أبوالزبير
23 Nov 2006, 02:34 AM
كيف نختلف
جرت عادة الكتَّاب والمتحدثين أن يضعوا نتائج البحث في آخر أبحاثهم وكتاباتهم ؛
بينما نحن الآن نقدم بذكر النتائج التي توصل إليها كثيرون من خلال تجارب مُرّة،
ومحاولات عديدة تمثلت عصارتها في هذين البيتين :
بَحَثْتُ عَن الأَدْيَانِ فِي الأَرْضِ كُلِّهَا
وَجُبْتُ بِلادَ اللهِ غَرْباً وَمَشْرِقَا
فَلَمْ أَرَ كَالإِسْلامِ أَدْعَى لأُلْفَةٍ
ولا مِثْلَ أَهْـــلِيهِ أَشَدَّ تَفَرُّقَا
هل تمتلك أمة من الأمم في الأرض كلها هذا التراث، الذي نمتلكه نحن من القرآن
الكريم، وحديث النبي العظيم، والتاريخ الإسلامي الذي يرشدنا إلى أهمية الاتحاد
واجتماع الكلمة؛ ليرقى بذلك ليكون أصلاً من أصول الدين، وأمراً ربانياً تضمَّنه
القرآن الكريم، وتأكيداً نبوياً فيما لا يحصى من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وتطبيقاً
عملياً لحياة الصحابة والتابعين؟!
بينما تجد واقع المسلمين يُنبئ عن قدر كبير من الاختلاف، والتباعد، والتطاحن حول
قضايا، ربما تكون مفهومة أحياناً، وغير مفهومة في كثير من الأحيان.
كلنا نتحدث بهدوء عن أخلاقيات الاختلاف، وقد نضع نظريات جميلة من الناحية
اللفظية، لكنَّ القليل منا هم أولئك الذين يستطيعون أن يطبقوا هذه النظريات،
ويحولوها إلى واقع في سلوكهم العملي، وفي علاقاتهم مع الآخرين حينما يختلفون
معهم، ولعل السر في ذلك أننا نلتمس من الآخرين أن يلتزموا بأخلاقيات الخلاف
حينما يختلفون معنا، لكننا لا نلتمس من أنفسنا الالتزام بهذه الأخلاقيات حينما نختلف
معهم.
إننا بحاجة إلى تدريس أدب الخلاف في مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا، وتدريب الشباب
والفتيات على ممارسته عملياً؛ ليتحول إلى عادة وإلى عبادة في الوقت ذاته.
أما أنه عبادة؛ فلأنه طاعة لله ورسوله واتباع لسنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
وأما أن يتحول إلى عادة؛ فحين يتربى المرء عليه، ويصبح سجية وطبعاً لا يتكلفه،
ولا يشق عليه.
أهمية أدب الخلاف
الجميع بحاجة إلى مراعاة أدب الخلاف وأخلاقيات الحوار
يحتاج إليه الحاكم؛ ليحفظ حقوق رعيته، حتى ممن يختلفون معه؛ كما حفظ النبي
صلى الله عليه وسلم حقوق الناس كلهم؛ فحفظ حقوق المخالفين بالمدينة من اليهود
والمنافقين، أما أصحابه فلا تسأل عن صبره وصفحه وتجاوزه وإنصافه من نفسه
عليه الصلاة والسلام، وإعطائه الحق لطالبه، وكما حفظ أصحابه العهد من بعده، فهذا
علي بن أبي طالب حينما انشق عنه الخوارج في مواجهة عسكرية أضرت بالتاريخ
والخلافة والفتح الإسلامي ـ يتحدث عنهم ويقول:إخواننا بغوا علينا، ويرفض أن
يصفهم بكفر أو غير ذلك، ثم يحفظ لهم حقوقهم ما لم يحملوا السلاح ويُخيفوا السبيل،
ويستحلوا الدم الحرام.يحتاج إليه العالِم ليحفظ حقوق الطلاب، ويعدل بينهم ويُحسن الظن بأسئلتهم
وإشكالاتهم واعتراضاتهم، ويفتح لهم صدره، ويربيهم على المسؤولية المستقلة،
وليس على الذوبان في شخصية الشيخ ليخرج لنا سادة نبلاء نجباء، وليس مقلدين
أتباعاً ضعفاء.
