شديد الحب لله
14 Nov 2006, 01:25 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
(تعلم الخشوع في خمس صلوات بدون معلم)
(أوصيك أيها القارئ الكريم بأن تتريث في قراءتك وأن لا تتجاوز الأسطر والفقرات نظرا لتَرابطها)
* الحلقة الأولى (في ضرر المعاصي على الخشوع..)
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على إمام المرسلين
{قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون}
تَـتَـفقون معي أيها الأفاضل أنَّ لكل داء دواء، وأن العَِليل كُلما عرَّضَ نفسَه لأسباب المرَض أخَّر بذلك شفاءه، أو ربما أهلك ذاتَه.. فَلْنُمثل لأنفسنا الآن أن (شرود الذهن) في الصلاة وفقدان الخشوع فيها داء من الأدواء، ففي نظرِكم، ما الذي يمكن أن يكون سببا في تهييج هذا المرض وجعله يزيد فتكا بسلامة صلاتنا وحسناتنا؟! نعم أيها الإخوة، إنها (المعاصي والذنوب)!..
إخوتي الأكارم! كلٌ منا يعرف نفسَه.. ويعرف ذنوبَـه.. فلْنَحذَر من (استصغار المعصية) فيكون شؤمها علينا عظيم..
فضلا، أخبروني، أليس فقداننا للذة مناجاة الخالق من أقسى العقوبات؟؟! لماذا نغفل عن (محاسبة أنفسنا) ونستسلم لعادات تفتكك بصفاء قلوبنا وتعصف بحسناتنا فتجعلها كهشيم تذروه الرياح..!
*فكيف أخشع وأنا أجالس أهل الغِيبة والنميمة؟!
*وكيف أخشع وأنا أتابع المسلسلات والأفلام التافهة على التلفاز؟!
*و كيف أخشع وأنا مدمن على المحادثات المحرمة عبر الانترنت والهاتف؟!
*وكيف أخشع وأنا عاق لوالدَي؟!
وهلمَّ جَراً لأمور قد لا تُنكرها قلوبُنا لكثرة ما تتردد في حياتنا! وما أسوءَها من عقوبة أن يأتي الواحُد منا الذنبَ فيراه كذُباب يهُشُّ عليه بيده من أنفه!! ثم (يعاوده فيتعوده) فلا يجد في نفسه إنكارا له..
أيها الإخوة الأنقياء! ما الذي يضُرنا لو أننا توقفنا قبل أيّ تصَرُف وعمل لـنُسائل أنفسَنا: "هل هو طاعة أم معصية؟ أم إنه مضيعة للوقت والجهد دون فائدة؟" "هل هو مما يرضاه الله لي ويحبه أم لا..؟" "هل لو ختم الله لي به سيكون من علامات حسن الخاتمة أم عكس ذلك؟"..
إخوتي الأكارم! أوصيكم ونفسي بترك الذنوب لأنها قاتلة للقلوب بامتياز! فكيف لقلب ميت أن يحضر في الحياة، فضلا عن أن ينفعنا في الصلاة! وأختم الحلقة الأولى بمقولة نفيسة لابن القيم رحمه الله حيث قال: "الذنوب جراحات، ورُب جرح وقع في مقتل"
* الحلقة الثانية (في تذَوُّق الأذان وتأمل كلماته..)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين..
أيها الإخوة! تنبغي الإشارة إلى أن أيَّ عمل مَهْما كان يبدو بسيطا يجب ألا يغيب جانب التوكل على الله فيه، لأنه لا سهل إلا ما جعله الله سهلا..
في حلقتنا الأولى تحدثنا عن تأثير المعاصي.. وأنها عقبةٌ كؤودٌ في طريق تحصيل الخشوع وحضور القلب في الصلاة؛ إذْ إنَّ حضورَ الشيء يستلزم كونَه حيا..والمعاصي تُـميت القلب! فكيف لقلب ميت أن يحضر في الصلاة؟!.. فتأمل
سنشرع الآن بعون الله بخطوات أخرى بعد أن عاهدنا أنفسنا على محاسبة النفس وترك المعاصي وعدم الوقوع في آفة استصغار الذنوب -حتى ولو كانت صغيرة- وأُولَى هذه الخطوات تعظيم قدر الأذان.
فإذا سمعت قول المؤذن "الله أكبر" وكنت أقوم بعمل لا يترتب عن إيقافه ضرر، فيلزمني أن أتوقف عنه وأُردِّدَ مع المؤذن مع استحضار معاني الكلمات. إذ إنَّ التفرُغَ للترديد مع المؤذن وعدم شغل الجوارح بعمل آخر يعينك على التدبر في كلمات الأذان، فتكون هذه هي أول خطوة للشوق إلى الصلاة..
واعلموا -رعاكم الله- أن أمر الترديد مع المؤذن له تأثير على قلب المصلي؛ فأنت بمجرد أن تسمع أول نبرة من الأذان، توقَّف عن العمل. وخذ نفسا عميقا. واستحضر أنه نداء للخير.. واشرع في استحضار معاني الكلمات..
ففي الأذان تكبير لله، وهي إشارة إلى تقديم الاستجابة والمبادرة بالصلاة. فالاستجابة لأمر الله أَولى من أي عمل. وفيه الشهادتان، وهما أول أركان الإسلام، في إشارة بأن استجابتي دليل من أدلة حسن إقامتهما. ثم تأتي بعدهما الدعوة إلى الإقبال على الصلاة، فتقول أنت "لا حول ولا قوة إلا بالله" وعند قولها استحضر معناها.. ثم يقول المؤذن "حي على الفلاح" فيتضح بذلك أن الصلاة إحدى الأسباب المباشرة للفلاح "والفلاح كلمة جامعة تدور على شيئين:على حصول المطلوب وعلى النجاة من المرهوب" ( شرح رياض الصالحين لابن عثيمين) وأعيد بعد قول المؤذن حي الفلاح قولي: لا حول ولا قوة إلا بالله..، ثم يتكرر التذكير بتكبير الله تعالى وأن أمر إجابته أَولى من كل أمر، كما قال سبحانه عن أهل الإيمان: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} ( النور:37). ثم تأتي بعد ذلك كلمة التوحيد، وفيها الإشارة إلى لزوم إخلاص العبادة لله وحده، فأعمل العمل وأنا حريص على تطهيره من الرياء والنفاق، فيخرج خالصا طاهرا كما يخرج اللبن من بين فرْث ودم..
واعلموا -حفظكم الله- أنه مما يدُلُّ على تعظيم قدر الأذان والترديد معه أنني وإن كنت أقرأ القرآن فالأَولى أن أتوقف عن التلاوة حتى أردد مع المؤذن وأستحضر المعاني؛ ذلك أن بعض الأعمال المفضولة تصبح فاضلة في أوقات مخصوصة.. ومن ضمنها أن الترديد مع المؤذن أولى من الاستمرار في التلاوة وقت الأذان.. كما أن في تكرار كلمات الأذان إشارة إلى التأكيد؛ فأنت إن أردت تأكيد أمر كررته..
ولحديثنا بقية.. ونحن الآن نمضي خطوة خطوة، ولا ننس الاستعانة بالمولى جل وعلا، ولا نيأس من مجاهدة النفس لأجل تحصيل الخشوع، وبعون الله سننال المطلوب وسننجوا من كل مرهوب، وتابعونا ...
* الحلقة الثالثة (في معنى الاستعاذة ولطائف دعاء الاستفتاح..)
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على إمام المرسلين. وبعد..
أنت الآن واقف لـتُـكبّر للصلاة، فاعلم أنك مُقْبل على خالقك ومولاك، الذي لم يضع للقائه شرطا، ولم يخصص لمناجاته وقتا، ولا يمنعك من الوقوف بين يديه حاجب على باب ولا يتوسط لك عنده إنس ولا جان.. استشعر أنه أوجب عليك الصلاة لسعادتك وراحتك "يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها"..
وأنت واقف لتكبر للصلاة، استشعر أنك بين يدي الله ستقف.. ولا يَـحُول بينك وبين هذا الشرف العظيم، والذي خصّ الله به فقط المسلمين، إلا حركة وكلمتان، بهما تخرج من هذه الدنيا بفِكرك وشغلك وتدخل إلى عالم عجيب ممتع، فيه ما لذّ وطاب من حلاوة الإيمان ونور المناجاة لرب الأرض والسماوات..
سترفع يديك الآن إلى حذو منكبيك أو أذنيك.. فتقول بخشوع واطمئنان وبقلب حاضر:
"الله أكبر" .. يا عبد الله، إجعل من تكبيرة الإحرام سعادة! فقد جعلها الله لك وسيلة للدخول لمناجاته ونيل مَرْضاته..
اِعلم -أيها الخاشع- أن اسم الجلالة "الله" هو اسم جامع لكل معاني أسماء الله الحسنى.. فتفَكّر في هذا المعنى واربطه ربطا مُـحْكما بقولك "أكبر"؛ فالله أكبر من أي شيء، ومن كل شيء، فلا يشغلك عنه شيء!.. لماذا؟..
لأنك قلت "الله أكبر"، فاحرص رعاك الله على أن تكون صادقا حين النطق بها، ملتزما بمتطلباتها..
