anamel
15 Mar 2004, 01:52 AM
محمد صلى الله عليه وسلم
كأنك تراه
د. عائض بن عبدالله القرني
الطبعة الأولى
1422 هـ ـ 2002 م
دار ابن حزم
بيروت لبنان
شبكة مجاهد مسلم الإسلامية الدعوية
www.islammi.jeeran.com
www.geocities.com/moujahedmouslem
بيروت ـ لبنان
نشره موقع صيد الفوائد
http://www.saaid.net/ المؤلف في سطور
عائض بن عبدالله بن عائض آل مجدوع القرني.
من مواليد عام 1379 هـ ببلاد القرن جنوب المملكة العربية السعودية.
حصل على الشهادة الجامعية من كلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية عام 1403 ـ 1404 هـ.
حصل على الماجستير في الحديث النبوي عام 1408 هـ وعنوان رسالته " البدعة وأثرها في الدراية والرواية".
حصل على الدكتوراه من جامعة الإمام عام 1422 هـ بعنوان " دراسة وتحقيق كتاب: الفهم على صحيح مسلم للقرطبي".
له أكثر من ثمانمائة شريط كاسيت إسلامي في الخطب والدروس والمحاضرات والأمسيات الشعرية والندوات الأدبية.
يحفظ القرآن الكريم وكتاب بلوغ المرام ويستحضر ما يقارب من خمسة آلاف حديث وأكثر من عشرة آلاف بيت شعر.
له أربعة دواوين شعرية هي:
لحن الخلود.
تاج المدائح.
هدايا وتحايا.
قصة الطموح.
أما مؤلفاته: فقد ألف في الحديث والتفسير والفقه والأدب والسيرة والتراجم، ومن مؤلفاته التي أصدرها دار ابن حزم بلبنان:
1- الاسلام وقضايا العصر. 2- تاج المدائح.
3- ثلاثون سببا للسعادة. 4- دروس المسجد في رمضان.
5- فاعلم أنه لا إله إلا الله. 6- مجتمع المثل.
7- ورد المسلم والمسلمة. 8- فقه الديل.
9- نونية القرني. 10- المعجزة الخالدة.
11- اقرأ باسم ربك. 12- تحف نبوية.
13- حتى تكون أسعد الناس. 14- سياط القلوب.
15- فتية آمنوا بربهم. 16- هكذا قال لنا المعلم.
17- ولكن كونوا ربانيين. 18- من موحد الى ملحد.
19- إمبراطور الشعراء. 20- وحي الذاكرة.
21- الى الذين أسرفوا على أنفسهم. 22- ترجمان السنة.
23- حدائق ذات بهجة. 24- العظمة.
25- لا تحزن. 26- وجاءت سكرة الموت بالحق.
27- مقامات القرني. 28- احفظ الله يحفظك.
29- أعذب الشعر.
حضر عشرات الحاضرات والأمسيات، وحضر مؤتمر الشباب العربي المسلم ومؤتمر الكتاب والسنة بالولايات المتحدة الأميركية، وحاضر في الأندية الأدبية والرياضية، وحاضر في الجامعات والملتقيات الثقافية.
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبدالله ورسوله محمد، وآله وصحبه، أما بعد:
فلا أستطيع أن ألزم الحياد في كتابتي عن أحبّ إنسان الى قلبي: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنني لا أكتب عن زعيم سياسي قدّم لشعبه أطروحته وعرض على أتباعه فكرته، ليقيم دولة في زاوية من زوايا الأرض، بل أكتب عن رسول ربّ العالمين، المبعوث رحمة للناس أجمعين.
ولن ألزم الحياد وأنا أكتب عنه؛ لأنني لا أكتب عن خليفة من الخلفاء له جنود وبنود ولديه حشود وعنده قناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسّومة والأنعام والحرث، ولكنني أكتب عن الرحمة المهداة والنعمة المسداة: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولن ألزم الحياد لأنني لا أتكلم عن سلطان من السلاطين قهر الناس بسيفه وسوطه، وأخاف الناس بسلطانه وهيمانه وصولجانه، لكنني أتكلم عن معصوم شرح الله صدره ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره.
ولن ألزم الحياد لأنني لا أتكلم عن شاعر هدّار، أو خطيب ثرثار، أو متكلم موّار، أو فيلسوف هائم، أو روائي متخيل، أو كاتب متصنّعن أو تاجر منعم، بل أتحدث عن نبي خاتم، نزل عليه الوحي، وهبط عليه جبريل، ووصل سدرة المنتهى، له شفاعة كبرى، ومنزلة عظمى، وحوض مورود، ومقام محمود، ولواء معقود، فكيف ألزم الحياد إذاً؟
أتريد أن أحبس عواطفي وأن أقيد ميولي وأن أربط على نبضات قلبي وأنا أكتب عن أحب إنسان إلى قلبي وأغلى رجل وأعز مخلوق على نفسي؟ إن هذا لشسء عجاب!
أتريد مني أن أكفكف دموعي وأنا أخطّ سيرته، وأن أخمد لهيب روحي وأنا أسطّر أخباره، وأن أجمد خلجات فؤادي وأنا أدبج ذكرياته؟! لن أستطيع هذا، كلا وألف كلا.
لأنني أكتب عن أسوة وإمام معي بهداه في كل شاردة وواردة، أصلي فأذكره لأنه يقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي" البخاري 631، أحجّ فأذكره لأنه يقول:" لتأخذوا عني مناسككم" مسلم 1297، في كل طرفة عين أذكره لأنه يقول:" من رغب عن سنتي فليس مني" البخاري 5063 ومسلم 1401، وفي كل لحظة أذكره لأن الله يقول:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } الأحزاب 21.
إنني أكتب عن أغلى الرجال وأجلّ الناس وأفضل البشر وأزكى العالمين، مرجعي في ذلك دفتر الحب المحفوظ في قلبي، ومصدري في ذلك ديوان الإعجاب المخطوط في ذاكرتي، فكأنني أكتب بأعصاب جسمي وشرايين قلبي، وكأن مدادي دمي ودموعي:
إن كان أحببت بعد الله مثله في
بدو وحضر ومن عرب ومن عجم
فلا اشتفى ناظري من منظر حسن
ولا تفوّه بالقول السديد فمي
**
زمانك بستان وعهدك أخضر
وذكراك عصفور من القلب ينقر
وكنت فكانت في الحقول سنابل
وكانت عصافير وكان صنوبر
لمست أمانينا فصارت جداولا
وأمطرتنا حبا ولا زلت تمطر
تعاودني ذكراك كلّ عشيّة
ويورق فكري حين فيك أفكّر
وتأبى جراحي أن تضمّ شفاهها
كأن جرح الحب لا يتخثر
أحبّك لا تفسير عندي لصبوتي
أفسّر ماذا والهوى لا يُفسّر
تأخرت يا أعلى الرجال فليلنا
طويل وأضواء القناديل تسهر
**
قصة النبوة
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنك تراه
اسمه:
محمد صلى الله عليه وسلم، اسم على مسمّى، علم على رمز، ووصف على إمام، جمع المحامد، وحاز المكارم، واستولى على القيم، وتفرّد بالمثل، وتميّز بالريادة، محمود عند الله لأنه رسوله المعصوم، ونبيّه الخاتم، وعبده الصالح، وصفوته من خلقه، وخليله من أهل الأرض، ومحمود عند الناس لأنه قريب من القلوب، حبيب الى النفوس، رحمة مهداة، ونعمة مسداة، مبارك أينما كان، محفوف بالعناية أينما وجد، محاط بالتقدير أينما حلّ وارتحل، حمدت طبائعه لأنها هذّبت بالوحي، وشرفت طباعه لأنها صقلت بالنبوة، فالله محمود ورسوله محمد:
وشقّ له من اسمه ليجلّه
فذو العرش محمود وهذا محمّد
واسمه أحمد، بشّر بذلك عيسى قومه، واسمه العاقب والحاشر والماحي، وهو خاتم الرسل وخيرة الأنبياء، وخطيبهم إذا وفدوا، وإمامهم إذا وردوا.
صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والمقام المحمود، صاحب الغرّة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المؤيّد بجبريل، حامل لواء العزّ في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبدمناف بن قصي، أشرف من ذُكر في الفؤاد، وصفوة الحواضر والبوادي، وأجلّ مصلح وهاد، جليل القدر، مشروح الصدر، مرفوع الذكر، رشيد الأمر، القائم بالشكر، المحفوظ بالنصر، البريء من الوزر، المبارك في كل عصر، المعروف في كل مصر، في همة الدهر، وجود البحر، وسخاء القطر، صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه، ما نجمٌ بدا، وطائر شدا، ونسيم غدا، ومسافر حدا.
واما نسبه:
فالرسول صلى الله عليه وسلم خيار من خيار، الى نسبه يعود كل مخار، وهو من نكاح لا من سفاح، آباؤه سادات الناس، وأجداده رؤوس القبائل، جمعوا المكارم كابرا عن كابر، واستولى على معالي الأمور، فلن تجد في صفة عبدالمطلب أجلّ منه، ولا في قرن هاشم أنبل منه، ولا في أتراب عبدمناف اكرم منه، ولا في رعيل قصيّ أعلى كعبا منه، وهكذا دواليك.. حتى ىدم عليه السلام، فهو صلى الله عليه وسلم سيد من سيد يروي المكارم أبا عن جد:
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى
نورا ومن فلق الصباح عمودا
وأما موطنه عليه الصلاة والسلام:
فقد اختار الله له من بقاع العالم ومن بين أصقاعها أحبّ البلاد إليه سبحانه، البلد الحرام، والتربة الطاهرة، والأرض المقدسة، والوطن المحاط بالعناية المحروس بالرعايةن فولد صلى الله عليه وسلم في مكة حيث صلى الأنبياء، وتهجّد المرسلون، وهبط الوحي، وطلع النور، وأشرقت الرسالة، وسطعت النبوة، وانبلج فجر البعثة، وحيث البيت العتيق، والعهد الوثيق، والحب العميق، فمكة مسقط رأس المعصوم، وفيها مهد طفولته، وملاعب صباه، ومعاهد شبابه، ومراتع فتوّته، ورياض أنسه.
بلادٌ نيطت عليّ تمائمي
وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها
ففيها رضع لبن الطهر، ورشف ماء النبل، وحسا ينبوع الفضيلة، وفيها درج، ودخل وخرج، وطلع وولج، فهي وطنه الأول، بأبي هو وأمي، وهي بلدته العزيزة الى فؤاده، الحبيبة الى قلبه، الأثيرة الى روحه بنفسي هو.
وحبّب أوطان الرجال إليهم
معاهد قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو
عهود الصبا منها فحنّوا لذالكا
فهناك في مكة صنع ملحمته الكبرى، وبثّ دعوته العظمى، وأرسل للعالمين خطابه الحارّ الصادق، وبعث لأهل الأرض رسالته المشرقة الساطعة، حتى إنه لما أخرج من مكة ودّعها وداع الأوفياء وفارقها وما كاد يتحمّل هذا الفراق:{ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ(2) } البلد.
محمد صلى الله عليه وسلم طفلا:
فإن الطهر ولد معه والبِشر صاحبه، والتوفيق رافقه، فهو طفل لكن لا كالأطفال، براءة في نجابة، وذكاء مع زكاء، وفطنه مع عناية،، فعين الرعاية تلاحظه، ويد الحفظ تعاونه، وأغضان الولاية تظلله، فهو هالة النور بين الأطفال، حفظه الله من الرعونة ومن كل خلق رديء ووصف مقيت ومذهب سيء، لأنه من ثغره مرشح لإصلاح العالم، مهيأ لإسعاد البشرية، معدّ بعناية لاخراج الناس من الظلمات الى التور، فهو الرجل لكن النبي، والإنسان لكن الرسول، والعبد لكن المعصوم، والبشر لكن الموحى إليه.
محمد صلى الله عليه وسلم ليس زعيما فحسب، لأن الزعماء عدد شعر الرأس، لهم طموحات من العلوم ومقاصد من الرئاسة ومآرب من الدنيا، أما هو فصالح مصلح، هادٍ مهدي، معه كتاب سنة، ونور وهدى، وعلم نافع وعمل صالح، فهو لصلاح الدنيا والآخرة، ولسعادة الروح والجسد.
ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس عالما فحسب، بل يعلّم بإذن الله العلماء، ويفقه الفقهاء، ويرشد الخطباء، ويهدي الحكماء، ويدل الناس الى الصواب { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(52) } الشورى.
فكلهم من رسول الله ملتمسٌ
غرفاً من البحر أو رشفاً من اليمّ
ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس ملكا يبسط سلطانه وينشر جنوده وأعوانه، بل إمام معصوم ونبي نرسل، وبشير ونذير لكل ملك ومملوك، وحر وعبد، وغني وفقير، وأبيض وأسود، وعربي وعجمي { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) } الأنبياء، ويقول عليه الصلاة والسلام:" والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". أخرجه مسلم 153 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأما شبابه، فهو زينة الشباب وجمال الفتيان، عفة ومروءة وعقلا وأمانة وفصاحة، لم يكن يكذب كذبة واحدة، ولم تعلم له عثرة واحدة ولا زلة واحدة ولا منقصة واحدة، فهو طاهر الإزار مأمون الدخيلة، زاكي السر والعلن، وقور المقام، محترم الجانب، أريحيّ الأخلاق، عذب السجايا، صادق المنطق، عفّ الخصال، حسن الخلال.
لم يستطع أعداؤه حفظ زلة عليه مع شدة عداوتهم وعظيم مكرهم وضراوة حقدهم، بل لم يعثروا في ملف خلقه الكريم على ما يعيب، بل وجدوا والحمد لله كل ما غاظهم من نبل الهمة ونظافة السجل، وطهر في السيرة، وجدوا الصدق الذي يباهي سناء الشمس، ووجدوا الطهر الذي يتطهر به ماء الغمام، فهو بنفس الغاية في كل خلق شريف وفي كل مذهب عفيف، فكان في عنفوان شبابه مستودع الأمانات ومردّ الآراء ومرجع المحاكمات ومضرب المثل في البرّ والسموّ والرشد والفصاحة {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) } القلم.
محمد صلى الله عليه وسلم رسولا:
فهو النبأ العظيم، والحدث الهائل، والخبر العجيب، والشأن الفخم، والأمر الضخم {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)} النبأ، فمبعثه حقيقة هو أروع الأنباء وأعظم الأخبار الذي سارت به الأخبار، وتحدّث به السمّار، ورعاه الركبان، واندهش منه الدهر، وذهب منه الزمن، فقد استدار له التاريخ ووقفت له الأيام، فقصة إرساله عليه الصلاة والسلام لا يلفها الظلام ولا تغطيها الريح ولا يحجبها الغمام، فإنما هي قصة عبرت البحار واجتازت القفار، ونزلت على العالم نزول الغيث، وأشرقت إشراق الشمس، فهو بإختصار نور، وهل يخفى النور؟ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} الصف.
وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث" أخرجه البخاري 79، ومسلم 2282 عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
عدوّك مذمومٌ بكل لسان
وإن كان أعداءك القمران
ولله سرٌّ في علاك وإنما
كلام الورى ضرب من الهذيان
فهو عليه الصلاة والسلام بعث ليعبد الله وحده لا شريك له، بعث ليوحد الله، بعث ليقال في الأرض: لا اله إلا الله محمد رسول الله، بعث ليحقّ الحق ويبطل الباطل، بعث بالمحجة البيضاء والملة الغرّاء والشريعة السمحاء، بعث بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، بعث بالخير والسلام والبرّ والمحبة والسعادة والصلاح، والأمن والإيمان، بعث بالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعث بمعالي الأمور ومكارم الأخلاق ومحاسن الطباع ومجامع الفضيلة، بعث لدحض الشرك وسحق الأصنام وكسر الأوثان وطرد الجهل ومحاربة الظلم وإزهاق الباطل ونفي الرذيلة، فما من خير إلا دلّ عليه، وما من شرّ إلا حذّر منه.
وأما خلقه عليه الصلاة والسلام فإن الله هو الذي أدّبه فأحسن تأديبه، فهو أحسن الناس خلقا، وأسدّهم قولا، وأمثلهم طريقة، وأصدقهم خبرا، وأعدلهم حكما، وأطهرهم سريرة، وأنقاهم سيرة، وأفضلهم سجايا، وأجودهم يدا، وأسمحهم خاطرا، وأصفاهم صدرا، وأتقاهم لربه، وأخشاهم لمولاه، وأعلمهم بالأمة، وأوصلهم رحمة، وأزكاهم منبتا، وأكرمهم محتدا، وأشجعهم قلبا، وأثبتهم جنانا، وأمضاهم حجة، وخيرهم نفسا ونسبا وخلقا ودينا.
فهو جميل الصفات مشرق المحيّا، قريب من القلوب، حبيب الى الأرواح، سهل الخليقة، ميسّر الطريقة، مبارك الحال، تعلوه مهابة وترافقه جلالة، على وجهه نور الرسالة، وعلى ثغره بسمة المحبة، حيّ القلب، ذكي الخاطر، عظيم الفطنة، سديد الرأي، ريان المشاعر بالخير، يسعد به جليسه، وينعم به رفيقه، ويرتاح له صاحبه، يحبّ الفأل ويكره الطيرة، يعفو ويصفح، ويسخو ويمنح، أجود من الريح المرسلة، وأكرم من الغيث الهاطل، وأبهى من البدر، وسع الناس بأخلاقه وطوّق الرجال بكرمه، وأسعد البشرية بدعوته، من رآه أحبّه، ومن عرفه هابه، ومن داخله أجلّه، كلامه يأخذ بالقلوب، وسجاياه تأسر الأرواح.
ثبّت الله قلبه فلا يزيغ، وسدّد كلامه فلا يجهل، وحفظ عينهفلا تخون، وحصّن لسانه فلا يزل، ورعى دينه فلا يضل، وتولى أمره فلا يضيع، فهو محفوظ مبارك ميمون {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} القلم، { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ } آل عمران159.يقول عليه الصلاة والسلام:" إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" أخرجه البخاري 20 عن عائشة رضي الله عنها. ويقول:" خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله" أخرجه الترمذي 3895 والبيهقي في السنن 15477 عن عائشة. ويروى عنه أنه قال:" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 20571. فسبحان من اجتباه واصطفاه وتولاه وحماه ورعاه وكفاه، ومن كل بلاء حسن أبلاه.
وأما دينه:
فهو الإسلام، دين الفطرة، دين الوسط، دين الفلاح والنجاة، أحبّ الأديان الى الله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) } آل عمران، دين جاء لوضع الآصار والأغلال عن الأمة، سهل ميسّر، عام شامل، كامل تام {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } المائدة 3.
دين جاء ليخرج الناس من عبادة العباد الى عبادة ربّ العباد، ومن ضيق الدنيا الى سعة الاخرة، ومن ظلمات الشرك الى نور التوحيد، ومن شقاء الكفر الى سعادة الإيمان.
دين صالح لكل زمان ومكان، شرعه من يغفر الزلة، وهو الذي يعلم السرّ وأخفى، العالم بعلانية العبد والنجوى.
وهو الدين الوسط الذي جاء بالعلم النافع والعمل الصالح، خلاف ما كان عليه اليهود؛ لأن عندهم علم غير نافع لم يعملوا به، فغضب الله عليهم، وخلاف النصارى؛ لأن عندهم عمل بلا علم، فضلوا سواء السبيل. فدين الإسلام صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. فالرسول صلى الله عليه وشلم بعث أميا من الأميين يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبله لمن الضالين، فجاء هذا الدين بتحريم الكذب في الأقوال والزور في الشهادة، والظلم في الأحكام، والجور في الولاية، والتصفيف في المكيال والميزان، والبغي على الناس والاعتداء على الغير والإضرار بالنفس والناس، فحفظ القلب بالإيمان، والجسم بأسباب الصحة، والمال من التلف، والعرض من الإنتهاك، والدم من السفك، والعقل من إذهابه وتغييره.
وأما كتابه:
فهو القرآن، أفضل الكتب وأجلّ المواثيق، وأحسن القصص وأحسن الحديث، فهو الحق المهيب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، كتاب فصّلت آياته ثم أحكمت، مبارك في تلاوته وتدبره والاستشفاء به والتحاكم اليه والعمل به، كل حرف منه بعشر حسنات، شافع مشفّع، وشاهد صادق، أنيس ممتع، وسمير مفيد، وصاحب أمين، معجز مؤثر، له حلاوة وعليه طلاوة، يعلو ولا يعلى عليه، ليس بسحر ولا شعر ولا بكهانة ولا بقول بشر، بل هو كلام الله، منه بدا وإليه يعود، نزل به الروح الأمين على قلب رسول ربّ العالمين ليكون من المرسلين، بلسان عربي مبين، فهو الكتاب الذي بزّ فصاحة، وفاقها بلاغة، وعلا عليها حجة وبيانا، وهو هدى ورحمة وموعظة وشفاء لما في الصدور، ونور وبرهان ورشد وسداد ونصيحة وتعليم، محفوظ من التبديل، محروس من الزيادة والنقص، معجزة خالدة، عصمة لمن اتبعه ونجاة لمن عمل به، وسعادة لمن استرشده، وفوز لمن اهتدى بهديه، وفلاح لمن حكمه في حياته. يقول عليه الصلاة والسلام:" اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه" أخرجه مسلم 804 عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وقال:" خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه" أخرجه البخاري 5027 عن عثمان رضي الله عنه، وقال:" إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين" أخرجه مسلم 817 عن عمر رضي الله عنه. وهو الكتاب الذي أفحم الشعراء، وأسكت الخطباء، وغلب البلغاء، وقهر العرب العرباء، وأعجز الفصحاء، وأعجب العلماء وأذهل الحكماء {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} الإسراء 9.