يحتاج إليه الأب تحبُباً إلى قلوب ولده، وعذراً لهم فيما خالفوه فيه، وإدراكاً أنهم صغار
قوم كبار آخرين، فليس المطلوب أن يكون الولد أو أن تكون البنت صورة طبق
الأصل عن الوالد، أو الأبوين، بل للولد بصمته الخاصة في فكره وعقله، كما له
بصمته في يده، أو في كلمته، أو في عينه، أو في بنانه، أو في نبرة صوته.
نعم! نحن نتحدث، ويجب أن نتحدث عن أدب الخلاف، لكن نحتاج إلى وضع آليات
لإدارة الخلاف، الذي يقع بيننا ولابد أن يقع .
ساحات الحوار
عصرنا عصر انفتاح، تكسرت فيه الحدود والسدود، وتحطمت الحواجز، يحكى عن
بشر بن مروان- وكان يُظنُّ به شيء من الغفلة- أنه ضاع له صقر في المدينة؛ فأمر
بإغلاق أبوابها لئلا يذهب الصقر، ونسي أنه يطير في الفضاء.
نحن اليوم في عصر الفضاء، وفي عصر الإنترنت، حتى الحكومات أدركت أن أسلوب
المنع والحظر والتشويش لم يعد يجدي، وأن الحل الوحيد هو النزول إلى الميدان،
ومقابلة الحجة بالحجة.
مجالس الناس أصبحت اليوم عامرة بالمتناقضات، من الآراء والتوجهات والأقاويل،
مما يعتقدون وما لا يعتقدون، وما يدركون وما لا يدركون، ولم يعد مُجدياً تسفيه
الآخرين مهما تكن ضحالة أفكارهم، أو تفاهة حججهم، بل لابد من الاستماع إليهم،
ومنحهم الأهمية والاحترام، ومقارعة الفكر بالفكر، فالتناسب بين الداء والدواء
ضروريٌ حتى يتقبل الجسم العلاج، وينتفع به.
لقد أصبح الإنترنت وساحات الحوار ـ وهي كثيرة جداً تعد بالمئات باللغة العربية،
فضلا عن التعليقات في كل مواقع الإنترنت ـ مرآةً تكشف الخلل الكبير في آلية
الحوار، وفي تجاهل الكثيرين لدائرة المتفق عليه بين المؤمنين والمسلمين، وأهل
العلم، وأهل الدعوة، وأهل السنة، وهي دائرة واسعة جداً ، سواءً فيما يتعلق بالدين
وفهمه، أو فيما يتعلق بالمصلحة وإدراكها وتحقيقها، أصبح هناك تجاهل كبير لدائرة
المتفق عليه، وعمل واسع على دائرة المختلف فيه، وترتب على ذلك سلبيات في هذا
الحوار الإلكتروني كثيرة، منها:
1) إن لم تكن معي فأنت ضدي، أو بمعنى آخر إما صفر أو مائة في المائة؛ فهناك
المفاصلة بل والمقاصلة، بمجرد أن أكتشف أن بيني وبينك نوعاً من الاختلاف أو
التفاوت ـ حتى لو كان في مسائل جزئية أو صغيرة ـ نتحول إلى أعداء ألداء، بدلاً من
أن نكون أصدقاء أوفياء.
2) الخلط بين الموضوع والشخص؛ فيتحول نقاش موضوع معين، أو فكرة، أو مسألة
إلى هجوم على الأشخاص، وتجريح واتهام للنيّات، واستعراض لتاريخ هذا الإنسان
أو ذاك، وبالتالي تتحول كثير من الساحات إلى محيط للفضائح والاتهامات وغيرها من
الطعون غير المحققة.
3) تدنّي لغة الحوار، وبدلاً من المجادلة بالتي هي أحسن تتحول إلى نوع من السب
والشتم، وكما يقول الأئمة الغزالي, وابن تيمية, والشاطبي, وغيرهم أنه لو كان
النجاح والفلاح بالمجادلة بقوة الصوت والصراخ أو بالسب والشتم لكان الجهلاء
أولى بالنجاح فيه، وإنما يكون النُّجْحُ بالحجة والهدوء، وفي المثل: العربة الفارغة
أكثر جَلَبَةً وضجيجاً من العربة الملأى.