لا ترفع عينيك إجلالا لربك، بل صوبهما إلى موضع سجودك.. ثم بعد ذلك تمتع بالنطق بدعاء الاستفتاح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم، أن أبا هريرة رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سكْتَتِه بعد التكبيرة ما الذي يقول فيها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام أقول:"اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرَد"
هل تأملت أخي في هذا الدعاء النعمة؛ دعاء بالمباعدة بين الخطايا، فابن آدم خطّاء، وفيه الخير الكثير إذا ما تاب إلى الله عز وجل توبة نصوحا.. وذكر المشرق والمغرب هنا هو للتعبير عن أقصى مباعدة ممكنة بين الخطية وأختها، أو للتعبير عن البعد عن المعصية كما يبعد المشرق عن المغرب، ولكن لا ننسى أن المقصود هنا هي الصغائر، أما الكبائر فعلى المسلم أن يرجو من مولاه العِصمة منها، فلا يقترفها بإذن الله أبدا {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللَمَم إن ربك واسع المغفرة}(النجم:32)
وتأمل معي في الشطر الثاني من الدعاء "اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس" تأمل -رعاك الله- كيف مُثّلَت الخطايا بالدَنس -الأوساخ-، في حين مَثَّلك ربك سبحانه بالثوب الأبيض.. أنظر لهذا التكريم والتشريف الرباني.. يريدك مولاك طاهرا نقيا كما خلقك.. يا عبد الله! أرأيت الثوب الأبيض كم هو حساس للأوساخ ويحتاج منك لعناية تفوق باقي الألوان، سواء عند تنظيفه أو عند التحلي به، فكذلك قلبك أيها الخاشع المنيب..
ثم انظر إلى الشطر الثالث من الدعاء "اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" ومما هو معلوم، أن أي شيء إنما نغسله لنزيل عنه ما طرأ عليه مما هو ليس منه، فالثوب الأبيض نغسله لنزيل عنه الأوساخ فيعود إلى أصله، إذِ الأوساخ ليست منه، وكذلك أنت أيها الطاهر، ليست الخطايا منك، فالأصل فيك النقاء والصفاء، فطرأت عليك الخطايا، فاطلب من مولاك أن يُخَلِصك منها.. وكلنا يعلم أن الثوب الأبيض إذا أُهمل غسْله وتراكمت عليه الأوساخ، يصعب بعد ذلك تنظيفه، فتأمل..
يا عبد الله! أرأيت الماء حين يُنزله الله من السماء، فيصيب به الصخرة الملساء التي كان يحثل عليها التراب، كيف تصبح تلك الصخرة؟! وكيف بها إذا زادها الله من السماء ثلجا وبردا.. فتأمل
وبعد دعاء الاستفتاح المسنون، تقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" واحرص على نطق الاستعاذة بحرف الذال وليس الدال كما يفعل بعض الناس، والفارق بينهما كبير فتنبه..
لقد استعذت بالله الواحد القهّار، الذي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ولا تخفى عليه خافية. "ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفَث، وتطيِيب له لتلاوة كلام الله، وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه، إلا الله الذي خلقه.. ولمّا كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه، اِستعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان"(تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير ج1 ص25)
أيها الخاشع بين يدي ربه، عندما تقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فمعناها ألجأ إلى الله وأحتمي به من العدو الأكبر إبليس..
"والشيطان في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعُد، فهو بعيد عن طباع البشر، وبعيد بفِسقه عن كل خير"( تفسير القرآن العظيم ص26)
واعلم -رعاك مولاك وسدد خطاك وجعل الجنة مثوانا ومثواك- أن هدف الشيطان الرجيم هو اصطحاب أكبر عدد ممكن من الإنس والجن معه إلى قعر الجحيم! وهناك يتبرأ منهم أجمعين، وما عساهم يصنع لهم إن لم يتبرأ منهم!؟ فكن منه على بال، لا تمكنه من نفسك..
ولحديثنا بقية بإذن الله تعالى فتابعونا رعاكم الله في الحلقة التالية بحول الله..
*الحلقة الرابعة (في تذوق معاني السبع المثاني _الفاتحة_ ودورها في نيل الخشوع..)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين. وبعد..
تحدثنا إخوتي في الحلقات السابقة عن ضرر المعاصي على أداء الصلاة، وعن الحاجة الـمُـلِحّة لتركها لنيل المراد بتحصيل الخشوع، ثم تحدثنا عن الأذان وضرورة تذوُّق كلماته.. أما في الحلقة الثالثة فركزنا عن تكبيرة الإحرام ودعاء الاستفتاح والاستعاذة.. وها نحن نلتقي في هذه الحلقة لنرتقي بحول الله تعالى..
كبّرنا وأتينا بدعاء الاستفتاح واستعذنا بالله من الشيطان الرجيم.. وسنشرع في قراءة أم الكتاب.. ومعلوم أيها الإخوة أنها سورة عظيمة، جُعلت في بداية كل ركعة لحِِِكم كثيرة، من ضمنها أن لها بالغ التأثير في سَير الصلاة كَكُل، فمن قرأها بتَريُّث، وأدرك معاني كلماتها عند تلاوتها كلمةً كلمة، وحاول تذوُّق تلك المعاني والربط بين الآيات، فمثل هذا قد قطع شوطا كبيرا في تسهيل عملية الخشوع في صلاته، أما من تسرع فيها سرعة مُـخِلّة.. وتَجـول بفكره عند تلاوتها فَعليه تدارك الموقف قبل انقضاء الصلاة..
اِستحضر -رعاك الله- عند قولك {بسم الله الرحمن الرحيم} أنها بمعنى: "أبتدئ بكل اسم لله تعالى" (تفسير العلامة السعدي ص39) فتخيل عظمة بدايتك بكل اسم لله تعالى وأي خير ذاك وأي فضل.. ثم يُخصِّص من كل أسمائه سبحانه "اسمان دالاّن على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء وعمَّت كل حي" (نفس المصدر) "أما {الرحمن} فدالٌ على الصفة القائمة به سبحانه، و {الرحيم} دال على تعلُقِها بالمرحوم. فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله {وكان بالمؤمنين رحيما} ولم يجئ قَطُّ رحمن بهم" (بدائع الفوائد للإمام ابن القيم)
فانطق بالبسملة بتَرَيُث حتى تستقر معانيها في قلبك..
{الحمد لله} هو الثناء على الله بصفات الكمال، فتجد "تحت هذه الكلمة إثبات كل كمال للرب فعلا ووصفا واسما، وتنـزيهه عن كل سوء وعيب فعلا ووصفا واسما، وإنما هو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه مُـنَزه عن العيوب والنقائص.. فأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل، لا تخرج عن ذلك، وأوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت جلال وأسماؤه كلها حسنى" (الإمام ابن القيم)
"{رب العالمين} الرب: هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه لهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة" (السعدي)
فالرب هو الخالق الرازق المدبّر، والعالمين هم كل من سوى الله من ملائكة وإنس وجن وحيوانات وحشرات ونباتات وأفلاك وغيرها.. ولكنه سبحانه اختص أولياءه بتربية خاصة "فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له، ويكمله لهم.. وحقيقتها تربية التوفيق لكل خير، والعصمة عن كل شر.." (السَعدي)
{الرحمن الرحيم} مرت معنا في البسملة.. وفي تكرارها إشارة لطيفة جميلة؛ فعندما ذكر سبحانه أنه هو رب العالمين، أردف هذا الإخبار بأن هذه الربوبية ربوبية رحمة، لأن ذكر الربوبية قد يُتوقع معه أنها ربوبية قهر وتسلط.. فتأمل.. "{مالك يوم الدين} المالك هو من اتصف بصفة الـمُلك التي من آثارها أنه يأمر وينهى، ويُثيب ويعاقب، ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات، وأضاف الملك ليوم الدين، وهو يوم القيامة، يوم يُدان الناس فيه بأعمالهم خيرها وشرها، لأن في ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور كمال ملكه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق.." (السعدي)
{إياك نعبد وإياك نستعين} بمعنى نخُصك وحدك بعبادتنا فلا نعبد إلا أنت، كما نخصك وحدك باستعانتنا فلا نستعين إلا بك، "والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة" (شيخ الإسلام ابن تيمية) " والاستعانة هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المَضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.. والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية والنجاة من جميع الشرور.." (السعدي). وذَكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها، هو لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى، فإنه إن لم يُعنه اللهُ فلن يقوى على فعل الأوامر، واجتناب النواهي.. ثم إن في العبادة إشارة لتوحيد الإلهية لأنها من مستلزماتها، وفي الاستعانة إشارة لتوحيد الربوبية..
"{إهدنا الصراط المستقيم} أي دلنا وأرشدنا ووفقنا للصراط المستقيم، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله وجنته، وهو معرفة الحق والعمل به" (السعدي) والهداية نوعان، مجملة وهي الهداية إلى الإسلام بالاستمرار في لزومه، وهداية تفصيلية هي الهداية إلى الحق ولزومه في تفاصيل الإسلام من أركان وشعائر وغيرها..
{صراط الذين أنعمت عليهم} وفي القرآن آية تفسر من هم الذين أنعم الله عليهم وهي قوله تعالى {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}(النساء:69) وقد أنعم الله عليهم كذلك عندما وفقهم للزوم الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه..