محمد صلى الله عليه وسلم صادقا:
فهو أصدق من تكلم، كلامه حق وصدق وعدل، لم يعرف الكذب في حياته جادّا أو مازحا، بل حرّم الكذب وذمّ أهله ونهى عنه، وقال:" إنّ الصدق يهدي الى البر، وإن البرّ يهدي الى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا.." الحديث أخرجه البخاري 6094 ومسلم 2607 عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
وأخبر ان المؤمن قد يبخل وقد يجبن، لكنه لا يكذب أبدا، وحذر من الكذب في المزاح لإضحاك القوم، فعاش عليه الصلاة والسلام والصدق حبيبه وصاحبه، ويكفيه صدقا صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن الله بعلم الغيب، وائتمنه الله على الرسالة، فأداها للأمة كاملة تامة، لم ينقص حرفا ولم يزد حرفا، وبلّغ الأمانة عن ربه بأتمّ البلاغ، فكل قوله وعمله وحاله مبني على الصدق، فهو صادق في سلمه وحربه، ورضاه وغضبه، وجدّ وهزله، وبيانه وحكمه، صادق مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، والرجل والمرأة، صادق في نفسه ومع الناس، في حضره وسفره، وحلّه وإقامته، ومحاربته ومصالحته، وبيعه وشرائه، وعقوده وعهوده ومواثيقه، وخطبه ورسائله، وفتاويه وقصصه، وقوله ونقله، وروايته ودرايته، بل معصوم من أن يكذب، فالله مانعه وحاميه من هذا الخلق المشين، قد أقام لسانه وسدّد لفظه، وأصلح نطقه وقوّم حديثه، فهو الصادق المصدوق، الذي لم يحفظ له حرف واحد غير صادق فيه، ولا كلمة واحدة خلاف الحق، ولم يخالف ظاهره باطنه، بل حتى كان صادقا في لحظاته ولفظاته وإشارات عينيه، وهو الذي يقول:" ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين" أخرجه أبو داود 4359 والنسائي 4067، وذلك لما قال له أصحابه: ألا أشرت لنا بعينك في قتل الأسير؟!
بل هو الذي جاء بالصدق من عند ربه، فكلامه صدق وسنّته صدق، ورضاه صدق وغضبه صدق، ومدخله صدق ومخرجه صدق، وضحكه صدق وبكاؤه صدق، ويقظته صدق ومنامه صدق {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ } الأحزاب8، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} التوبة، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ (21) } محمد.
فهو صلى الله عليه وسلم صادق مع ربه، صادق مع نفسه، صادق مع الناس، صادق مع أهله، صادق مع أعدائه، فلو كان الصدق رجلاً لكان محمداً صلى الله عليه وسلم، وهل يُتعلم الصدق إلا منه بأبي هو وأم؟ وهل ينقل الصدق إلا عنه بنفسي هو؟ فهو الصادق الأمين في الجاهلية قبل الإسلام والرسالة، فكيف حاله بالله بعد الوحي والهداية ونزول جبريل عليه ونبوّته وإكرام الله له بالإصطفاء والاجتباء والاختيار؟!
محمد صلى الله عليه وسلم صابرا:
فلا يعلم أحد مرّ به من المصائب والمصاعب والمشاق والأزمات كما مرّ به صلى الله عليه وسلم، وهو صابر محتسب {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ } النحل 127، صبرعلى اليتم والفقر والعوز والجوع والحاجة والتعب والحسد والشماتة وغلبة العدو أحيانا، وصبر على الطرد من الوطن والإخراج من الدار والإبعاد عن الأهل، وصبر على قتل القرابة والفتك بالأصحاب وتشريد الأتباع وتكالب الأعداء وتحزّب الخصوم واجتماع المحاربين وصلف المغرضين وكبر الجبارين وجهل الأعراب وجفاء البادية ومكر اليهود وعتوّ النصارى وخبث المنافقين وضرواة المحاربين، وصبر على تجهّم القريب وتكالب البعيد، وصولة الباطل وطغيان المكذبين.. صبر على الدنيا بزينتها وزخرفها وذهبها وفضتها، فلم يتعلق منها بشيء، وصبر على إغراء الولاية وبريق المنصب وشهوة الرئاسة، فصدف عن ذلك كله طلبا لمرضاة ربه، فهو صلى الله عليه وسلم الصابر المحتسب في كل شأن من شؤون حياته، فالصبر درعه وترسه وصاحبه وحليفه، كلما أزعجه كلام أعدائه تذكّر {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } طه 130، وكلما بلغ به الحال أشدّه والأمر أضيقه تذكّر {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } يوسف 18، وكلما راعه هول العدو وأقضّ مضجعه تخطيط الكفار تذكّر{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } الأحقاف 35.
وصبره صلى الله عليه وسلم صبر الواثق بنصر الله، المطمئن الى وعد الله، الراكن الى مولاه، المحتسب الثواب من ربّه جلّ في علاه، وصبره صبر من علم أن الله سوف ينصره لا محالة، وأن العاقبة له، وأن الله معه، وأن الله حسبه وكافيه، يصبر صلى الله عليه وسلم على الكلمة النابية فلا تهزه، وعلى اللفظة الجارحة فلا تزعجه، وعلى الإيذاء المتعمّد فلا ينال منه.
مات عمه فصبر، وماتت زوجته فصبر، وقتل حمزة فصبر، وأبعد من مكة فصبر، وتوفي ابنه فصبر، وتوفي ابنه فصبر، ورميت زوجته الطاهرة فصبر، وكُذّب فصبر، قالوا له شاعر كاهن ساحر مجنون كاذب مفتر فصبر، أخرجوه، آذوه، شتموه، سبّوه، حاربوه، سجنوه.. فصبر، وهل يتعلّم الصبر إلا منه؟ وهل يُقتدى بأحد في الصبر إلا به؟ فهو مضرب المثل في سعة الصدر وجليل الصبر وعظيم التجمّل وثبات القلب، وهو إمام الصابرين وقدوة الشاكرين صلى الله عليه وسلم.
محمد صلى الله عليه وسلم جوادا:
فهو أكرم من خلق الله، وأجود البرية نفسا ويدا، فكفّه غمامة بالخير، ويده غيث الجود، بل هو أسرع بالخير من الريح المرسلة، لا يعرف "لا" إلا في التشهد:
كا قال "لا" قط إلا في تشهدّه
لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يعطي عليه الصلاة والسلام عطاء من لا يخشى الفقر؛ لأنه بعث بمكارم الأخلاق، فهو سيد الأجواد على الإطلاق، أعطى غنما بين جبلين، وأعطى كل رئيس قبيلة من العرب مائة ناقة، وسأله سائل ثوبه الذي يلبسه فخلعه وأعطاه، وكان لا يردّ طالب حاجة، قد وسع الناس برّه، طعامه مبذول وكفه مدرار، وصدره واسع، وخلقه سهل، ووجه بسّام:
تراه إذا ما جئته متهللا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ينفق مع العدم ويعطي مع الفقر، يجمع الغنائم ثو يوزعها في ساعة، ولا يأخذ منها شيئا، مائدته صلى الله عليه وسلم معروضة لكل قادم، وبيته قبلة لكل وافد، يضيف وينفق ويعطي الجائع بأكله، ويؤثر المحتاج بذات يده، ويصل القريب بما يملك، ويواسي المحتاج بما عنده، ويقدّم الغريب على نفسه، فكان صلى الله عليه وسلم آية في الجود والكرم، حتى لا يقارن به أجواد العرب كحاتم وهرم ابن جدعان؛ لأنه يعطي عطاء من لا يطلب الخلف إلا من الله، ويجود جود من هانت عليه نفسه وماله وكل ما يملك في سبيل ربه ومولاه، فهو أندى العالمين كفا، وأسخاهم يدا، وأكرمهم محتدا، قد غمر أصحابه وأحبابه وأتباعه، بل حتى أعداءه ببرّه وإحسانه وجوده وكرمه وتفضله، أكل اليهود على مائدته، وجلس الأعراب على طعامه، وحفّ المنافقون بسفرته، ولم يُحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه تبرّم بضيف أو تضجّر من سائل أو تضايق من طالب، بل جرّ أعرابي برده حتى أثّر في عنقه وقال له: أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك وأمّك، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وضحك وأعطاه، وجاءته الكنوز من الذهب والفضة وأنفقها في مجلس واحد ولم يدّخر منها درهما ولا دينارا ولا قطعة، فكان أسعد بالعطية يعطيها من السائل، وكان يأمر بالإنفاق والكرم والبذل، ويدعو للجود والسخاء، ويذمّ البخل والإمساك، فيقول:" من كان بؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" أخرجه البخاري [ 6018، 6136، 6138] ومسلم 47 عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال:" كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس" أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 2431، وابن حبان في صحيحه 3310. وقال:" ما نقصت صدقة من مال" أخرجه مسلم 2588 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
محمد صلى الله عليه وسلم شجاعا:
هذا مما تناقلته الأخبار وسار مسير الشمس في رابعة النهار، فكان أثبت الناس قلبا، وكان كالطود لا يتزعزع ولا يتزلزل، ولا يخاف التهديد والوعيد، ولا ترهبه المواقف والأزمات، ولا تهزه الحوادث والملمّات، فوّض أمره لربه وتوكل عليه وأناب إليه، ورضي بحكمه واكتفى بنصره ووثق بوعده، فكان عليه الصلاة والسلام يخوض المعارك بنفسه ويباشر القتال بشخصه الكريم، يعرّض روحه للمنايا ويقدّم نفسه للموت، غير هائب ولا خائف، ولم يفرّ من معركة قط، وما تراجع خطوة واحدة ساعة يحمي الوطيس وتقوم الحرب على ساق وتشرع السيوف وتمتشق الرماح وتهوي الرؤوس ويدور كأس المنايا على النفوس، فهو في تلك اللحظة أقرب أصحابه من الخطر، يحتمون أحيانا وهو صامد مجاهد، لا يكترث بالعدوّ ولو كثر عدده، ولا يأبه بالخصم ولو قوي بأسه، بل كان يعدل الصفوف ويشجع المقاتلين ويتقدم الكتائب.
وقد فرّ الناس يوم حنينن وما ثبت إلا هو وستة من أصحابه، ونزل عليه {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} النساء 84، وكان صدره بارزا للسيوف والرماح، يصرع الأبطال بين يديه ويذبح الكماة أمام ناظريه وهو باسم المحيا، طلق الوجه، ساكن النفس.
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الرّدى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضّاح وثغرك باسم
وقد شُجّ عليه الصلاة والسلام في وجهه وكسرت رباعيته، وقتل سبعون من أصحابه، فما وهن ولا ضعف ولا خار، بل كان أمضى من السيف. وبرز يوم بدر وقاد المعركة بنفسه، وخاض غمار الموت بروحه الشريفة. وكان أول من يهبّ عند سماع المنادي، بل هو الذي سنّ الجهاد وحثّ وأمر به.
وتكالبت عليه الأحزاب يوم الخندق من كل مكان، وضاق الأمر وحلّ الكرب، وبلغت القلوب الحناجر، وظن بالله الظنون، وزلزل المؤمنون زلزالا شديدا، فقام صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو ويستغيث مولاه حتى نصره ربّه وردّ كيد عدوّه وأخزى خصومه وأرسل عليهم ريحا وجنودا وباؤوا بالخسران والهوان.
ونام الناس ليلة بدر وما نام هو صلى الله عليه وسلم، بل قام يدعو ويتضرّع ويتوسل الى ربه ويسأله نصره وتأييده، فيا له من إمام وما أشجعه! لا يقوم لغضبه أحد، ولا يبلغ مبلغه في ثبات الجأش وقوة القلب مخلوق، فهو الشجاع الفريد والصنديد الوحيد الذي كملت فيه صفات الشجاعة وتمّت فيه سجايا الإقدام وقوة البأس، وهو القائل:" والذي نفسي بيده لوددت أنني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل" أخرجه البخاري [36،2797] ومسلم 1876 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
محمد صلى الله عليه وسلم زاهدا:
كان زهده صلى الله عليه وسلم زهد من علم فناء الدنيا وسرعة زوالها وقلة زادها وقصر عمرها، وبقاء الآخرة وما أعدّه الله لأوليائه فيها من نعيم مقيم وأجر عظيم وخلود دائم، فرفض صلى الله عليه وسلم الأخذ من الدنيا إلا بدقر ما يسدّ الرمق ويقيم الأود، مع العلم أن الدنيا عرضت عليه وتزيّنت له وأقبلت إليه، ولو أراد جبال الدنيا أن تكون ذهبا وفضة لكانت، بل آثر الزهد والكفاف، فربما بات جائعا ويمرّ الشهر لا توقد في بيته نار، ويستمر الأيام طاويا لا يجد رديء التمر يسدّ به جوعه، وما شبع من خبز الشعير ثلاث ليال متواليات، وكان ينام على الحصير حتى أثّر في جنبه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، وكان ربما عرف أصحابه أثر الجوع في وجهه عليه الصلاة والسلام.
وكان بيته من طين، متقارب الأطراف، داني السقف، وقد رهن درعه في ثلاثين صاعا من شعير عند يهودي، وربما لبس إزارا ورداء فحسب، وما أكل على خوان قط، وكان أصحابه ربما أرسلوا له الطعام لما يعلمون من حاجته إليه، كل ذلك إكراما لنفسه عن أدران الدنيا، وتهذيبا لروحه وحفظا لدينه ليبقى أجره كاملا عند ربه، وليتحقق له وعد مولاه { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} الضحى، فكان يقسم الأموال على الناس ثم لا يحوز منها درهما واحدا، ويوّزع الإبل والبقر والغنم على الأصحاب والأتباع والمؤلفة قلوبهم ثم لا يهب بناقة ولا بقرة ولا شاة، بل يقول عليه الصلاة والسلام:" لو كان لي كعضاة ـ أي شجر ـ تهامة مالا لقسمته ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا". أخرجه مالك في الموطأ 977، والطبراني في الأوسط 1864 والكامل لابن عدي 3\97.
وراودته الجبال الشمّ من ذهب
عن نفسه فأراها أيما شمم
بل وكان عليه الصلاة والسلام الأسوة العظمى في الإقبال على الآخرة وترك الدنيا وعدم الإلتفات إليها أو الفرح بها أو جمعها أو التلذذ بطيباتها أو التنعم بخيراتها، فلم يبن قصرا، ولم يدّحر مالا، ولم يكن له كنز ولا جنة يأكل منها، ولم يخلف بستانا ولا مزروعة، وهو القائل:" لا نورّث، ما تركناه صدقة" أخرجه البخاري [3039، 3712] ومسلم برقم 1758، وكان يدعو بقوله وفعله وحاله الى الزهد في الدنيا والاستعداد للآخرة والعمل.
ما نظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو إمام المسلمين وقائد المؤمنين وأفضل الناس أجمعين يسكن في بيت طين وينام على حصير بال ويبحث عن تمرات تقيم صلبه، وربما اكتفى باللبن.
بل خُيّر بين أن يكون ملكا رسولا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا، يشبع يوما ويجوع يوما، حتى لقي الله عز وجل.
ومن زهده في الدنيا سخاؤه وجوده كما تقدم، فكان لا يرد سائلا ولا يحجب طالبا ولا يخيّب قاصدا، وأخبر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقال:" كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل" أخرجه البخاري 6416 عن ابن عمر رضي الله عنهما. ويروى عنه أنه قال:" ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" أخرجه ابن ماجه 4102 والطبراني في الكبير 10522 والحاكم 7833 عن سهل بن سعد الساعدي. وقال:" مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل قال في ظل شجرة ثم قام وتركها" أخرجه أحمد [3701، 4196] والترمذي 2377، وابن ماجه 4109 عن عبدالله بن مسعود وقال الترمذي حسن صحيح، وقال:" الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما" أخرجه الترمذي 2322 وابن ماجه 4112 عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال:" ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت" أخرجه مسلم 2958.
محمد صلى الله عليه وسلم متواضعا:
كان صلى الله عليه وسلم عجيبا في ذلك، فتواضعه تواضع من عرف ربّه مهابة، واستحيا منه وعظمه وقدّره حقّ قدره، وتطامن له وعرف حقارة الجاه والمال والمنصب، فسافرت روحه الى الله وهاجرت نفسه الى الدار الآخرة، فما عاد يعجبه شيء مما يعجب أهل الدنيا، فصار عبدا لربه بحق: يتواضع للمؤمنين، يقف مع العجوز ويزور المريض ويعطف على المسكين، ويصل البائس ويواسي المستضعفين ويداعب الأطفال ويمازح الأهل ويكلم الأمة، ويواكل الناس ويجلس على التراب وينام على الثرى، ويفترش الرمل ويتوسّد الحصير، قد رضي عن ربّه، فما طمع في شهرة أو منزلة أو مطلب أرضي أو مقصد دنيوي، يكلم النساء بلطف، ويخاطب الغريب بودّ، ويتألف الناس ويتبسّم في وجوه أصحابه يقول:" إنما أنا عبد: آكل كما يأكل العبد واجلس كما يجلس العبد" أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد 1\6، وابن سعد في الطبقات 1\371 وانظر كشف الخفاء 1\17 ، ولما رآه رجل ارتجف من هيبته قال:"هوّن عليك، فإني ابن امرأة كانت تاكل القديد بمكة" أخرجه ابن ماجه 3312، والحاكم 4366 عن ابن مسعود، وانظر الكامل لابن عدي 6\286.
وكان يكره المدح، وينهى عن إطرائه ويقول:" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبدالله ورسوله، فقولوا عبدالله ورسوله" أخرجه البخاري 3445 عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكان ينهى أن يقام له، وأن يوقف على رأسه، وكان يجلس حيثما انتهى به المجلس، وكان يختلط بالناس كأنه أحدهم، ويجيب الدعوة ويقول:" لو دعيت الى كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت" أخرجه البخاري [2568، 5178].
وكان يحب المساكين، ويروى عنه قوله:" اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين" أخرجه الترمذي 2352 عن أنس رضي الله عنه، وابن ماجه 4126 والحاكم 7911 عن أبي سعيد الخدري وصححه. وكان يحرّم الكبر وينهى عنه، ويبغض أهله ويقول:" يحشر المتكبرون يوم القيامة في صورة الذر، يغشاهم الذل من كل مكان" أخرجه أحمد 6639، والترمذي 2492، انظر كشف الخفاء 3236. ويروي عن ربه أنه قال:"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منها قذفته في النار" أخرجه مسلم 2620 وأبو داود 4090 واللفظ له.
فكان صلى الله عليه وسلم محببا الى القلوب: تأخذه الجارية بيده فيذهب معها، ويزور أم أيمن وهي مولاة. ولما مدحه وفد عامر بن صعصعة وقالوا: أنت خيرنا وأفضلنا وسيدنا وابن سيدنا قال لهم:" يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، لا يستجريّنكم الشيطان" أخرجه أحمد 15876 وأبو داود 4806، وغضب لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، وقال:" ويحك! أجعلتني والله عدلا؟ بل ما شاء الله وحده" أخرجه أحمد [1842، 2557] والنسائي في السنن الكبرى 10825 عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وكان يحمل حاجة أهله ويخصف نعله ويرقع ثوبه ويكنس بيته ويحلب شاته ويقطع اللحم مع أهله، ويقرّب الطعام لضيفه، ويباسط زوّاره ويسأل عن اخبارهم، ويتناوب ركوب الراحلة مع رفيقه، ويلبس الصوف ويأكل الشعير، وربما مشى حافيا، وينام في المسجد، ويركب الحمار، ويردف على الدابة، ويعاون الضعيف ويتفقد السرية، ويكون في آخرهم فيساعد من احتاج، ويرافق الوحيد منهم..
فصلى الله عليه وسلم ما تحرّك بذكره اللسان، وسارت بأخباره الركبان، وردّد حديثه الإنس والجان.
محمد صلى الله عليه وسلم حليما:
ما دام أنه رسول الله فلا بد أن يكون أحلم الناس وأوسعهم صدرا، وألينهم عريكة وأدمثهم خلقا وألطفهم عشرة، فقد كان يطظم غيظه ويعفو ويصفح ويغفر لمن زلّ، ويتنازل عن حقوقه الخاصة ما لم تكن حقوقا لله. وقد عفا عمن ظلمه وطره من وطنه وآذاه وسبّه وشتمه وحاربه، فقال لهم يوم الفتح:" اذهبوا فأنتم الطلقاء" أخرجه الشافعي في الأم 7\361، والطبري في تاريخه 2\161 والبيهقي في السنن الكبرى 18055 انظر صحيح الجامع 4815. وعفا عن ابن عمّه سفيان بن الحارث يوم الفتح لما وقف أمامه وقال له: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فقال عليه الصلاة والسلام:{ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} يوسف.
وقد واجهه الأعراب بالجفاء وسوء الأدب، فحلم وصفح، وقد امتثل أمر ربه في قوله:{ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} الحجر، فكان لا يكافئ على السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح، وكان لا ينفذ غضبه إذا كان لنفسه، ولا ينتقم لشخصه، بل إذا غضب ازداد حلما، وربّما تبسّم في وجه من أغضبه، ونصح أحد أصحابه فقال:"لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب" أخرجه البخاري 6116.
وكان يبلغه الكلام السيء فيه، فلا يبحث عمن قاله ولا يعاتبه ولا يعاقبه. وورد عنه أنه قال:" لا يبلغني أحد منكم ما قيل فيّ، فإني أحب أن أخرج إليك وأنا سليم الصدر" أخرجه احمد 3750 وأبو داود 4860 والترمذي 3896 عن عبدالله بن مسعود. وبلّغه ابن مسعود كلاما قيل فيه، فتغيّر وجهه وقال:" رحم الله موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر" أخرجه البخاري [ 3150، 3405] ومسلم 1062.
وقد أوذي من خصومه في رسالته وعرضه وسمعته وأهله، فلما قدر عليهم عفا عنهم وحلم عليهم، وقال:" من كف غضبه كف الله عنه عذابه" أخرجه أبو يعلى 4338 والبيهقي في الشعب 8311 وانظر العلل لابن أبي حاتم 1919 ومجمع الزاوئد 10\298. وقال له رجل: اعدل، فقال:" خبت وخسرت إذا لم أعدل" أخرجه البخاري 3138 ومسلم 1063 واللفظ له عن جابر بن عبدالله، ولم يعاقبه بل صفح عنه. وواجه بعص اليهود بما يكره، فعفا وصفح، وقد وسع بخلقه وتسامحه الناس، وأطفأ بحلمه نار العداوات ممتثلا قول ربه:{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)} المؤمنون.
وكان مع أهله أحلم الناس، يمازحهم ويلاطفهم ويعفو عنهم فيما يصدر منهم، ويدخل عليهم باسما ضحاكا، يملأ قلوبهم وبيوتهم أنسا وسعادة، يقول خادمه أنس بن مالك: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ما قال لي في شيء فعلته: لم فعلت هذا؟ ولا شيء لم أفعله: لم لم تفعل هذا؟ وهذا غاية الحلم ونهاية حسن الخلق، وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة، بل كان كل من رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه وودّه وحلمه ما يفوق الوصف، حتى تمكن حبّه من القلوب فتعلقت به الأرواح ومالت له نفوس الناس بالكلية:
وإذا رحمت فأنت أمّ أو أب
هذان في الدنيا هم الرحماء
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى
وفعلت ما لم تفعل الأنواء
وإذا صحبت رأى الوفاء مجسّما
في بُردك الأصحاب والخلطاء
وأبديت حلمك للسفيه مداريا
حتى يضيق بحلمك السفهاء
محمد صلى الله عليه وسلم رحيما:
وصفه ربه بقوله:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)}الأنبياء، فهو رحمة للبشرية.. ورد عنه أنه قال:" إنما أنا رحمة مهداة" أخرجه الدارمي 15 مرسلا، والحاكم موصولا عن أبي هريرة برقم 100 وصححه. ورأى ولد إحدى بناته تفيض روحه، فبكى، فلما سئل عن ذلك قال:" هذه رحمة يضعها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباه الرحماء" أخرجه البخاري [ 1284، 6655] ومسلم 923 عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.
