق ذهن أحد الفلاحين عن خطة ، عندما أدرك مدى شعور نسوة "كيوتو" بالكرب والضيق ، وبنى دورة مياة صغيرة ، وعلق لافتة كتب عليها بحبر أسود " دورة مياة – أجرة الاستخدام ثلاثة مونات " وخلال موسم الاستمتاع بمشاهدة الزهور حققت دورة المياه نجاحا مذهلا .وغدا الفلاح رجلا ثريا .
قال أحد القرويين ، وقد استبدت به الغيرة من هذا الفلاح ، الذي يدعى "هاشيهاي " ، محادثا زوجته :
- أصبح هاشيهاي ، مؤخرا ،ممن يملكون مبلغا جسيما من المال ، بفضل دورة مياهه المعدة للاستخدام بأجر .أحسب أنني سأقوم ، في الربيع المقبل ببناء دورة مياه ومنافسته في عمله حتى القضاء عليه . ما رأيك في ذلك ؟
- سيكون ذلك تقديرا سيئا للأمور من جانبك ، فربما تبني دورة مياه ، ولكن " هاشيهاي " هو الذي كرس عملا غدا مستقرا ، وله زبائنه ، وستكون أنت القادم الجديد ، وإذا لم يقدر لعملك الإفلاح في منافسته فسوف تغدو أكثر فقرا .
- ما يغيب عنك هو أن دورة المياه التي أفكر فيها لن تكون قذرة ، كدورة مياه هاشيهاي.لقد سمعت أن حفل شرب الشاي غدا رائجا في العاصمة ، ولذا فإنني أعتزم إقامة دورة المياة على غرار أسلوب بناء الغرفة التي يقام فيها حفل الشاي .وفي المقام الأول ، وبالنسبة للأعمدة الأربعة فإن كتل خشب "يوشينو" ستكون قذرة ، ولذا فإنني سأستخدم خشب "كيتاياما" .وسيكون السقف من البردي ، ولسوف استخدم سلسلة سميكة بدلا من الحبل .فكرة ،ألا تعتقدين ذلك ؟ ولسوف أحدث نوافذ تحت مستوى الأرضية . والقواعد ستكون من خشب "الزلكوفا" ، وستطلى الجدران بطبقتين من الجص ، وسيكون الباب من خشب السرو .
ولسوف أكسو السقف على نحو متداخل بخشب الأرز،واستخدم حجر "كوراما" للدرجة التي يصعد بها إليه ، وسأجعل حوله تعريشة من الخيزران ،وإلى جوار حوض الغسيل الحجري ، سأغرس شجرة من أشجار الصنوبر الأحمر .ولسوف أبنيه لاجتذاب السنكي ، الإنشو ، الأوراكو، الهايامي ، وكل المدارس الأخرى التي تقام وفقا لقواعدها حفلات الشاي .
استمعت الزوجة لما يقوله الرجل ، بذهن شارد ، ثم قالت متسائلة :
- وكم ستتقاضى على استخدامه ؟
أفلح الرجل بشكل من الأشكال ، وعبر الكثير من العناء ، في بناء دورة مياة رائعة ، في الوقت المناسب لموسم مشاهدة براعم الكرز .وجعل كاهنا يكتب بأسلوب التانج الاستعراضي : " دورة مياه – أجرة الاستخدام ثمانية مونات " .
اكتفت نساء العاصمة بالتحديق في دورة المياه ، على نحو يوحي بالتوق لاستخدامه ، ومضين يحدثن أنفسهن بأنه أجمل من أن يستخدمن ، فلطمت امرأة الرجل الأرض بقدميها غاضبة ، وهي تقول :
- هل رأيت ؟ ذلك هو السر في أنني قلت لك إن عليك ألا تبنيه .لقد استثمرت كل ذلك المال ، والآن ما الذي سيحدث ؟
ليس هناك ما يدعوك إلى كل هذا الغضب . غدا عندما أتجول لاجتذاب مستخدمات دورة المياه ، فإنهن سيتجمعن مثل صف من النمال .
في الصباح استيقظ الرجل وارتدى الكيمونو ، وتأبط لفافة طعام غدائه المتدلية من حول رقبته ، وبادل زوجته النظر مبتسما ، وقد لاح الحزن في عينيه :
- طيب يا أم البنين ، لقد قلت لي أن هذا حلم ، حلم أحمق . واليوم سترين ما إن أقوم بجولاتي ، حتى تقبل الزبونات جماعات .
حدثت زوجة الرجل نفسها بأن الأمر كله غريب ، على نحو فظيع .كان قد قال إنه "سيقوم بجولات " فهل يعتزم التجول في العاصمة صائحا " دورة مياه ! دورة مياه ؟! ".
وبينما هي غارقة في تساؤلاتها أقبلت فتاة وألقت ثمانية مونات في صندوق النقود ، وولجت دورة المياه ، وبعد ذلك أقبلت الزبونات ، إحداهن إثر الأخرى دون انقطاع ، فتحيرت الزوجه ، واتسعت عيناها دهشة ، وهي تعني بأمر النقود .
- لابد أن زوجي هو تناسخ "البوذيساتف مونجو" (2) هذه هي المرة الأولى التي تتحقق فيها أحلامه .