{غير المغضوب عليهم}. أما المغضوب عليهم، فهم كل من تبين لهم الحق وعلموه ولم يتبعوه، ومثالهم اليهود.. فنحن ندعوا الله تعالى أن يحفظنا من أن نسلك مسلكهم فيغضب علينا كما غضب عليهم.. ولم يقل"غير صراط المغضوب عليهم" لأنهم لا صراط لهم أصلا! بل هم أتباع سُبل الباطل والأهواء وشياطينها..
{ولا الضالين}. والضال هو كل من ضل عن الحق لأمرين، الأول أنه جهِله، والثاني أنه لم يُكلف نفسه عناء البحث، فلو فعل لهداه الله تعالى- إن شاء سبحانه-، خصوصا أن الحق واضح أكثر من وضوح الشمس.. فعاش في ضلال أكثر من ضلال الأنعام.. ومثالهم أغلب النصارى ومن سلك مسلكهم..
والأصناف الثلاثة المذكورة هي الموجودة على مر الزمان، إما مهديين- نسأل الله أن نكون منهم-
أو مغضوبا عليهم أو ضالين.. فانظر -رعاك الله- لعَظمة هذه المعاني، ومدى تأثيرها على خشوعك إذا أحسنت التأمل فيها وحرصت على الاستمرار في ذلك..
أما الآن أيها المتأمل، فخذ نفسا عميقا.. وأعِد قراءة الفاتحة مع استحضار المعاني السابقة.. وستَلْحَظ الفارق بين تلاوتك السابقة وبين تلاوتك بعد تدبر المعاني! وأعِد قراءة هذا النص كلما بدأ يتسرب إليك النسيان حتى تتركز المعاني في قلبك.. ولنا لقاء قادم بحول الله تعالى مع حلقة قادمة فتابعونا بإذن الله تعالى..
*الحلقة الخامسة (في هيئة القراءة وطريقتها وما يستحضره المصلي في صلاته)
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على إمام المرسلين. وبعد..
أملي أن يكون إخوتي قد اطّّلعوا على الحلقات السابقة، لأن كل حلَقة مرتبطة بالتي تَليها.. وها نحن نلتقي من جديد في رحلتنا في مجاهدة أنفسنا من أجل الخروج بصلاة من النوع الممتاز، والحرص على عدم وضع سلاح التحدي؛ تحدي الاسترسال في الأفكار، تحدي الانشغال بالدنيا، أو مجرد السهو دون التفكير في شيء محدد..
تحدثنا في الحلقة السابقة عن فاتحة الكتاب ولامسنا بعض معانيها الجليلة.. وأشرنا إلى التأثير الإيجابي لاستحضار هذه المعاني لتحصيل الخشوع بإذن الله تعالى، ونتحدث في هذه الحلقة عن أمور لا تقل أهميتها عن سابقاتها كهيئة القراءة وما الذي يجب استحضاره عند الوقوف في الصلاة لأجل تحصيل الخشوع والمحافظة عليه..
فعند قراءة المصلي للقرآن يجب أن يعلم بأنه " قام في مقام مخاطبة ربه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرض لِـمَقته وسخَطِه، بأن يناجيه ويخاطبه وقلبه معرض عنه، ملتفت إلى غيره. فإنه يستدعي بذلك مقته، ويكون بمنزلة رجل قرّبه ملك من ملوك الدنيا، وأقامه بين يديه، فجعل يخاطب الملك وقد ولاّه قفاه، أو التفت عنه بوجهه يمنة ويسرة.. فما الظن بمقت الملك الحق المبين رب العالمين وقيوم السماوات والأرضين" (أسرار الصلاة 77 لا بن القيم)
كما ينبغي للمصلي "أن يقف عند كل آية للفاتحة وقفة يسيرة ينتظر جواب ربه له كأنه يسمعه وهو يقول "حمدني عبدي" إذا قال {الحمد لله رب العالمين}.
فإذا قال: {الرحمن الرحيم} وقف لحظة ينتظر قوله " أثنى علي عبدي".
فإذا قال: {ملك يوم الدين} انتظر قوله: "مجدني عبدي".
فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} انتظر قوله: "هذا بيني وبين عبدي".
فإذا قال: {إهدنا الصراط المستقيم..} إلى آخرها انتظر قوله: "هذا لعبدي ولعبدي ما قال"........." (المصدر السابق، والحديث في صحيح مسلم)
وانتظارك هو لأجلك أنت، وليس من أجل ترك الوقت لجواب الله تعالى، فهو سبحانه لا يخضع لزمان..
وبهذا الانتظار والتأمل يطمئن المصلي لهذه الإجابات الشافية من رب ودود، ويستشعر أن ربه عز وجل يحبه ويريد له الهداية والرشاد ولا يرضى له الغواية والضلال.. وبعد التأمين اتلُ ما تيسر لك من القرآن، إما من قِصار السور أو من آيات أخَرْ، واحرص على تدبر معانيها هي كذلك..
ولأستحضر في صلاتي أنني لن أخرج منها حتى أنهيها فلِما لا أجعلها صلاة هادئة مطمئنة مرصعة بالسكينة والخشوع؟ ولأستحضر كذلك أنه ليس لي من صلاتي إلا ما عقلت وأنا واقف لا محالة، فلماذا أرضى بالغُبن وضياع الأجر!؟ ولأستحضر أيضا أني إذا صليت الصلاة فلن أجدها إلى يوم الحساب، فمثلا، إذا صليت الظهر في يوم الخامس عشر من شوال لعام 1427، فهذا الظُهر لن أجده ولن يعود إلا في يوم الحساب، وما بعده ليس إلا ظُهر يوم آخر، فإن أحسنت فيه فلنفسي وإن أسأت فعليها، فلماذا أضيع هذه الفرص التي لا تتكرر، وإلى متى سأضل أضع في حسابي صلوات ناقصات الإتقان وهي لن تعود إلى يوم الجزاء، فلأستيقظ من هذا الغبن الكبير، فلست بالخِبِّ ولا الخبُ يخدعني..
وأشير إليك أيها الخاشع أن هذه الاستحضارات تكون سريعة جدا مدمجة في بعضها لا تشغلك عن المقصود الأسمى بل تكون عونا لك عليه بإذن الله تعالى..
فيا أيتها النفس اخشعي ولربك اخضعي! فقد استعذت بالله من الشيطان في بداية الصلاة فما بقيت إلا أنت!واللهَ أسأل أن ينصرني عليك، وهو المستعان..
ولقاؤنا بإذن الله في الحلقة القادمة يتجدد، فتابعونا لنيل المراد بتحصيل الخشوع والطمأنينة والسكينة في الصلاة لتكون لنا إن شاء الله راحة للأذهان والأجسام، فتابعونا إن شاء الله تعالى..
* الحلقة السادسة (في أسرار وضعيات الصلاة و معاني الذكر فيها)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وبعد..
تحدثنا في الحلقة السابقة عن هيئة القراءة وما يستحضره المصلي ليزداد في صلاته خشوعا، وفي هذه الحلقة نتحدث بإذن الله عن بعض أسرار حركات ووضعيات الصلاة، ودورها في خشوع المصلي، ونتحدث كذلك عن المعاني العظيمة للأذكار التي تأتي فيها ،وبالله نستعين..
إعلم أيها الخاشع أن الله "قد شرَع لعباده من أنواع العبادات ما يظهر فيه خشوع الأبدان الناشئ عن خشوع القلب وذله وانكساره، ومن أعظم ما يظهر فيه خشوع الأبدان لله تعالى من العبادات الصلاة" (ابن رجب الحنبلي)
وقد أُمر المصلي "بأن يستقبل القبلة بوجهه ويستقبل الله تعالى بقلبه لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيده عليه، وألقى بيديه مسلما مستسلما ناكِس الرأس، خاشع القلب مُطرِق الطرْف لا يلتفت قلبـُُه عنه ولا طَرْفة عين، لا يُـمنة ولا يُسرة.." (ابن القيم)
واعلم - رعاك الله- أنه بالإضافة إلى اتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم -وهذا يكفي- يوجد في رفع اليدين في بداية الصلاة لطائف منها أنه يجعلك تستشعر الدخول في صلاتك بحركة خاصة -وتلمس الفارق لو قمت بالدخول في صلاتك دون رفعهما- ثم تأتي بدعاء الاستفتاح مع استحضار ما سبق معنا من معانيه الجميلة، فتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم مع التأمل في مفاهيم الألفاظ وأسرارها - كما رأينا من قبل- وبعد ذلك تشرع بتلاوة الفاتحة مستحضرا نفائس ولطائف إشاراتها التي وقفنا عليها في الحلقات السابقة، وبعدها تقرأ ما تيسر لك من القرآن مع الحرص على ما ورد في السنة كقراءة سورة الشمس وسورة الضحى في صلاة الضحى كمثال، أما إن لم يثبت شيء فاقرأ ما أحببت من القرآن..
وحاول بكل تحدي للنفس استشعار وقوفك بين يدي الله تعالى، وأنه يراك ويسمعك ويعلم ما في قلبك وفِكرك، وأن ما تتلو من القرآن خطاب وتشريف لك من الله تعالى، فلتكن في مستوى هذا التكريم..
