الشمال الغاضب
30 Mar 2004, 12:05 AM
<span style='color:darkblue'><div align="center">بسم الله الرحمن الرحيم</div>
<div align="center">كتب هذه القصة الكاتب الكبير ( فتى الادغال ) والذي حصل على افضل كاتب في الساحات العربية لعام 2003م ، وقد بلغ عدد قراء هذه القصة اكثر من 16000 قارئى .</div></span>
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
هذه القصّة ُ واقعيّة ٌ وحقيقة ٌ ، وقد حصلتْ بأحدِ المناطق ِ
حدّثنا صاحبٌ لنا ، حسيبٌ نسيبٌ أديبٌ ، ذو خُلق ٍ وكرم ٍ ، أنّهُ مرّة ً قصدَ لشراءِ بعض ِ الأغراض ِ ، من الأدواتِ الكهربائيةِ ، كأدواتِ التكييفِ والثلاّجاتِ ، هرباً من لهيبِ الشمس ِ ، وفراراً من حرارةِ الصيفِ ، وبثّاً لروح ِ التجديدِ في البيتِ ، وتغييراً لنمطِ الحياةِ ، ودفعاً للرتابةِ وملل ِ القِدَم ِ .
فذهبَ إلى مَحلٍّ مُجاور ٍ لبيتهِ ، فدلفَ إليهِ ، وهو مليءٌ بالأجهزةِ ، مُطرّزٌ بروائع ِ الديكور ِ ، مجهّزٌ بأفخم ِ الأثاثِ ، ومفروشٌ ببهيِّ الفُرُش ِ ، ممّا تغوصُ معهُ قدمُ الزائر ِ ، وتضيعُ فيهِ نعلهُ ، وأخذ َ يُقلّبُ نظرهُ ، وينقّلُ طرفهُ ، ويحدوهُ الرونقُ العذبُ ، والمنظرُ البديعُ للمكان ِ ، إلى عدم ِ الملال ِ من النظر ِ وتجوالهِ .
ثُمَّ راحَ يُبايعُ ويُماكِسُ ، ويشتري ويُساومُ ، ويزيدُ في الطلبِ ، ويُنقِصُ في الدفع ِ ، حتّى إذا قضى نُهمتهُ ، واقتضى غرضهُ ، واستوفى حاجتهُ ، خرجاً ميمّماً شطرَ سيّارتهِ ، وآخذاً بُغيتهُ .
وبينما هو مُقبلٌ على سيّارتهِ ، أتاهُ شيخٌ كبيرٌ ، متقادمُ العهدِ ، ، وقد خطّتْ تصاريفُ القدر ِ على وجههِ كتابَ الشقاءِ ، ورسمَ البؤسُ على مُحيّاهُ صورَ التعاسةِ ، فاستوقفهُ واستصرخهُ ، وعاجلهُ بالتحيّةِ ، ثمَّ ثنّى عليها بالبسمةِ المكسورةِ ، والضحكةِ المقهورةِ ، وتنهّدَ نافضاً عنهُ غُبارَ الألم ِ ، وماسحاً عنهُ عناءَ التعبِ .
فقالَ الشيخُ الكبيرُ لصاحبِنا : هلاّ وهبتني هذه الكراتينَ ، التي تغلّفُ بضاعتكَ ، وتكسو حاجتكَ ! .
فقالَ لهُ صاحبُنا : وما حاجتُكَ لهذه الكراتين ِ ، وهي لا تسمنُ من جوع ٍ ، ولا تُكنُّ من شمس ٍ ، ولا تدفعُ برداً ، ولا تجلبُ رزقاً ، وإنّما هي ورقٌ مهملٌ ، وبضاعة ٌ لا قيمة َ لها ! .