4) القعقعة اللفظية؛ التي نحقق بها أوهام الانتصارات الكاسحة على أعدائنا، ونحرك
بها مسيرة التنمية والإصلاح لمجتمعاتنا زعماً وظناً، وقد تسمع من يقول لك: كتب
فلان مقالاً قوياً، فتنتظر من هذا المقال أن يكون مقالاً عميقاً، أبدع فيه وأنتج، وخرج
بنتيجة جيدة، أو أحصى الموضوع من جوانبه؛ فإذا بك تجده مقالاً مشحوناً بالألفاظ
الحادة والعبارات الجارحة ، التي فيها الإطاحة بالآخرين الذين لا يتفقون معه؛ فهذا
سر قوة هذا المقال عند بعضهم.
5) الأحادية، وأعني بها: " مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" بحيث
يدور الشخص حول رأيه ووجهة نظره، التي ليست شرعاً منزلاً من عند الله تعالى،
ولا قرآناً يُتلى، ولا حديثاً، ولا إجماعاً، وإنما هو رأي قصاراه أن يكون صواباً.
6) القطعية؛ وأعني بها قولي صواب لا يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ لا يحتمل
الصواب،
7)ثم هناك التسطيح والتبسيط، فالأشياء التي لا نفهمها أو يشق علينا فهمها، أو
تحتاج إلى روية وتأمل وتدبر، هي أشياء خاطئة ومخالفة للحق، ومخالفة للسنة،
بينما الأشياء البسيطة السطحية السهلة الفهم يُخيل إلينا أن فيها الحق والصواب،
وأنها الموافقة للكتاب، وهكذا ما تجده في القنوات الفضائية، فكم من برامج
الحوارات التي تُدار, ويتناطح فيها أقوامٌ من كافة الاتجاهات والمذاهب والمشارب؛
فتجد الصخب واللجاج، وانتفاخ الأوداج، والصفاقة والإحراج، وخذ إليك بعض الأمثلة
التي وقفت عليها هنا أو هناك:
فلانٌ لا كرامة له عند الله تعالى، وعند كل موحدٍ لله العظيم.
فانظر الجراءة على الله سبحانه وتعالى وعلى عباده الصالحين، وأن تتحول أذواقنا،
أو مشاعرنا السلبية تجاه هذا الشخص الذي لا نحبه أو لا نحترمه إلى الحكم على
منزلته عند الله وعند أولياءه.
فلان مات؛ فإلى جهنم وبئس المصير .
وقد تُقال هذه الكلمة في حق إمام عظيم، أو شيخ فاضل، أو داعية صادق، أو مؤمن
نحسبه والله حسيبه، ولكنَّ الذين لا يفقهون يتجرءون ويطلقون ألسنتهم ولا يتورعون.
فلانٌ منحرف في العقيدة مفتون في نفسه، وقد يكون أصفى من القائل عقيدة، وأصدق
منه مذهباً، وأقوم بالكتاب والسنة.
فلان من المنافقين، وكأن صاحبنا أخذ من حذيفة بن اليمان؛ بل كأنه تلقى من جبريل
الأمين، وهذا كله يقتضي تزكية النفس، والثناء عليها بشكل مباشر أو غير مباشر؛
فيقول عن نفسه: إنه من الناجين، ومن المؤمنين الصادقين، ومن المخلصين، وإنه
أغير على دين الله وأنصح لعباده، وماذا تتوقع أن يكون الحوار إذا اعتقد كل طرف أن
ما هو عليه صواب قطعي، وأن ما عليه خصمه خطأ قطعي؟
وقد تكون المسألة كلها محل نظر وتردد، وليس فيها نص عن الله ولا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وحتى في حالة القطع حينما يكون ما تقوله صواباً قطعاً، وما
يقوله الآخر خطأً قطعاً؛ فإن من الحكمة أن تبدأ الدعوة والحوار بدائرة المتفق عليه،
كما علمنا ربنا عز وجل: " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا
نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"[آل عمران:64]، بل علمنا الله -تبارك وتعالى- أعظم
من هذا في قوله سبحانه وتعالى : "قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا
تَعْمَلُونَ"[سبأ25:24] ؛ فانظر كيف عبر بلفظ الإجرام "لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا"،
أما ما يعمله الآخرون فقال: "وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ" وهذا من باب التنزل للخصم
كما يُقال، وقال الله سبحانه وتعالى: "قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ
أَهْدَى سَبِيلاً"[الإسراء:84].