وبعد ذلك تُكَبّر الله. وقد شُرع هذا "التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من ركن إلى ركن كالتلبية في انتقالات الحاج من مشعر إلى مشعر، فهو شعار الصلاة كما أن التلبية شعار الحج، ليعلم العبد أن سر الصلاة هو تعظيم الرب تعالى بعبادته وحده" (ابن القيم)
ولتستحضر أيضا عند تكبيرك أن أمر حضور الذِهن مع الجسد أمام الله تبارك وتعالى أَوْلَى وأعظم من أي شيء يمكن أن تنشغل به في صلاتك، فقوْلك: الله أكبر، إقرار منك أن الله تعالى أكبر من أي شيء ولن تنشغل عنه بشيء أبدا، فاحرص على ألا يخالف قولُك حالَك..
"الله أكبر" ها أنت الآن راكع بين يدي الله تعالى..فتخيل ركوعك يا عبد الله، وقد استويت وبَسطت ظَهرك، غير رافعٍ ولا منكّسٍ رأسك، ثم قلت في تُؤَدة وترَيُّث وخشوع: "سبحان ربي العظيم" (ثلاثا أو أكثر) مستحضرا بذلك أن التسبيح هو تَنْـزيه الله تعالى عن أي نقص، قارنا هذا التسبيح بتعظيمه سبحانه في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وكل ما يخطر ببالك فالله أعظم منه ولن تحيط به علما.. فتنزهه عن النقص وتعظمه.. وتستحضر تشريفه لك حيث أذِن لك بالركوع بين يديه، وقد حُرِم منه أقوام عندما قيل لهم اركعوا فأبوا، فاصطفاك، ولم يجعلك من المغضوب عليهم ولا من الضالين.. وشرفك بأن تقول له "ربي" أي خالقي ورازقي ومدبر أمري..
" سمع الله لمن حمده" أي سمع سماع إجابة، فيجيبك بعد حمدك له، ولهذا تُبادر أنت بأن تقول "ربنا ولك الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه"- وهذا في البخاري- وفي مسلم إضافة "ملء السماوات وملء الأرض وما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد. أهلَ الثناء والمجد، أحقُ ما قال العبدُ وكلنا لك عبد. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَد" والجد بفتح الجيم في اللفظين أي لا ينفع صاحب الغِنى عندك غناه، ومفهومها أنه لا ينفعه إلا العمل الصالح..
وفي حمدك لله تعالى ارتباط وثيق بما كنت عليه في ركوعك، فقد استويت ورجعت إلى أحسن تقويم.. فتحمد الله على ذلك.. وقد كنت في ركوعك تنزه الله تعالى عن كل نقص وتعظمه، ثم لما استويت حمدته سبحانه، والحمد هو الثناء على الله بصفات الكمال، ففي الركوع تنزيه وتعظيم، وفي الاستواء ثناء.. وكثير ما يقترن التسبيح بالحمد، ومثال ذلك الكلمتان الخفيفتان على اللسان الثقيلتان في الميزان، فتأمل..
وتأمل معي قولك: "سمع الله لمن حمده" ففي ذلك إخبار من الله تعالى أنك لو حمدته يستجيب لك، فتبادر أنت بحمده لنيل المراد.. فلم يبقى إلا أن تقترب، ولهذا أذن لك الله بأن تُكَبِّر فتخِرّ ساجدا لتدعوه في هيئة هي الأقرب ما يكون العبد إلى ربه، ولسان حالك يقول "ها أنا قد حمدتك يا مولاي، وأنت تسمع لمن حمدك، وها أنا ساجد بين يديك، لأنزهك عن كل نقص وأدعوك وأتوسل إليك.." فتقول: "سبحان ربي الأعلى" (ثلاثا أو أكثر) وتدعو مولاك وتُكْثر الدعاء بعد الثناء.. لأنك منه قريب، فلا تضيع الفرصة، فقد تكون آخر سجدة.. وبعد ذلك ترفع رأسك من سجودك مكبرا، وتعتدل في جلوسك إجلالا لربك، وإذنا منه ليرتاح جسمك.. ثم تقول في خشوع وخضوع "رب اغفر لي رب اغفر لي" (أبو داود وصحيح ابن ماجه) ويمكنك أن تكررها عدة مرات.. أو تقول"اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، واجبرني، وعافني، وارزقني، وارفعني" (أصحاب السنن إلا النسائي وصحيح الترمذي وصحيح ابن ماجه) ومن هذا الدعاء يتضح فضل الاستغفار.. ثم تكبر ساجدا مرة ثانية، مستحضرا دائما معنى التكبير ومتطلباته كما أشرنا من قبل.. وبقي معنا التشهد في الصلاة..و قبل ذلك نشير أنه علينا عدم ترك الفرصة للعدو الحقير أن يسبب في انتقاص أجر صلاتنا بالسهو وانتظار سلام الإمام لنخرج من الصلاة، بل إنه من جُملة خواتيم الأعمال التي إن أحسنا فيها عاد ذلك بالفضل على سائر العمل..
أيها الخاشع أنت الآن بين يدي الله، فكيف تسمح للشيطان من انتقاص أجرك بالسهو أثناء التشهد، إنه لا سلطان له عليك، فزده غيظا واخشع عند التشهد وتأمل في معاني كلماته كما فعلت مع تلاوة القرآن وباقي الأذكار في الأركان.. فعلى بركة الرحمن..
"التحيات لله والصلوات والطيبات" التحيات هي كل ما يُحيّى به من قول أو فعل جميل وحسُن أن يحيّى به الله إشارة لاستحقاق الله تعالى للتحيات- الثابثة شرعا- وأنه سبحانه هو الأهل بها ومستحقها.. والصلوات جمع صلاة وهي لغة الدعاء واصطلاحا صلواتنا المعروفة التي نقصد بها وجه الله، وسميت صلاة لغلبة الدعاء عليها، فيكون معنى الصلوات لله أن كل صلاتنا ودعائنا واستغفارنا وعبادتنا لله وحده لا نشرك به شيئا. والطيّبات هي كل ما طاب من القول وحسن أن يُثنى على الله به - يعني أن يكون واردا صحيحا- وكذلك ما طاب من الفعل وحسن أن يوجه إلى الله تعالى..
"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" تخيّل المقام الذي أنت فيه.. مَن جعله الله سببا لإيصالك إليه؟ أفلا يستحق أن تسلم عليه؟ إستجابة لله تعالى.. واعترافا لهذا الرجل الكريم بعِظم جميله عليك، وبما أصابه لأجلك.. وبشفاعته لك بإذن الله فصلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا..
"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" وهذا السلام من فضل الله علينا إذْ قرَننا سبحانه بعباده الصالحين.. فأي فضل هذا وأي خير!؟ وهي كذلك بشرى بأننا بإذن الله منهم ما دمنا نشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ونأتي بمتطلباتها ونتجنب نواقضها.. وقد ورد في الصحيحين أن العبد إذا قال "وعلى عباد الله الصالحين" {أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض}(متفق عليه)، وتنطق بالشهادتين. ثم تأتي بعد ذلك بالصلاة الإبراهيمية مستحضرا أن صلاة الله على الرسول صلى الله عليه وسلم هي ثناؤه عليه في الملئ الأعلى.. ولا تخرج من صلاتك حتى تغنم من الدعاء بعد التشهد وقبل التسليم من الصلاة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ينتهي من التشهد ويريد أن يسلم. قبل تسليمه يدعو بهذا الدعاء المروي عن السيدة عائشة رضي الله عنها "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات. اللهم إني أعوذ بك من المَأثَم والمَغرَم" (رواه البخاري) والمأثم بمعنى الذنوب، والمغرم هو الدَين يعجز صاحبه عن أدائه.. وبعد ذلك له أن يدعو بما شاء لأنه ثبت أن الدعاء مستجاب بعد التشهد وقبل التسليم من الصلاة.. ثم تسلم من الصلاة، وتأتي بالذكر الوارد بعدها، واحرص على الاطلاع على صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قال، "صلوا كما رأيتموني أصلي"
وأحب أضع بين يديك كلاما لابن القيم حيث قال : "وسِرّ الصلاة وروحها ولُبها، هو إقبال العبد على الله بكُليته، فكما أنه لا ينبغي أن يَصْرف وجهه عن القبلة إلى غيرها، فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربه إلى غيره... وعلى حسْب إقبال العبد على الله في صلاته يكون إقبال الله عليه، وإن أعرض أعرض الله عنه، وكما تَدين تُدان" (أسرار الصلاة)
كيف حال قلبك!؟ بخير إن شاء الله؟ لا تيأس من رحمة الله.. سننال المراد إذا سألناه العون واستعذنا به من أن يكِلنا إلى أنفسنا، فالقلوب بين أصبعين من أصابعه سبحانه يقلّبها كيف يشاء..