فقالَ الشيخُ الكبيرُ : أنا رجلٌ كبيرٌ ، قد احدودبَ ظهري من مرِّ السنين ِ ، وكرِّ الأعوام ِ ، وأضناني الدهرُ ، وأشقاني تتابعُ الخطوبِ ، وليسَ لي حيلة ٌ أو قُدرة ٌ ، وما أنا إلا زمن ٍ عاطلٌ ، أنوءُ بأثقال ِ العُمر ِ ، وأقعدُ عن المعالي اشتغالاً بحالي ، ولي بناتٌ صِغارٌ ، قد تلحّفنَ الظلامَ ، وتردّينَ الفاقة َ ، وعاقرنَ البؤسَ ، وغذينَ الحاجة َ ، وليسَ لهنَّ ما يدفعُ عنهم برد الشتاءِ ، ولا حرَّ الصيفِ ، إلا تلكَ الكراتينُ ، وقد كانَ عندي منها شيءٌ ، لكنّهُ تفرّى وتقطّعَ ، وعدتْ عليهِ العوادي ، فأصبحَ لا يصلحُ لشيءٍ ، فهل لكَ أن تُصلحَ ما أفسدَ الفقرُ من حالي وحال ِ بناتي ؟! ، وتصلني بهذه الكراتين ِ ! ، لتكونَ لهم لِحافاً وفِراشاً ! .
فاغرورقتْ عينُ صاحِبنا بالبكاءِ ، وتخالجتْ المشاعرُ في صدرهِ ، ورقَّ لذلكَ الشيخ ِ ، ولحال ِ بناتهِ ، وتهاوتْ نحوهُ الهمومُ ، وتسابقتْ إليهِ العزماتُ لفعل ِ الخير ِ ، فأخذ َ بيدِ الشيخ ِ الكبير ِ ، ومضى معهُ إلى حيثُ يسكنُ ويأوي .
فدخلَ إلى كوخهِ ومأواهُ ، فهالهُ ما رأى من رثاثةِ حال ٍ ، وسوءِ مآل ٍ ، من بيتٍ هوى منهُ بعضُ سقفهِ وتهرّى ، والبعضُ الآخرُ قد تمسّكَ بالدعائم ِ ولاذ َ بها ، والجدرانُ صارتْ مأوىً للعناكبِ وبيوتها ، وقدّ طالتها يدُ الزمانُ فشقّقتها ، والبابُ قد استطالتْ فيهِ الشقوقُ واستدارتْ ، حتّى إنّ الساكنَ لا يُمكنهُ نضوُ ثيابهِ ، أو خلعُ ملابسهِ ، حذراً من جار ٍ يمرُّ ، أو غريبٍ يجتازُ ، وليسَ في البيتِ من متاع ِ الدنيا شيءٌ ، وفي ركنهِ القصيِّ سكنتْ أنفسُ بناتٍ من روائع ِ الخلق ِ ، ومحاسن ِ القُدرةِ ، كأنّهنَّ آياتٌ من زبور ِ عيسى ، أو بقايا من سحر ِ بابلَ ، تردّينَ أنماطاً بليتْ ، وأسمالاً خلِقتْ ، ونُقِشَ على محيّاهنَّ العفافُ والحِشمة ُ ، وبدا عليهنَّ الجُهدُ والإعياءُ ، وقد أكلتُ يدُ الدهر ِ منهم ، ما منحتهُ آياتُ الجمال ِ ، وسورُ الكمال ِ .
وما عدا ذلكَ فالبيتُ خلوٌ مقطوعٌ ، لا ترى فيهِ أثراً للحياةِ ، أو بقيّة ً من المُتعةِ ، ولا تجولُ عينُكَ إلا على المآسي وقد تجمّعنَ ، والرزايا وقد تمثّلنَّ .
قال صاحبُنا : فواللهِ ما تراءى لي إلا مشهدٌ من مشاهدِ أفلام ِ البؤس ِ والبائسينَ ، ولا خِلتُ نفسي إلا ودولابُ التأريخ ِ قد عادَ إلى الوراءِ ، حيثُ كانتْ الحياة ُ قاسية ً ، والفقرُ عاضٌ بنابهِ ، والجوعٌ ضاربٌ بأطنابهِ ، وعامُ الرمادةِ قد عقدَ لواءهُ ، ومدَّ رواقهُ .