إن هدوء الإنسان، واستقرار نفسه، وهدوء لغته، وحسن عبارته، وقوة حجته هو
الكفيل بأن تنصاع له القلوب، وأن يصل الحق الذي يحمله إلى أفئدة الآخرين، وأن
يتغلب على باطلهم.
لقد أصبحنا مسخرة للشعوب والخلق والأمم؛ خاصة ونحن في عصر صار العالم فيه
كله قرية صغيرة بل غرفة واحدة يسمع فيها القاصي كلام الداني، وهذا الجدل المحتدم
العقيم بيننا في قضايا لا تقدم ولا تؤخر، ولا تُثمر، ولا تغني ، ولا تنفع ولا تدفع، ولا
تقيم دنيا ولا تصلح آخرَة.
إن هذا الجدل على مرأى ومسمع من أعدائنا وخصومنا في القريب والبعيد، ولعلهم
يقولون لنا: اتفقوا أولاً على الدين الذي تقدمونه لنا، والتصور والفكر الذي تطرحونه،
ثم تعالوا لدعوتنا، ولقد كُتب لي يوماً من الأيام أن نشرت مقالاً بعنوان: (بيني وبين
ابن جبرين)، وكان يتعلق بقضايا مما يثور ويدور فيها الخلاف بين بعض أهل السنة
وبعض أهل الدعوة، وكنت أظن أن صدى هذا المقال لا يتجاوز حدود رفاقنا وأصحابنا
ومن حولنا؛ فإذا بي استقبل ردود فعل من أمريكيين وأمريكيات من غير المسلمين ولا
العرب، وإذا بهم يقرءون السطور وما وراء السطور، ويعلقون تعليقات تدل على دقة
متابعتهم، وشدة اهتمامهم، ومعرفتهم بكثير من القضايا، ربما أكثر مما يعرفها بعض
المتخصصين فيها.
مقال لشيخنا الفاضل سلمان العودة وفقه الله
جرت عادة الكتَّاب والمتحدثين أن يضعوا نتائج البحث في آخر أبحاثهم وكتاباتهم ؛
بينما نحن الآن نقدم بذكر النتائج التي توصل إليها كثيرون من خلال تجارب مُرّة،
ومحاولات عديدة تمثلت عصارتها في هذين البيتين :
بَحَثْتُ عَن الأَدْيَانِ فِي الأَرْضِ كُلِّهَا
وَجُبْتُ بِلادَ اللهِ غَرْباً وَمَشْرِقَا
فَلَمْ أَرَ كَالإِسْلامِ أَدْعَى لأُلْفَةٍ
ولا مِثْلَ أَهْـــلِيهِ أَشَدَّ تَفَرُّقَا
هل تمتلك أمة من الأمم في الأرض كلها هذا التراث، الذي نمتلكه نحن من القرآن
الكريم، وحديث النبي العظيم، والتاريخ الإسلامي الذي يرشدنا إلى أهمية الاتحاد
واجتماع الكلمة؛ ليرقى بذلك ليكون أصلاً من أصول الدين، وأمراً ربانياً تضمَّنه
القرآن الكريم، وتأكيداً نبوياً فيما لا يحصى من الأحاديث الصحيحة الصريحة، وتطبيقاً
عملياً لحياة الصحابة والتابعين؟!
بينما تجد واقع المسلمين يُنبئ عن قدر كبير من الاختلاف، والتباعد، والتطاحن حول
قضايا، ربما تكون مفهومة أحياناً، وغير مفهومة في كثير من الأحيان.
كلنا نتحدث بهدوء عن أخلاقيات الاختلاف، وقد نضع نظريات جميلة من الناحية
اللفظية، لكنَّ القليل منا هم أولئك الذين يستطيعون أن يطبقوا هذه النظريات،
ويحولوها إلى واقع في سلوكهم العملي، وفي علاقاتهم مع الآخرين حينما يختلفون
معهم، ولعل السر في ذلك أننا نلتمس من الآخرين أن يلتزموا بأخلاقيات الخلاف
حينما يختلفون معنا، لكننا لا نلتمس من أنفسنا الالتزام بهذه الأخلاقيات حينما نختلف
معهم.