فنسأله سبحانه الثبات على دينه حتى نلقاه، وبصلاة مقبولة بحول الله .. وختاما أسأل الله تعالى العفو عما كان مني من الزلل والنسيان، ولا تنسوا أخاكم من خالص دعائكم، كما أسأل الله تعالى وأن يجعل هذا العمل لوجهه خالصا.. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
(تعلم الخشوع في خمس صلوات بدون معلم)
(أوصيك أيها القارئ الكريم بأن تتريث في قراءتك وأن لا تتجاوز الأسطر والفقرات نظرا لتَرابطها)
* الحلقة الأولى (في ضرر المعاصي على الخشوع..)
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على إمام المرسلين
{قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون}
تَـتَـفقون معي أيها الأفاضل أنَّ لكل داء دواء، وأن العَِليل كُلما عرَّضَ نفسَه لأسباب المرَض أخَّر بذلك شفاءه، أو ربما أهلك ذاتَه.. فَلْنُمثل لأنفسنا الآن أن (شرود الذهن) في الصلاة وفقدان الخشوع فيها داء من الأدواء، ففي نظرِكم، ما الذي يمكن أن يكون سببا في تهييج هذا المرض وجعله يزيد فتكا بسلامة صلاتنا وحسناتنا؟! نعم أيها الإخوة، إنها (المعاصي والذنوب)!..
إخوتي الأكارم! كلٌ منا يعرف نفسَه.. ويعرف ذنوبَـه.. فلْنَحذَر من (استصغار المعصية) فيكون شؤمها علينا عظيم..
فضلا، أخبروني، أليس فقداننا للذة مناجاة الخالق من أقسى العقوبات؟؟! لماذا نغفل عن (محاسبة أنفسنا) ونستسلم لعادات تفتكك بصفاء قلوبنا وتعصف بحسناتنا فتجعلها كهشيم تذروه الرياح..!
*فكيف أخشع وأنا أجالس أهل الغِيبة والنميمة؟!
*وكيف أخشع وأنا أتابع المسلسلات والأفلام التافهة على التلفاز؟!
*و كيف أخشع وأنا مدمن على المحادثات المحرمة عبر الانترنت والهاتف؟!
*وكيف أخشع وأنا عاق لوالدَي؟!
وهلمَّ جَراً لأمور قد لا تُنكرها قلوبُنا لكثرة ما تتردد في حياتنا! وما أسوءَها من عقوبة أن يأتي الواحُد منا الذنبَ فيراه كذُباب يهُشُّ عليه بيده من أنفه!! ثم (يعاوده فيتعوده) فلا يجد في نفسه إنكارا له..
أيها الإخوة الأنقياء! ما الذي يضُرنا لو أننا توقفنا قبل أيّ تصَرُف وعمل لـنُسائل أنفسَنا: "هل هو طاعة أم معصية؟ أم إنه مضيعة للوقت والجهد دون فائدة؟" "هل هو مما يرضاه الله لي ويحبه أم لا..؟" "هل لو ختم الله لي به سيكون من علامات حسن الخاتمة أم عكس ذلك؟"..
إخوتي الأكارم! أوصيكم ونفسي بترك الذنوب لأنها قاتلة للقلوب بامتياز! فكيف لقلب ميت أن يحضر في الحياة، فضلا عن أن ينفعنا في الصلاة! وأختم الحلقة الأولى بمقولة نفيسة لابن القيم رحمه الله حيث قال: "الذنوب جراحات، ورُب جرح وقع في مقتل"
* الحلقة الثانية (في تذَوُّق الأذان وتأمل كلماته..)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين..
أيها الإخوة! تنبغي الإشارة إلى أن أيَّ عمل مَهْما كان يبدو بسيطا يجب ألا يغيب جانب التوكل على الله فيه، لأنه لا سهل إلا ما جعله الله سهلا..
في حلقتنا الأولى تحدثنا عن تأثير المعاصي.. وأنها عقبةٌ كؤودٌ في طريق تحصيل الخشوع وحضور القلب في الصلاة؛ إذْ إنَّ حضورَ الشيء يستلزم كونَه حيا..والمعاصي تُـميت القلب! فكيف لقلب ميت أن يحضر في الصلاة؟!.. فتأمل
سنشرع الآن بعون الله بخطوات أخرى بعد أن عاهدنا أنفسنا على محاسبة النفس وترك المعاصي وعدم الوقوع في آفة استصغار الذنوب -حتى ولو كانت صغيرة- وأُولَى هذه الخطوات تعظيم قدر الأذان.
فإذا سمعت قول المؤذن "الله أكبر" وكنت أقوم بعمل لا يترتب عن إيقافه ضرر، فيلزمني أن أتوقف عنه وأُردِّدَ مع المؤذن مع استحضار معاني الكلمات. إذ إنَّ التفرُغَ للترديد مع المؤذن وعدم شغل الجوارح بعمل آخر يعينك على التدبر في كلمات الأذان، فتكون هذه هي أول خطوة للشوق إلى الصلاة..
واعلموا -رعاكم الله- أن أمر الترديد مع المؤذن له تأثير على قلب المصلي؛ فأنت بمجرد أن تسمع أول نبرة من الأذان، توقَّف عن العمل. وخذ نفسا عميقا. واستحضر أنه نداء للخير.. واشرع في استحضار معاني الكلمات..
ففي الأذان تكبير لله، وهي إشارة إلى تقديم الاستجابة والمبادرة بالصلاة. فالاستجابة لأمر الله أَولى من أي عمل. وفيه الشهادتان، وهما أول أركان الإسلام، في إشارة بأن استجابتي دليل من أدلة حسن إقامتهما. ثم تأتي بعدهما الدعوة إلى الإقبال على الصلاة، فتقول أنت "لا حول ولا قوة إلا بالله" وعند قولها استحضر معناها.. ثم يقول المؤذن "حي على الفلاح" فيتضح بذلك أن الصلاة إحدى الأسباب المباشرة للفلاح "والفلاح كلمة جامعة تدور على شيئين:على حصول المطلوب وعلى النجاة من المرهوب" ( شرح رياض الصالحين لابن عثيمين) وأعيد بعد قول المؤذن حي الفلاح قولي: لا حول ولا قوة إلا بالله..، ثم يتكرر التذكير بتكبير الله تعالى وأن أمر إجابته أَولى من كل أمر، كما قال سبحانه عن أهل الإيمان: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} ( النور:37). ثم تأتي بعد ذلك كلمة التوحيد، وفيها الإشارة إلى لزوم إخلاص العبادة لله وحده، فأعمل العمل وأنا حريص على تطهيره من الرياء والنفاق، فيخرج خالصا طاهرا كما يخرج اللبن من بين فرْث ودم..
واعلموا -حفظكم الله- أنه مما يدُلُّ على تعظيم قدر الأذان والترديد معه أنني وإن كنت أقرأ القرآن فالأَولى أن أتوقف عن التلاوة حتى أردد مع المؤذن وأستحضر المعاني؛ ذلك أن بعض الأعمال المفضولة تصبح فاضلة في أوقات مخصوصة.. ومن ضمنها أن الترديد مع المؤذن أولى من الاستمرار في التلاوة وقت الأذان.. كما أن في تكرار كلمات الأذان إشارة إلى التأكيد؛ فأنت إن أردت تأكيد أمر كررته..
ولحديثنا بقية.. ونحن الآن نمضي خطوة خطوة، ولا ننس الاستعانة بالمولى جل وعلا، ولا نيأس من مجاهدة النفس لأجل تحصيل الخشوع، وبعون الله سننال المطلوب وسننجوا من كل مرهوب، وتابعونا ...
* الحلقة الثالثة (في معنى الاستعاذة ولطائف دعاء الاستفتاح..)
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على إمام المرسلين. وبعد..
أنت الآن واقف لـتُـكبّر للصلاة، فاعلم أنك مُقْبل على خالقك ومولاك، الذي لم يضع للقائه شرطا، ولم يخصص لمناجاته وقتا، ولا يمنعك من الوقوف بين يديه حاجب على باب ولا يتوسط لك عنده إنس ولا جان.. استشعر أنه أوجب عليك الصلاة لسعادتك وراحتك "يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها"..
وأنت واقف لتكبر للصلاة، استشعر أنك بين يدي الله ستقف.. ولا يَـحُول بينك وبين هذا الشرف العظيم، والذي خصّ الله به فقط المسلمين، إلا حركة وكلمتان، بهما تخرج من هذه الدنيا بفِكرك وشغلك وتدخل إلى عالم عجيب ممتع، فيه ما لذّ وطاب من حلاوة الإيمان ونور المناجاة لرب الأرض والسماوات..
سترفع يديك الآن إلى حذو منكبيك أو أذنيك.. فتقول بخشوع واطمئنان وبقلب حاضر:
"الله أكبر" .. يا عبد الله، إجعل من تكبيرة الإحرام سعادة! فقد جعلها الله لك وسيلة للدخول لمناجاته ونيل مَرْضاته..
اِعلم -أيها الخاشع- أن اسم الجلالة "الله" هو اسم جامع لكل معاني أسماء الله الحسنى.. فتفَكّر في هذا المعنى واربطه ربطا مُـحْكما بقولك "أكبر"؛ فالله أكبر من أي شيء، ومن كل شيء، فلا يشغلك عنه شيء!.. لماذا؟..
لأنك قلت "الله أكبر"، فاحرص رعاك الله على أن تكون صادقا حين النطق بها، ملتزما بمتطلباتها..