سرت المرأة أشد السرور ، فابتاعت بعض العصير ، ومضت تنتظر قدوم زوجها ، ولكنها فوجئت بجثته تحمل إليها على نحو يثير الرثاء .
- مات في مرحاض "هاشيهاي" ، من مرض القطان على ما يبدو .
كان الزوج قد بادر ، فور مغادرته داره في صباح ذلك اليوم ، بدفع موناته الثلاثة ، وولج دورة مياه " هاشيهاي" ، وأحكم رتاج الباب .وعندما يحاول أحد الدخول كان يصدر نحنحة تفيد وجوده بالداخل . واستمر هذا إلى أن وصل حد التخشب في جلسته بدورة المياه ، وفي نهاية النهار الربيعي المتطاول لم يستطع الصمود.
______________________________
(1) مشاهد براعم الكرز خلال موسم تفتحها من الجسور التقليدية التي تمد لكسر حاجز الاغتراب بين الإنسان و الطبيعة في اليابان ، وقد كان موضوعا أثيرا لأعمال فنية لا حصر لها كالمسرح التقليدي والقصائد والروايات والقصص القصيرة .
(2) مفهوم البوذيساتفا في التقاليد اليابانية ينطوي على جانب كبير من التعقيد ، باختصار إنه يعني أحد المراحل التي تجتازها الكائنات القدسية في طريقها على الاستنارة الكاملة ، والتخلص من دورات الموت و الميلاد بشكل نهائي .
دار
ياسوناري كاواباتا- قصص بحجم راحة اليد
أمسك الرجل بيد امرأته الضريرة ، وقادها صعودا على التل لمشاهدة دار للإيجار .
- ما هذا الصوت ؟
- إنه زفيف الريح في أجمة خيزران.
- بالطبع . لقد مر وقت طويل منذ خرجت من الدار ، ونسيت صوت حفيف وريقات الخيزران .. الدرج في الدار التي نقيم بها الآن ضيق على نحو بالغ الفظاعة . وعندما انتقلمنا إلى هناك لم أستطع في البداية احتمال ازعاج ارتقائه .أما الآن وقد بدأت أشعر لتوي بأنن قد اعتدته ، تقول لي إننا بسبيلنا إلى البحث عن دار جديدة مجددا . المرأة الضريرة يتعين عليها أن تعرف كل ركن ومنعطف في دارها . وهي تألفها كما تألف جسمها . وبالنسبة للشخص المبصر ، فإن الدار تعد ميتة ، ولكنها بالنسبة للشخص الضرير ، إنها تضج بالحياة .إنها نبض . الآن هل سيتعين عليَّ الارتطام بكل الأركان والتعثر في العتبة مجددا في دار جديدة .
ترك الرجل يد امراته ، وفتح البوابة المطلية باللون الأبيض .
قالت :
- إنها توحي بالعتمة ، كما لو أن الأشجار قد ألقت بظلالها على الحديقة . والشتاء سيكون باردا من الآن فصاعدا .
- إنها دار على الطراز الغربي ، لها جدران ونوافذ كئيبة ، ولابد أن بعض الألمان كانوا يقطنون هناك فلافتة الاسم تحمل اسم " ليدرمان"
ولكن الرجل عندما فتح الباب الخارجي ، ارتد راجعا ، كأنما فوجيء بضوء باهر .
- هذا رائع .إنه مبهر للغاية . لربما يكون الليل سائدا في الحديقة ، لكن داخل الدار يكون شبيها بوقت الظهيرة .
كان ورق الحائط المخطط باللونين الأصفر والقرمزي براق اللون ، كالأجواخ البيضاء والأرجوانية التي تعرض في الاحتفالات . وتوهجت الستائر كثيفة الحمرة كأنوار كهربائية ملونة .
- هاهنا اريكة ومدفأة ومائدة ومقاعد ومكتب ومصباح تزييني .. كل الأثاث ها هنا. تلمسني ذلك !
أوشك أن يسقطها أرضا ، وهو يجعلها تجلس على الأريكة. لوحت بيدها كمتزلج على الجليد يعاني من الارتباك ، وارتدت متقافزة كنابض.
- هناك بيانو أيضا.
أمسك بيدها ، واجتذبها. فأوقفها على قدميها . جلست قبالة البيانو بجوار المدفأة ، وبنشاط لمست المفاتيح ، كأنها شيء مخيف.
- اصغ ! إنه يعمل .
بدأت في عزف لحن بسيط ، ربما كان لحن أغنية تعلمته عندما كانت فتاة صغيرة ، وكان لا يزال بمقدورها أن ترى .
مضى إلى المكتب ، وإلى جوار المكتب ، اكتشف غرفة نوم بفراش مزدوج.هاهنا مجددا كان هناك ورق حائط مخطط باللونين القرمزي والأبيض ..وهذه المرة كانت هناك بطانية خشنة ملفوفة حول حشية للرقاد ملئت قشا.وثب عليها ، فأحس بها لينة ومتقافزة، وبدأ عزف زوجته يتردد مفعما بمرح أكبر .لكنه استطاع كذلك سماعها تضحك كأنها طفلة ، عندما كانت تخطىء بين الحين والآخر في عزف نغمة ..ياللحزن الذي يواكب العمى !