وكان رحمة على القريب والبعيد، عزيز عليه أن يدخل على الناس مشقة، فكان يخفف بالناس مراعاة لأحوالهم، وربما أراد أن يطيل في الصلاة فيسمع بكاء الطفل فيخفف لئلا يشق على أمه. ولما بكت أمامة بنت زينب ابنته حملها وهو يصلي بالناس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها. أخرجه البخاري 516، ومسلم543 عن أبي قتادة رضي الله عنه.
وسجد مرة فصعد الحسن على ظهره، فأطال السجود، فلما سلّم اعتذر للناس وقال:" إن إبني هذا ارتحلني، فكرهت أن أرفع رأسي حتى ينزل" أخرجه أحمد 27100 والنسائي 1141 عن شداد بن الهاد رضي الله عنه. وقال:" من أمّ منكم الناس فليخفف، فإن فيهم الكبير والصغير والمريض وذا الحاجة" أخرجه البخاري 703 ومسلم 467 عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال لمعاذ لمّا طوّل بالناس:" أفتّان أنت يا معاذ؟" أخرجه البخاري [ 705، 6106] ومسلم 465 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه. وقال:" لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" أخرجه البخاري 887 ومسلم 252 عن أبي هريرة رضي الله عنه. وربما ترك العمل خشية أن يفرض على الناس، وكان يتخوّل أصحابه بالموعظة...
كل ذلك رحمة منه صلى الله عليه وسلم، وكان يقول:" والقصد القصد تبلغوا" أخرجه البخاري 6463 عن أبي هريرة رضي الله عنه. ويقول:" بُعثت بالحنيفية السمحة" أخرجه أحمد 21788 عن أبي أمامة رضي الله عنه. ويقول:" خير دينكم أيسره" أخرجه أحمد 15506 وانظر مجمع الزوائد 3\308. ويقول:" عليكم هدياً قاصداً" أخرجه أحمد [ 22454، 22544] والبيهقي في السنن الكبرى 4519 عن بريدة الأسلمي، وانظر البيان والتعريف 2\109. ويقول: خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا" أخرجه البخاري 5862 ومسلم 782 عن عائشة رضي الله عنها. وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وأنكر على الثلاثة الذين شدّدوا على أنفسهم في العبادة، وقال:" والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكنني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فيس مني" أخرجه البخاري 5063 ومسلم 1401 عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وأفطر في سفر في رمضان، وقصر الرباعية، وجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في السفر، ونادى مؤذنه في المطر أن صلوا في رحالكم، وقال:" هلك المتنطعون" أخرجه مسلم 2670 عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. وقال:" ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه" أخرجه مسلم 2594 عن عائشة رضي الله عنها. وأنكر على عبدالله بن عمرو بن العاص إرهاق نفسه بالعبادة، ويقول:" إيّاكم والغلو" أخرجه أحمد [ 1854، 3238] والنسائي 3057، وابن ماجه 3029 وابن أبي عاصم في السنة 1\46 عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه. ويروى عنه قوله:" أمتي أمة مرحومة" أخرجه أحمد [ 19179، 19253] وأبو داود 4276 والحاكم 8372 عن أبي موسى رضي الله عنه وصححه.، وقال:" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" أخرجه البخاري 7288 ومسلم 1337 عن أبي هريرة رضي الله عنه. وهذا اليسر في حياته عليه الصلاة والسلام يوافق يسر الملة وسهولة الشريعة، وهو امتثال منه صلى الله عليه وسلم لقول ربه:{ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)} الأعلى، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } البقرة 286، {فاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } التغابن 16،{ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } القرة 185،{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج 78.. وغيرها من الآيات.
فهو صلى الله عليه وسلم سهل ميسّر رحيم في رسالته ودعوته وعبادته وصلاته وصومه وطعامه وشرابه ولباسه وحله وترحاله وأخلاقه، بل حياته مبنية على اليسر؛ لأنه جاء لوضع الآصار والأغلال عن الأمة، فليس اليسر أصلا إلا معه، ولا يوجد اليسر إلا في شريعته، فهو اليسر كله، وهو الرحمة والرفق بنفسه، صلى الله عليه وسلم.
محمد صلى الله عليه وسلم ذاكرا:
كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس ذكرا لربه، حياته كلها ذكر لمولاه، فدعوته ذكر وخطبه ذكر ومواعظه ذكر وعبادته ذكر وفتاويه ذكر، وليله ونهاره وسفره وإقامته بل أنفاسه كلها ذكر لمولاه عز وجل، فقلبه معلق بربه، تنام عينه ولا ينام قلبه، بل النظر اليه يذكّر الناس بربّهم، وكل مراسيم حياته ومناسباته وذكر لخالقه جلّ في علاه.
وكان صلى الله عليه وسلم يحث الناس على ذكر ربهم، فيقول:"سبق المفردون: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات" أخرجه مسلم 2676 عن أبي هريرة رضي الله عنه، ويقول:" مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحيّ والميت" أخرجه البخاري 6407 ومسلم 779 عن أبي موسى رضي الله عنه. ويقول:" لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله" أخرجه أحمد [ 17227، 17245] والترمذي 3375 وابن ماجه 3793 انظر المشكاة 2279. وأخبر أن أفضل الناس أكثرهم ذكرا لربه، وروى عن ربّه عز وجل قوله:" أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت شفتاه" أخرجه البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب قول الله { لاتحرك به لسانك}، وأحمد[10585، 10592] زابن ماجه3792 عن أبي هريرة رضي الله عنه. ويقول:" من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" أخرجه البخاري 7405 ومسلم 2675 عن أبي هريرة رضي الله عنه. وله عليه الصلاة والسلام عشرات الأحاديث الصحيحة التي تحث على الذكر وترغّب فيه، والتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير والحوقلة والاستغفار والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
وكان يذكّر الناس بأجر الذكر وما يترتب على ذلك من ثواب، وذكر الأعداد في ذلك مع ذكر المناسبات، وعمل اليوم والليلة، فهو صلى الله عليه وسلم الذاكر الشاكر الصابر، وهو الذي ذكّر الأمة بربها وعلمها تعظيمه وتسبيحه، وبيّن لها فوائد الذكر ومنافعه. فهو أسعد الناس بذكر ربه، وأهنؤهم عيشا بهذه النعمة، وأصلحهم حالا بهذا الفضل، فكان له أوراد من الأذكار مع حضور قلب وخشوع وخضوع وهيبة وخوف ومحبة ورجاء وطمع في فضل ربه.
محمد صلى الله عليه وسلم داعيا:
يقول تعالى:{ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} غافر 60، ويقول:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } البقرة 186، ويقول صلى الله عليه وسلم:" الدعاء هو العبادة" أخرجه أحمد [ 17888، 17919] وأبو داود 1479 والترمذي [ 2969، 3247] عن النعمان بن بشير وصححه. ويقول:" من لم يسأل الله يغضب عليه" أخرجه البخاري في الأدب المفرد 658 والترمذي 3373 عن أبي هريرة رضي الله عنه وصححه. وكان عليه الصلاة والسلام لاهجا بدعاء ربه في كل حالاته، قد فوّض أمره لمولاه، وأكثر الإلحاح على خالقه يناشده رحمته وعفوه، ويطلب برّه وكرمه، وكان يختار جوامع الدعاء الكامل الشامل كقوله:" اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" أخرجه البخاري [ 4522، 6389] ومسلم 2688 عن انس رضي الله عنه. وقوله:" اللهم إني أسألك العفو والعافية" أخرجه أحمد 4770 وأبو داود 5074 وابن ماجه 3871 والحاكم 1902 عن ابن عمر رضي الله عنهما وصححه.
وكان يكرر الدعاء ثلاثا، ويبدأ بالثناء على ربه، وكان يستقبل القبلة عند دعائه، وربما توضأ قبل الدعاء، وكان يعلم الأمة أدب الدعاء، كالبداية بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله، ودعاء الله بأسمائه الحسنى، والإلحاح في الدعاء، وتوخّي أوقات الإجابة كأدبار الصلوات، وبين الأذان والإقامة، وآخر ساعة من يوم الجمعة، ويوم عرفة، وفي حالة السجود والصوم والسفر، ودعوة الوالد لولده، وكان عليه الصلاة والسلام وقت الأزمات يلحّ على ربه ويناشده، ويكرر السؤال مع تمام الذلّ والخوف والحب وحسن الظن، وتمام الرجاء، كما فعل يوم بدر ويوم الخندق ويوم عرفة.
وكان الله يجيب دعوته ويلبّي طلبه، كما حصل له على المنبر يوم استسقى فنزل الغيث مباشرة، ويوم شق له القمر، وبارك له في الطعام والمال، ونصره في حروبه، ورفع دينه وأيّد حزبه وخذل أعداءه، وكبت خصومه، حتى حقق الله له مقاصده وأكرم مثواه وجعل له العاقبة صلى الله عليه وسلم.
محمد صلى الله عليه وسلم طموحا:
ولدت همته عليه الصلاة والسلام معه يوم ولد، فمنذ طفولته زنفسه مهاجرة الى معالي الأمور ومكارم الخلق، لا يرضى بالدون ولا يهوى السفاسف، بل هو الطموح والسبّاق المتفرّد والمبرز المحظوظ، ولقد ذكر أهل السير أنه عليه الصلاة والسلام وهو طفل كان لجده عبدالمطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه إلا هو لمنزلته، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم فنازع الخدم حتى جلس عليه، وأبى أن يجلس دونه.
وكان فيه قبل النبوة من سمات الريادة والزعامة والقيادة ما جعل قريش يسمونه الصادق الأمين، ويرضون حكمه ويعودون اليه في أمورهم.
فلما منّ الله عليه بالبعثة تاقت نفسه إلى الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، فسأل الله إياها، وعلّمنا ان نسألها له من ربه، بلغ سدرة المنتهى، وحاز الكمال البشري المطلق، والفضيلة الإنسانية. ومن علوّ همّته رفضه للدنيا وعدم الوقوف مع مطالبها الزهيدة لولاياتها ومناصبها وقصورها ودورها.
الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن
{ يا أيها النبي حسبك الله}
حسبك الله يكفيك من كل ما أهمّك، فيحفظك في الأزمات، ويرعاك في الملمّات، ويحميك في المدلهمّات، فلا تخش ولا تخف ولا تحزن ولا تقلق.
حسبك الله فهو ناصرك على كل عدو، ومظهرك على كل خصم، ومؤيدك في كل أمر، ويعطيك إذا سألت، ويغفر لك إذا استغفرت، ويزيدك إذا شكرت، ويذكرك إذا ذكرت، وينصرك إذا حاربت، ويوفّقك إذا حكمت.
حسبك الله فيمنحك العز بلا عشيرة، والغنى بلا مال، والحفظ بلا حرس، فأنت المظفّر لأن الله حسبك! وأنت المنصور لأن الله حسبك، وأنت الموفق لأن الله حسبك، فلا تخف من عين حاسد ولا من كيد كائد، ولا من مكر ماكر، ولا من خبث كافر، ولا من حيلة فاجر لأن الله حسبك.
وإذا سمعت صولة الباطل، ودعاية الشرك، وجلبة الخصوم، ووعيد اليهود، وتربّص المنافقين، وشماتة الحاسدين، فاثبت لأن حسبك الله.
إذا ولّى الزمان، وجفا الإخوان، وأعرض القريب، وشمت العدو، وضعفت النفس، وأبطأ الفرج، فاثبت لأن حسبك الله.
إذا داهمتك المصائب، ونازلتك الخطوب، وحفّت بك النكبات، وأحاطت بك الكوارث، فاثبت لأن حسبك الله، لا تلتفت الى أحد من الناس، ولا تدع أحدا من اليشر، ولا تتجه لكائن من كان غير الله.. لأن حسبك الله.
إذا ألمّ بك مرض، وأرهقك دين، وحلّ بك فقر، أوعرضت لك حاجة، فلا تحزن لأن حسبك الله.
إذا أبطأ النصر، وتأخر الفتح، واشتد الكرب، وثقل الحمل، وادلهمّ الخطب، فلا تحزن لأن حسبك الله، أنت محظوظ لأنك بأعيننا، وأنت محروس لأنك خليلنا، وأنت في رعايتنا لأنك رسولنا، وأنت في حمايتنا لأنك عبدنا المجتبى ونبيّنا المصطفى.
{لا تحزن إن الله معنا}
هذه الكلمة الجميلة الشجاعة قالها صلى الله عليه وسلم وهو في الغار مع صاحبه أبي بكر الصدّيق، وقد أحاط بهما الكفار، فقالها قوية في حزم، صادقة في عزم، صارمة في جزم:{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } التوبة 40. فما دام الله معنا فلم الحزن ولم الخوف ولم القلق، اسكن.. اثبت.. اهدأ.. اطمئن، لأن الله معنا.
لا نُغلب، لا نُهزم، لا نضل، لا نضيع، لا نيأس، لا نقنط، لأن الله معنا، النصر حليفنا، الفرج رفيقنا، الفتح صاحبنا، الفوز غايتنا، الفلاح نهايتنا لأن الله معنا.
من أقوى منا قلبا، من أهدى منا نهجا، من أجلّ من مبدأ، من أحسن منا سيرة، من أرفع مان قدرا؟! لأن الله معنا.
ما أضعف عدوّنا، ما أذلّ خصمنا، ما أحقر من حاربنا، ما أجبن من قاتلنا، لأن الله معنا.
لن نقصد بشرا، لن نلتجئ الى عبد، لن ندعو إنسانا، لن نخاف مخلوقا، لأن الله معنا.
نحن أقوى عدة وأمضى سلاحا، وأثبت جنانا وأقوم نهجا، لأن الله معنا.
نحن الأكثرون الأكرمون الأعلون الأعزّون المنصورون، لأن الله معنا.
يا أبا بكر اهجر همّك، وأزح غمّك، واطرد حزنك، وأزل يأسك، لأن الله معنا.
يا أبا بكر ارفع رأسك، وهدئ من روعك، وأرح قلبك، لأن الله معنا.
يا أبا بكر أبشر بالفوز، وانتظر النصر، وترقّب الفتح، لأن الله معنا.
غدا سوف تعلو رسالتنا وتظهر دعوتنا وتسمع كلمتنا، لأن الله معنا.
غدا سوف نُسمع أهل الأرض روعة الأذان وكلام الرحمن ونغمة القرآن، لأن الله معنا.
غدا سوف نخرج الإنسانية ونحرر البشرية من عبودية الأوثان، لأن الله معنا.
{وإنك لعلى خلق عظيم}
والله إنك لعظيم الأخلاق، كريم السجايا، مهذب الطباع، نقيّ الفطرة.
والله إنّك جمّ الحياء، حيّ العاطفة، جميل السيرة، طاهر السريرة.
والله إنك قمة الفضائل، ومنبع الجود، ومطلع الخير، وغاية الإحسان.
وإنك لعلى خلق عظيم.. يظلمونك فتصبر، يؤذونك فتغفر، يشتمونك فتحلك، يسبّونك فتعفو، يجفونك فتصفح.
{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} القلم.. يحبّك الملك والمملوك، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، والقريب والبعيد، لأنك ملكت القلوب بعطفك، وأسرت الأرواح بفضلك، وطوّقت الأعناق بكرمك.
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} ..هذبّك الوحي، وعلمك جبريل، وهداك ربك، وصاحبتك العناية، ورافقتك الرعاية، وحالفك التوفيق.
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} .. البسمة على محياك، البِِشر على طلعتك، النور على جبينك، الحب في قلبك، الجود في يدك، البركة فيك، الفوز معك.
من زار بابك لم تبرح جوارحه
تروي احاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرّة والكف عن صلة
والقلب عن جابر والسمع عن حسن
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} .. لا تكذب ولو أن السيف على رأسك، ولا تخون ولو حزت الدنيا، ولا تغدر ولو أعطيت الملك، لأنبي نبيّ معصوم، وإمام قدوة، وأسوة حسنة.
{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}.. صادق ولو قابلتك المنايا، وشجاع ولو قاتلت الأسود، وجواد ولو سئلت كل ما تملك، فأنت المثال الراقي والرمز السامي.
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}.. سبقت العالم ديانة وأمانة وصيانة ورزانة، وتفوقت على الكل علما وحلما وكرما ونبلا وشجاعة وتضحية.
{ما أنت بنعمة ربك بمجنون}
لست مجنونا كما قال أعداؤك لكن عندك دواء المجانين، فلمجنون الطائش والسفيه التافه من خالفك وعصاك وحاربك وجفاك.
{مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} القلم.. وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقلا، وأتمّهم رشدا، وأسدهم رأيا، وأعظمهم حكمة، واجلذهم بصيرة!
وكيف تكون مجنونا وأنت أتيت بوحي يكشف الزيغ، ويزيل الضلال، وينسف الباطل، ويمحو الجهل، ويهدي العقل، وينير الطريق.
لست مجنونا أنك على هدى من الله، وعلى نور من ربك، وعلى ثقة من منهجك، وعلى بيّنة من دينك، وعلى رشد من دعوتك، صانك الله من الجنون، بل عندك كل العقل وأكمل الرشد وأتم الرأي وأحسن البصيرة، فأنت الذي يهتدي بك العقلاء، ويستضيء بحكمتك الحكماء، ويقتدي بك الراشدون المهديّون.
كذب وافترى من وصفك بالجنون وقد ملأت الأرض حكمة والدنيا رشدا والعالم عدلا، فأين يوجد الرشد إلا عندك؟ وأين تكون الحكمة إلا لديم؟ وأين تحلّ البركة إلا معك؟ أنت أعقل العقلاء، وأفضل النبلاء، وأجلّ الحكماء. كيف يكون محمد مجنونا وقد قدّم للبشرية أحسن تراث على وجه الأرض، وأهدى للعالم أجلّ تركة عرفها الناس، وأعطى الكون أبرك رسالة عرفها العقلاء:
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له
وأنت أحييت أجيالا من الرمم
{ وإنك لتهدي الى صراط مستقيم}
أنت يا محمد مهمّتك الهداية، ووظيفتك الدلالة، وعملك الإصلاح.. أنت تهدي الى صراط مستقيم، لأنك تزيل الشبهات وتطرد الغواية وتذهب الضلالة، وتمحو الباطل وتشيد الحق والعدل والخير.
أنت تهدي الى صراد مستقيم، فمن أراد السعادة فليتبعك، ومن أحبّ الفلاح فليقتد بك، ومن رغب في النجاة فليهتد بهداك.
أحسن صلاة صلاتك، وأتمّ صيام صيامك، وأكمل حجّ حجك، وأزكى صدقة صدقتك، وأعظم ذكرك لربك.
وأنت تهدي الى صراط مستقيم.. من ركب سفينة هدايتك نجا، من دخل دار دعوتك أمن، من تمسّك بحبل رسالتك سلم. فمن تبعك ما ذلّ، وما ضلّ وزلّ وما قل، وكيف يذلّ والنصر معك؟ وكيف يضل وكل الهداية لديك؟ وكيف يزل والرشد كله عندك؟ وكيف يقلّ والله مؤيدك وناصرك وحافظك؟
وإنك لتهدي الى صراط مستقيم لأنك وافقت الفطرة وجئت بحنيفية سمحة، وشريعة غرّاء، وملة كاملة، ودين تام.
هديت العقل من الزيغ، وطهّرت القلب من الريبة، وغسلت الضمير من الخيانة، وأخرجت الأمة من الظلام، وحرّرت البشر من الطاغوت.
وإنك لتهدي الى صراط مستقيم، فكلامك هدى، وحالك هدى، وفعلك هدى، و مذهبك هدى، فأنت الهادي الى الله، الدال على طريق الخير، المرشد لكل برّ، الداعي الى الجنة.
{ يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك}
أدّ الرسالة كاملة كما سمعتها كاملة، بلّغها تامّة مثلما حملتها تامة، لا تنقص منها حرفا، ولا تحذف كلمة، ولا تغفل جملة.
بلّغ ما أنزل إليك فهي أمانة في عنقك سوف تُسأل عنها، فبلغها بنصّها وروحها ومضمونها.
بلّغ ما أنزل إليك من الوحي العظيم والهدى المستقيم والشريعة المطهّرة، فأنت مبلّغ فحسب، لا تزد في الرسالة حرفا، ولا تضف من عندك على المتن، لا تُدخل شيئا في المضمون، لأنك مرسل فحسب، مبعوث ليس إلا، مكلف ببلاغ، مسؤول عن مهمة. فمثلما سمعت بلغ، ومثلما حُمّلت فأدّ.
بلّغ ما أنزل إليك، عرف من عرف، وأنكر من أنكر، استجاب من استجاب وأعرض من أعرض، أقبل من أقبل وأدبرمن أدبر.
بلغ ما أنزل إليك، بلّغ الكل وادع الجميع، وانصح الكافة، الكبراء والمستضعفين، السادة والعبيد، والإنس والجن، الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، الكبار والصغار.
بلّغ ما أنزل إليك.. فلا ترهب الأعداء ولا تخف الخصوم، ولا تخش الكفار، ولا يهولك سيف مصلت، أو رمح مشرع، أو منية كالحة، أو موت عابس، أو جيش مدجج، أو حركة حامية.
بلّغ ما أنزل إليك فلا يغريك مال، ولا يعجبك منصب، ولا يزدهيك جاه، ولا تغرّك دنيا، ولا يخدعك متاع، ولا يردّك تحرّج.
وشبّ طفل الهدى المحبوب متّشحا
بالخير متّزرا بالنور والنار
في كفّه شعلة تهدي وفي دمه
عقيدة تتحدّى كلّ جبّار
وفي ملامحه وعد وفي يده
عزائم صاغها من قدرة الباري
{ وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته}:
إذا لم تؤد الرسالة كاملة فكأنك ما فعلت شيئا، وإن لم توصلها تامّة فكأنك ما قمت بها حق القيام، ولو كتمت منها مقالة أو عطلت منها نصا أو أهملت منها عبارة فما بلّغت رسالة الله وما أدّيت أمانة الله، نريد منك أن تبلّغ رسالتنا للناس كما أُلقيت عليك، وكما نزل بها جبريل وكما وعاها قلبك.