لا ترفع عينيك إجلالا لربك، بل صوبهما إلى موضع سجودك.. ثم بعد ذلك تمتع بالنطق بدعاء الاستفتاح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم، أن أبا هريرة رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سكْتَتِه بعد التكبيرة ما الذي يقول فيها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام أقول:"اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرَد"
هل تأملت أخي في هذا الدعاء النعمة؛ دعاء بالمباعدة بين الخطايا، فابن آدم خطّاء، وفيه الخير الكثير إذا ما تاب إلى الله عز وجل توبة نصوحا.. وذكر المشرق والمغرب هنا هو للتعبير عن أقصى مباعدة ممكنة بين الخطية وأختها، أو للتعبير عن البعد عن المعصية كما يبعد المشرق عن المغرب، ولكن لا ننسى أن المقصود هنا هي الصغائر، أما الكبائر فعلى المسلم أن يرجو من مولاه العِصمة منها، فلا يقترفها بإذن الله أبدا {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللَمَم إن ربك واسع المغفرة}(النجم:32)
وتأمل معي في الشطر الثاني من الدعاء "اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس" تأمل -رعاك الله- كيف مُثّلَت الخطايا بالدَنس -الأوساخ-، في حين مَثَّلك ربك سبحانه بالثوب الأبيض.. أنظر لهذا التكريم والتشريف الرباني.. يريدك مولاك طاهرا نقيا كما خلقك.. يا عبد الله! أرأيت الثوب الأبيض كم هو حساس للأوساخ ويحتاج منك لعناية تفوق باقي الألوان، سواء عند تنظيفه أو عند التحلي به، فكذلك قلبك أيها الخاشع المنيب..
ثم انظر إلى الشطر الثالث من الدعاء "اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" ومما هو معلوم، أن أي شيء إنما نغسله لنزيل عنه ما طرأ عليه مما هو ليس منه، فالثوب الأبيض نغسله لنزيل عنه الأوساخ فيعود إلى أصله، إذِ الأوساخ ليست منه، وكذلك أنت أيها الطاهر، ليست الخطايا منك، فالأصل فيك النقاء والصفاء، فطرأت عليك الخطايا، فاطلب من مولاك أن يُخَلِصك منها.. وكلنا يعلم أن الثوب الأبيض إذا أُهمل غسْله وتراكمت عليه الأوساخ، يصعب بعد ذلك تنظيفه، فتأمل..
يا عبد الله! أرأيت الماء حين يُنزله الله من السماء، فيصيب به الصخرة الملساء التي كان يحثل عليها التراب، كيف تصبح تلك الصخرة؟! وكيف بها إذا زادها الله من السماء ثلجا وبردا.. فتأمل
وبعد دعاء الاستفتاح المسنون، تقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" واحرص على نطق الاستعاذة بحرف الذال وليس الدال كما يفعل بعض الناس، والفارق بينهما كبير فتنبه..
لقد استعذت بالله الواحد القهّار، الذي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ولا تخفى عليه خافية. "ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفَث، وتطيِيب له لتلاوة كلام الله، وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه، إلا الله الذي خلقه.. ولمّا كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه، اِستعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان"(تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير ج1 ص25)
أيها الخاشع بين يدي ربه، عندما تقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فمعناها ألجأ إلى الله وأحتمي به من العدو الأكبر إبليس..
"والشيطان في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعُد، فهو بعيد عن طباع البشر، وبعيد بفِسقه عن كل خير"( تفسير القرآن العظيم ص26)
واعلم -رعاك مولاك وسدد خطاك وجعل الجنة مثوانا ومثواك- أن هدف الشيطان الرجيم هو اصطحاب أكبر عدد ممكن من الإنس والجن معه إلى قعر الجحيم! وهناك يتبرأ منهم أجمعين، وما عساهم يصنع لهم إن لم يتبرأ منهم!؟ فكن منه على بال، لا تمكنه من نفسك..
ولحديثنا بقية بإذن الله تعالى فتابعونا رعاكم الله في الحلقة التالية بحول الله..
*الحلقة الرابعة (في تذوق معاني السبع المثاني _الفاتحة_ ودورها في نيل الخشوع..)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين. وبعد..
تحدثنا إخوتي في الحلقات السابقة عن ضرر المعاصي على أداء الصلاة، وعن الحاجة الـمُـلِحّة لتركها لنيل المراد بتحصيل الخشوع، ثم تحدثنا عن الأذان وضرورة تذوُّق كلماته.. أما في الحلقة الثالثة فركزنا عن تكبيرة الإحرام ودعاء الاستفتاح والاستعاذة.. وها نحن نلتقي في هذه الحلقة لنرتقي بحول الله تعالى..
كبّرنا وأتينا بدعاء الاستفتاح واستعذنا بالله من الشيطان الرجيم.. وسنشرع في قراءة أم الكتاب.. ومعلوم أيها الإخوة أنها سورة عظيمة، جُعلت في بداية كل ركعة لحِِِكم كثيرة، من ضمنها أن لها بالغ التأثير في سَير الصلاة كَكُل، فمن قرأها بتَريُّث، وأدرك معاني كلماتها عند تلاوتها كلمةً كلمة، وحاول تذوُّق تلك المعاني والربط بين الآيات، فمثل هذا قد قطع شوطا كبيرا في تسهيل عملية الخشوع في صلاته، أما من تسرع فيها سرعة مُـخِلّة.. وتَجـول بفكره عند تلاوتها فَعليه تدارك الموقف قبل انقضاء الصلاة..
اِستحضر -رعاك الله- عند قولك {بسم الله الرحمن الرحيم} أنها بمعنى: "أبتدئ بكل اسم لله تعالى" (تفسير العلامة السعدي ص39) فتخيل عظمة بدايتك بكل اسم لله تعالى وأي خير ذاك وأي فضل.. ثم يُخصِّص من كل أسمائه سبحانه "اسمان دالاّن على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء وعمَّت كل حي" (نفس المصدر) "أما {الرحمن} فدالٌ على الصفة القائمة به سبحانه، و {الرحيم} دال على تعلُقِها بالمرحوم. فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله {وكان بالمؤمنين رحيما} ولم يجئ قَطُّ رحمن بهم" (بدائع الفوائد للإمام ابن القيم)
فانطق بالبسملة بتَرَيُث حتى تستقر معانيها في قلبك..
{الحمد لله} هو الثناء على الله بصفات الكمال، فتجد "تحت هذه الكلمة إثبات كل كمال للرب فعلا ووصفا واسما، وتنـزيهه عن كل سوء وعيب فعلا ووصفا واسما، وإنما هو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه مُـنَزه عن العيوب والنقائص.. فأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل، لا تخرج عن ذلك، وأوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت جلال وأسماؤه كلها حسنى" (الإمام ابن القيم)
"{رب العالمين} الرب: هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه لهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة" (السعدي)
فالرب هو الخالق الرازق المدبّر، والعالمين هم كل من سوى الله من ملائكة وإنس وجن وحيوانات وحشرات ونباتات وأفلاك وغيرها.. ولكنه سبحانه اختص أولياءه بتربية خاصة "فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له، ويكمله لهم.. وحقيقتها تربية التوفيق لكل خير، والعصمة عن كل شر.." (السَعدي)
{الرحمن الرحيم} مرت معنا في البسملة.. وفي تكرارها إشارة لطيفة جميلة؛ فعندما ذكر سبحانه أنه هو رب العالمين، أردف هذا الإخبار بأن هذه الربوبية ربوبية رحمة، لأن ذكر الربوبية قد يُتوقع معه أنها ربوبية قهر وتسلط.. فتأمل.. "{مالك يوم الدين} المالك هو من اتصف بصفة الـمُلك التي من آثارها أنه يأمر وينهى، ويُثيب ويعاقب، ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات، وأضاف الملك ليوم الدين، وهو يوم القيامة، يوم يُدان الناس فيه بأعمالهم خيرها وشرها، لأن في ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور كمال ملكه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق.." (السعدي)
{إياك نعبد وإياك نستعين} بمعنى نخُصك وحدك بعبادتنا فلا نعبد إلا أنت، كما نخصك وحدك باستعانتنا فلا نستعين إلا بك، "والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة" (شيخ الإسلام ابن تيمية) " والاستعانة هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المَضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.. والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية والنجاة من جميع الشرور.." (السعدي). وذَكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها، هو لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى، فإنه إن لم يُعنه اللهُ فلن يقوى على فعل الأوامر، واجتناب النواهي.. ثم إن في العبادة إشارة لتوحيد الإلهية لأنها من مستلزماتها، وفي الاستعانة إشارة لتوحيد الربوبية..
"{إهدنا الصراط المستقيم} أي دلنا وأرشدنا ووفقنا للصراط المستقيم، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله وجنته، وهو معرفة الحق والعمل به" (السعدي) والهداية نوعان، مجملة وهي الهداية إلى الإسلام بالاستمرار في لزومه، وهداية تفصيلية هي الهداية إلى الحق ولزومه في تفاصيل الإسلام من أركان وشعائر وغيرها..
{صراط الذين أنعمت عليهم} وفي القرآن آية تفسر من هم الذين أنعم الله عليهم وهي قوله تعالى {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}(النساء:69) وقد أنعم الله عليهم كذلك عندما وفقهم للزوم الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه..