العمى الذي أشير إليه هنا لا يعني بالضرورة عمى العينين فحسب .
الـــــتَخـــــــرج
تشيرو أكاجاوا
ولد أكاجازا عام 1948 .كتب مجموعة كبيرة من قصص
الألغاز الغامضة عقب حصوله على جائزة الكتَّاب للناشئين
عن كتابة "القطار الشبح"في عام 1976 .عُرفت أعماله
بتميزها بروح الفكاهة وإيقاعها اللاهث وانتشرت بصورة
خاصة في صفوف الشباب ،وقد نُشرت قصته هذه لأول
مرة باليابانية في عام 1984 في إطار مجموعة أصدرتها
دار كودانشا انترناشيونال المتخصصة في إصدارها
لعام 1987 لأعمال الإبداعية ،ثم تُرجمت إلى العديد
من لغات العالم .
تدحرجت كرة أمام سيارة الأُجرة.فضغط موراكامي بقوة على الكوابح ، قُـذفَ الراكبُ الجالس في المقعد الخلفي بشدةٍ إلى الأمام ، فارتطم رأسه بالحاجز الزجاجي الذي يفصل بينه وبين السائق وقال : " اللعنة ! ما الذي تفعله بحق الجحيم ؟" أدار موراكامي محرّك السيارة من جديد، وقال : " المعذرة يا سيدي !عندما رأيت الكرة ، فإنني ..".
- "كرة؟ دست الكوابح بهذه القوة بسبب كرة لعينة ؟ ".
صاح موراكامي الذي تملَّـكه الغضب فجأة : " من أجل طفلٍ قد يكون منطلقا خلفها . أم أنه لا يهمك أن يُـقتل طفل ؟ ".
استرخى الراكب على المقعد وقال : " طيب ، طيب " ثم غرق في صمت ٍ كئيب .
وبعودته إلى القيادة أحسَّ موراكامي بقطرات العرق تنساب على عموده الفقري ، وكانت الذكريات المرعبة ، تلك التي مضت عليها ست سنوات ، الآن ، ما زالت متوهجة كأوضح ما تكون .
كان موراكامي قد قاد سيارة الأُجرة لمدة تزيد عن العشر سنوات ، لم يتسبب خلالها في أي حادث ، ولم يتلقَّ أي مخالفة سَيْـر، ولكن في ذات يومٍ كان مشغولا أكثر من المعتاد وراح يفكر في أن يكف عن العمل مبكراً . وبينما كان يمضي بسيارته عبر منطقة سكنية هادئة ، في طريقه إلى الكاراج رأى سيارة شحن صغيرة تقترب في الاتجاه المقابل . كان الشارع ضيقا لكن هناك مساحة كافية للعبور . قاد موراكامي السيارة ببطء على بعد بوصات من السياج الممتد على يساره.
وكادت السيارتان ترتطمان عندما ضربت مرآة الشاحنة الجانبية شيئا ما ، وأحدثت صوتا مرتفعا ، كان غصن شجرة على ما يبدو.
جفل موراكامي ، وأشاح بنظره عن الشارع لدقيقة فقط لكنها كانت كافية لاندفاع طفل صغير من بوابة مفتوحة أمام سيارة موراكامي ، الذي ضغط على الكوابح بكل قوة .أطلقت الإطارات صرخة طويلة حادة ، وشعر بأنه لطم شيئا محدثا صوتا مكتوما . فأغمض عينيه ...
كان ذلك قبل ست سنوات .<O
تطلع موراكامي إلى ساعته بينما كان الراكب يهم بالنزول من سيارة الأجره، ورأى أن الوقت قد حان لإنهاء مناوبته ، وقال للراكب بينما هو يترجل من السيارة : " شكرا لك سيدي " لقد عملت بشكل جيد اليوم ، أفضل من المعتاد ، فلا خير في العودة الآن .
كان ذلك في أصيل يوم دافئ من أيام شهر مارس . وفي طريقه على المرآب انعطف موراكامي في طريق ضيق ، هادئ . قال لنفسه : " هذه الضاحية لا تتغير البتة . إنها لم تتغير إطلاقا خلال ست سنوات " .
عبر موراكامي هذا الشارع مرات لا حصر لها منذ وقوع الحادث . ولطالما شعر كلما طاف به بأنه مجبر على القيام بهذا كنوع من التخليد لذكرى ذلك الطفل الصغير . كأنها زيارة لقبر .
لم يوجه أحد اللوم له يومها ، فالكل أجمع على أن الحادث كان شيئا لا يمكن تجنبه . وبالطبع ، قام موراكامي بكل ما يستطيع من أجل عائلة الصغير . ولكن حقيقة أن هذه الأسرة لم تطالب بأي تعويض ، ولم تذكر شيئا إطلاقا عن المال ، جعلت العبء أسوأ وأثقل بالنسبة لموراكامي ، وكان يذكر نفسه مرات ومرات بأن كل أموال العالم لن تستطيع أن تعيد هذا الطفل للحياة من جديد.