قالَ : فوهبتهم ما جادتْ بهِ النفسُ ، وخرجتُ من هناكَ ، وأنا أجرُّ ورائي مآساة َ أسرةٍ تعيشُ في أكنافِ رجال ٍ عِظام ٍ أشدّاءٍ ، ولكنّهم غارّونَ غافلونَ ! .
وما إن أتمَّ صاحبي القصّة َ ، وانتهى من الخبر ِ ، حتّى دارتْ بيَ الأرضُ ، وضاقتْ عليَّ الفسيحة ُ ، وأظلمتْ الدنيا بعيني ، وتراقصتْ أمامي دُمى الأحزان ِ ، وشموعُ الأشجان ِ ، وخواطرُ البؤس ِ ، ورحتُ أترنّمُ بأغاني الشقاءِ .
سبحانَكَ ربّي ! .
هذه الصورة ُ البائسة ُ ، والمنظرُ المُشجي ، حصلَ في هذا المُجتمع ِ الأصيل ِ النبيل ِ ، والذي بدأت تتجسّدُ فيهِ أبشعُ صور ِ الرأسماليّةِ ، وأحطُّ صور ِ الإقطاع ِ ، وأنكى جراح ِ الجشع ِ ، وبدأت تغيبُ وتأفلُ عنهُ نُظمُ المثاليّةِ ، وأصبحتِ المادّة ُ طاغية ً ، والشحُّ منتشراً ، وراجَ حُبُّ المال ِ والدنيا ، حتّى قُطعتِ الأرحامُ ، ونُسيَ الفقراءُ ، وماتتِ النخوة ُ والكرامة ُ ، وبزغتْ شمسُ البؤس ِ والترح ِ .
لسنا في حاجةٍ إلى نشر ِ مظاهر ِ البذخ ِ والثراءِ ، والتي ضجّتْ بها المجالسُ ، واعتادتها النفوسُ حتّى تبرّمتْ ، وسمعتْها الآذانُ ، وزكمتْ منها الأنوفُ ، ولا نريدُ أن نعرفَ الأرقامَ الفلكيّة َ لأرصدتهم ، ولا كم يُسرفونَ على الليالي الحمراءِ ، وكم يدفعونَ للفسقةِ من الأجراءِ ، من مغنّينَ ومغنّياتٍ ، ولا على سهراتِ الطربِ ، وشُربِ النخبِ ! .
لقد ملكَ الأغنياءُ على الفقراءِ كلَّ شيءٍ ، فلا تجدُ شيئاً من متاع ِ الدنيا ، يهوي إليهِ الفقيرُ ليقتاتَ منهُ ، إلا وجدَ نذلاً من الأغنياءِ ، ووغداً من السفهاءِ ، قد رنا إليهِ ، ومالَ نحوهُ ، فحماهُ ومنعَ منهُ النّاسَ ، وأقطعهُ لنفسهِ ولحاشيتهِ ، وأباحهُ لزمرتهِ .
إن مئونة َ الدين ِ والدّنيا قد عظُمتْ ، أمّا الدينُ فلا تجدُ عليهِ أعواناً ، وأمّا الدنيا فلا تمدُ يدكَ إلى شيءٍ منها ، إلا وتجدُ نذلاً قد سبقكَ إليها ! .
هل عدِمتِ الأمّة ُ كلّها ، في طولها وعرضها ، وشرقها وغربِها ، من يأسو الفقيرَ وذا الحاجةِ !؟ ، ومن يكسو الخلِقَ العاري ! ، وهل انتهتْ من رجال ٍ كِرام ٍ يتعاهدونَ فقراءَ التعفّفِ ، والذين أبتْ لهم كرامتهم ، أن يُريقوا ماءَ وجههم بالسؤال ِ ، وأبتْ عليهم عفّتهم أن يطلبوا ويمدّوا أيدهم للنوال ِ .