{غير المغضوب عليهم}. أما المغضوب عليهم، فهم كل من تبين لهم الحق وعلموه ولم يتبعوه، ومثالهم اليهود.. فنحن ندعوا الله تعالى أن يحفظنا من أن نسلك مسلكهم فيغضب علينا كما غضب عليهم.. ولم يقل"غير صراط المغضوب عليهم" لأنهم لا صراط لهم أصلا! بل هم أتباع سُبل الباطل والأهواء وشياطينها..
{ولا الضالين}. والضال هو كل من ضل عن الحق لأمرين، الأول أنه جهِله، والثاني أنه لم يُكلف نفسه عناء البحث، فلو فعل لهداه الله تعالى- إن شاء سبحانه-، خصوصا أن الحق واضح أكثر من وضوح الشمس.. فعاش في ضلال أكثر من ضلال الأنعام.. ومثالهم أغلب النصارى ومن سلك مسلكهم..
والأصناف الثلاثة المذكورة هي الموجودة على مر الزمان، إما مهديين- نسأل الله أن نكون منهم-
أو مغضوبا عليهم أو ضالين.. فانظر -رعاك الله- لعَظمة هذه المعاني، ومدى تأثيرها على خشوعك إذا أحسنت التأمل فيها وحرصت على الاستمرار في ذلك..
أما الآن أيها المتأمل، فخذ نفسا عميقا.. وأعِد قراءة الفاتحة مع استحضار المعاني السابقة.. وستَلْحَظ الفارق بين تلاوتك السابقة وبين تلاوتك بعد تدبر المعاني! وأعِد قراءة هذا النص كلما بدأ يتسرب إليك النسيان حتى تتركز المعاني في قلبك.. ولنا لقاء قادم بحول الله تعالى مع حلقة قادمة فتابعونا بإذن الله تعالى..
*الحلقة الخامسة (في هيئة القراءة وطريقتها وما يستحضره المصلي في صلاته)
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على إمام المرسلين. وبعد..
أملي أن يكون إخوتي قد اطّّلعوا على الحلقات السابقة، لأن كل حلَقة مرتبطة بالتي تَليها.. وها نحن نلتقي من جديد في رحلتنا في مجاهدة أنفسنا من أجل الخروج بصلاة من النوع الممتاز، والحرص على عدم وضع سلاح التحدي؛ تحدي الاسترسال في الأفكار، تحدي الانشغال بالدنيا، أو مجرد السهو دون التفكير في شيء محدد..
تحدثنا في الحلقة السابقة عن فاتحة الكتاب ولامسنا بعض معانيها الجليلة.. وأشرنا إلى التأثير الإيجابي لاستحضار هذه المعاني لتحصيل الخشوع بإذن الله تعالى، ونتحدث في هذه الحلقة عن أمور لا تقل أهميتها عن سابقاتها كهيئة القراءة وما الذي يجب استحضاره عند الوقوف في الصلاة لأجل تحصيل الخشوع والمحافظة عليه..
فعند قراءة المصلي للقرآن يجب أن يعلم بأنه " قام في مقام مخاطبة ربه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرض لِـمَقته وسخَطِه، بأن يناجيه ويخاطبه وقلبه معرض عنه، ملتفت إلى غيره. فإنه يستدعي بذلك مقته، ويكون بمنزلة رجل قرّبه ملك من ملوك الدنيا، وأقامه بين يديه، فجعل يخاطب الملك وقد ولاّه قفاه، أو التفت عنه بوجهه يمنة ويسرة.. فما الظن بمقت الملك الحق المبين رب العالمين وقيوم السماوات والأرضين" (أسرار الصلاة 77 لا بن القيم)
كما ينبغي للمصلي "أن يقف عند كل آية للفاتحة وقفة يسيرة ينتظر جواب ربه له كأنه يسمعه وهو يقول "حمدني عبدي" إذا قال {الحمد لله رب العالمين}.
فإذا قال: {الرحمن الرحيم} وقف لحظة ينتظر قوله " أثنى علي عبدي".
فإذا قال: {ملك يوم الدين} انتظر قوله: "مجدني عبدي".
فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} انتظر قوله: "هذا بيني وبين عبدي".
فإذا قال: {إهدنا الصراط المستقيم..} إلى آخرها انتظر قوله: "هذا لعبدي ولعبدي ما قال"........." (المصدر السابق، والحديث في صحيح مسلم)
وانتظارك هو لأجلك أنت، وليس من أجل ترك الوقت لجواب الله تعالى، فهو سبحانه لا يخضع لزمان..
وبهذا الانتظار والتأمل يطمئن المصلي لهذه الإجابات الشافية من رب ودود، ويستشعر أن ربه عز وجل يحبه ويريد له الهداية والرشاد ولا يرضى له الغواية والضلال.. وبعد التأمين اتلُ ما تيسر لك من القرآن، إما من قِصار السور أو من آيات أخَرْ، واحرص على تدبر معانيها هي كذلك..
ولأستحضر في صلاتي أنني لن أخرج منها حتى أنهيها فلِما لا أجعلها صلاة هادئة مطمئنة مرصعة بالسكينة والخشوع؟ ولأستحضر كذلك أنه ليس لي من صلاتي إلا ما عقلت وأنا واقف لا محالة، فلماذا أرضى بالغُبن وضياع الأجر!؟ ولأستحضر أيضا أني إذا صليت الصلاة فلن أجدها إلى يوم الحساب، فمثلا، إذا صليت الظهر في يوم الخامس عشر من شوال لعام 1427، فهذا الظُهر لن أجده ولن يعود إلا في يوم الحساب، وما بعده ليس إلا ظُهر يوم آخر، فإن أحسنت فيه فلنفسي وإن أسأت فعليها، فلماذا أضيع هذه الفرص التي لا تتكرر، وإلى متى سأضل أضع في حسابي صلوات ناقصات الإتقان وهي لن تعود إلى يوم الجزاء، فلأستيقظ من هذا الغبن الكبير، فلست بالخِبِّ ولا الخبُ يخدعني..
وأشير إليك أيها الخاشع أن هذه الاستحضارات تكون سريعة جدا مدمجة في بعضها لا تشغلك عن المقصود الأسمى بل تكون عونا لك عليه بإذن الله تعالى..
فيا أيتها النفس اخشعي ولربك اخضعي! فقد استعذت بالله من الشيطان في بداية الصلاة فما بقيت إلا أنت!واللهَ أسأل أن ينصرني عليك، وهو المستعان..
ولقاؤنا بإذن الله في الحلقة القادمة يتجدد، فتابعونا لنيل المراد بتحصيل الخشوع والطمأنينة والسكينة في الصلاة لتكون لنا إن شاء الله راحة للأذهان والأجسام، فتابعونا إن شاء الله تعالى..
* الحلقة السادسة (في أسرار وضعيات الصلاة و معاني الذكر فيها)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وبعد..
تحدثنا في الحلقة السابقة عن هيئة القراءة وما يستحضره المصلي ليزداد في صلاته خشوعا، وفي هذه الحلقة نتحدث بإذن الله عن بعض أسرار حركات ووضعيات الصلاة، ودورها في خشوع المصلي، ونتحدث كذلك عن المعاني العظيمة للأذكار التي تأتي فيها ،وبالله نستعين..
إعلم أيها الخاشع أن الله "قد شرَع لعباده من أنواع العبادات ما يظهر فيه خشوع الأبدان الناشئ عن خشوع القلب وذله وانكساره، ومن أعظم ما يظهر فيه خشوع الأبدان لله تعالى من العبادات الصلاة" (ابن رجب الحنبلي)
وقد أُمر المصلي "بأن يستقبل القبلة بوجهه ويستقبل الله تعالى بقلبه لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيده عليه، وألقى بيديه مسلما مستسلما ناكِس الرأس، خاشع القلب مُطرِق الطرْف لا يلتفت قلبـُُه عنه ولا طَرْفة عين، لا يُـمنة ولا يُسرة.." (ابن القيم)
واعلم - رعاك الله- أنه بالإضافة إلى اتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم -وهذا يكفي- يوجد في رفع اليدين في بداية الصلاة لطائف منها أنه يجعلك تستشعر الدخول في صلاتك بحركة خاصة -وتلمس الفارق لو قمت بالدخول في صلاتك دون رفعهما- ثم تأتي بدعاء الاستفتاح مع استحضار ما سبق معنا من معانيه الجميلة، فتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم مع التأمل في مفاهيم الألفاظ وأسرارها - كما رأينا من قبل- وبعد ذلك تشرع بتلاوة الفاتحة مستحضرا نفائس ولطائف إشاراتها التي وقفنا عليها في الحلقات السابقة، وبعدها تقرأ ما تيسر لك من القرآن مع الحرص على ما ورد في السنة كقراءة سورة الشمس وسورة الضحى في صلاة الضحى كمثال، أما إن لم يثبت شيء فاقرأ ما أحببت من القرآن..
وحاول بكل تحدي للنفس استشعار وقوفك بين يدي الله تعالى، وأنه يراك ويسمعك ويعلم ما في قلبك وفِكرك، وأن ما تتلو من القرآن خطاب وتشريف لك من الله تعالى، فلتكن في مستوى هذا التكريم..