كان رجل في نحو السبعين من العمر يعرج ماضيا باتجاه الحاجز الحجري ، عند حافة الطريق ، وعندما لاحظ سيارة الأجره توقف ورفع يده فتوقف موراكامي أمام العجوز وفتح له الباب .
كان الرجل يرتدي بذلة أنيقة وربطة عنق وتفوح منه رائحة طيبة .
قال العجوز :
" آه .. الحمد لله .ليس هناك من سيارات أجره متوفرة في هذه المنطقة . كنت أخاف من الاضطرار للمشي حتى بلوغ الشارع الرئيسي ".
- " إلى أين يا سيدي " .
- " حسنا .. إنها تدعى مدرسة ك.الابتدائية ، إنها .. كيف لي أن أشرح لك ..".
- " لا حاجة لذلك يا سيدي إنني أعرف أين تقع "
- " آه . أتعرف لك ؟ كم أنا محظوظ ! ".
- تنهد الرجل في ارتياح ، وقال : " إنني لا أتذكر أسماء الشوارع بوضوح . ينبغي عليّ أن أطلب من أحدهم أن يكتبها لي .. على ما أعتقد .. لكنني ..".
خفف موراكامي من سرعة السيارة ، وقال : "في الحقيقة ، لقد ذهبت إلى هذه المدرسة مرة أو مرتين ".
كان الطفل الذي دهسه موراكامي قد التحق لتوه بهذه المدرسة .
وعادة ما يوقف موراكامي سيارة الأجره بالقرب من ملعب المدرسة ليقوم بمشاهدة الأطفال وهم يلعبون ، ولولا وقوع الحادث لكان ذلك الطفل يلعب الآن مع الأطفال الآخرين .
التقط الراكب العجوز نفسا عميقا وقال : " آه ، يا له من يوم رائع! " فرد موراكامي :" إنه كذلك ! هل هناك مناسبة خاصة يجري الاحتفال بها في هذه المدرسة ؟ ".
- " في الواقع ، نعم ، إنه حفل تخريج حفيدي".
- " كم هو رائع! "
- " كنت أخشى أن أتأخر على الحفل. لكن والحالة هذه فبإمكاني أن أصل هناك في الوقت المحدد".
انعطف موراكامي إلى الشارع الرئيسي . كان طريق المشاة مزدحما بأطفال المدرسة الذين يلعبون معا . وهم يسيرون.لقد تخرجوا أيضا لتوهم ، وكل منهم يحمل شهادة مطوية في يده ، ويقوم بعضهم بتمثيل دوره في معارك الساموراي وهم يستخدمون شهاداتهم المطوية كسيوف .
توقف موراكامي عند الإشارة لحمراء ، بينما أخذت مجموعة من الأطفال تعبر الشارع أمام سيارته.
- " إن الأطفال رائعون ، أليس كذلك ؟ بإمكاني أن أقضي وقتا يمتد للأبد وأنا أتطلع إليهم " .<O
انحنى الرجل العجوز إلى الأمام وناول نوراكامي صورة فوتوغرافية ، تناول موراكامي الصورة ونظر إليها ، ثم قربها أكثر من ناظريه .
كان ما يزال يحدق في وجه الطفل ، عندما أطلقت السيارة الواقفة خلفه إشارة تحذير . أرجع موراكامي الصورة للرجل ، وأدار محرك السيارة .<O
- " إنها صورة قديمة إلا أنها جيدة . ألا تعتقد ذلك ؟ ".
تجمدت عينا موراكامي باتجاه الشارع أمامه . لقد سبق له وأن رأى هذا الوجه ، في صورة أكبر حجما ، يحيط بها شريط أسود . كان ذلك منذ ست سنوات مضت .
لقد قابل جد الطفل في مراسم التشييع . لكن الآن فقط ، وهو يختلس نظرة خاطفة عبر المرآة الخلفية أدرك أنه الوجه ذاته .لقد كبر كثيرا خلال السنوات الست هذه .
تذكر موراكامي أن الجد حرفي ماهر من نوع ما .رجل هادئ ، مبجل ، حتى أنه قد يحسبه المرء بطريق الخطأ من المثقفين ، على الرغم من أن أحدهم قال إنه لم يتلق أي تعليم رسمي إطلاقا .
قال الرجل عندما هم موراكامي بالتوقف أمام المدرسة : " شكرا جزيلا لك " . دفع أجرة التاكسي دون أن ينتظر الباقي .اندفع مسرعا عبر بوابة المدرسة .
أوقف موراكامي الأُجرة بعيدا شيئا ما عن المكان الذي نزل فيه العجوز ، وترجل ليتبع الرجل .وعبر بوابة المدرسة أخذ يرقب زبونه وهو يدخلها .
سأل رجل في خريف العمر كان يقف قريبا مرتديا زي حارس موراكامي : " هل من خدمة ؟".
-" لا أنا سائق تاكسي ، لقد أحضرت هذا الرجل الذي مرَّ لتوه من هنا ".
أومأ الرجل رأسه بالإيجاب وقال : " آه ..هذ الرجل ".