أيّها السادة ُ : إنّ صورَ الفقر ِ ومظاهرهِ ، ورسوماتِ التعاسةِ وأشكالها ، تنخرُ في مجتمعاتِنا ، وتدكُّ حصونها ، وتُوشكُ أن تجعلها فيما يُستقبلُ من وقتٍ مُدناً من ملح ٍ ، وقصوراً من رمل ٍ ، وبُحيرة ً من سرابٍ ، وسحابة َ صيفٍ ، قد دنا زوالُها واقتربَ فناؤها .
أيُّ فضل ٍ يا سادة ُ للأحياءِ على الأمواتِ ، إذا كانَ بعضُ أحيائنا يُشاركونَ الموتى في كلِّ شيءٍ ، من الإقتار ِ والعدم ِ ، وخلوِّ اليدِ من المتاع ِ ، وانقطاع ِ العين ِ عن رؤيةِ مباهج ِ الحياةِ ، ومغاني الدّنيا ، وهل الرّوحُ تكفي للعيش ِ ، في جنباتِ جسم ٍ شقيٍّ ، بائس ٍ ، يائس ٍ ! .
إنّ الإحساسَ بالفقر ِ وشجونهِ ، وبالبؤس ِ وهمومهِ ، هو من رواسبِ الإنسانيّةِ ، وبقايا النّخوةِ في النّفوس ِ ، والإحساسُ بالمعاناةِ قدرٌ مُشتركٌ بينَ الخلق ِ ، مهما علتْ مناصبُهم ، أو ارتفعتْ أسهمهم .
لقد قالَ العربُ : إنّ الحرّة َ تجوعُ ، ولا تأكلُ بثدييها ! .
ولكنْ لمَ نتركُ الحرّة َ حتى تجوعَ ، ثُمَّ تُعاركُ صفوَ الحياةِ ، ويُعاركها الفقرُ ، ويعضّها ألمُ الدهر ِ ، فتُقدمُ رجلاً وتؤخرُ أخرى ، وتتلظّى بنار ِ الفقر ِ تارة ً ، وبنار ِ الشرفِ أخرى ، فلا تدري أيّ النارين ِ تصلى ! ، هل نارُ فقر ٍ مُدقع ٍ ، تموتُ بهِ جوعاً وضيقاً ، أم نارُ الشرفِ ، الذي هو أعزُّ ما تملكهُ ، وأشرفُ ما تحيى بهِ !؟ .
ألا يُشجيكم صورة ُ تلكِ الحرّةِ العفيفةِ البائس ِ ، حينَ تستجدي النّوالَ ، وتطلبُ الصدقة َ ، لتُعفَّ نفسها ، وتُطعمَ صغارها ، بعدَ فقدها لكاسبهم وعائلهم ، في صورةٍ تستدرُّ الدمعَ ، وتستحقُّ الشفقة َ ، مهما قستِ القلوبُ ، أو جمدتِ العيونُ ، أو تقادمَ العهدُ بالعوز ِ والحاجةِ .
كم همُ البائسونَ المُعوزونَ ! ، ألا يُشجينا منظرهم وقد ملئوا المُدنَ والقُرى ، وضاقَ بهم السهلُ والجبلُ ! ، وكم تبلغُ أملاكُنا وأموالُنا ! ، وتِجاراتُنا ومتاجرُنا ! .
أليستْ البسمة ُ حقّاً مُشاعاً ، يجبُ بذلهُ وخلقُ أسبابهِ ، ونشرهُ بينَ النّاس ِ ، فنراهُ يعلو كلَّ الوجوهِ ، ويكسو كلَّ الخلائق ِ ، حتّى لو تقطّعتْ بنا السبلُ ، أو تناءتْ بنا الدارُ ، ولم يجمعنا رحمٌ واحدٌ .