{والله يعصمك من الناس}:
بلغ الرسالة كاملة ولا تخف أحدا، وكيف تخاف من أحد ونحن معك نحفظك ونمنعك ونحميك ونذبّ عنك؟! لن يقتلك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يطفئ نورك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يعطّل مسيرتك أحد لأن الله يعصمك من الناس، اصدع بما تؤمر، وقل كلمتك صريحة شجاعة قوية لأن الله يعصمك من الناس. اشرح دعوتك، وابسط رسالتك، وارفع صوتك، وأعلن منهجك، وما عليك لأن الله يعصمك من الناس.
كل قوة في الأرض لن تستطيع لك، كلّ جبروت في الدنيا لا يهزمك، كل طاغية في المعمورة لن يقهرك، لأن الله يعصمك من الناس.
ظنّوا الحمام وظنّوا العنكبوت على
خير البريّة لم ينسج ولم يحم
عناية الله أغنت عن مضاعفه
من الروع وعن عالٍ من الأطم
{ألم نشرح لك صدرك}
أما شرحنا لك صدرك فصار وسيعا فسيحا لا ضيق فيه، ولا حرج ولا همّ ولا غمّ ولا حزن، بل ملأناه لك نورا وسرورا وحبورا.
أما شرحنا لك صدرك وملأناه حكمة ورحمة وإيمانا وبرا وإحسانا.
وشرحنا لك صدرك فوسعت أخلاق الناس، وعفوت عن تقصيرهم، وصفحت عن أخطائهم، وسترت عيوبهم، وحلمت على سفيههم، وأعرضت عن جاهلهم، ورحمت ضعيفهم.
شرحنا لك صدرك فكنت كالغيث جوادا، وكالبحر كرما، وكالنسيم لطفا، تعطي السائل، وتمنح الراغب، وتكرم القاصد، وتجود على المؤمّل.
شرحنا لك صدرك فصار بردا وسلاما يطفئ الكلمة الجافية، ويبرد العبارة الجارحة، فإذا العفو والحلم والصفح والغفران.
شرحنا لك صدرك فصبرت على جفاء الأعراب، ونيل السفهاء، وعجرفة الجبابرة، وتطاول التافهين، وإعراض المتكبرين، ومقت الحسدة، وسهام الشامتين، وتجهّم القرابة.
شرحنا لك صدرك فكنت بسّاما في الأزمات، ضحّاكا في الملمّات، مسرورا وأنت في عين العاصفة، مطمئنا وأنت في جفن الردى، تداهمك المصائب وأنت ساكن، وتلتفّ بك الحوادث وأنت ثابت، لأنك مشروح الصدر، عامر الفؤاد، حيّ النفس.
شرحنا لك صدرك فلم تكن فظا قاسيا غليظا جافيا، بل كنت رحمة وسلاما وبرا وحنانا ولطفا، فالحلم يُطلب منك، والجود يُتعلّم من سيرتك، والعفو يؤخذ من ديوانك.
{ووضعنا عنك وزرك}:
حططنا عنك خطاياك وغسلناك من آثار الذنوب.
فأنت مغفور لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت الآن نقيّ طاهر من كل ذنب وخطيئة، ذنبك مغفور، وسعيك مشكور، وعملك مبرور، وأنت في كل شأن من شؤونك مأجور، فهنيئا لك هذا الغفران، وطوبى لك هذا الفوز، وقرة عين لك هذا الفلاح.
{الذي أنقض ظهرك}:
أثقل هذا الوزر كاهلك، وأضنى ظهرك حتى كاد ينقضه ويوهنه، فالآن أذهبنا هذا الثقل وأزلنا هذه التبعة، وأعفيناك من هذا الخطب، وأرحناك من هذا الحمل، فاسعد بهذه البشرى، وتقبّل هذا العطاء، وافرح بهذا التفضّل.
{ورفعنا لك ذكرك}:
لا أُذكر إلا تذكر معي، يقرن ذكرك بذكري في الأذان والصلاة والخطب والمواعظ، فهل تريد شرفا فوق هذا؟ يذكرك كل مصلّ وكل مسبّح وكل حاجّ وكل خطيب، فهل تطلب مجدا أعلى من هذا؟
أنت مذكور في التوراة والإنجيل، منوّه باسمك في الصحف الأولى والدواوين السابقة، اسمك يشاد به في النوادي، ويُتلى في الحواضر والبوادي، ويُمدح في المحافل، ويُكرر في المجامع.
رفعنا لك ذكرك فسار في الأرض مسير الشمس، وعبر القارات عبور الريح، وسافر في الدنيا سفر الضوء، فكل مدينة تدري بك، وكل بلد يسمع بك، وكل قرية تسأل عنك.
رفعنا لك ذكرك فصرت حديث الرّّكب، وقصة السّمر، وخبر المجالس، وقضية القضايا، والنبأ العظيم في الحياة.
رفعنا لك ذكرك فما نُسي مع الأيام، وما مُحي مع الأعوام، وما شُطب مع قائمة الخلود، وما نُسخ من ديوان التاريخ، وما أغفل من دفتر الوجود، نُسي الناس إلا أنت، وسقطت الأسماء إلا اسمك، وأغفل العظماء إلا ذاتك، فمن ارتفع ذكره من العباد عندنا فبسبب اتّباعك، ومن حُفظ اسمه فبسبب الاقتداء بك. ذهبت آثار الدول وبقيت آثارك، ومُحيت مآثر السلاطين وبقيت مآثرك، وزالت أمجاد الملوك وخلّد مجدك، فليس في البشر أشرح منك صدرا، ولا أرفع منك ذكرا، ولا أعظم منك قدرا، ولا أحسن منك أثرا، ولا أجمل منك سيرا.
إذا تشهّد متشهّد ذكرك معنا، وإذا تهجّد متهجّد سمّاك معنا، وإذا خطب خطيب نوّه بك معنا، فاحمد ربّك لأننا رفعنا لك ذكرك.
{ فإن مع العسر يسرا* إن مع العسر يسرا}:
إذا ضاقت عليك السبل وبارت الحيل، وتقطعت الحبال وضاق الحال، فاعلم أن الفرج قريب وأن اليسر حاصل.
لا تحزن، فإن بعد الفقر غنى، وبعد المرض شفاء، وبعد البلوى عافية، وبعد الضيق سعة، وبعد الشدّة فرحا.
سوف يصلك اليسر أنت وأتباعك، فترزقون وتنصرون وتكرمون ويفتح عليك، ولكن ليس يسر واحد بل يسران.
إنها سنة ثابتة وقاعدة مطّردة أن مع كل عسر يسرا، بعد الليل فجر صادق، وخلف جبل المشقة سهل الراحة، ووراء صحراء الضيق روضة خضراء من السعة، إذا اشتد الحبل انقطع، وإذا اكتمل الخطب ارتفع، سوف يصل الغائب، ويشفى المريض، ويعافى المبتلى، ويفكّ المحبوس، ويغنى الفقير، ويشبع الجائع، ويروى الظمآن، ويسرّ المهموم، وسيجعل الله بعد عسر يسرا.
وهذه السورة نزلت عليه الصلاة والسلام وهو في حال من الضيق، وتكالب الأعداء، واجتماع الخصوم، وإعراض الناس، وقلة الناصر، وتعاظم المكر، وكثرة الكيد، فكان لا بد له من عزاء وسلوة وتطمين وترويح، فنزلت هذه الكلمات له ولأتباعه الى يوم القيامة وعدا صادقا وبشر طيبة، وجائزة متقبّلة:
اشتدي أزمة تنفرجي
قد آذن ايلك بالبلج
{فإذا فرغت فانصب}:
إذا انتهيت من أعمالك الدنيوية وأشغالك الشخصية فانصب لنا بالعبادة، وتوجّه لنا بالطاعة، وأكثر من ذكرنا ودعائنا.
إذا فرغت من الناس وقضايا الناس وأسئلة الناس فقم في محراب عظمتنا، وانطرح على بابنا، واقرب منا، ومرّغ جبينك لنا، لتلقى الفوز والفلاح والأمن والنجاة.
إذا فرغت من الأهل والولد والقريب والصاحب فاجعل لك وقتا معنا، ارفع فيه سؤالك، اعرض فيه حاجتك، أكثر فيه دعاءك، ادعنا وسبّحنا واطلبنا واستغفرنا واشكرنا واذكرنا.
إذا فرغت من الأحكام والقضايا والموعظة والفتيا والتعليم والإرشاد والجهاد والنصيحة، فتعال لتزداد من قوتنا قوة، ومن مددنا عونا، ومن رزقنا زادا، ومن فتحنا بصيرة وذخيرة.
نحن أولى بك منك، وأحق بفراغك من غيرنا، ويا له من توجيه له ولأتباعه عليه الصلاة والسلام في صرف الفراغ في العبودية، وملء هذا الزمن بذكره وشكره جلّ في علاه، ليحصل المقصود من الرضا والسكينة والفرج والعاقبة الحسنة وصلاح الحال والمال، وعمار الدنيا والآخرة.
{وإلى ربّك فارغب}:
إلى ربك وحده فارغب، ولا ترغب من غيره شيئا، وإليه وحده فاتجه وعليه توكّل، وفيه فأمل، فإن الرغبة والرهبة لا تكون إلا إليه لأنه صاحب الثواب لمن أطاعه والعقاب لمن عصاه، والرغائب الجليلة لا يملكها إلا الله، فعنده مفاتح الخزائن ومقاليد الأمور، فهو أهل أن يدعى وأن يسأل وأن يؤمل وأن يقصد جلّ في علاه:
إليك وإلا لا تشدّ الركائب
ومنك وإلا فالمؤمّل خائب
وفيك وإلا فالغرام مضيّعٌ
وعنك وإلا فالمحدث كاذب
وقد تنزلت هذه الكلمات على رسولنا صلى الله عليه وسلم في فترات عصيبة، وفي لحظات حاسمة عاشها صلى الله عليه وسلم وتجرّع غصصها وحسا مرارتها.
{إنا فتحنا لك فتحا مبينا}
لقد فتحنا لك يا محمد فتحا بيّنا ظاهرا مباركا، فتحنا لك القلوب فغرست بها الإيمان، وفتحنا لك الضمائر فبنيت فيها الفضيلة، وفتحنا لك الصدور فرفعت فيها الحق، وفتحنا لك البلدان فنشرت بها الهدى، وفتحنا لك كنز المعرفة وديوان العلم ومستودع التوفيق، وفتحنا بدعوتك القلوب الغلف والعيون العني والآذان الصمّ، وأسمعنا رسالتك الثقلين.
فتحنا لك فتدفّق العلم النافع من لسانك، وفاض الهدى المبارك من قلبك، وسحّ الجود من يمينك.
وفتحنا لك فحزت الغنائم وقسمتها، وجمعت الأرزاق ووزعتها، وحصلت على الأموال وأنفقتها.
وفتحنا لك باب العلم وأنت الأميّ الذي ما قرأ وكتب، فصار العلماء ينهلون من بحار علمك.
وفتحنا عليك الخير فوصلت القريب وأعطيت البعيد، وأشبعت الجائع وكسوت العاري، وواسيت المسكين، وأغنيت الفقير، بفضلنا ورزقنا وكرمنا.
وفتحنا لك القلاع والمدن والقرى، فهيمن دينك، وارتفعت رايتك، وانتصرت دولتك، فأنت مفتوح عليك في كل خير وبرّ وإحسان ونصر وتوفيق.
{فاعلم أنه لا إله إلا الله}
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} محمد 19، فلا تشرك معه في عبوديته أحدا، ولا تعد من دونه إلها آخر، بل تصرف له عبادتك، وتخلص له طاعتك، وتوحّد قصدك له ومسألتك ودعاءك، فإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا يكشف الضرّ غيره، ولا يجيب دعوة المضطر سواه.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } فهو أحق من شُكر وأعظم من ذكر، وأرأف من ملك، وأجود من أعطى، وأحلم من قدر، وأقوى من أخذ، وأجلّ من قصد، وأكرم من ابتغي، فلا يدعى إله سواه، ولا رب يطاع غيره، فالواجب أن يُعبد وأن يُوحّد وأن يُخاف وأن يُطاع وأن يُرهب وأن يُخشى وأن يُحب.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} المتفرد بالجمال والكمال والجلال، خلق الخلق ليعبدوه، وأوجد الإنس والجن ليوحّدوه، وأنشأ البريّة ليطيعوه، فمن أطاعه فاز برضوانه، ومن أحبّه نال قربه، ومن خافه أمن عذابه، ومن عظمه أكرمه، ومن عصاه أدّبه، ومن حاربه خذله، يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويذلّ من كفره، له الحكم وإليه ترجعون.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فأخلص له العبادة، لأنه لا يقبل الشريك، وفوّض إليه الأمر لأنه الكافي القويّ، واسأله فهو الغني، وخف عذابه لأنه شديد، واخش أخذه لأنه أليم، ولا تتعدّ حدوده لأنه يغار، ولا تحارب أولياءه، لأنه ينتقم، واستغفره فهو واسع المغفرة، واطمع في فضله لأنه كريم، ولذ بجنابه فهناك الأمن، وأدم ذكره لتنل محبته، وأدمن شكره لتحظى بالمزيد، وعظم شعائره لتفوز بولايته، وحارب أعداءه ليخصّك بنصره.
{إقرأ}
تبدأ قصة النبوة بكلمة:{اقْرَأْ} يوم نزلت على رسولنا صلى الله عليه وسلم في الغار، ومن بداية {اقْرَأْ} بدأنا، بدأ تاريخنا ومجدنا وحياتنا، ومن تاريخ نزول {اقْرَأْ} بدأت مسيرتنا المقدّسة، وتغيّر بها وجه الأرض وصفحة الأيام ومعالم الدنيا، فتلك اللحظة هي أسعد لحظة في حياتنا نحن المسلمين، وهي اللحظة الفاصلة بين الظلام والنور، والكفر والإيمان، والجهل والعلم، واختيار اقرأ من بين قاموس الألفاظ وديوان اللغة له سر عجيب ونبأ غريب، فلم يكن مكان {اقْرَأْ} غيرها من الكلمات، لا " اكتب"، ولا "ادع" ولا "تكلم" ولا "قل"، ولا "اخطب".... إنما {اقْرَأْ}، ويا لها من كلمة جليلة جميلة أصيلة.
اقرأ يا محمد قبل أن تدعو، واطلب العلم قبل أن تعمل {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } محمد 19.
إن {اقْرَأْ} منهج حياة، ورسالة حية لكل حيّ تطالبه بتحصيل العلم النافع وطلب المعرفة، وأن يطرد الجهل عن نفسه وأمته.
وأين يقرأ بأبي وأمي وما تعلّم على شيخ ولا درس كتابا ولا حمل قلما؟
يقرأ أولا باسم ربه كلام ربّه، فمصدره الأول الوحي يتلوه غضّا طريا، ويقرأ في كتاب الكون المفتوح ليرى أسطر الحكمة تخطها أقلام القدرة، فيقرأ في الشمس الساطعة، والنجوم اللامعة، والجدول والغدير، والتل والرابية، والحديقة والصحراء، والأرض والسماء:
وكتابي الفضاء اقرأ فيه
صورا ما قرأتها في كتابي
وكلمة {اقْرَأْ} تدلك على فضل العلم وعلوّ مكانته، وأنه أول منازل الشرف الرافعة.
وإن كل سعادة وفلاح سببها العلم، فرسالته صلى الله عليه وسلم علميّة عمليّة، لأنه بعث بالعلم النافع والعمل الصالح " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث" أخرجه البخاري 79 ومسلم 2282 عن أبي موسى رضي الله عنه.
فاليهود عندهم علم بلا عمل، فغضب عليهم، والنصارى لديهم عمل بلا علم فضلوا، فأمرنا بالاستعاذة من سبيل الطائفتين {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7) } الفاتحة.
الرسول صلى الله عليه وسلم باكيا:
البكاء فضيلة عند رؤية التقصير أو خوف سوء المصير، وهو محمدة إذا تذكّر العبد ربه وخاف ذنوبه، ودليل على تقوى القلب وسمّو النفس وطهر الضمير ورقّة العاطفة، مدح الله رسله بالبكاء فقال:{ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)} مريم.
ووصف أولياءه الصالحين بأنهم{ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) } الإسراء.
ولام أعداءه على القسوة والغلظة فقال:{ أفمن هذا الحديث تعجبون* وتضحكون ولا تبكون}.
وأثنى على قوم فقال:{ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } المائدة 83.
وسيد الخاشعين لربّ العالمين، وإمام الخائفين من مالك يوم الدين هو خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم. فقد كان نديّ الجفن، سريع العبرة، سخيّ الدمع، رقيق القلب، جياش العاطفة، مشبوب الحشا، تنطلق دمعته في صدق وطهر، ويسمع نشيجه في قنوت وإخبات، يترك بكاؤه في قلوب أصحابه آثارا من التربية والاقتداء والصلاح ما لا تتركه الخطبة البليغة والمواعظ المؤثرة، فهو يبكي صلى الله عليه وسلم عند تلاوة القرآن، فقد قام ليلة من الليالي يكرر قوله تعالى:{ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) } المائدة، فيبكي غالب ليله.
وهو يبكي عند سماع القرآن، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن مسعود:"اقرأ عليّ القرآن"، قال: كيف أقرؤه عليك وعليك أُنزل؟ قال:" اقرأ فإني أحبّ أن أسمعه من غيري" فيقرأ ابن مسعود من أول سورة النساء، حتى بلغ:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً (41)} النساء. قال:" حسبك الآن" فنظرت فإذا عيناه تذرفان. أخرجه البخاري [ 4582، 5055] ومسلم 800 عن عبدالله بن مسعود.
وهو يخشع صلى الله عليه وسلم عند سماع القرآن، فقد صح أنه قام ليلة يستمع لأبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن ثم قال له في الصباح:" لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود" أخرجه البخاري 5048 ومسلم 793 عن أبي موسى.
فيقول أبو موسى: لو كنت أعلم أنك تستمع لي لحبّرته لك تحبيرا. أي: جوّدته وحسنته وجمّلته. هذه الزيادة أخرجها البيهقي في الكبرى [ 4484، 208421] وفي الشعب 2604.
وقال عبدالله بن الشخير في حديث صحيح: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وبصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وهو القدر إذا استجمع غليانا.
ويحضر صلى الله عليه وسلم جنازة ابنته زينب، ويجلس على القبر وتذرف عيناه من هول المنظر، وتذكر العاقبة والتفكير في ذلك المصير، وأصحابه يشاهدون هذا المشهد المؤثر المعبّر منه صلى الله عليه وسلم.
ويخبر صلى الله عليه وسلم بفضل البكاء من خشية الله، فيذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:"... ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" اخرجه البخاري[ 660، 1423، 6806] ومسلم 1031 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" عينان لا تمسّهما النار أبدا: عين بكت وجلا من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" أخرجه الترمذي 1639 والبيهقي في الشعب 796 عن ابن عباس.
فالبكاء السنّي الشرعي ما كان من خوف الله عز وجل، وتذكّر القدوم عليه والوقوف بين يديه والتفكير في آياته الشرعية والكونية. والبكاء من الوفاء، ومن أفضل أعمال الأولياء، خاصة إذا كان ندما من معصية وعند فوت طاعة، ووجلا من عذاب، ورحمة لمصاب، ورقة عند موعظة، وخشية عند تفكّر. ولا يحمد البكاء على الدنيا، فهي أقل وأرخص من يُبكى عليها، فليست أهلا لذلك.
فكان بكاؤه صلى الله عليه وسلم أجلّ وأفضل البكاء، وهو ما دلّ على يقين وعظمة خوف وشدة رهبة من الجليل، وصدق معرفة وحسن علم بعاقبة، فأعماله صلى الله عليه وسلم كلها في أرقى مقامات الأعمال وأسمى غايات الأحوال.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالهلوع الجزوع الذي يأسف على فوات الحظوظ الدنيوية ويجزعلى ذهاب المكاسب الدنيّة، ولم يكن بالفرح البطر القاسي الذي لا تؤثر فيه المواقف ولا تحرّكه الأزمات، بل كان بكاؤه وندمه وأسفه في مرضاة ربه. وكان تبسّمه وضحكه وسروره في طاعة خالقه، ففي كل خصلة من خصال النبل وفي كل صفة من صفات الفضل هو المثل الأعلى والقدوة الحسنة:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الأحزاب 21.
لقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم ينظرون إليه على المنبر ودموعه تذرف، ونشيجه يتعالى، ولصدره أزيز ولصوته أزيمن حينها يتحول المسجد إلى بكاء ودموع، كلٌّ ينكس رأسه ويترك التعبير لعينيه أمام هذا المشهد الذي لا تمحوه الأيام ولا تنسيه الليالي.
يا الله! محمد رسول الله هكذا باكيا أمام الناس، هكذا تسحّ دموعه وتتساقط على وجنتيه وهو أعرف الناس بالله وأدراهم بالوحي وأعلمهم بالمصير!
يبكي من قلب ملؤه الخوف من الله، ومن نفس عمَرها حب الله، فتكاد دموعه تتحدث للناس، ويكاد يكون بكاؤه أبلغ من كل موعظة وأفصح من كل كلمة.
قد كنت أشفق من دمعي على بصري
فاليوم كلّ عزيز بعدكم هانا
الرسول صلى الله عليه وسلم ضاحكا:
الضحك المعتدل بلسم للروح ودواء للنفس وراحة للخاطر المكدود وبعد الجد والعمل، والمقتصد منه دليل على الأريحية، وآية على اعتدال المزاج، وعلامة على صفاء الطويّة.
وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم مع أهله إذا دخل عليهم ضحاكا بساما يمازح زوجاته ويلاطفهن ويؤنسهن ويحادثهن حديث الود والحب والحنان والعطف؛ لأنه بُعث رحمة للعالمين، وأحق الناس بهذه الرحمة أهله وقرابته وأحبابه وأصحابه. وكانت تعلو محيّاه الطاهر البسمة المشرقة الموحية، فإذا قابل بها الناس أسر قلوبهم أسرا فمالت نفوسهم بالكلية إليه وتهافتت أرواحهم عليه، يبتسم عن مثل البرد في وجه أبهى من الشمس، وجبين أزهى من البدر، وفم أطهر من الأقحوان، وخلق أندى من الرياض، وودّ أرق من النسيم، يمزح ولا يقول إلا حقا، فيكون
كأنك تراه
د. عائض بن عبدالله القرني
الطبعة الأولى
1422 هـ ـ 2002 م
دار ابن حزم
بيروت لبنان
شبكة مجاهد مسلم الإسلامية الدعوية
www.islammi.jeeran.com
www.geocities.com/moujahedmouslem
بيروت ـ لبنان
نشره موقع صيد الفوائد
http://www.saaid.net/ المؤلف في سطور
عائض بن عبدالله بن عائض آل مجدوع القرني.