- " ذكر شيئا عن تخرج حفيده ".<O
- " حفيده؟ إن حفيده ميت يا سيد! صدمته سيارة أليس هذا حادثا بشعا ؟ أتعلم ما الذي كنت سأفعله لو كنت مكانه ؟ كنت سأسحق ذلك السائق. قطب الحارس وجهه وأضاف :
" ولم تمضِ سنة أخرى حتى ماتت والدة الصبي بدورها ".
أحس موراكامي بالدم ينسحب من وجهه. كان على علم بأن الوالد توفي في وقت ما قبل وقع الحادث ، لكن تلك هي المرة الأولى التي يسمع فيها بوفاة الوالدة .فإن كان هذا صحيحا فمعنى ذلك أن الجد عاش طوال هذه المدة وحيدا ...<O
إذن الأمر على هذا النحو. ففي وقت ما بدأ الجد في الاعتقاد بأن الصبي ما يزال حيا .<O
-" هل بدأت مراسم الاحتفال ؟ ".
-" أقدر أن نصفها انقضى ".
مضى موراكامي بخطوات سريعة باتجاه المدرسة. لم يكن ليدع هذا العجوز يذل نفسه أمام هذا الحشد من البشر. ما من شك في أن هذا العجوز بدأ يترنح في الزحام ، باحثا عن حفيده الوهمي .
فجأة تراجع موراكامي. كان المكان مزدحما بطوابير وراء أخرى من الطلاب وأولياء أمورهم. والجميع جلوس بهدوء لمتابعة خشبة المسرح .
استطاع بمشقة السير متبعا عبر الممشى بين الكراسي ، قالت امرأة شابة ، هي مدرِّسة ،حسبما خمن مةراكامي وهي تربت على كتفه :"المعذرة .إن كنت تنظر أحدا ..".
- " لا .أنا ..إنه ..".
دوت أركان المدرسة بأصوات التصفيق الحار. فنظر موراكامي باتجاه خشبة المسرح .هناك مع كل الطلبة الخريجين وقف العجوز الذي سُـلِّـم شهادة التخرج .
استدار موراكامي إلى المدرسة الشابة وقال : " ذلك الرجل ...".
أخذت المدرسة تشرح " آه .نعم .لقد فقد حفيدا له منذ سنوات مضت .وهو شخصيا لم يتلق أي تعليم في المدارس.لذلك قال إنه سيذهب بدلا من حفيده .فقد نفَّـذ ذلك بالفعل ، كل يوم ، ومنذ ست سنوات ". أضافت وهي تهز رأسها بإعجاب : " إنني حقيقة أحترم هذا الرجل "
على خشبة المسرح كان الرجل العجوز ينحني باحترام فائق للاحتفاء الحماسي الكبير الذي يتلقاه .
تبسَّم العجوز وهو يرى موراكامي يلوح له في سيارة الأجرة وهو خارج من البوابة وقال : " آه لقد انتظرتني "
- "هل لي أن أوصلك إلى المنزل ؟ ".
فتح موراكامي باب السيارة للراكب ، وأدار المحرك .
- " تهانينا يا سيدي ".
ضحك العجوز ضحكة خافته وتنهد قائلا : " آه لقد سمعت الخبر ؟ ... إن الأمر محرج نوعا ما .لم يكن باستطاعتي أن أشرح أن التخرج كان تخرجي أنا .على أية حال .. لقد حققت ذلك .لقد وعدت حفيدي ..أنني بعد موته ،
سأتخرج من أجله ".
قطع موراكامي مسافة بالسيارة قبل أن يقول : " أنا السائق الذي صدم حفيدك أو ربما تعرف أنت بدورك ذلك ".
لم يكن هناك مِنْ رد.توقف موراكامي عند حافة الطريق واستدار باتجاه العجوز .
لم يتحرك العجوز.كانت عيناه مغمضتين ، ويداه ممسكتان بالشهادة المطوية بإحكام . لقد أوفى بوعده لحفيده وشق طريقه عبر نوع آخر من التخرج .
وراء الســتـار
كيوكو أوتشاي
كاتبة روايات ومقالات أدبية،
تخرجت من جامعة ميجي بشهادة في
الأدب الإنجليزي والأمريكي.
تمتلك "دار كراوين" للنشر ومكتبة للأطفال
والآباء.حازت على جائزة " جالاكسي "
وجائزة المجلس الياباني للصحافيين.
كان ذلك في أصيل يوم من أيام شهر سبتمبر ، من خلف ستار رقيق في زاوية بأحد المطاعم تعالت أصوات رجل وامرأة ، في البداية كانت الأصوات عبارة عن وشوشة مكتومة إلا أن النقاش ازداد سخونة وصخبا بالتدريج ، ولم يعد هناك من شك في أن الشخصين هما زوجان في طريقها إلى الانفصال ، يتصرفان للوصول إلى ذلك بأسلوب يفتقر إلى المودة .
وبالحكم من خلال ما كان يصدر من المرأة تكرارا ، بصوت حاد وصاخب ، بدا واضحا أنها ليست الطرف الذي يطلب الانفصال.