إننا بحاجة إلى تدريس أدب الخلاف في مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا، وتدريب الشباب
والفتيات على ممارسته عملياً؛ ليتحول إلى عادة وإلى عبادة في الوقت ذاته.
أما أنه عبادة؛ فلأنه طاعة لله ورسوله واتباع لسنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
وأما أن يتحول إلى عادة؛ فحين يتربى المرء عليه، ويصبح سجية وطبعاً لا يتكلفه،
ولا يشق عليه.
أهمية أدب الخلاف
الجميع بحاجة إلى مراعاة أدب الخلاف وأخلاقيات الحوار
يحتاج إليه الحاكم؛ ليحفظ حقوق رعيته، حتى ممن يختلفون معه؛ كما حفظ النبي
صلى الله عليه وسلم حقوق الناس كلهم؛ فحفظ حقوق المخالفين بالمدينة من اليهود
والمنافقين، أما أصحابه فلا تسأل عن صبره وصفحه وتجاوزه وإنصافه من نفسه
عليه الصلاة والسلام، وإعطائه الحق لطالبه، وكما حفظ أصحابه العهد من بعده، فهذا
علي بن أبي طالب حينما انشق عنه الخوارج في مواجهة عسكرية أضرت بالتاريخ
والخلافة والفتح الإسلامي ـ يتحدث عنهم ويقول:إخواننا بغوا علينا، ويرفض أن
يصفهم بكفر أو غير ذلك، ثم يحفظ لهم حقوقهم ما لم يحملوا السلاح ويُخيفوا السبيل،
ويستحلوا الدم الحرام.يحتاج إليه العالِم ليحفظ حقوق الطلاب، ويعدل بينهم ويُحسن الظن بأسئلتهم
وإشكالاتهم واعتراضاتهم، ويفتح لهم صدره، ويربيهم على المسؤولية المستقلة،
وليس على الذوبان في شخصية الشيخ ليخرج لنا سادة نبلاء نجباء، وليس مقلدين
أتباعاً ضعفاء.
يحتاج إليه الأب تحبُباً إلى قلوب ولده، وعذراً لهم فيما خالفوه فيه، وإدراكاً أنهم صغار
قوم كبار آخرين، فليس المطلوب أن يكون الولد أو أن تكون البنت صورة طبق
الأصل عن الوالد، أو الأبوين، بل للولد بصمته الخاصة في فكره وعقله، كما له
بصمته في يده، أو في كلمته، أو في عينه، أو في بنانه، أو في نبرة صوته.
نعم! نحن نتحدث، ويجب أن نتحدث عن أدب الخلاف، لكن نحتاج إلى وضع آليات
لإدارة الخلاف، الذي يقع بيننا ولابد أن يقع .
ساحات الحوار
عصرنا عصر انفتاح، تكسرت فيه الحدود والسدود، وتحطمت الحواجز، يحكى عن
بشر بن مروان- وكان يُظنُّ به شيء من الغفلة- أنه ضاع له صقر في المدينة؛ فأمر
بإغلاق أبوابها لئلا يذهب الصقر، ونسي أنه يطير في الفضاء.
نحن اليوم في عصر الفضاء، وفي عصر الإنترنت، حتى الحكومات أدركت أن أسلوب
المنع والحظر والتشويش لم يعد يجدي، وأن الحل الوحيد هو النزول إلى الميدان،
ومقابلة الحجة بالحجة.
مجالس الناس أصبحت اليوم عامرة بالمتناقضات، من الآراء والتوجهات والأقاويل،
مما يعتقدون وما لا يعتقدون، وما يدركون وما لا يدركون، ولم يعد مُجدياً تسفيه
الآخرين مهما تكن ضحالة أفكارهم، أو تفاهة حججهم، بل لابد من الاستماع إليهم،
ومنحهم الأهمية والاحترام، ومقارعة الفكر بالفكر، فالتناسب بين الداء والدواء
ضروريٌ حتى يتقبل الجسم العلاج، وينتفع به.