من مواليد عام 1379 هـ ببلاد القرن جنوب المملكة العربية السعودية.
حصل على الشهادة الجامعية من كلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية عام 1403 ـ 1404 هـ.
حصل على الماجستير في الحديث النبوي عام 1408 هـ وعنوان رسالته " البدعة وأثرها في الدراية والرواية".
حصل على الدكتوراه من جامعة الإمام عام 1422 هـ بعنوان " دراسة وتحقيق كتاب: الفهم على صحيح مسلم للقرطبي".
له أكثر من ثمانمائة شريط كاسيت إسلامي في الخطب والدروس والمحاضرات والأمسيات الشعرية والندوات الأدبية.
يحفظ القرآن الكريم وكتاب بلوغ المرام ويستحضر ما يقارب من خمسة آلاف حديث وأكثر من عشرة آلاف بيت شعر.
له أربعة دواوين شعرية هي:
لحن الخلود.
تاج المدائح.
هدايا وتحايا.
قصة الطموح.
أما مؤلفاته: فقد ألف في الحديث والتفسير والفقه والأدب والسيرة والتراجم، ومن مؤلفاته التي أصدرها دار ابن حزم بلبنان:
1- الاسلام وقضايا العصر. 2- تاج المدائح.
3- ثلاثون سببا للسعادة. 4- دروس المسجد في رمضان.
5- فاعلم أنه لا إله إلا الله. 6- مجتمع المثل.
7- ورد المسلم والمسلمة. 8- فقه الديل.
9- نونية القرني. 10- المعجزة الخالدة.
11- اقرأ باسم ربك. 12- تحف نبوية.
13- حتى تكون أسعد الناس. 14- سياط القلوب.
15- فتية آمنوا بربهم. 16- هكذا قال لنا المعلم.
17- ولكن كونوا ربانيين. 18- من موحد الى ملحد.
19- إمبراطور الشعراء. 20- وحي الذاكرة.
21- الى الذين أسرفوا على أنفسهم. 22- ترجمان السنة.
23- حدائق ذات بهجة. 24- العظمة.
25- لا تحزن. 26- وجاءت سكرة الموت بالحق.
27- مقامات القرني. 28- احفظ الله يحفظك.
29- أعذب الشعر.
حضر عشرات الحاضرات والأمسيات، وحضر مؤتمر الشباب العربي المسلم ومؤتمر الكتاب والسنة بالولايات المتحدة الأميركية، وحاضر في الأندية الأدبية والرياضية، وحاضر في الجامعات والملتقيات الثقافية.
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبدالله ورسوله محمد، وآله وصحبه، أما بعد:
فلا أستطيع أن ألزم الحياد في كتابتي عن أحبّ إنسان الى قلبي: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنني لا أكتب عن زعيم سياسي قدّم لشعبه أطروحته وعرض على أتباعه فكرته، ليقيم دولة في زاوية من زوايا الأرض، بل أكتب عن رسول ربّ العالمين، المبعوث رحمة للناس أجمعين.
ولن ألزم الحياد وأنا أكتب عنه؛ لأنني لا أكتب عن خليفة من الخلفاء له جنود وبنود ولديه حشود وعنده قناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسّومة والأنعام والحرث، ولكنني أكتب عن الرحمة المهداة والنعمة المسداة: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولن ألزم الحياد لأنني لا أتكلم عن سلطان من السلاطين قهر الناس بسيفه وسوطه، وأخاف الناس بسلطانه وهيمانه وصولجانه، لكنني أتكلم عن معصوم شرح الله صدره ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره.
ولن ألزم الحياد لأنني لا أتكلم عن شاعر هدّار، أو خطيب ثرثار، أو متكلم موّار، أو فيلسوف هائم، أو روائي متخيل، أو كاتب متصنّعن أو تاجر منعم، بل أتحدث عن نبي خاتم، نزل عليه الوحي، وهبط عليه جبريل، ووصل سدرة المنتهى، له شفاعة كبرى، ومنزلة عظمى، وحوض مورود، ومقام محمود، ولواء معقود، فكيف ألزم الحياد إذاً؟
أتريد أن أحبس عواطفي وأن أقيد ميولي وأن أربط على نبضات قلبي وأنا أكتب عن أحب إنسان إلى قلبي وأغلى رجل وأعز مخلوق على نفسي؟ إن هذا لشسء عجاب!
أتريد مني أن أكفكف دموعي وأنا أخطّ سيرته، وأن أخمد لهيب روحي وأنا أسطّر أخباره، وأن أجمد خلجات فؤادي وأنا أدبج ذكرياته؟! لن أستطيع هذا، كلا وألف كلا.
لأنني أكتب عن أسوة وإمام معي بهداه في كل شاردة وواردة، أصلي فأذكره لأنه يقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي" البخاري 631، أحجّ فأذكره لأنه يقول:" لتأخذوا عني مناسككم" مسلم 1297، في كل طرفة عين أذكره لأنه يقول:" من رغب عن سنتي فليس مني" البخاري 5063 ومسلم 1401، وفي كل لحظة أذكره لأن الله يقول:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } الأحزاب 21.
إنني أكتب عن أغلى الرجال وأجلّ الناس وأفضل البشر وأزكى العالمين، مرجعي في ذلك دفتر الحب المحفوظ في قلبي، ومصدري في ذلك ديوان الإعجاب المخطوط في ذاكرتي، فكأنني أكتب بأعصاب جسمي وشرايين قلبي، وكأن مدادي دمي ودموعي:
إن كان أحببت بعد الله مثله في
بدو وحضر ومن عرب ومن عجم
فلا اشتفى ناظري من منظر حسن
ولا تفوّه بالقول السديد فمي
**
زمانك بستان وعهدك أخضر
وذكراك عصفور من القلب ينقر
وكنت فكانت في الحقول سنابل
وكانت عصافير وكان صنوبر
لمست أمانينا فصارت جداولا
وأمطرتنا حبا ولا زلت تمطر
تعاودني ذكراك كلّ عشيّة
ويورق فكري حين فيك أفكّر
وتأبى جراحي أن تضمّ شفاهها
كأن جرح الحب لا يتخثر
أحبّك لا تفسير عندي لصبوتي
أفسّر ماذا والهوى لا يُفسّر
تأخرت يا أعلى الرجال فليلنا
طويل وأضواء القناديل تسهر
**
قصة النبوة
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنك تراه
اسمه:
محمد صلى الله عليه وسلم، اسم على مسمّى، علم على رمز، ووصف على إمام، جمع المحامد، وحاز المكارم، واستولى على القيم، وتفرّد بالمثل، وتميّز بالريادة، محمود عند الله لأنه رسوله المعصوم، ونبيّه الخاتم، وعبده الصالح، وصفوته من خلقه، وخليله من أهل الأرض، ومحمود عند الناس لأنه قريب من القلوب، حبيب الى النفوس، رحمة مهداة، ونعمة مسداة، مبارك أينما كان، محفوف بالعناية أينما وجد، محاط بالتقدير أينما حلّ وارتحل، حمدت طبائعه لأنها هذّبت بالوحي، وشرفت طباعه لأنها صقلت بالنبوة، فالله محمود ورسوله محمد:
وشقّ له من اسمه ليجلّه
فذو العرش محمود وهذا محمّد
واسمه أحمد، بشّر بذلك عيسى قومه، واسمه العاقب والحاشر والماحي، وهو خاتم الرسل وخيرة الأنبياء، وخطيبهم إذا وفدوا، وإمامهم إذا وردوا.
صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والمقام المحمود، صاحب الغرّة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المؤيّد بجبريل، حامل لواء العزّ في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبدمناف بن قصي، أشرف من ذُكر في الفؤاد، وصفوة الحواضر والبوادي، وأجلّ مصلح وهاد، جليل القدر، مشروح الصدر، مرفوع الذكر، رشيد الأمر، القائم بالشكر، المحفوظ بالنصر، البريء من الوزر، المبارك في كل عصر، المعروف في كل مصر، في همة الدهر، وجود البحر، وسخاء القطر، صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه، ما نجمٌ بدا، وطائر شدا، ونسيم غدا، ومسافر حدا.
واما نسبه:
فالرسول صلى الله عليه وسلم خيار من خيار، الى نسبه يعود كل مخار، وهو من نكاح لا من سفاح، آباؤه سادات الناس، وأجداده رؤوس القبائل، جمعوا المكارم كابرا عن كابر، واستولى على معالي الأمور، فلن تجد في صفة عبدالمطلب أجلّ منه، ولا في قرن هاشم أنبل منه، ولا في أتراب عبدمناف اكرم منه، ولا في رعيل قصيّ أعلى كعبا منه، وهكذا دواليك.. حتى ىدم عليه السلام، فهو صلى الله عليه وسلم سيد من سيد يروي المكارم أبا عن جد:
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى
نورا ومن فلق الصباح عمودا
وأما موطنه عليه الصلاة والسلام:
فقد اختار الله له من بقاع العالم ومن بين أصقاعها أحبّ البلاد إليه سبحانه، البلد الحرام، والتربة الطاهرة، والأرض المقدسة، والوطن المحاط بالعناية المحروس بالرعايةن فولد صلى الله عليه وسلم في مكة حيث صلى الأنبياء، وتهجّد المرسلون، وهبط الوحي، وطلع النور، وأشرقت الرسالة، وسطعت النبوة، وانبلج فجر البعثة، وحيث البيت العتيق، والعهد الوثيق، والحب العميق، فمكة مسقط رأس المعصوم، وفيها مهد طفولته، وملاعب صباه، ومعاهد شبابه، ومراتع فتوّته، ورياض أنسه.
بلادٌ نيطت عليّ تمائمي
وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها
ففيها رضع لبن الطهر، ورشف ماء النبل، وحسا ينبوع الفضيلة، وفيها درج، ودخل وخرج، وطلع وولج، فهي وطنه الأول، بأبي هو وأمي، وهي بلدته العزيزة الى فؤاده، الحبيبة الى قلبه، الأثيرة الى روحه بنفسي هو.
وحبّب أوطان الرجال إليهم
معاهد قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو
عهود الصبا منها فحنّوا لذالكا
فهناك في مكة صنع ملحمته الكبرى، وبثّ دعوته العظمى، وأرسل للعالمين خطابه الحارّ الصادق، وبعث لأهل الأرض رسالته المشرقة الساطعة، حتى إنه لما أخرج من مكة ودّعها وداع الأوفياء وفارقها وما كاد يتحمّل هذا الفراق:{ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ(2) } البلد.
محمد صلى الله عليه وسلم طفلا:
فإن الطهر ولد معه والبِشر صاحبه، والتوفيق رافقه، فهو طفل لكن لا كالأطفال، براءة في نجابة، وذكاء مع زكاء، وفطنه مع عناية،، فعين الرعاية تلاحظه، ويد الحفظ تعاونه، وأغضان الولاية تظلله، فهو هالة النور بين الأطفال، حفظه الله من الرعونة ومن كل خلق رديء ووصف مقيت ومذهب سيء، لأنه من ثغره مرشح لإصلاح العالم، مهيأ لإسعاد البشرية، معدّ بعناية لاخراج الناس من الظلمات الى التور، فهو الرجل لكن النبي، والإنسان لكن الرسول، والعبد لكن المعصوم، والبشر لكن الموحى إليه.
محمد صلى الله عليه وسلم ليس زعيما فحسب، لأن الزعماء عدد شعر الرأس، لهم طموحات من العلوم ومقاصد من الرئاسة ومآرب من الدنيا، أما هو فصالح مصلح، هادٍ مهدي، معه كتاب سنة، ونور وهدى، وعلم نافع وعمل صالح، فهو لصلاح الدنيا والآخرة، ولسعادة الروح والجسد.
ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس عالما فحسب، بل يعلّم بإذن الله العلماء، ويفقه الفقهاء، ويرشد الخطباء، ويهدي الحكماء، ويدل الناس الى الصواب { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(52) } الشورى.
فكلهم من رسول الله ملتمسٌ
غرفاً من البحر أو رشفاً من اليمّ
ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس ملكا يبسط سلطانه وينشر جنوده وأعوانه، بل إمام معصوم ونبي نرسل، وبشير ونذير لكل ملك ومملوك، وحر وعبد، وغني وفقير، وأبيض وأسود، وعربي وعجمي { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) } الأنبياء، ويقول عليه الصلاة والسلام:" والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". أخرجه مسلم 153 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأما شبابه، فهو زينة الشباب وجمال الفتيان، عفة ومروءة وعقلا وأمانة وفصاحة، لم يكن يكذب كذبة واحدة، ولم تعلم له عثرة واحدة ولا زلة واحدة ولا منقصة واحدة، فهو طاهر الإزار مأمون الدخيلة، زاكي السر والعلن، وقور المقام، محترم الجانب، أريحيّ الأخلاق، عذب السجايا، صادق المنطق، عفّ الخصال، حسن الخلال.
لم يستطع أعداؤه حفظ زلة عليه مع شدة عداوتهم وعظيم مكرهم وضراوة حقدهم، بل لم يعثروا في ملف خلقه الكريم على ما يعيب، بل وجدوا والحمد لله كل ما غاظهم من نبل الهمة ونظافة السجل، وطهر في السيرة، وجدوا الصدق الذي يباهي سناء الشمس، ووجدوا الطهر الذي يتطهر به ماء الغمام، فهو بنفس الغاية في كل خلق شريف وفي كل مذهب عفيف، فكان في عنفوان شبابه مستودع الأمانات ومردّ الآراء ومرجع المحاكمات ومضرب المثل في البرّ والسموّ والرشد والفصاحة {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) } القلم.
محمد صلى الله عليه وسلم رسولا:
فهو النبأ العظيم، والحدث الهائل، والخبر العجيب، والشأن الفخم، والأمر الضخم {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)} النبأ، فمبعثه حقيقة هو أروع الأنباء وأعظم الأخبار الذي سارت به الأخبار، وتحدّث به السمّار، ورعاه الركبان، واندهش منه الدهر، وذهب منه الزمن، فقد استدار له التاريخ ووقفت له الأيام، فقصة إرساله عليه الصلاة والسلام لا يلفها الظلام ولا تغطيها الريح ولا يحجبها الغمام، فإنما هي قصة عبرت البحار واجتازت القفار، ونزلت على العالم نزول الغيث، وأشرقت إشراق الشمس، فهو بإختصار نور، وهل يخفى النور؟ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} الصف.
وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث" أخرجه البخاري 79، ومسلم 2282 عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
عدوّك مذمومٌ بكل لسان
وإن كان أعداءك القمران
ولله سرٌّ في علاك وإنما
كلام الورى ضرب من الهذيان
فهو عليه الصلاة والسلام بعث ليعبد الله وحده لا شريك له، بعث ليوحد الله، بعث ليقال في الأرض: لا اله إلا الله محمد رسول الله، بعث ليحقّ الحق ويبطل الباطل، بعث بالمحجة البيضاء والملة الغرّاء والشريعة السمحاء، بعث بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، بعث بالخير والسلام والبرّ والمحبة والسعادة والصلاح، والأمن والإيمان، بعث بالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعث بمعالي الأمور ومكارم الأخلاق ومحاسن الطباع ومجامع الفضيلة، بعث لدحض الشرك وسحق الأصنام وكسر الأوثان وطرد الجهل ومحاربة الظلم وإزهاق الباطل ونفي الرذيلة، فما من خير إلا دلّ عليه، وما من شرّ إلا حذّر منه.
وأما خلقه عليه الصلاة والسلام فإن الله هو الذي أدّبه فأحسن تأديبه، فهو أحسن الناس خلقا، وأسدّهم قولا، وأمثلهم طريقة، وأصدقهم خبرا، وأعدلهم حكما، وأطهرهم سريرة، وأنقاهم سيرة، وأفضلهم سجايا، وأجودهم يدا، وأسمحهم خاطرا، وأصفاهم صدرا، وأتقاهم لربه، وأخشاهم لمولاه، وأعلمهم بالأمة، وأوصلهم رحمة، وأزكاهم منبتا، وأكرمهم محتدا، وأشجعهم قلبا، وأثبتهم جنانا، وأمضاهم حجة، وخيرهم نفسا ونسبا وخلقا ودينا.
فهو جميل الصفات مشرق المحيّا، قريب من القلوب، حبيب الى الأرواح، سهل الخليقة، ميسّر الطريقة، مبارك الحال، تعلوه مهابة وترافقه جلالة، على وجهه نور الرسالة، وعلى ثغره بسمة المحبة، حيّ القلب، ذكي الخاطر، عظيم الفطنة، سديد الرأي، ريان المشاعر بالخير، يسعد به جليسه، وينعم به رفيقه، ويرتاح له صاحبه، يحبّ الفأل ويكره الطيرة، يعفو ويصفح، ويسخو ويمنح، أجود من الريح المرسلة، وأكرم من الغيث الهاطل، وأبهى من البدر، وسع الناس بأخلاقه وطوّق الرجال بكرمه، وأسعد البشرية بدعوته، من رآه أحبّه، ومن عرفه هابه، ومن داخله أجلّه، كلامه يأخذ بالقلوب، وسجاياه تأسر الأرواح.
ثبّت الله قلبه فلا يزيغ، وسدّد كلامه فلا يجهل، وحفظ عينهفلا تخون، وحصّن لسانه فلا يزل، ورعى دينه فلا يضل، وتولى أمره فلا يضيع، فهو محفوظ مبارك ميمون {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} القلم، { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ } آل عمران159.يقول عليه الصلاة والسلام:" إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" أخرجه البخاري 20 عن عائشة رضي الله عنها. ويقول:" خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله" أخرجه الترمذي 3895 والبيهقي في السنن 15477 عن عائشة. ويروى عنه أنه قال:" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 20571. فسبحان من اجتباه واصطفاه وتولاه وحماه ورعاه وكفاه، ومن كل بلاء حسن أبلاه.
وأما دينه:
فهو الإسلام، دين الفطرة، دين الوسط، دين الفلاح والنجاة، أحبّ الأديان الى الله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) } آل عمران، دين جاء لوضع الآصار والأغلال عن الأمة، سهل ميسّر، عام شامل، كامل تام {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } المائدة 3.
دين جاء ليخرج الناس من عبادة العباد الى عبادة ربّ العباد، ومن ضيق الدنيا الى سعة الاخرة، ومن ظلمات الشرك الى نور التوحيد، ومن شقاء الكفر الى سعادة الإيمان.
دين صالح لكل زمان ومكان، شرعه من يغفر الزلة، وهو الذي يعلم السرّ وأخفى، العالم بعلانية العبد والنجوى.
وهو الدين الوسط الذي جاء بالعلم النافع والعمل الصالح، خلاف ما كان عليه اليهود؛ لأن عندهم علم غير نافع لم يعملوا به، فغضب الله عليهم، وخلاف النصارى؛ لأن عندهم عمل بلا علم، فضلوا سواء السبيل. فدين الإسلام صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. فالرسول صلى الله عليه وشلم بعث أميا من الأميين يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبله لمن الضالين، فجاء هذا الدين بتحريم الكذب في الأقوال والزور في الشهادة، والظلم في الأحكام، والجور في الولاية، والتصفيف في المكيال والميزان، والبغي على الناس والاعتداء على الغير والإضرار بالنفس والناس، فحفظ القلب بالإيمان، والجسم بأسباب الصحة، والمال من التلف، والعرض من الإنتهاك، والدم من السفك، والعقل من إذهابه وتغييره.
وأما كتابه:
فهو القرآن، أفضل الكتب وأجلّ المواثيق، وأحسن القصص وأحسن الحديث، فهو الحق المهيب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، كتاب فصّلت آياته ثم أحكمت، مبارك في تلاوته وتدبره والاستشفاء به والتحاكم اليه والعمل به، كل حرف منه بعشر حسنات، شافع مشفّع، وشاهد صادق، أنيس ممتع، وسمير مفيد، وصاحب أمين، معجز مؤثر، له حلاوة وعليه طلاوة، يعلو ولا يعلى عليه، ليس بسحر ولا شعر ولا بكهانة ولا بقول بشر، بل هو كلام الله، منه بدا وإليه يعود، نزل به الروح الأمين على قلب رسول ربّ العالمين ليكون من المرسلين، بلسان عربي مبين، فهو الكتاب الذي بزّ فصاحة، وفاقها بلاغة، وعلا عليها حجة وبيانا، وهو هدى ورحمة وموعظة وشفاء لما في الصدور، ونور وبرهان ورشد وسداد ونصيحة وتعليم، محفوظ من التبديل، محروس من الزيادة والنقص، معجزة خالدة، عصمة لمن اتبعه ونجاة لمن عمل به، وسعادة لمن استرشده، وفوز لمن اهتدى بهديه، وفلاح لمن حكمه في حياته. يقول عليه الصلاة والسلام:" اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه" أخرجه مسلم 804 عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وقال:" خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه" أخرجه البخاري 5027 عن عثمان رضي الله عنه، وقال:" إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين" أخرجه مسلم 817 عن عمر رضي الله عنه. وهو الكتاب الذي أفحم الشعراء، وأسكت الخطباء، وغلب البلغاء، وقهر العرب العرباء، وأعجز الفصحاء، وأعجب العلماء وأذهل الحكماء {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} الإسراء 9.