- " بعد كل هذا الوقت الذي عشناه معا . هذا ليس عدلا ! كيف بإمكانك أن تكون..تكون قاسيا إلى هذا الحد ؟! "
في مثل هذه المواقف فإن النهج التقليدي المسلم به كقاعدة إلى حد ما هو أن الطرف الذي يتعرض للنكث بعهده يكون في موقف الهجوم .. ومن الأمور المتوقعة والمعتادة في مثل هذه المواقف أن التلفظ بقليل من الألقاب النابية والاتهامات الحادة والاهتياج العصبي يعد من الأمور المتوقعة والطبيعية ، ومن الواضح أن المرأة لم تر ضرورة لانتهاك هذا التقليد المعمول به .
- " عندما أفكر في كل تلك التضحيات ..ما الذي فعلته أنت في المقابل ؟ كذب .. غش .. خداع .. أنت .. أنت ..طاعن بالخنجر في الظهر !
لو أن الرجل في المقابل قال شيئا ساعتها للدفاع عن نفسه فمن المؤكد أنه لم يكن مسموعا على الإطلاق ..ربكا كانت الاستراتيجية التي يتبعها هي أن ينحني لعاصفة الكلمات هذه ، فمن المؤكد أنها لن تستمر للأبد.
- " كل تلك الثقة وذلك الإخلاص.. هل هذا هو الشكر الذي يناله المرء ؟ أليس لديك أدنى شعور ؟ كيف بإمكانك أن تفعل هذا لشخص يحبك كيف ..كيف ؟
تراجع الغضب الأخلاقي الذي بدأت به المرأة ثورتها مفسحا الطريق لإشفاق على الذات متعثر وممتزج بالنحيب ، وسرعان ما انخرطت في البكاء..غير أنه لم يكن بكاء فتاة في صدر العمر ، وإنما كان هناك شيء ناضج وعقلاني ، على نحو مذهل في بكائها الذي غدا مكتوما متقطعا وموحيا بالإعياء والسأم في الدنيا .
وبافتراض أن الجانب الذكوري من الصورة هو لشاب في مقتبل العمر ، فإن المرء يتساءل عما إذا لم تكن قصة الحب هذه في لقاء بين شاب في ريعانه وامرأة في خريف العمر ..
قالت المرأة بعد أن استعادت هدوءها : إلى هنا ويكفي.لقد عرفت إلى أي نوع من الأشخاص أنت ، إنها لمضيعة للوقت محاولة الحديث مع شخص على شاكلتك ..إنني ذاهبة .
أحدث الكرسي ضجيجا باحتكاكه على الأرض ، وللتو ظهرت امرأة من خلف الستار ، كانت ترتدي كيمونو غالي الثمن ويبدو أنها في نهاية الخمسينات من عمرها أو ربما أكثر بقليل ، ولعله من المدهش أن تجد امرأة في مثل عمرها تكمل بنجاح إنجازا عاطفيا وجريئا كهذا الموقف !
اتجهت رأسا نحو المخرج وأطراف الكيمونو الذي ترتديه تتموج بغضب ، وبعد أن سارت نحو ثلاث أوأربع خطوات ، توقفت عائدة .ربما نسيت شيئا ما ،أو ربما فكرت في عبارة تختم بها هذا الوداع .
عندما وصلت إلى الستار.توقفت هناك غاضبة لثوان ، ثم بدأت في الصراخ : " اكيو ، ماذا تنتظر ؟ في البداية كل ما قمت به هو الجلوس هناك منتحبا ، في الحين تعيد على والدتك أن تحـدّث تلك المرأة بدلا عنك .. حسنا .. لقد أخبرتها أنا ..ألم أفعل ذلك ؟ ألا ترى أن الموضوع بلا جدوى ؟
تمالك نفسك توا وهُــمَّ معي !
من خلف الستار ، خرج شاب يافع يبلغ نحو الخامسة أو السادسة والعشرين من العمر مترددا وقد احمرت عيناه ، كان يرتدي بدلة جميلة ذات لون أزرق داكن. فور خروجه من خلف الستار توقف وألقى نظرة للخلف كما لو كان لا يريد المغادرة .
"اكيو .." لا بد وأن تنسى هذه المرأة البغيضة ، أمك ستجد لك امرأة جديرة بحبك ..تعال ، لنذهب إلى البيت !.
تـجـارة مُــهلكــة<O
ياسوناري كاواباتا
حدث ذلك ذات ربيع ، منذ وقت طويل ، طويل ، في "أراشياما " ، في طوكيو.
أقبلت سيدات من عائلات "كيوتو" البارزة وبناتهن للاستمتاع بمشهد براعم الكرز (1)<O
- آسفة لطلب ذلك ،ولكن هل لي في استخدام دورة المياة ؟
كانت النسوة يطلبن ذلك وقد احمرت وجوهن خجلا ، عند بوابة دار ريفية ، شديدة التواضع .وعندما يمضين إلى مؤخرة الدار كن يجدن دورة المياة عتيقة وقذرة ، تتدلى حولها حصر من القش .
تفتق ذهن أحد الفلاحين عن خطة ، عندما أدرك مدى شعور نسوة "كيوتو" بالكرب والضيق ، وبنى دورة مياة صغيرة ، وعلق لافتة كتب عليها بحبر أسود " دورة مياة – أجرة الاستخدام ثلاثة مونات " وخلال موسم الاستمتاع بمشاهدة الزهور حققت دورة المياه نجاحا مذهلا .وغدا الفلاح رجلا ثريا .