لقد أصبح الإنترنت وساحات الحوار ـ وهي كثيرة جداً تعد بالمئات باللغة العربية،
فضلا عن التعليقات في كل مواقع الإنترنت ـ مرآةً تكشف الخلل الكبير في آلية
الحوار، وفي تجاهل الكثيرين لدائرة المتفق عليه بين المؤمنين والمسلمين، وأهل
العلم، وأهل الدعوة، وأهل السنة، وهي دائرة واسعة جداً ، سواءً فيما يتعلق بالدين
وفهمه، أو فيما يتعلق بالمصلحة وإدراكها وتحقيقها، أصبح هناك تجاهل كبير لدائرة
المتفق عليه، وعمل واسع على دائرة المختلف فيه، وترتب على ذلك سلبيات في هذا
الحوار الإلكتروني كثيرة، منها:
1) إن لم تكن معي فأنت ضدي، أو بمعنى آخر إما صفر أو مائة في المائة؛ فهناك
المفاصلة بل والمقاصلة، بمجرد أن أكتشف أن بيني وبينك نوعاً من الاختلاف أو
التفاوت ـ حتى لو كان في مسائل جزئية أو صغيرة ـ نتحول إلى أعداء ألداء، بدلاً من
أن نكون أصدقاء أوفياء.
2) الخلط بين الموضوع والشخص؛ فيتحول نقاش موضوع معين، أو فكرة، أو مسألة
إلى هجوم على الأشخاص، وتجريح واتهام للنيّات، واستعراض لتاريخ هذا الإنسان
أو ذاك، وبالتالي تتحول كثير من الساحات إلى محيط للفضائح والاتهامات وغيرها من
الطعون غير المحققة.
3) تدنّي لغة الحوار، وبدلاً من المجادلة بالتي هي أحسن تتحول إلى نوع من السب
والشتم، وكما يقول الأئمة الغزالي, وابن تيمية, والشاطبي, وغيرهم أنه لو كان
النجاح والفلاح بالمجادلة بقوة الصوت والصراخ أو بالسب والشتم لكان الجهلاء
أولى بالنجاح فيه، وإنما يكون النُّجْحُ بالحجة والهدوء، وفي المثل: العربة الفارغة
أكثر جَلَبَةً وضجيجاً من العربة الملأى.
4) القعقعة اللفظية؛ التي نحقق بها أوهام الانتصارات الكاسحة على أعدائنا، ونحرك
بها مسيرة التنمية والإصلاح لمجتمعاتنا زعماً وظناً، وقد تسمع من يقول لك: كتب
فلان مقالاً قوياً، فتنتظر من هذا المقال أن يكون مقالاً عميقاً، أبدع فيه وأنتج، وخرج
بنتيجة جيدة، أو أحصى الموضوع من جوانبه؛ فإذا بك تجده مقالاً مشحوناً بالألفاظ
الحادة والعبارات الجارحة ، التي فيها الإطاحة بالآخرين الذين لا يتفقون معه؛ فهذا
سر قوة هذا المقال عند بعضهم.
5) الأحادية، وأعني بها: " مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" بحيث
يدور الشخص حول رأيه ووجهة نظره، التي ليست شرعاً منزلاً من عند الله تعالى،
ولا قرآناً يُتلى، ولا حديثاً، ولا إجماعاً، وإنما هو رأي قصاراه أن يكون صواباً.
6) القطعية؛ وأعني بها قولي صواب لا يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ لا يحتمل
الصواب،
7)ثم هناك التسطيح والتبسيط، فالأشياء التي لا نفهمها أو يشق علينا فهمها، أو
تحتاج إلى روية وتأمل وتدبر، هي أشياء خاطئة ومخالفة للحق، ومخالفة للسنة،
بينما الأشياء البسيطة السطحية السهلة الفهم يُخيل إلينا أن فيها الحق والصواب،
وأنها الموافقة للكتاب، وهكذا ما تجده في القنوات الفضائية، فكم من برامج
الحوارات التي تُدار, ويتناطح فيها أقوامٌ من كافة الاتجاهات والمذاهب والمشارب؛
فتجد الصخب واللجاج، وانتفاخ الأوداج، والصفاقة والإحراج، وخذ إليك بعض الأمثلة
التي وقفت عليها هنا أو هناك:
فلانٌ لا كرامة له عند الله تعالى، وعند كل موحدٍ لله العظيم.