محمد صلى الله عليه وسلم صادقا:
فهو أصدق من تكلم، كلامه حق وصدق وعدل، لم يعرف الكذب في حياته جادّا أو مازحا، بل حرّم الكذب وذمّ أهله ونهى عنه، وقال:" إنّ الصدق يهدي الى البر، وإن البرّ يهدي الى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا.." الحديث أخرجه البخاري 6094 ومسلم 2607 عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
وأخبر ان المؤمن قد يبخل وقد يجبن، لكنه لا يكذب أبدا، وحذر من الكذب في المزاح لإضحاك القوم، فعاش عليه الصلاة والسلام والصدق حبيبه وصاحبه، ويكفيه صدقا صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن الله بعلم الغيب، وائتمنه الله على الرسالة، فأداها للأمة كاملة تامة، لم ينقص حرفا ولم يزد حرفا، وبلّغ الأمانة عن ربه بأتمّ البلاغ، فكل قوله وعمله وحاله مبني على الصدق، فهو صادق في سلمه وحربه، ورضاه وغضبه، وجدّ وهزله، وبيانه وحكمه، صادق مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، والرجل والمرأة، صادق في نفسه ومع الناس، في حضره وسفره، وحلّه وإقامته، ومحاربته ومصالحته، وبيعه وشرائه، وعقوده وعهوده ومواثيقه، وخطبه ورسائله، وفتاويه وقصصه، وقوله ونقله، وروايته ودرايته، بل معصوم من أن يكذب، فالله مانعه وحاميه من هذا الخلق المشين، قد أقام لسانه وسدّد لفظه، وأصلح نطقه وقوّم حديثه، فهو الصادق المصدوق، الذي لم يحفظ له حرف واحد غير صادق فيه، ولا كلمة واحدة خلاف الحق، ولم يخالف ظاهره باطنه، بل حتى كان صادقا في لحظاته ولفظاته وإشارات عينيه، وهو الذي يقول:" ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين" أخرجه أبو داود 4359 والنسائي 4067، وذلك لما قال له أصحابه: ألا أشرت لنا بعينك في قتل الأسير؟!
بل هو الذي جاء بالصدق من عند ربه، فكلامه صدق وسنّته صدق، ورضاه صدق وغضبه صدق، ومدخله صدق ومخرجه صدق، وضحكه صدق وبكاؤه صدق، ويقظته صدق ومنامه صدق {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ } الأحزاب8، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} التوبة، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ (21) } محمد.
فهو صلى الله عليه وسلم صادق مع ربه، صادق مع نفسه، صادق مع الناس، صادق مع أهله، صادق مع أعدائه، فلو كان الصدق رجلاً لكان محمداً صلى الله عليه وسلم، وهل يُتعلم الصدق إلا منه بأبي هو وأم؟ وهل ينقل الصدق إلا عنه بنفسي هو؟ فهو الصادق الأمين في الجاهلية قبل الإسلام والرسالة، فكيف حاله بالله بعد الوحي والهداية ونزول جبريل عليه ونبوّته وإكرام الله له بالإصطفاء والاجتباء والاختيار؟!
محمد صلى الله عليه وسلم صابرا:
فلا يعلم أحد مرّ به من المصائب والمصاعب والمشاق والأزمات كما مرّ به صلى الله عليه وسلم، وهو صابر محتسب {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ } النحل 127، صبرعلى اليتم والفقر والعوز والجوع والحاجة والتعب والحسد والشماتة وغلبة العدو أحيانا، وصبر على الطرد من الوطن والإخراج من الدار والإبعاد عن الأهل، وصبر على قتل القرابة والفتك بالأصحاب وتشريد الأتباع وتكالب الأعداء وتحزّب الخصوم واجتماع المحاربين وصلف المغرضين وكبر الجبارين وجهل الأعراب وجفاء البادية ومكر اليهود وعتوّ النصارى وخبث المنافقين وضرواة المحاربين، وصبر على تجهّم القريب وتكالب البعيد، وصولة الباطل وطغيان المكذبين.. صبر على الدنيا بزينتها وزخرفها وذهبها وفضتها، فلم يتعلق منها بشيء، وصبر على إغراء الولاية وبريق المنصب وشهوة الرئاسة، فصدف عن ذلك كله طلبا لمرضاة ربه، فهو صلى الله عليه وسلم الصابر المحتسب في كل شأن من شؤون حياته، فالصبر درعه وترسه وصاحبه وحليفه، كلما أزعجه كلام أعدائه تذكّر {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } طه 130، وكلما بلغ به الحال أشدّه والأمر أضيقه تذكّر {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } يوسف 18، وكلما راعه هول العدو وأقضّ مضجعه تخطيط الكفار تذكّر{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } الأحقاف 35.
وصبره صلى الله عليه وسلم صبر الواثق بنصر الله، المطمئن الى وعد الله، الراكن الى مولاه، المحتسب الثواب من ربّه جلّ في علاه، وصبره صبر من علم أن الله سوف ينصره لا محالة، وأن العاقبة له، وأن الله معه، وأن الله حسبه وكافيه، يصبر صلى الله عليه وسلم على الكلمة النابية فلا تهزه، وعلى اللفظة الجارحة فلا تزعجه، وعلى الإيذاء المتعمّد فلا ينال منه.
مات عمه فصبر، وماتت زوجته فصبر، وقتل حمزة فصبر، وأبعد من مكة فصبر، وتوفي ابنه فصبر، وتوفي ابنه فصبر، ورميت زوجته الطاهرة فصبر، وكُذّب فصبر، قالوا له شاعر كاهن ساحر مجنون كاذب مفتر فصبر، أخرجوه، آذوه، شتموه، سبّوه، حاربوه، سجنوه.. فصبر، وهل يتعلّم الصبر إلا منه؟ وهل يُقتدى بأحد في الصبر إلا به؟ فهو مضرب المثل في سعة الصدر وجليل الصبر وعظيم التجمّل وثبات القلب، وهو إمام الصابرين وقدوة الشاكرين صلى الله عليه وسلم.
محمد صلى الله عليه وسلم جوادا:
فهو أكرم من خلق الله، وأجود البرية نفسا ويدا، فكفّه غمامة بالخير، ويده غيث الجود، بل هو أسرع بالخير من الريح المرسلة، لا يعرف "لا" إلا في التشهد:
كا قال "لا" قط إلا في تشهدّه
لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يعطي عليه الصلاة والسلام عطاء من لا يخشى الفقر؛ لأنه بعث بمكارم الأخلاق، فهو سيد الأجواد على الإطلاق، أعطى غنما بين جبلين، وأعطى كل رئيس قبيلة من العرب مائة ناقة، وسأله سائل ثوبه الذي يلبسه فخلعه وأعطاه، وكان لا يردّ طالب حاجة، قد وسع الناس برّه، طعامه مبذول وكفه مدرار، وصدره واسع، وخلقه سهل، ووجه بسّام:
تراه إذا ما جئته متهللا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ينفق مع العدم ويعطي مع الفقر، يجمع الغنائم ثو يوزعها في ساعة، ولا يأخذ منها شيئا، مائدته صلى الله عليه وسلم معروضة لكل قادم، وبيته قبلة لكل وافد، يضيف وينفق ويعطي الجائع بأكله، ويؤثر المحتاج بذات يده، ويصل القريب بما يملك، ويواسي المحتاج بما عنده، ويقدّم الغريب على نفسه، فكان صلى الله عليه وسلم آية في الجود والكرم، حتى لا يقارن به أجواد العرب كحاتم وهرم ابن جدعان؛ لأنه يعطي عطاء من لا يطلب الخلف إلا من الله، ويجود جود من هانت عليه نفسه وماله وكل ما يملك في سبيل ربه ومولاه، فهو أندى العالمين كفا، وأسخاهم يدا، وأكرمهم محتدا، قد غمر أصحابه وأحبابه وأتباعه، بل حتى أعداءه ببرّه وإحسانه وجوده وكرمه وتفضله، أكل اليهود على مائدته، وجلس الأعراب على طعامه، وحفّ المنافقون بسفرته، ولم يُحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه تبرّم بضيف أو تضجّر من سائل أو تضايق من طالب، بل جرّ أعرابي برده حتى أثّر في عنقه وقال له: أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مال أبيك وأمّك، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وضحك وأعطاه، وجاءته الكنوز من الذهب والفضة وأنفقها في مجلس واحد ولم يدّخر منها درهما ولا دينارا ولا قطعة، فكان أسعد بالعطية يعطيها من السائل، وكان يأمر بالإنفاق والكرم والبذل، ويدعو للجود والسخاء، ويذمّ البخل والإمساك، فيقول:" من كان بؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" أخرجه البخاري [ 6018، 6136، 6138] ومسلم 47 عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال:" كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس" أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 2431، وابن حبان في صحيحه 3310. وقال:" ما نقصت صدقة من مال" أخرجه مسلم 2588 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
محمد صلى الله عليه وسلم شجاعا:
هذا مما تناقلته الأخبار وسار مسير الشمس في رابعة النهار، فكان أثبت الناس قلبا، وكان كالطود لا يتزعزع ولا يتزلزل، ولا يخاف التهديد والوعيد، ولا ترهبه المواقف والأزمات، ولا تهزه الحوادث والملمّات، فوّض أمره لربه وتوكل عليه وأناب إليه، ورضي بحكمه واكتفى بنصره ووثق بوعده، فكان عليه الصلاة والسلام يخوض المعارك بنفسه ويباشر القتال بشخصه الكريم، يعرّض روحه للمنايا ويقدّم نفسه للموت، غير هائب ولا خائف، ولم يفرّ من معركة قط، وما تراجع خطوة واحدة ساعة يحمي الوطيس وتقوم الحرب على ساق وتشرع السيوف وتمتشق الرماح وتهوي الرؤوس ويدور كأس المنايا على النفوس، فهو في تلك اللحظة أقرب أصحابه من الخطر، يحتمون أحيانا وهو صامد مجاهد، لا يكترث بالعدوّ ولو كثر عدده، ولا يأبه بالخصم ولو قوي بأسه، بل كان يعدل الصفوف ويشجع المقاتلين ويتقدم الكتائب.
وقد فرّ الناس يوم حنينن وما ثبت إلا هو وستة من أصحابه، ونزل عليه {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} النساء 84، وكان صدره بارزا للسيوف والرماح، يصرع الأبطال بين يديه ويذبح الكماة أمام ناظريه وهو باسم المحيا، طلق الوجه، ساكن النفس.
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الرّدى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضّاح وثغرك باسم
وقد شُجّ عليه الصلاة والسلام في وجهه وكسرت رباعيته، وقتل سبعون من أصحابه، فما وهن ولا ضعف ولا خار، بل كان أمضى من السيف. وبرز يوم بدر وقاد المعركة بنفسه، وخاض غمار الموت بروحه الشريفة. وكان أول من يهبّ عند سماع المنادي، بل هو الذي سنّ الجهاد وحثّ وأمر به.
وتكالبت عليه الأحزاب يوم الخندق من كل مكان، وضاق الأمر وحلّ الكرب، وبلغت القلوب الحناجر، وظن بالله الظنون، وزلزل المؤمنون زلزالا شديدا، فقام صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو ويستغيث مولاه حتى نصره ربّه وردّ كيد عدوّه وأخزى خصومه وأرسل عليهم ريحا وجنودا وباؤوا بالخسران والهوان.
ونام الناس ليلة بدر وما نام هو صلى الله عليه وسلم، بل قام يدعو ويتضرّع ويتوسل الى ربه ويسأله نصره وتأييده، فيا له من إمام وما أشجعه! لا يقوم لغضبه أحد، ولا يبلغ مبلغه في ثبات الجأش وقوة القلب مخلوق، فهو الشجاع الفريد والصنديد الوحيد الذي كملت فيه صفات الشجاعة وتمّت فيه سجايا الإقدام وقوة البأس، وهو القائل:" والذي نفسي بيده لوددت أنني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل" أخرجه البخاري [36،2797] ومسلم 1876 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
محمد صلى الله عليه وسلم زاهدا:
كان زهده صلى الله عليه وسلم زهد من علم فناء الدنيا وسرعة زوالها وقلة زادها وقصر عمرها، وبقاء الآخرة وما أعدّه الله لأوليائه فيها من نعيم مقيم وأجر عظيم وخلود دائم، فرفض صلى الله عليه وسلم الأخذ من الدنيا إلا بدقر ما يسدّ الرمق ويقيم الأود، مع العلم أن الدنيا عرضت عليه وتزيّنت له وأقبلت إليه، ولو أراد جبال الدنيا أن تكون ذهبا وفضة لكانت، بل آثر الزهد والكفاف، فربما بات جائعا ويمرّ الشهر لا توقد في بيته نار، ويستمر الأيام طاويا لا يجد رديء التمر يسدّ به جوعه، وما شبع من خبز الشعير ثلاث ليال متواليات، وكان ينام على الحصير حتى أثّر في جنبه، وربط الحجر على بطنه من الجوع، وكان ربما عرف أصحابه أثر الجوع في وجهه عليه الصلاة والسلام.
وكان بيته من طين، متقارب الأطراف، داني السقف، وقد رهن درعه في ثلاثين صاعا من شعير عند يهودي، وربما لبس إزارا ورداء فحسب، وما أكل على خوان قط، وكان أصحابه ربما أرسلوا له الطعام لما يعلمون من حاجته إليه، كل ذلك إكراما لنفسه عن أدران الدنيا، وتهذيبا لروحه وحفظا لدينه ليبقى أجره كاملا عند ربه، وليتحقق له وعد مولاه { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} الضحى، فكان يقسم الأموال على الناس ثم لا يحوز منها درهما واحدا، ويوّزع الإبل والبقر والغنم على الأصحاب والأتباع والمؤلفة قلوبهم ثم لا يهب بناقة ولا بقرة ولا شاة، بل يقول عليه الصلاة والسلام:" لو كان لي كعضاة ـ أي شجر ـ تهامة مالا لقسمته ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا". أخرجه مالك في الموطأ 977، والطبراني في الأوسط 1864 والكامل لابن عدي 3\97.
وراودته الجبال الشمّ من ذهب
عن نفسه فأراها أيما شمم
بل وكان عليه الصلاة والسلام الأسوة العظمى في الإقبال على الآخرة وترك الدنيا وعدم الإلتفات إليها أو الفرح بها أو جمعها أو التلذذ بطيباتها أو التنعم بخيراتها، فلم يبن قصرا، ولم يدّحر مالا، ولم يكن له كنز ولا جنة يأكل منها، ولم يخلف بستانا ولا مزروعة، وهو القائل:" لا نورّث، ما تركناه صدقة" أخرجه البخاري [3039، 3712] ومسلم برقم 1758، وكان يدعو بقوله وفعله وحاله الى الزهد في الدنيا والاستعداد للآخرة والعمل.
ما نظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو إمام المسلمين وقائد المؤمنين وأفضل الناس أجمعين يسكن في بيت طين وينام على حصير بال ويبحث عن تمرات تقيم صلبه، وربما اكتفى باللبن.
بل خُيّر بين أن يكون ملكا رسولا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا، يشبع يوما ويجوع يوما، حتى لقي الله عز وجل.
ومن زهده في الدنيا سخاؤه وجوده كما تقدم، فكان لا يرد سائلا ولا يحجب طالبا ولا يخيّب قاصدا، وأخبر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقال:" كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل" أخرجه البخاري 6416 عن ابن عمر رضي الله عنهما. ويروى عنه أنه قال:" ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" أخرجه ابن ماجه 4102 والطبراني في الكبير 10522 والحاكم 7833 عن سهل بن سعد الساعدي. وقال:" مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل قال في ظل شجرة ثم قام وتركها" أخرجه أحمد [3701، 4196] والترمذي 2377، وابن ماجه 4109 عن عبدالله بن مسعود وقال الترمذي حسن صحيح، وقال:" الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما" أخرجه الترمذي 2322 وابن ماجه 4112 عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال:" ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت" أخرجه مسلم 2958.
محمد صلى الله عليه وسلم متواضعا:
كان صلى الله عليه وسلم عجيبا في ذلك، فتواضعه تواضع من عرف ربّه مهابة، واستحيا منه وعظمه وقدّره حقّ قدره، وتطامن له وعرف حقارة الجاه والمال والمنصب، فسافرت روحه الى الله وهاجرت نفسه الى الدار الآخرة، فما عاد يعجبه شيء مما يعجب أهل الدنيا، فصار عبدا لربه بحق: يتواضع للمؤمنين، يقف مع العجوز ويزور المريض ويعطف على المسكين، ويصل البائس ويواسي المستضعفين ويداعب الأطفال ويمازح الأهل ويكلم الأمة، ويواكل الناس ويجلس على التراب وينام على الثرى، ويفترش الرمل ويتوسّد الحصير، قد رضي عن ربّه، فما طمع في شهرة أو منزلة أو مطلب أرضي أو مقصد دنيوي، يكلم النساء بلطف، ويخاطب الغريب بودّ، ويتألف الناس ويتبسّم في وجوه أصحابه يقول:" إنما أنا عبد: آكل كما يأكل العبد واجلس كما يجلس العبد" أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد 1\6، وابن سعد في الطبقات 1\371 وانظر كشف الخفاء 1\17 ، ولما رآه رجل ارتجف من هيبته قال:"هوّن عليك، فإني ابن امرأة كانت تاكل القديد بمكة" أخرجه ابن ماجه 3312، والحاكم 4366 عن ابن مسعود، وانظر الكامل لابن عدي 6\286.
وكان يكره المدح، وينهى عن إطرائه ويقول:" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبدالله ورسوله، فقولوا عبدالله ورسوله" أخرجه البخاري 3445 عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكان ينهى أن يقام له، وأن يوقف على رأسه، وكان يجلس حيثما انتهى به المجلس، وكان يختلط بالناس كأنه أحدهم، ويجيب الدعوة ويقول:" لو دعيت الى كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت" أخرجه البخاري [2568، 5178].
وكان يحب المساكين، ويروى عنه قوله:" اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين" أخرجه الترمذي 2352 عن أنس رضي الله عنه، وابن ماجه 4126 والحاكم 7911 عن أبي سعيد الخدري وصححه. وكان يحرّم الكبر وينهى عنه، ويبغض أهله ويقول:" يحشر المتكبرون يوم القيامة في صورة الذر، يغشاهم الذل من كل مكان" أخرجه أحمد 6639، والترمذي 2492، انظر كشف الخفاء 3236. ويروي عن ربه أنه قال:"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منها قذفته في النار" أخرجه مسلم 2620 وأبو داود 4090 واللفظ له.
فكان صلى الله عليه وسلم محببا الى القلوب: تأخذه الجارية بيده فيذهب معها، ويزور أم أيمن وهي مولاة. ولما مدحه وفد عامر بن صعصعة وقالوا: أنت خيرنا وأفضلنا وسيدنا وابن سيدنا قال لهم:" يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، لا يستجريّنكم الشيطان" أخرجه أحمد 15876 وأبو داود 4806، وغضب لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، وقال:" ويحك! أجعلتني والله عدلا؟ بل ما شاء الله وحده" أخرجه أحمد [1842، 2557] والنسائي في السنن الكبرى 10825 عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وكان يحمل حاجة أهله ويخصف نعله ويرقع ثوبه ويكنس بيته ويحلب شاته ويقطع اللحم مع أهله، ويقرّب الطعام لضيفه، ويباسط زوّاره ويسأل عن اخبارهم، ويتناوب ركوب الراحلة مع رفيقه، ويلبس الصوف ويأكل الشعير، وربما مشى حافيا، وينام في المسجد، ويركب الحمار، ويردف على الدابة، ويعاون الضعيف ويتفقد السرية، ويكون في آخرهم فيساعد من احتاج، ويرافق الوحيد منهم..
فصلى الله عليه وسلم ما تحرّك بذكره اللسان، وسارت بأخباره الركبان، وردّد حديثه الإنس والجان.
محمد صلى الله عليه وسلم حليما:
ما دام أنه رسول الله فلا بد أن يكون أحلم الناس وأوسعهم صدرا، وألينهم عريكة وأدمثهم خلقا وألطفهم عشرة، فقد كان يطظم غيظه ويعفو ويصفح ويغفر لمن زلّ، ويتنازل عن حقوقه الخاصة ما لم تكن حقوقا لله. وقد عفا عمن ظلمه وطره من وطنه وآذاه وسبّه وشتمه وحاربه، فقال لهم يوم الفتح:" اذهبوا فأنتم الطلقاء" أخرجه الشافعي في الأم 7\361، والطبري في تاريخه 2\161 والبيهقي في السنن الكبرى 18055 انظر صحيح الجامع 4815. وعفا عن ابن عمّه سفيان بن الحارث يوم الفتح لما وقف أمامه وقال له: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فقال عليه الصلاة والسلام:{ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} يوسف.
وقد واجهه الأعراب بالجفاء وسوء الأدب، فحلم وصفح، وقد امتثل أمر ربه في قوله:{ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} الحجر، فكان لا يكافئ على السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح، وكان لا ينفذ غضبه إذا كان لنفسه، ولا ينتقم لشخصه، بل إذا غضب ازداد حلما، وربّما تبسّم في وجه من أغضبه، ونصح أحد أصحابه فقال:"لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب" أخرجه البخاري 6116.
وكان يبلغه الكلام السيء فيه، فلا يبحث عمن قاله ولا يعاتبه ولا يعاقبه. وورد عنه أنه قال:" لا يبلغني أحد منكم ما قيل فيّ، فإني أحب أن أخرج إليك وأنا سليم الصدر" أخرجه احمد 3750 وأبو داود 4860 والترمذي 3896 عن عبدالله بن مسعود. وبلّغه ابن مسعود كلاما قيل فيه، فتغيّر وجهه وقال:" رحم الله موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر" أخرجه البخاري [ 3150، 3405] ومسلم 1062.
وقد أوذي من خصومه في رسالته وعرضه وسمعته وأهله، فلما قدر عليهم عفا عنهم وحلم عليهم، وقال:" من كف غضبه كف الله عنه عذابه" أخرجه أبو يعلى 4338 والبيهقي في الشعب 8311 وانظر العلل لابن أبي حاتم 1919 ومجمع الزاوئد 10\298. وقال له رجل: اعدل، فقال:" خبت وخسرت إذا لم أعدل" أخرجه البخاري 3138 ومسلم 1063 واللفظ له عن جابر بن عبدالله، ولم يعاقبه بل صفح عنه. وواجه بعص اليهود بما يكره، فعفا وصفح، وقد وسع بخلقه وتسامحه الناس، وأطفأ بحلمه نار العداوات ممتثلا قول ربه:{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)} المؤمنون.
وكان مع أهله أحلم الناس، يمازحهم ويلاطفهم ويعفو عنهم فيما يصدر منهم، ويدخل عليهم باسما ضحاكا، يملأ قلوبهم وبيوتهم أنسا وسعادة، يقول خادمه أنس بن مالك: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ما قال لي في شيء فعلته: لم فعلت هذا؟ ولا شيء لم أفعله: لم لم تفعل هذا؟ وهذا غاية الحلم ونهاية حسن الخلق، وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة، بل كان كل من رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه وودّه وحلمه ما يفوق الوصف، حتى تمكن حبّه من القلوب فتعلقت به الأرواح ومالت له نفوس الناس بالكلية:
وإذا رحمت فأنت أمّ أو أب
هذان في الدنيا هم الرحماء
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى
وفعلت ما لم تفعل الأنواء
وإذا صحبت رأى الوفاء مجسّما
في بُردك الأصحاب والخلطاء
وأبديت حلمك للسفيه مداريا
حتى يضيق بحلمك السفهاء
محمد صلى الله عليه وسلم رحيما:
وصفه ربه بقوله:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)}الأنبياء، فهو رحمة للبشرية.. ورد عنه أنه قال:" إنما أنا رحمة مهداة" أخرجه الدارمي 15 مرسلا، والحاكم موصولا عن أبي هريرة برقم 100 وصححه. ورأى ولد إحدى بناته تفيض روحه، فبكى، فلما سئل عن ذلك قال:" هذه رحمة يضعها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباه الرحماء" أخرجه البخاري [ 1284، 6655] ومسلم 923 عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.