قال أحد القرويين ، وقد استبدت به الغيرة من هذا الفلاح ، الذي يدعى "هاشيهاي " ، محادثا زوجته :
- أصبح هاشيهاي ، مؤخرا ،ممن يملكون مبلغا جسيما من المال ، بفضل دورة مياهه المعدة للاستخدام بأجر .أحسب أنني سأقوم ، في الربيع المقبل ببناء دورة مياه ومنافسته في عمله حتى القضاء عليه . ما رأيك في ذلك ؟
- سيكون ذلك تقديرا سيئا للأمور من جانبك ، فربما تبني دورة مياه ، ولكن " هاشيهاي " هو الذي كرس عملا غدا مستقرا ، وله زبائنه ، وستكون أنت القادم الجديد ، وإذا لم يقدر لعملك الإفلاح في منافسته فسوف تغدو أكثر فقرا .
- ما يغيب عنك هو أن دورة المياه التي أفكر فيها لن تكون قذرة ، كدورة مياه هاشيهاي.لقد سمعت أن حفل شرب الشاي غدا رائجا في العاصمة ، ولذا فإنني أعتزم إقامة دورة المياة على غرار أسلوب بناء الغرفة التي يقام فيها حفل الشاي .وفي المقام الأول ، وبالنسبة للأعمدة الأربعة فإن كتل خشب "يوشينو" ستكون قذرة ، ولذا فإنني سأستخدم خشب "كيتاياما" .وسيكون السقف من البردي ، ولسوف استخدم سلسلة سميكة بدلا من الحبل .فكرة ،ألا تعتقدين ذلك ؟ ولسوف أحدث نوافذ تحت مستوى الأرضية . والقواعد ستكون من خشب "الزلكوفا" ، وستطلى الجدران بطبقتين من الجص ، وسيكون الباب من خشب السرو .
ولسوف أكسو السقف على نحو متداخل بخشب الأرز،واستخدم حجر "كوراما" للدرجة التي يصعد بها إليه ، وسأجعل حوله تعريشة من الخيزران ،وإلى جوار حوض الغسيل الحجري ، سأغرس شجرة من أشجار الصنوبر الأحمر .ولسوف أبنيه لاجتذاب السنكي ، الإنشو ، الأوراكو، الهايامي ، وكل المدارس الأخرى التي تقام وفقا لقواعدها حفلات الشاي .
استمعت الزوجة لما يقوله الرجل ، بذهن شارد ، ثم قالت متسائلة :
- وكم ستتقاضى على استخدامه ؟
أفلح الرجل بشكل من الأشكال ، وعبر الكثير من العناء ، في بناء دورة مياة رائعة ، في الوقت المناسب لموسم مشاهدة براعم الكرز .وجعل كاهنا يكتب بأسلوب التانج الاستعراضي : " دورة مياه – أجرة الاستخدام ثمانية مونات " .
اكتفت نساء العاصمة بالتحديق في دورة المياه ، على نحو يوحي بالتوق لاستخدامه ، ومضين يحدثن أنفسهن بأنه أجمل من أن يستخدمن ، فلطمت امرأة الرجل الأرض بقدميها غاضبة ، وهي تقول :
- هل رأيت ؟ ذلك هو السر في أنني قلت لك إن عليك ألا تبنيه .لقد استثمرت كل ذلك المال ، والآن ما الذي سيحدث ؟
ليس هناك ما يدعوك إلى كل هذا الغضب . غدا عندما أتجول لاجتذاب مستخدمات دورة المياه ، فإنهن سيتجمعن مثل صف من النمال .
في الصباح استيقظ الرجل وارتدى الكيمونو ، وتأبط لفافة طعام غدائه المتدلية من حول رقبته ، وبادل زوجته النظر مبتسما ، وقد لاح الحزن في عينيه :
- طيب يا أم البنين ، لقد قلت لي أن هذا حلم ، حلم أحمق . واليوم سترين ما إن أقوم بجولاتي ، حتى تقبل الزبونات جماعات .
حدثت زوجة الرجل نفسها بأن الأمر كله غريب ، على نحو فظيع .كان قد قال إنه "سيقوم بجولات " فهل يعتزم التجول في العاصمة صائحا " دورة مياه ! دورة مياه ؟! ".
وبينما هي غارقة في تساؤلاتها أقبلت فتاة وألقت ثمانية مونات في صندوق النقود ، وولجت دورة المياه ، وبعد ذلك أقبلت الزبونات ، إحداهن إثر الأخرى دون انقطاع ، فتحيرت الزوجه ، واتسعت عيناها دهشة ، وهي تعني بأمر النقود .
- لابد أن زوجي هو تناسخ "البوذيساتف مونجو" (2) هذه هي المرة الأولى التي تتحقق فيها أحلامه .
سرت المرأة أشد السرور ، فابتاعت بعض العصير ، ومضت تنتظر قدوم زوجها ، ولكنها فوجئت بجثته تحمل إليها على نحو يثير الرثاء .