أوليستْ الرحمة ُ بابَ الجنّةِ الأعظمَ ؟! ، والشفقة ُ رائدُ النجاةِ من النّار ِ ؟! .
ألم ينجّي اللهُ بغيّاً من النّار ِ ، وحجزتْ لها مقعداً في الجنّةِ ، وبنتْ لها فيهِ قصراً ، وشرتْ مصراً ، بعدَ أن سقتْ كلباً عطِشاً ، ورحمتْ بهيماً ! .
فكم من رحمةٍ تنزلُ حينَ نرحمُ البشرَ ! ، وكم هو الأجرُ حينَ نسمحُ الدمعة َ ، ونرسمُ البسمة َ ، ونجدّدُ العهدَ بالسعادةِ ، وننشرُ لواءَ المواساةِ ؟ .
" إن الألمَ هو اليبنوعُ الذي تنفجرُ منهُ جميعُ العواطفِ ، وهو الصلة ُ الكُبرى بينَ أفرادِ المُجتمع ِ ، والجامعة ُ الوحيدة ُ التي تجمعُ بينَ طبقاتهِ وأجناسهِ ، بل هو معنى الإنسانيّةِ وروحها وجوهرها ، فمن حرمهُ فقد حُرمَ كلَّ فضيلةٍ من فضائل ِ النفس ِ ، وكلَّ مَكرُمةٍ من مكرماتِها ، وأصبحَ بالصخرةِ الصلداءِ الصّمّاءِ ، أشبهَ منهُ بالإنسان ِ النّاطق ِ " .
أيّها الرافلونَ في حُلَل ِ الوشْـ ********** ـي ِ يجرّونَ للذّيول ِ افتِخارا
إنَّ فوقَ العراءِ قوماً جِياعاً *********** يَتوارونَ ذلّة ً وانكسارا
يلبسونَ الظّلامَ حتّى إذا ما ********** أقبلَ الصبحُ يلبسونَ النهارا
قد شهِدنا بالأمس ِ في نجدَ عُرساً ********* ملأ العينَ والفؤادَ ابتهارا
سالَ فيهِ النُّضارُ حتى حسبِنا ********* أنّ ذاكَ الفِناءَ يجري نُضارا
باتَ فيهِ المنَعَّمونَ بليل ٍ ********** أخجلَ الصُّبحَ حُسنهُ فتوارى
يكتسونَ السُّرورَ طوراً وطوراً ********* في يدِ الكأس ِ يخلعونَ الوقارا
جلَّ من قسّمَ الحظوظَ فهذا ********* يتغنّى ! وذاك يبكي الديارا !
رُبَّ ليل ٍ في الدهر ِ قد ضمَّ نحساً ********* وسُعوداً وعُسرة ً ويسارا !
دمتم بخير ٍ .
==========
تموتُ النّفوسُ بأوصابها ********* ولم تدر ِ عوّادها ما بها
وما أنصفتْ مهجة ٌ تشتكي ********* أذاها إلى غير ِ أحبابها
<div align="center">كتب هذه القصة الكاتب الكبير ( فتى الادغال ) والذي حصل على افضل كاتب في الساحات العربية لعام 2003م ، وقد بلغ عدد قراء هذه القصة اكثر من 16000 قارئى .</div></span>
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
هذه القصّة ُ واقعيّة ٌ وحقيقة ٌ ، وقد حصلتْ بأحدِ المناطق ِ
حدّثنا صاحبٌ لنا ، حسيبٌ نسيبٌ أديبٌ ، ذو خُلق ٍ وكرم ٍ ، أنّهُ مرّة ً قصدَ لشراءِ بعض ِ الأغراض ِ ، من الأدواتِ الكهربائيةِ ، كأدواتِ التكييفِ والثلاّجاتِ ، هرباً من لهيبِ الشمس ِ ، وفراراً من حرارةِ الصيفِ ، وبثّاً لروح ِ التجديدِ في البيتِ ، وتغييراً لنمطِ الحياةِ ، ودفعاً للرتابةِ وملل ِ القِدَم ِ .