وكان رحمة على القريب والبعيد، عزيز عليه أن يدخل على الناس مشقة، فكان يخفف بالناس مراعاة لأحوالهم، وربما أراد أن يطيل في الصلاة فيسمع بكاء الطفل فيخفف لئلا يشق على أمه. ولما بكت أمامة بنت زينب ابنته حملها وهو يصلي بالناس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها. أخرجه البخاري 516، ومسلم543 عن أبي قتادة رضي الله عنه.
وسجد مرة فصعد الحسن على ظهره، فأطال السجود، فلما سلّم اعتذر للناس وقال:" إن إبني هذا ارتحلني، فكرهت أن أرفع رأسي حتى ينزل" أخرجه أحمد 27100 والنسائي 1141 عن شداد بن الهاد رضي الله عنه. وقال:" من أمّ منكم الناس فليخفف، فإن فيهم الكبير والصغير والمريض وذا الحاجة" أخرجه البخاري 703 ومسلم 467 عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال لمعاذ لمّا طوّل بالناس:" أفتّان أنت يا معاذ؟" أخرجه البخاري [ 705، 6106] ومسلم 465 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه. وقال:" لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" أخرجه البخاري 887 ومسلم 252 عن أبي هريرة رضي الله عنه. وربما ترك العمل خشية أن يفرض على الناس، وكان يتخوّل أصحابه بالموعظة...
كل ذلك رحمة منه صلى الله عليه وسلم، وكان يقول:" والقصد القصد تبلغوا" أخرجه البخاري 6463 عن أبي هريرة رضي الله عنه. ويقول:" بُعثت بالحنيفية السمحة" أخرجه أحمد 21788 عن أبي أمامة رضي الله عنه. ويقول:" خير دينكم أيسره" أخرجه أحمد 15506 وانظر مجمع الزوائد 3\308. ويقول:" عليكم هدياً قاصداً" أخرجه أحمد [ 22454، 22544] والبيهقي في السنن الكبرى 4519 عن بريدة الأسلمي، وانظر البيان والتعريف 2\109. ويقول: خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا" أخرجه البخاري 5862 ومسلم 782 عن عائشة رضي الله عنها. وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وأنكر على الثلاثة الذين شدّدوا على أنفسهم في العبادة، وقال:" والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكنني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فيس مني" أخرجه البخاري 5063 ومسلم 1401 عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وأفطر في سفر في رمضان، وقصر الرباعية، وجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في السفر، ونادى مؤذنه في المطر أن صلوا في رحالكم، وقال:" هلك المتنطعون" أخرجه مسلم 2670 عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. وقال:" ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه" أخرجه مسلم 2594 عن عائشة رضي الله عنها. وأنكر على عبدالله بن عمرو بن العاص إرهاق نفسه بالعبادة، ويقول:" إيّاكم والغلو" أخرجه أحمد [ 1854، 3238] والنسائي 3057، وابن ماجه 3029 وابن أبي عاصم في السنة 1\46 عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه. ويروى عنه قوله:" أمتي أمة مرحومة" أخرجه أحمد [ 19179، 19253] وأبو داود 4276 والحاكم 8372 عن أبي موسى رضي الله عنه وصححه.، وقال:" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" أخرجه البخاري 7288 ومسلم 1337 عن أبي هريرة رضي الله عنه. وهذا اليسر في حياته عليه الصلاة والسلام يوافق يسر الملة وسهولة الشريعة، وهو امتثال منه صلى الله عليه وسلم لقول ربه:{ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)} الأعلى، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } البقرة 286، {فاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } التغابن 16،{ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } القرة 185،{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج 78.. وغيرها من الآيات.
فهو صلى الله عليه وسلم سهل ميسّر رحيم في رسالته ودعوته وعبادته وصلاته وصومه وطعامه وشرابه ولباسه وحله وترحاله وأخلاقه، بل حياته مبنية على اليسر؛ لأنه جاء لوضع الآصار والأغلال عن الأمة، فليس اليسر أصلا إلا معه، ولا يوجد اليسر إلا في شريعته، فهو اليسر كله، وهو الرحمة والرفق بنفسه، صلى الله عليه وسلم.
محمد صلى الله عليه وسلم ذاكرا:
كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس ذكرا لربه، حياته كلها ذكر لمولاه، فدعوته ذكر وخطبه ذكر ومواعظه ذكر وعبادته ذكر وفتاويه ذكر، وليله ونهاره وسفره وإقامته بل أنفاسه كلها ذكر لمولاه عز وجل، فقلبه معلق بربه، تنام عينه ولا ينام قلبه، بل النظر اليه يذكّر الناس بربّهم، وكل مراسيم حياته ومناسباته وذكر لخالقه جلّ في علاه.
وكان صلى الله عليه وسلم يحث الناس على ذكر ربهم، فيقول:"سبق المفردون: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات" أخرجه مسلم 2676 عن أبي هريرة رضي الله عنه، ويقول:" مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحيّ والميت" أخرجه البخاري 6407 ومسلم 779 عن أبي موسى رضي الله عنه. ويقول:" لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله" أخرجه أحمد [ 17227، 17245] والترمذي 3375 وابن ماجه 3793 انظر المشكاة 2279. وأخبر أن أفضل الناس أكثرهم ذكرا لربه، وروى عن ربّه عز وجل قوله:" أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت شفتاه" أخرجه البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب قول الله { لاتحرك به لسانك}، وأحمد[10585، 10592] زابن ماجه3792 عن أبي هريرة رضي الله عنه. ويقول:" من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" أخرجه البخاري 7405 ومسلم 2675 عن أبي هريرة رضي الله عنه. وله عليه الصلاة والسلام عشرات الأحاديث الصحيحة التي تحث على الذكر وترغّب فيه، والتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير والحوقلة والاستغفار والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
وكان يذكّر الناس بأجر الذكر وما يترتب على ذلك من ثواب، وذكر الأعداد في ذلك مع ذكر المناسبات، وعمل اليوم والليلة، فهو صلى الله عليه وسلم الذاكر الشاكر الصابر، وهو الذي ذكّر الأمة بربها وعلمها تعظيمه وتسبيحه، وبيّن لها فوائد الذكر ومنافعه. فهو أسعد الناس بذكر ربه، وأهنؤهم عيشا بهذه النعمة، وأصلحهم حالا بهذا الفضل، فكان له أوراد من الأذكار مع حضور قلب وخشوع وخضوع وهيبة وخوف ومحبة ورجاء وطمع في فضل ربه.
محمد صلى الله عليه وسلم داعيا:
يقول تعالى:{ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} غافر 60، ويقول:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } البقرة 186، ويقول صلى الله عليه وسلم:" الدعاء هو العبادة" أخرجه أحمد [ 17888، 17919] وأبو داود 1479 والترمذي [ 2969، 3247] عن النعمان بن بشير وصححه. ويقول:" من لم يسأل الله يغضب عليه" أخرجه البخاري في الأدب المفرد 658 والترمذي 3373 عن أبي هريرة رضي الله عنه وصححه. وكان عليه الصلاة والسلام لاهجا بدعاء ربه في كل حالاته، قد فوّض أمره لمولاه، وأكثر الإلحاح على خالقه يناشده رحمته وعفوه، ويطلب برّه وكرمه، وكان يختار جوامع الدعاء الكامل الشامل كقوله:" اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" أخرجه البخاري [ 4522، 6389] ومسلم 2688 عن انس رضي الله عنه. وقوله:" اللهم إني أسألك العفو والعافية" أخرجه أحمد 4770 وأبو داود 5074 وابن ماجه 3871 والحاكم 1902 عن ابن عمر رضي الله عنهما وصححه.
وكان يكرر الدعاء ثلاثا، ويبدأ بالثناء على ربه، وكان يستقبل القبلة عند دعائه، وربما توضأ قبل الدعاء، وكان يعلم الأمة أدب الدعاء، كالبداية بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله، ودعاء الله بأسمائه الحسنى، والإلحاح في الدعاء، وتوخّي أوقات الإجابة كأدبار الصلوات، وبين الأذان والإقامة، وآخر ساعة من يوم الجمعة، ويوم عرفة، وفي حالة السجود والصوم والسفر، ودعوة الوالد لولده، وكان عليه الصلاة والسلام وقت الأزمات يلحّ على ربه ويناشده، ويكرر السؤال مع تمام الذلّ والخوف والحب وحسن الظن، وتمام الرجاء، كما فعل يوم بدر ويوم الخندق ويوم عرفة.
وكان الله يجيب دعوته ويلبّي طلبه، كما حصل له على المنبر يوم استسقى فنزل الغيث مباشرة، ويوم شق له القمر، وبارك له في الطعام والمال، ونصره في حروبه، ورفع دينه وأيّد حزبه وخذل أعداءه، وكبت خصومه، حتى حقق الله له مقاصده وأكرم مثواه وجعل له العاقبة صلى الله عليه وسلم.
محمد صلى الله عليه وسلم طموحا:
ولدت همته عليه الصلاة والسلام معه يوم ولد، فمنذ طفولته زنفسه مهاجرة الى معالي الأمور ومكارم الخلق، لا يرضى بالدون ولا يهوى السفاسف، بل هو الطموح والسبّاق المتفرّد والمبرز المحظوظ، ولقد ذكر أهل السير أنه عليه الصلاة والسلام وهو طفل كان لجده عبدالمطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه إلا هو لمنزلته، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم فنازع الخدم حتى جلس عليه، وأبى أن يجلس دونه.
وكان فيه قبل النبوة من سمات الريادة والزعامة والقيادة ما جعل قريش يسمونه الصادق الأمين، ويرضون حكمه ويعودون اليه في أمورهم.
فلما منّ الله عليه بالبعثة تاقت نفسه إلى الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، فسأل الله إياها، وعلّمنا ان نسألها له من ربه، بلغ سدرة المنتهى، وحاز الكمال البشري المطلق، والفضيلة الإنسانية. ومن علوّ همّته رفضه للدنيا وعدم الوقوف مع مطالبها الزهيدة لولاياتها ومناصبها وقصورها ودورها.
الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن
{ يا أيها النبي حسبك الله}
حسبك الله يكفيك من كل ما أهمّك، فيحفظك في الأزمات، ويرعاك في الملمّات، ويحميك في المدلهمّات، فلا تخش ولا تخف ولا تحزن ولا تقلق.
حسبك الله فهو ناصرك على كل عدو، ومظهرك على كل خصم، ومؤيدك في كل أمر، ويعطيك إذا سألت، ويغفر لك إذا استغفرت، ويزيدك إذا شكرت، ويذكرك إذا ذكرت، وينصرك إذا حاربت، ويوفّقك إذا حكمت.
حسبك الله فيمنحك العز بلا عشيرة، والغنى بلا مال، والحفظ بلا حرس، فأنت المظفّر لأن الله حسبك! وأنت المنصور لأن الله حسبك، وأنت الموفق لأن الله حسبك، فلا تخف من عين حاسد ولا من كيد كائد، ولا من مكر ماكر، ولا من خبث كافر، ولا من حيلة فاجر لأن الله حسبك.
وإذا سمعت صولة الباطل، ودعاية الشرك، وجلبة الخصوم، ووعيد اليهود، وتربّص المنافقين، وشماتة الحاسدين، فاثبت لأن حسبك الله.
إذا ولّى الزمان، وجفا الإخوان، وأعرض القريب، وشمت العدو، وضعفت النفس، وأبطأ الفرج، فاثبت لأن حسبك الله.
إذا داهمتك المصائب، ونازلتك الخطوب، وحفّت بك النكبات، وأحاطت بك الكوارث، فاثبت لأن حسبك الله، لا تلتفت الى أحد من الناس، ولا تدع أحدا من اليشر، ولا تتجه لكائن من كان غير الله.. لأن حسبك الله.
إذا ألمّ بك مرض، وأرهقك دين، وحلّ بك فقر، أوعرضت لك حاجة، فلا تحزن لأن حسبك الله.
إذا أبطأ النصر، وتأخر الفتح، واشتد الكرب، وثقل الحمل، وادلهمّ الخطب، فلا تحزن لأن حسبك الله، أنت محظوظ لأنك بأعيننا، وأنت محروس لأنك خليلنا، وأنت في رعايتنا لأنك رسولنا، وأنت في حمايتنا لأنك عبدنا المجتبى ونبيّنا المصطفى.
{لا تحزن إن الله معنا}
هذه الكلمة الجميلة الشجاعة قالها صلى الله عليه وسلم وهو في الغار مع صاحبه أبي بكر الصدّيق، وقد أحاط بهما الكفار، فقالها قوية في حزم، صادقة في عزم، صارمة في جزم:{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } التوبة 40. فما دام الله معنا فلم الحزن ولم الخوف ولم القلق، اسكن.. اثبت.. اهدأ.. اطمئن، لأن الله معنا.
لا نُغلب، لا نُهزم، لا نضل، لا نضيع، لا نيأس، لا نقنط، لأن الله معنا، النصر حليفنا، الفرج رفيقنا، الفتح صاحبنا، الفوز غايتنا، الفلاح نهايتنا لأن الله معنا.
من أقوى منا قلبا، من أهدى منا نهجا، من أجلّ من مبدأ، من أحسن منا سيرة، من أرفع مان قدرا؟! لأن الله معنا.
ما أضعف عدوّنا، ما أذلّ خصمنا، ما أحقر من حاربنا، ما أجبن من قاتلنا، لأن الله معنا.
لن نقصد بشرا، لن نلتجئ الى عبد، لن ندعو إنسانا، لن نخاف مخلوقا، لأن الله معنا.
نحن أقوى عدة وأمضى سلاحا، وأثبت جنانا وأقوم نهجا، لأن الله معنا.
نحن الأكثرون الأكرمون الأعلون الأعزّون المنصورون، لأن الله معنا.
يا أبا بكر اهجر همّك، وأزح غمّك، واطرد حزنك، وأزل يأسك، لأن الله معنا.
يا أبا بكر ارفع رأسك، وهدئ من روعك، وأرح قلبك، لأن الله معنا.
يا أبا بكر أبشر بالفوز، وانتظر النصر، وترقّب الفتح، لأن الله معنا.
غدا سوف تعلو رسالتنا وتظهر دعوتنا وتسمع كلمتنا، لأن الله معنا.
غدا سوف نُسمع أهل الأرض روعة الأذان وكلام الرحمن ونغمة القرآن، لأن الله معنا.
غدا سوف نخرج الإنسانية ونحرر البشرية من عبودية الأوثان، لأن الله معنا.
{وإنك لعلى خلق عظيم}
والله إنك لعظيم الأخلاق، كريم السجايا، مهذب الطباع، نقيّ الفطرة.
والله إنّك جمّ الحياء، حيّ العاطفة، جميل السيرة، طاهر السريرة.
والله إنك قمة الفضائل، ومنبع الجود، ومطلع الخير، وغاية الإحسان.
وإنك لعلى خلق عظيم.. يظلمونك فتصبر، يؤذونك فتغفر، يشتمونك فتحلك، يسبّونك فتعفو، يجفونك فتصفح.
{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} القلم.. يحبّك الملك والمملوك، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، والقريب والبعيد، لأنك ملكت القلوب بعطفك، وأسرت الأرواح بفضلك، وطوّقت الأعناق بكرمك.
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} ..هذبّك الوحي، وعلمك جبريل، وهداك ربك، وصاحبتك العناية، ورافقتك الرعاية، وحالفك التوفيق.
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} .. البسمة على محياك، البِِشر على طلعتك، النور على جبينك، الحب في قلبك، الجود في يدك، البركة فيك، الفوز معك.
من زار بابك لم تبرح جوارحه
تروي احاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرّة والكف عن صلة
والقلب عن جابر والسمع عن حسن
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} .. لا تكذب ولو أن السيف على رأسك، ولا تخون ولو حزت الدنيا، ولا تغدر ولو أعطيت الملك، لأنبي نبيّ معصوم، وإمام قدوة، وأسوة حسنة.
{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}.. صادق ولو قابلتك المنايا، وشجاع ولو قاتلت الأسود، وجواد ولو سئلت كل ما تملك، فأنت المثال الراقي والرمز السامي.
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}.. سبقت العالم ديانة وأمانة وصيانة ورزانة، وتفوقت على الكل علما وحلما وكرما ونبلا وشجاعة وتضحية.
{ما أنت بنعمة ربك بمجنون}
لست مجنونا كما قال أعداؤك لكن عندك دواء المجانين، فلمجنون الطائش والسفيه التافه من خالفك وعصاك وحاربك وجفاك.
{مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} القلم.. وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقلا، وأتمّهم رشدا، وأسدهم رأيا، وأعظمهم حكمة، واجلذهم بصيرة!
وكيف تكون مجنونا وأنت أتيت بوحي يكشف الزيغ، ويزيل الضلال، وينسف الباطل، ويمحو الجهل، ويهدي العقل، وينير الطريق.
لست مجنونا أنك على هدى من الله، وعلى نور من ربك، وعلى ثقة من منهجك، وعلى بيّنة من دينك، وعلى رشد من دعوتك، صانك الله من الجنون، بل عندك كل العقل وأكمل الرشد وأتم الرأي وأحسن البصيرة، فأنت الذي يهتدي بك العقلاء، ويستضيء بحكمتك الحكماء، ويقتدي بك الراشدون المهديّون.
كذب وافترى من وصفك بالجنون وقد ملأت الأرض حكمة والدنيا رشدا والعالم عدلا، فأين يوجد الرشد إلا عندك؟ وأين تكون الحكمة إلا لديم؟ وأين تحلّ البركة إلا معك؟ أنت أعقل العقلاء، وأفضل النبلاء، وأجلّ الحكماء. كيف يكون محمد مجنونا وقد قدّم للبشرية أحسن تراث على وجه الأرض، وأهدى للعالم أجلّ تركة عرفها الناس، وأعطى الكون أبرك رسالة عرفها العقلاء:
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له
وأنت أحييت أجيالا من الرمم
{ وإنك لتهدي الى صراط مستقيم}
أنت يا محمد مهمّتك الهداية، ووظيفتك الدلالة، وعملك الإصلاح.. أنت تهدي الى صراط مستقيم، لأنك تزيل الشبهات وتطرد الغواية وتذهب الضلالة، وتمحو الباطل وتشيد الحق والعدل والخير.
أنت تهدي الى صراد مستقيم، فمن أراد السعادة فليتبعك، ومن أحبّ الفلاح فليقتد بك، ومن رغب في النجاة فليهتد بهداك.
أحسن صلاة صلاتك، وأتمّ صيام صيامك، وأكمل حجّ حجك، وأزكى صدقة صدقتك، وأعظم ذكرك لربك.
وأنت تهدي الى صراط مستقيم.. من ركب سفينة هدايتك نجا، من دخل دار دعوتك أمن، من تمسّك بحبل رسالتك سلم. فمن تبعك ما ذلّ، وما ضلّ وزلّ وما قل، وكيف يذلّ والنصر معك؟ وكيف يضل وكل الهداية لديك؟ وكيف يزل والرشد كله عندك؟ وكيف يقلّ والله مؤيدك وناصرك وحافظك؟
وإنك لتهدي الى صراط مستقيم لأنك وافقت الفطرة وجئت بحنيفية سمحة، وشريعة غرّاء، وملة كاملة، ودين تام.
هديت العقل من الزيغ، وطهّرت القلب من الريبة، وغسلت الضمير من الخيانة، وأخرجت الأمة من الظلام، وحرّرت البشر من الطاغوت.
وإنك لتهدي الى صراط مستقيم، فكلامك هدى، وحالك هدى، وفعلك هدى، و مذهبك هدى، فأنت الهادي الى الله، الدال على طريق الخير، المرشد لكل برّ، الداعي الى الجنة.
{ يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك}
أدّ الرسالة كاملة كما سمعتها كاملة، بلّغها تامّة مثلما حملتها تامة، لا تنقص منها حرفا، ولا تحذف كلمة، ولا تغفل جملة.
بلّغ ما أنزل إليك فهي أمانة في عنقك سوف تُسأل عنها، فبلغها بنصّها وروحها ومضمونها.
بلّغ ما أنزل إليك من الوحي العظيم والهدى المستقيم والشريعة المطهّرة، فأنت مبلّغ فحسب، لا تزد في الرسالة حرفا، ولا تضف من عندك على المتن، لا تُدخل شيئا في المضمون، لأنك مرسل فحسب، مبعوث ليس إلا، مكلف ببلاغ، مسؤول عن مهمة. فمثلما سمعت بلغ، ومثلما حُمّلت فأدّ.
بلّغ ما أنزل إليك، عرف من عرف، وأنكر من أنكر، استجاب من استجاب وأعرض من أعرض، أقبل من أقبل وأدبرمن أدبر.
بلغ ما أنزل إليك، بلّغ الكل وادع الجميع، وانصح الكافة، الكبراء والمستضعفين، السادة والعبيد، والإنس والجن، الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، الكبار والصغار.
بلّغ ما أنزل إليك.. فلا ترهب الأعداء ولا تخف الخصوم، ولا تخش الكفار، ولا يهولك سيف مصلت، أو رمح مشرع، أو منية كالحة، أو موت عابس، أو جيش مدجج، أو حركة حامية.
بلّغ ما أنزل إليك فلا يغريك مال، ولا يعجبك منصب، ولا يزدهيك جاه، ولا تغرّك دنيا، ولا يخدعك متاع، ولا يردّك تحرّج.
وشبّ طفل الهدى المحبوب متّشحا
بالخير متّزرا بالنور والنار
في كفّه شعلة تهدي وفي دمه
عقيدة تتحدّى كلّ جبّار
وفي ملامحه وعد وفي يده
عزائم صاغها من قدرة الباري
{ وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته}:
إذا لم تؤد الرسالة كاملة فكأنك ما فعلت شيئا، وإن لم توصلها تامّة فكأنك ما قمت بها حق القيام، ولو كتمت منها مقالة أو عطلت منها نصا أو أهملت منها عبارة فما بلّغت رسالة الله وما أدّيت أمانة الله، نريد منك أن تبلّغ رسالتنا للناس كما أُلقيت عليك، وكما نزل بها جبريل وكما وعاها قلبك.