- مات في مرحاض "هاشيهاي" ، من مرض القطان على ما يبدو .
كان الزوج قد بادر ، فور مغادرته داره في صباح ذلك اليوم ، بدفع موناته الثلاثة ، وولج دورة مياه " هاشيهاي" ، وأحكم رتاج الباب .وعندما يحاول أحد الدخول كان يصدر نحنحة تفيد وجوده بالداخل . واستمر هذا إلى أن وصل حد التخشب في جلسته بدورة المياه ، وفي نهاية النهار الربيعي المتطاول لم يستطع الصمود.
______________________________
(1) مشاهد براعم الكرز خلال موسم تفتحها من الجسور التقليدية التي تمد لكسر حاجز الاغتراب بين الإنسان و الطبيعة في اليابان ، وقد كان موضوعا أثيرا لأعمال فنية لا حصر لها كالمسرح التقليدي والقصائد والروايات والقصص القصيرة .
(2) مفهوم البوذيساتفا في التقاليد اليابانية ينطوي على جانب كبير من التعقيد ، باختصار إنه يعني أحد المراحل التي تجتازها الكائنات القدسية في طريقها على الاستنارة الكاملة ، والتخلص من دورات الموت و الميلاد بشكل نهائي .
دار
ياسوناري كاواباتا- قصص بحجم راحة اليد
أمسك الرجل بيد امرأته الضريرة ، وقادها صعودا على التل لمشاهدة دار للإيجار .
- ما هذا الصوت ؟
- إنه زفيف الريح في أجمة خيزران.
- بالطبع . لقد مر وقت طويل منذ خرجت من الدار ، ونسيت صوت حفيف وريقات الخيزران .. الدرج في الدار التي نقيم بها الآن ضيق على نحو بالغ الفظاعة . وعندما انتقلمنا إلى هناك لم أستطع في البداية احتمال ازعاج ارتقائه .أما الآن وقد بدأت أشعر لتوي بأنن قد اعتدته ، تقول لي إننا بسبيلنا إلى البحث عن دار جديدة مجددا . المرأة الضريرة يتعين عليها أن تعرف كل ركن ومنعطف في دارها . وهي تألفها كما تألف جسمها . وبالنسبة للشخص المبصر ، فإن الدار تعد ميتة ، ولكنها بالنسبة للشخص الضرير ، إنها تضج بالحياة .إنها نبض . الآن هل سيتعين عليَّ الارتطام بكل الأركان والتعثر في العتبة مجددا في دار جديدة .
ترك الرجل يد امراته ، وفتح البوابة المطلية باللون الأبيض .
قالت :
- إنها توحي بالعتمة ، كما لو أن الأشجار قد ألقت بظلالها على الحديقة . والشتاء سيكون باردا من الآن فصاعدا .
- إنها دار على الطراز الغربي ، لها جدران ونوافذ كئيبة ، ولابد أن بعض الألمان كانوا يقطنون هناك فلافتة الاسم تحمل اسم " ليدرمان"
ولكن الرجل عندما فتح الباب الخارجي ، ارتد راجعا ، كأنما فوجيء بضوء باهر .
- هذا رائع .إنه مبهر للغاية . لربما يكون الليل سائدا في الحديقة ، لكن داخل الدار يكون شبيها بوقت الظهيرة .
كان ورق الحائط المخطط باللونين الأصفر والقرمزي براق اللون ، كالأجواخ البيضاء والأرجوانية التي تعرض في الاحتفالات . وتوهجت الستائر كثيفة الحمرة كأنوار كهربائية ملونة .
- هاهنا اريكة ومدفأة ومائدة ومقاعد ومكتب ومصباح تزييني .. كل الأثاث ها هنا. تلمسني ذلك !
أوشك أن يسقطها أرضا ، وهو يجعلها تجلس على الأريكة. لوحت بيدها كمتزلج على الجليد يعاني من الارتباك ، وارتدت متقافزة كنابض.
- هناك بيانو أيضا.
أمسك بيدها ، واجتذبها. فأوقفها على قدميها . جلست قبالة البيانو بجوار المدفأة ، وبنشاط لمست المفاتيح ، كأنها شيء مخيف.
- اصغ ! إنه يعمل .
بدأت في عزف لحن بسيط ، ربما كان لحن أغنية تعلمته عندما كانت فتاة صغيرة ، وكان لا يزال بمقدورها أن ترى .
مضى إلى المكتب ، وإلى جوار المكتب ، اكتشف غرفة نوم بفراش مزدوج.هاهنا مجددا كان هناك ورق حائط مخطط باللونين القرمزي والأبيض ..وهذه المرة كانت هناك بطانية خشنة ملفوفة حول حشية للرقاد ملئت قشا.وثب عليها ، فأحس بها لينة ومتقافزة، وبدأ عزف زوجته يتردد مفعما بمرح أكبر .لكنه استطاع كذلك سماعها تضحك كأنها طفلة ، عندما كانت تخطىء بين الحين والآخر في عزف نغمة ..ياللحزن الذي يواكب العمى !
العمى الذي أشير إليه هنا لا يعني بالضرورة عمى العينين فحسب .