وبعد ذلك تُكَبّر الله. وقد شُرع هذا "التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من ركن إلى ركن كالتلبية في انتقالات الحاج من مشعر إلى مشعر، فهو شعار الصلاة كما أن التلبية شعار الحج، ليعلم العبد أن سر الصلاة هو تعظيم الرب تعالى بعبادته وحده" (ابن القيم)
ولتستحضر أيضا عند تكبيرك أن أمر حضور الذِهن مع الجسد أمام الله تبارك وتعالى أَوْلَى وأعظم من أي شيء يمكن أن تنشغل به في صلاتك، فقوْلك: الله أكبر، إقرار منك أن الله تعالى أكبر من أي شيء ولن تنشغل عنه بشيء أبدا، فاحرص على ألا يخالف قولُك حالَك..
"الله أكبر" ها أنت الآن راكع بين يدي الله تعالى..فتخيل ركوعك يا عبد الله، وقد استويت وبَسطت ظَهرك، غير رافعٍ ولا منكّسٍ رأسك، ثم قلت في تُؤَدة وترَيُّث وخشوع: "سبحان ربي العظيم" (ثلاثا أو أكثر) مستحضرا بذلك أن التسبيح هو تَنْـزيه الله تعالى عن أي نقص، قارنا هذا التسبيح بتعظيمه سبحانه في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وكل ما يخطر ببالك فالله أعظم منه ولن تحيط به علما.. فتنزهه عن النقص وتعظمه.. وتستحضر تشريفه لك حيث أذِن لك بالركوع بين يديه، وقد حُرِم منه أقوام عندما قيل لهم اركعوا فأبوا، فاصطفاك، ولم يجعلك من المغضوب عليهم ولا من الضالين.. وشرفك بأن تقول له "ربي" أي خالقي ورازقي ومدبر أمري..
" سمع الله لمن حمده" أي سمع سماع إجابة، فيجيبك بعد حمدك له، ولهذا تُبادر أنت بأن تقول "ربنا ولك الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه"- وهذا في البخاري- وفي مسلم إضافة "ملء السماوات وملء الأرض وما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد. أهلَ الثناء والمجد، أحقُ ما قال العبدُ وكلنا لك عبد. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَد" والجد بفتح الجيم في اللفظين أي لا ينفع صاحب الغِنى عندك غناه، ومفهومها أنه لا ينفعه إلا العمل الصالح..
وفي حمدك لله تعالى ارتباط وثيق بما كنت عليه في ركوعك، فقد استويت ورجعت إلى أحسن تقويم.. فتحمد الله على ذلك.. وقد كنت في ركوعك تنزه الله تعالى عن كل نقص وتعظمه، ثم لما استويت حمدته سبحانه، والحمد هو الثناء على الله بصفات الكمال، ففي الركوع تنزيه وتعظيم، وفي الاستواء ثناء.. وكثير ما يقترن التسبيح بالحمد، ومثال ذلك الكلمتان الخفيفتان على اللسان الثقيلتان في الميزان، فتأمل..
وتأمل معي قولك: "سمع الله لمن حمده" ففي ذلك إخبار من الله تعالى أنك لو حمدته يستجيب لك، فتبادر أنت بحمده لنيل المراد.. فلم يبقى إلا أن تقترب، ولهذا أذن لك الله بأن تُكَبِّر فتخِرّ ساجدا لتدعوه في هيئة هي الأقرب ما يكون العبد إلى ربه، ولسان حالك يقول "ها أنا قد حمدتك يا مولاي، وأنت تسمع لمن حمدك، وها أنا ساجد بين يديك، لأنزهك عن كل نقص وأدعوك وأتوسل إليك.." فتقول: "سبحان ربي الأعلى" (ثلاثا أو أكثر) وتدعو مولاك وتُكْثر الدعاء بعد الثناء.. لأنك منه قريب، فلا تضيع الفرصة، فقد تكون آخر سجدة.. وبعد ذلك ترفع رأسك من سجودك مكبرا، وتعتدل في جلوسك إجلالا لربك، وإذنا منه ليرتاح جسمك.. ثم تقول في خشوع وخضوع "رب اغفر لي رب اغفر لي" (أبو داود وصحيح ابن ماجه) ويمكنك أن تكررها عدة مرات.. أو تقول"اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، واجبرني، وعافني، وارزقني، وارفعني" (أصحاب السنن إلا النسائي وصحيح الترمذي وصحيح ابن ماجه) ومن هذا الدعاء يتضح فضل الاستغفار.. ثم تكبر ساجدا مرة ثانية، مستحضرا دائما معنى التكبير ومتطلباته كما أشرنا من قبل.. وبقي معنا التشهد في الصلاة..و قبل ذلك نشير أنه علينا عدم ترك الفرصة للعدو الحقير أن يسبب في انتقاص أجر صلاتنا بالسهو وانتظار سلام الإمام لنخرج من الصلاة، بل إنه من جُملة خواتيم الأعمال التي إن أحسنا فيها عاد ذلك بالفضل على سائر العمل..
أيها الخاشع أنت الآن بين يدي الله، فكيف تسمح للشيطان من انتقاص أجرك بالسهو أثناء التشهد، إنه لا سلطان له عليك، فزده غيظا واخشع عند التشهد وتأمل في معاني كلماته كما فعلت مع تلاوة القرآن وباقي الأذكار في الأركان.. فعلى بركة الرحمن..
"التحيات لله والصلوات والطيبات" التحيات هي كل ما يُحيّى به من قول أو فعل جميل وحسُن أن يحيّى به الله إشارة لاستحقاق الله تعالى للتحيات- الثابثة شرعا- وأنه سبحانه هو الأهل بها ومستحقها.. والصلوات جمع صلاة وهي لغة الدعاء واصطلاحا صلواتنا المعروفة التي نقصد بها وجه الله، وسميت صلاة لغلبة الدعاء عليها، فيكون معنى الصلوات لله أن كل صلاتنا ودعائنا واستغفارنا وعبادتنا لله وحده لا نشرك به شيئا. والطيّبات هي كل ما طاب من القول وحسن أن يُثنى على الله به - يعني أن يكون واردا صحيحا- وكذلك ما طاب من الفعل وحسن أن يوجه إلى الله تعالى..
"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" تخيّل المقام الذي أنت فيه.. مَن جعله الله سببا لإيصالك إليه؟ أفلا يستحق أن تسلم عليه؟ إستجابة لله تعالى.. واعترافا لهذا الرجل الكريم بعِظم جميله عليك، وبما أصابه لأجلك.. وبشفاعته لك بإذن الله فصلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا..
"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" وهذا السلام من فضل الله علينا إذْ قرَننا سبحانه بعباده الصالحين.. فأي فضل هذا وأي خير!؟ وهي كذلك بشرى بأننا بإذن الله منهم ما دمنا نشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ونأتي بمتطلباتها ونتجنب نواقضها.. وقد ورد في الصحيحين أن العبد إذا قال "وعلى عباد الله الصالحين" {أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض}(متفق عليه)، وتنطق بالشهادتين. ثم تأتي بعد ذلك بالصلاة الإبراهيمية مستحضرا أن صلاة الله على الرسول صلى الله عليه وسلم هي ثناؤه عليه في الملئ الأعلى.. ولا تخرج من صلاتك حتى تغنم من الدعاء بعد التشهد وقبل التسليم من الصلاة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ينتهي من التشهد ويريد أن يسلم. قبل تسليمه يدعو بهذا الدعاء المروي عن السيدة عائشة رضي الله عنها "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات. اللهم إني أعوذ بك من المَأثَم والمَغرَم" (رواه البخاري) والمأثم بمعنى الذنوب، والمغرم هو الدَين يعجز صاحبه عن أدائه.. وبعد ذلك له أن يدعو بما شاء لأنه ثبت أن الدعاء مستجاب بعد التشهد وقبل التسليم من الصلاة.. ثم تسلم من الصلاة، وتأتي بالذكر الوارد بعدها، واحرص على الاطلاع على صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قال، "صلوا كما رأيتموني أصلي"
وأحب أضع بين يديك كلاما لابن القيم حيث قال : "وسِرّ الصلاة وروحها ولُبها، هو إقبال العبد على الله بكُليته، فكما أنه لا ينبغي أن يَصْرف وجهه عن القبلة إلى غيرها، فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربه إلى غيره... وعلى حسْب إقبال العبد على الله في صلاته يكون إقبال الله عليه، وإن أعرض أعرض الله عنه، وكما تَدين تُدان" (أسرار الصلاة)
كيف حال قلبك!؟ بخير إن شاء الله؟ لا تيأس من رحمة الله.. سننال المراد إذا سألناه العون واستعذنا به من أن يكِلنا إلى أنفسنا، فالقلوب بين أصبعين من أصابعه سبحانه يقلّبها كيف يشاء..
فنسأله سبحانه الثبات على دينه حتى نلقاه، وبصلاة مقبولة بحول الله .. وختاما أسأل الله تعالى العفو عما كان مني من الزلل والنسيان، ولا تنسوا أخاكم من خالص دعائكم، كما أسأل الله تعالى وأن يجعل هذا العمل لوجهه خالصا.. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..