{والله يعصمك من الناس}:
بلغ الرسالة كاملة ولا تخف أحدا، وكيف تخاف من أحد ونحن معك نحفظك ونمنعك ونحميك ونذبّ عنك؟! لن يقتلك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يطفئ نورك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يعطّل مسيرتك أحد لأن الله يعصمك من الناس، اصدع بما تؤمر، وقل كلمتك صريحة شجاعة قوية لأن الله يعصمك من الناس. اشرح دعوتك، وابسط رسالتك، وارفع صوتك، وأعلن منهجك، وما عليك لأن الله يعصمك من الناس.
كل قوة في الأرض لن تستطيع لك، كلّ جبروت في الدنيا لا يهزمك، كل طاغية في المعمورة لن يقهرك، لأن الله يعصمك من الناس.
ظنّوا الحمام وظنّوا العنكبوت على
خير البريّة لم ينسج ولم يحم
عناية الله أغنت عن مضاعفه
من الروع وعن عالٍ من الأطم
{ألم نشرح لك صدرك}
أما شرحنا لك صدرك فصار وسيعا فسيحا لا ضيق فيه، ولا حرج ولا همّ ولا غمّ ولا حزن، بل ملأناه لك نورا وسرورا وحبورا.
أما شرحنا لك صدرك وملأناه حكمة ورحمة وإيمانا وبرا وإحسانا.
وشرحنا لك صدرك فوسعت أخلاق الناس، وعفوت عن تقصيرهم، وصفحت عن أخطائهم، وسترت عيوبهم، وحلمت على سفيههم، وأعرضت عن جاهلهم، ورحمت ضعيفهم.
شرحنا لك صدرك فكنت كالغيث جوادا، وكالبحر كرما، وكالنسيم لطفا، تعطي السائل، وتمنح الراغب، وتكرم القاصد، وتجود على المؤمّل.
شرحنا لك صدرك فصار بردا وسلاما يطفئ الكلمة الجافية، ويبرد العبارة الجارحة، فإذا العفو والحلم والصفح والغفران.
شرحنا لك صدرك فصبرت على جفاء الأعراب، ونيل السفهاء، وعجرفة الجبابرة، وتطاول التافهين، وإعراض المتكبرين، ومقت الحسدة، وسهام الشامتين، وتجهّم القرابة.
شرحنا لك صدرك فكنت بسّاما في الأزمات، ضحّاكا في الملمّات، مسرورا وأنت في عين العاصفة، مطمئنا وأنت في جفن الردى، تداهمك المصائب وأنت ساكن، وتلتفّ بك الحوادث وأنت ثابت، لأنك مشروح الصدر، عامر الفؤاد، حيّ النفس.
شرحنا لك صدرك فلم تكن فظا قاسيا غليظا جافيا، بل كنت رحمة وسلاما وبرا وحنانا ولطفا، فالحلم يُطلب منك، والجود يُتعلّم من سيرتك، والعفو يؤخذ من ديوانك.
{ووضعنا عنك وزرك}:
حططنا عنك خطاياك وغسلناك من آثار الذنوب.
فأنت مغفور لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت الآن نقيّ طاهر من كل ذنب وخطيئة، ذنبك مغفور، وسعيك مشكور، وعملك مبرور، وأنت في كل شأن من شؤونك مأجور، فهنيئا لك هذا الغفران، وطوبى لك هذا الفوز، وقرة عين لك هذا الفلاح.
{الذي أنقض ظهرك}:
أثقل هذا الوزر كاهلك، وأضنى ظهرك حتى كاد ينقضه ويوهنه، فالآن أذهبنا هذا الثقل وأزلنا هذه التبعة، وأعفيناك من هذا الخطب، وأرحناك من هذا الحمل، فاسعد بهذه البشرى، وتقبّل هذا العطاء، وافرح بهذا التفضّل.
{ورفعنا لك ذكرك}:
لا أُذكر إلا تذكر معي، يقرن ذكرك بذكري في الأذان والصلاة والخطب والمواعظ، فهل تريد شرفا فوق هذا؟ يذكرك كل مصلّ وكل مسبّح وكل حاجّ وكل خطيب، فهل تطلب مجدا أعلى من هذا؟
أنت مذكور في التوراة والإنجيل، منوّه باسمك في الصحف الأولى والدواوين السابقة، اسمك يشاد به في النوادي، ويُتلى في الحواضر والبوادي، ويُمدح في المحافل، ويُكرر في المجامع.
رفعنا لك ذكرك فسار في الأرض مسير الشمس، وعبر القارات عبور الريح، وسافر في الدنيا سفر الضوء، فكل مدينة تدري بك، وكل بلد يسمع بك، وكل قرية تسأل عنك.
رفعنا لك ذكرك فصرت حديث الرّّكب، وقصة السّمر، وخبر المجالس، وقضية القضايا، والنبأ العظيم في الحياة.
رفعنا لك ذكرك فما نُسي مع الأيام، وما مُحي مع الأعوام، وما شُطب مع قائمة الخلود، وما نُسخ من ديوان التاريخ، وما أغفل من دفتر الوجود، نُسي الناس إلا أنت، وسقطت الأسماء إلا اسمك، وأغفل العظماء إلا ذاتك، فمن ارتفع ذكره من العباد عندنا فبسبب اتّباعك، ومن حُفظ اسمه فبسبب الاقتداء بك. ذهبت آثار الدول وبقيت آثارك، ومُحيت مآثر السلاطين وبقيت مآثرك، وزالت أمجاد الملوك وخلّد مجدك، فليس في البشر أشرح منك صدرا، ولا أرفع منك ذكرا، ولا أعظم منك قدرا، ولا أحسن منك أثرا، ولا أجمل منك سيرا.
إذا تشهّد متشهّد ذكرك معنا، وإذا تهجّد متهجّد سمّاك معنا، وإذا خطب خطيب نوّه بك معنا، فاحمد ربّك لأننا رفعنا لك ذكرك.
{ فإن مع العسر يسرا* إن مع العسر يسرا}:
إذا ضاقت عليك السبل وبارت الحيل، وتقطعت الحبال وضاق الحال، فاعلم أن الفرج قريب وأن اليسر حاصل.
لا تحزن، فإن بعد الفقر غنى، وبعد المرض شفاء، وبعد البلوى عافية، وبعد الضيق سعة، وبعد الشدّة فرحا.
سوف يصلك اليسر أنت وأتباعك، فترزقون وتنصرون وتكرمون ويفتح عليك، ولكن ليس يسر واحد بل يسران.
إنها سنة ثابتة وقاعدة مطّردة أن مع كل عسر يسرا، بعد الليل فجر صادق، وخلف جبل المشقة سهل الراحة، ووراء صحراء الضيق روضة خضراء من السعة، إذا اشتد الحبل انقطع، وإذا اكتمل الخطب ارتفع، سوف يصل الغائب، ويشفى المريض، ويعافى المبتلى، ويفكّ المحبوس، ويغنى الفقير، ويشبع الجائع، ويروى الظمآن، ويسرّ المهموم، وسيجعل الله بعد عسر يسرا.
وهذه السورة نزلت عليه الصلاة والسلام وهو في حال من الضيق، وتكالب الأعداء، واجتماع الخصوم، وإعراض الناس، وقلة الناصر، وتعاظم المكر، وكثرة الكيد، فكان لا بد له من عزاء وسلوة وتطمين وترويح، فنزلت هذه الكلمات له ولأتباعه الى يوم القيامة وعدا صادقا وبشر طيبة، وجائزة متقبّلة:
اشتدي أزمة تنفرجي
قد آذن ايلك بالبلج
{فإذا فرغت فانصب}:
إذا انتهيت من أعمالك الدنيوية وأشغالك الشخصية فانصب لنا بالعبادة، وتوجّه لنا بالطاعة، وأكثر من ذكرنا ودعائنا.
إذا فرغت من الناس وقضايا الناس وأسئلة الناس فقم في محراب عظمتنا، وانطرح على بابنا، واقرب منا، ومرّغ جبينك لنا، لتلقى الفوز والفلاح والأمن والنجاة.
إذا فرغت من الأهل والولد والقريب والصاحب فاجعل لك وقتا معنا، ارفع فيه سؤالك، اعرض فيه حاجتك، أكثر فيه دعاءك، ادعنا وسبّحنا واطلبنا واستغفرنا واشكرنا واذكرنا.
إذا فرغت من الأحكام والقضايا والموعظة والفتيا والتعليم والإرشاد والجهاد والنصيحة، فتعال لتزداد من قوتنا قوة، ومن مددنا عونا، ومن رزقنا زادا، ومن فتحنا بصيرة وذخيرة.
نحن أولى بك منك، وأحق بفراغك من غيرنا، ويا له من توجيه له ولأتباعه عليه الصلاة والسلام في صرف الفراغ في العبودية، وملء هذا الزمن بذكره وشكره جلّ في علاه، ليحصل المقصود من الرضا والسكينة والفرج والعاقبة الحسنة وصلاح الحال والمال، وعمار الدنيا والآخرة.
{وإلى ربّك فارغب}:
إلى ربك وحده فارغب، ولا ترغب من غيره شيئا، وإليه وحده فاتجه وعليه توكّل، وفيه فأمل، فإن الرغبة والرهبة لا تكون إلا إليه لأنه صاحب الثواب لمن أطاعه والعقاب لمن عصاه، والرغائب الجليلة لا يملكها إلا الله، فعنده مفاتح الخزائن ومقاليد الأمور، فهو أهل أن يدعى وأن يسأل وأن يؤمل وأن يقصد جلّ في علاه:
إليك وإلا لا تشدّ الركائب
ومنك وإلا فالمؤمّل خائب
وفيك وإلا فالغرام مضيّعٌ
وعنك وإلا فالمحدث كاذب
وقد تنزلت هذه الكلمات على رسولنا صلى الله عليه وسلم في فترات عصيبة، وفي لحظات حاسمة عاشها صلى الله عليه وسلم وتجرّع غصصها وحسا مرارتها.
{إنا فتحنا لك فتحا مبينا}
لقد فتحنا لك يا محمد فتحا بيّنا ظاهرا مباركا، فتحنا لك القلوب فغرست بها الإيمان، وفتحنا لك الضمائر فبنيت فيها الفضيلة، وفتحنا لك الصدور فرفعت فيها الحق، وفتحنا لك البلدان فنشرت بها الهدى، وفتحنا لك كنز المعرفة وديوان العلم ومستودع التوفيق، وفتحنا بدعوتك القلوب الغلف والعيون العني والآذان الصمّ، وأسمعنا رسالتك الثقلين.
فتحنا لك فتدفّق العلم النافع من لسانك، وفاض الهدى المبارك من قلبك، وسحّ الجود من يمينك.
وفتحنا لك فحزت الغنائم وقسمتها، وجمعت الأرزاق ووزعتها، وحصلت على الأموال وأنفقتها.
وفتحنا لك باب العلم وأنت الأميّ الذي ما قرأ وكتب، فصار العلماء ينهلون من بحار علمك.
وفتحنا عليك الخير فوصلت القريب وأعطيت البعيد، وأشبعت الجائع وكسوت العاري، وواسيت المسكين، وأغنيت الفقير، بفضلنا ورزقنا وكرمنا.
وفتحنا لك القلاع والمدن والقرى، فهيمن دينك، وارتفعت رايتك، وانتصرت دولتك، فأنت مفتوح عليك في كل خير وبرّ وإحسان ونصر وتوفيق.
{فاعلم أنه لا إله إلا الله}
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} محمد 19، فلا تشرك معه في عبوديته أحدا، ولا تعد من دونه إلها آخر، بل تصرف له عبادتك، وتخلص له طاعتك، وتوحّد قصدك له ومسألتك ودعاءك، فإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا يكشف الضرّ غيره، ولا يجيب دعوة المضطر سواه.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } فهو أحق من شُكر وأعظم من ذكر، وأرأف من ملك، وأجود من أعطى، وأحلم من قدر، وأقوى من أخذ، وأجلّ من قصد، وأكرم من ابتغي، فلا يدعى إله سواه، ولا رب يطاع غيره، فالواجب أن يُعبد وأن يُوحّد وأن يُخاف وأن يُطاع وأن يُرهب وأن يُخشى وأن يُحب.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} المتفرد بالجمال والكمال والجلال، خلق الخلق ليعبدوه، وأوجد الإنس والجن ليوحّدوه، وأنشأ البريّة ليطيعوه، فمن أطاعه فاز برضوانه، ومن أحبّه نال قربه، ومن خافه أمن عذابه، ومن عظمه أكرمه، ومن عصاه أدّبه، ومن حاربه خذله، يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويذلّ من كفره، له الحكم وإليه ترجعون.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فأخلص له العبادة، لأنه لا يقبل الشريك، وفوّض إليه الأمر لأنه الكافي القويّ، واسأله فهو الغني، وخف عذابه لأنه شديد، واخش أخذه لأنه أليم، ولا تتعدّ حدوده لأنه يغار، ولا تحارب أولياءه، لأنه ينتقم، واستغفره فهو واسع المغفرة، واطمع في فضله لأنه كريم، ولذ بجنابه فهناك الأمن، وأدم ذكره لتنل محبته، وأدمن شكره لتحظى بالمزيد، وعظم شعائره لتفوز بولايته، وحارب أعداءه ليخصّك بنصره.
{إقرأ}
تبدأ قصة النبوة بكلمة:{اقْرَأْ} يوم نزلت على رسولنا صلى الله عليه وسلم في الغار، ومن بداية {اقْرَأْ} بدأنا، بدأ تاريخنا ومجدنا وحياتنا، ومن تاريخ نزول {اقْرَأْ} بدأت مسيرتنا المقدّسة، وتغيّر بها وجه الأرض وصفحة الأيام ومعالم الدنيا، فتلك اللحظة هي أسعد لحظة في حياتنا نحن المسلمين، وهي اللحظة الفاصلة بين الظلام والنور، والكفر والإيمان، والجهل والعلم، واختيار اقرأ من بين قاموس الألفاظ وديوان اللغة له سر عجيب ونبأ غريب، فلم يكن مكان {اقْرَأْ} غيرها من الكلمات، لا " اكتب"، ولا "ادع" ولا "تكلم" ولا "قل"، ولا "اخطب".... إنما {اقْرَأْ}، ويا لها من كلمة جليلة جميلة أصيلة.
اقرأ يا محمد قبل أن تدعو، واطلب العلم قبل أن تعمل {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } محمد 19.
إن {اقْرَأْ} منهج حياة، ورسالة حية لكل حيّ تطالبه بتحصيل العلم النافع وطلب المعرفة، وأن يطرد الجهل عن نفسه وأمته.
وأين يقرأ بأبي وأمي وما تعلّم على شيخ ولا درس كتابا ولا حمل قلما؟
يقرأ أولا باسم ربه كلام ربّه، فمصدره الأول الوحي يتلوه غضّا طريا، ويقرأ في كتاب الكون المفتوح ليرى أسطر الحكمة تخطها أقلام القدرة، فيقرأ في الشمس الساطعة، والنجوم اللامعة، والجدول والغدير، والتل والرابية، والحديقة والصحراء، والأرض والسماء:
وكتابي الفضاء اقرأ فيه
صورا ما قرأتها في كتابي
وكلمة {اقْرَأْ} تدلك على فضل العلم وعلوّ مكانته، وأنه أول منازل الشرف الرافعة.
وإن كل سعادة وفلاح سببها العلم، فرسالته صلى الله عليه وسلم علميّة عمليّة، لأنه بعث بالعلم النافع والعمل الصالح " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث" أخرجه البخاري 79 ومسلم 2282 عن أبي موسى رضي الله عنه.
فاليهود عندهم علم بلا عمل، فغضب عليهم، والنصارى لديهم عمل بلا علم فضلوا، فأمرنا بالاستعاذة من سبيل الطائفتين {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7) } الفاتحة.
الرسول صلى الله عليه وسلم باكيا:
البكاء فضيلة عند رؤية التقصير أو خوف سوء المصير، وهو محمدة إذا تذكّر العبد ربه وخاف ذنوبه، ودليل على تقوى القلب وسمّو النفس وطهر الضمير ورقّة العاطفة، مدح الله رسله بالبكاء فقال:{ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)} مريم.
ووصف أولياءه الصالحين بأنهم{ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) } الإسراء.
ولام أعداءه على القسوة والغلظة فقال:{ أفمن هذا الحديث تعجبون* وتضحكون ولا تبكون}.
وأثنى على قوم فقال:{ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } المائدة 83.
وسيد الخاشعين لربّ العالمين، وإمام الخائفين من مالك يوم الدين هو خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم. فقد كان نديّ الجفن، سريع العبرة، سخيّ الدمع، رقيق القلب، جياش العاطفة، مشبوب الحشا، تنطلق دمعته في صدق وطهر، ويسمع نشيجه في قنوت وإخبات، يترك بكاؤه في قلوب أصحابه آثارا من التربية والاقتداء والصلاح ما لا تتركه الخطبة البليغة والمواعظ المؤثرة، فهو يبكي صلى الله عليه وسلم عند تلاوة القرآن، فقد قام ليلة من الليالي يكرر قوله تعالى:{ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) } المائدة، فيبكي غالب ليله.
وهو يبكي عند سماع القرآن، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن مسعود:"اقرأ عليّ القرآن"، قال: كيف أقرؤه عليك وعليك أُنزل؟ قال:" اقرأ فإني أحبّ أن أسمعه من غيري" فيقرأ ابن مسعود من أول سورة النساء، حتى بلغ:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً (41)} النساء. قال:" حسبك الآن" فنظرت فإذا عيناه تذرفان. أخرجه البخاري [ 4582، 5055] ومسلم 800 عن عبدالله بن مسعود.
وهو يخشع صلى الله عليه وسلم عند سماع القرآن، فقد صح أنه قام ليلة يستمع لأبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن ثم قال له في الصباح:" لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود" أخرجه البخاري 5048 ومسلم 793 عن أبي موسى.
فيقول أبو موسى: لو كنت أعلم أنك تستمع لي لحبّرته لك تحبيرا. أي: جوّدته وحسنته وجمّلته. هذه الزيادة أخرجها البيهقي في الكبرى [ 4484، 208421] وفي الشعب 2604.
وقال عبدالله بن الشخير في حديث صحيح: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وبصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وهو القدر إذا استجمع غليانا.
ويحضر صلى الله عليه وسلم جنازة ابنته زينب، ويجلس على القبر وتذرف عيناه من هول المنظر، وتذكر العاقبة والتفكير في ذلك المصير، وأصحابه يشاهدون هذا المشهد المؤثر المعبّر منه صلى الله عليه وسلم.
ويخبر صلى الله عليه وسلم بفضل البكاء من خشية الله، فيذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:"... ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" اخرجه البخاري[ 660، 1423، 6806] ومسلم 1031 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" عينان لا تمسّهما النار أبدا: عين بكت وجلا من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" أخرجه الترمذي 1639 والبيهقي في الشعب 796 عن ابن عباس.
فالبكاء السنّي الشرعي ما كان من خوف الله عز وجل، وتذكّر القدوم عليه والوقوف بين يديه والتفكير في آياته الشرعية والكونية. والبكاء من الوفاء، ومن أفضل أعمال الأولياء، خاصة إذا كان ندما من معصية وعند فوت طاعة، ووجلا من عذاب، ورحمة لمصاب، ورقة عند موعظة، وخشية عند تفكّر. ولا يحمد البكاء على الدنيا، فهي أقل وأرخص من يُبكى عليها، فليست أهلا لذلك.
فكان بكاؤه صلى الله عليه وسلم أجلّ وأفضل البكاء، وهو ما دلّ على يقين وعظمة خوف وشدة رهبة من الجليل، وصدق معرفة وحسن علم بعاقبة، فأعماله صلى الله عليه وسلم كلها في أرقى مقامات الأعمال وأسمى غايات الأحوال.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالهلوع الجزوع الذي يأسف على فوات الحظوظ الدنيوية ويجزعلى ذهاب المكاسب الدنيّة، ولم يكن بالفرح البطر القاسي الذي لا تؤثر فيه المواقف ولا تحرّكه الأزمات، بل كان بكاؤه وندمه وأسفه في مرضاة ربه. وكان تبسّمه وضحكه وسروره في طاعة خالقه، ففي كل خصلة من خصال النبل وفي كل صفة من صفات الفضل هو المثل الأعلى والقدوة الحسنة:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الأحزاب 21.
لقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم ينظرون إليه على المنبر ودموعه تذرف، ونشيجه يتعالى، ولصدره أزيز ولصوته أزيمن حينها يتحول المسجد إلى بكاء ودموع، كلٌّ ينكس رأسه ويترك التعبير لعينيه أمام هذا المشهد الذي لا تمحوه الأيام ولا تنسيه الليالي.
يا الله! محمد رسول الله هكذا باكيا أمام الناس، هكذا تسحّ دموعه وتتساقط على وجنتيه وهو أعرف الناس بالله وأدراهم بالوحي وأعلمهم بالمصير!
يبكي من قلب ملؤه الخوف من الله، ومن نفس عمَرها حب الله، فتكاد دموعه تتحدث للناس، ويكاد يكون بكاؤه أبلغ من كل موعظة وأفصح من كل كلمة.
قد كنت أشفق من دمعي على بصري
فاليوم كلّ عزيز بعدكم هانا
الرسول صلى الله عليه وسلم ضاحكا:
الضحك المعتدل بلسم للروح ودواء للنفس وراحة للخاطر المكدود وبعد الجد والعمل، والمقتصد منه دليل على الأريحية، وآية على اعتدال المزاج، وعلامة على صفاء الطويّة.
وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم مع أهله إذا دخل عليهم ضحاكا بساما يمازح زوجاته ويلاطفهن ويؤنسهن ويحادثهن حديث الود والحب والحنان والعطف؛ لأنه بُعث رحمة للعالمين، وأحق الناس بهذه الرحمة أهله وقرابته وأحبابه وأصحابه. وكانت تعلو محيّاه الطاهر البسمة المشرقة الموحية، فإذا قابل بها الناس أسر قلوبهم أسرا فمالت نفوسهم بالكلية إليه وتهافتت أرواحهم عليه، يبتسم عن مثل البرد في وجه أبهى من الشمس، وجبين أزهى من البدر، وفم أطهر من الأقحوان، وخلق أندى من الرياض، وودّ أرق من النسيم، يمزح ولا يقول إلا حقا، فيكون