فانظر الجراءة على الله سبحانه وتعالى وعلى عباده الصالحين، وأن تتحول أذواقنا،
أو مشاعرنا السلبية تجاه هذا الشخص الذي لا نحبه أو لا نحترمه إلى الحكم على
منزلته عند الله وعند أولياءه.
فلان مات؛ فإلى جهنم وبئس المصير .
وقد تُقال هذه الكلمة في حق إمام عظيم، أو شيخ فاضل، أو داعية صادق، أو مؤمن
نحسبه والله حسيبه، ولكنَّ الذين لا يفقهون يتجرءون ويطلقون ألسنتهم ولا يتورعون.
فلانٌ منحرف في العقيدة مفتون في نفسه، وقد يكون أصفى من القائل عقيدة، وأصدق
منه مذهباً، وأقوم بالكتاب والسنة.
فلان من المنافقين، وكأن صاحبنا أخذ من حذيفة بن اليمان؛ بل كأنه تلقى من جبريل
الأمين، وهذا كله يقتضي تزكية النفس، والثناء عليها بشكل مباشر أو غير مباشر؛
فيقول عن نفسه: إنه من الناجين، ومن المؤمنين الصادقين، ومن المخلصين، وإنه
أغير على دين الله وأنصح لعباده، وماذا تتوقع أن يكون الحوار إذا اعتقد كل طرف أن
ما هو عليه صواب قطعي، وأن ما عليه خصمه خطأ قطعي؟
وقد تكون المسألة كلها محل نظر وتردد، وليس فيها نص عن الله ولا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وحتى في حالة القطع حينما يكون ما تقوله صواباً قطعاً، وما
يقوله الآخر خطأً قطعاً؛ فإن من الحكمة أن تبدأ الدعوة والحوار بدائرة المتفق عليه،
كما علمنا ربنا عز وجل: " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا
نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"[آل عمران:64]، بل علمنا الله -تبارك وتعالى- أعظم
من هذا في قوله سبحانه وتعالى : "قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا
تَعْمَلُونَ"[سبأ25:24] ؛ فانظر كيف عبر بلفظ الإجرام "لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا"،
أما ما يعمله الآخرون فقال: "وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ" وهذا من باب التنزل للخصم
كما يُقال، وقال الله سبحانه وتعالى: "قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ
أَهْدَى سَبِيلاً"[الإسراء:84].
إن هدوء الإنسان، واستقرار نفسه، وهدوء لغته، وحسن عبارته، وقوة حجته هو
الكفيل بأن تنصاع له القلوب، وأن يصل الحق الذي يحمله إلى أفئدة الآخرين، وأن
يتغلب على باطلهم.
لقد أصبحنا مسخرة للشعوب والخلق والأمم؛ خاصة ونحن في عصر صار العالم فيه
كله قرية صغيرة بل غرفة واحدة يسمع فيها القاصي كلام الداني، وهذا الجدل المحتدم
العقيم بيننا في قضايا لا تقدم ولا تؤخر، ولا تُثمر، ولا تغني ، ولا تنفع ولا تدفع، ولا
تقيم دنيا ولا تصلح آخرَة.
إن هذا الجدل على مرأى ومسمع من أعدائنا وخصومنا في القريب والبعيد، ولعلهم
يقولون لنا: اتفقوا أولاً على الدين الذي تقدمونه لنا، والتصور والفكر الذي تطرحونه،
ثم تعالوا لدعوتنا، ولقد كُتب لي يوماً من الأيام أن نشرت مقالاً بعنوان: (بيني وبين
ابن جبرين)، وكان يتعلق بقضايا مما يثور ويدور فيها الخلاف بين بعض أهل السنة
وبعض أهل الدعوة، وكنت أظن أن صدى هذا المقال لا يتجاوز حدود رفاقنا وأصحابنا
ومن حولنا؛ فإذا بي استقبل ردود فعل من أمريكيين وأمريكيات من غير المسلمين ولا
العرب، وإذا بهم يقرءون السطور وما وراء السطور، ويعلقون تعليقات تدل على دقة
متابعتهم، وشدة اهتمامهم، ومعرفتهم بكثير من القضايا، ربما أكثر مما يعرفها بعض
المتخصصين فيها.
مقال لشيخنا الفاضل سلمان العودة وفقه الله