فذهبَ إلى مَحلٍّ مُجاور ٍ لبيتهِ ، فدلفَ إليهِ ، وهو مليءٌ بالأجهزةِ ، مُطرّزٌ بروائع ِ الديكور ِ ، مجهّزٌ بأفخم ِ الأثاثِ ، ومفروشٌ ببهيِّ الفُرُش ِ ، ممّا تغوصُ معهُ قدمُ الزائر ِ ، وتضيعُ فيهِ نعلهُ ، وأخذ َ يُقلّبُ نظرهُ ، وينقّلُ طرفهُ ، ويحدوهُ الرونقُ العذبُ ، والمنظرُ البديعُ للمكان ِ ، إلى عدم ِ الملال ِ من النظر ِ وتجوالهِ .
ثُمَّ راحَ يُبايعُ ويُماكِسُ ، ويشتري ويُساومُ ، ويزيدُ في الطلبِ ، ويُنقِصُ في الدفع ِ ، حتّى إذا قضى نُهمتهُ ، واقتضى غرضهُ ، واستوفى حاجتهُ ، خرجاً ميمّماً شطرَ سيّارتهِ ، وآخذاً بُغيتهُ .
وبينما هو مُقبلٌ على سيّارتهِ ، أتاهُ شيخٌ كبيرٌ ، متقادمُ العهدِ ، ، وقد خطّتْ تصاريفُ القدر ِ على وجههِ كتابَ الشقاءِ ، ورسمَ البؤسُ على مُحيّاهُ صورَ التعاسةِ ، فاستوقفهُ واستصرخهُ ، وعاجلهُ بالتحيّةِ ، ثمَّ ثنّى عليها بالبسمةِ المكسورةِ ، والضحكةِ المقهورةِ ، وتنهّدَ نافضاً عنهُ غُبارَ الألم ِ ، وماسحاً عنهُ عناءَ التعبِ .
فقالَ الشيخُ الكبيرُ لصاحبِنا : هلاّ وهبتني هذه الكراتينَ ، التي تغلّفُ بضاعتكَ ، وتكسو حاجتكَ ! .
فقالَ لهُ صاحبُنا : وما حاجتُكَ لهذه الكراتين ِ ، وهي لا تسمنُ من جوع ٍ ، ولا تُكنُّ من شمس ٍ ، ولا تدفعُ برداً ، ولا تجلبُ رزقاً ، وإنّما هي ورقٌ مهملٌ ، وبضاعة ٌ لا قيمة َ لها ! .
فقالَ الشيخُ الكبيرُ : أنا رجلٌ كبيرٌ ، قد احدودبَ ظهري من مرِّ السنين ِ ، وكرِّ الأعوام ِ ، وأضناني الدهرُ ، وأشقاني تتابعُ الخطوبِ ، وليسَ لي حيلة ٌ أو قُدرة ٌ ، وما أنا إلا زمن ٍ عاطلٌ ، أنوءُ بأثقال ِ العُمر ِ ، وأقعدُ عن المعالي اشتغالاً بحالي ، ولي بناتٌ صِغارٌ ، قد تلحّفنَ الظلامَ ، وتردّينَ الفاقة َ ، وعاقرنَ البؤسَ ، وغذينَ الحاجة َ ، وليسَ لهنَّ ما يدفعُ عنهم برد الشتاءِ ، ولا حرَّ الصيفِ ، إلا تلكَ الكراتينُ ، وقد كانَ عندي منها شيءٌ ، لكنّهُ تفرّى وتقطّعَ ، وعدتْ عليهِ العوادي ، فأصبحَ لا يصلحُ لشيءٍ ، فهل لكَ أن تُصلحَ ما أفسدَ الفقرُ من حالي وحال ِ بناتي ؟! ، وتصلني بهذه الكراتين ِ ! ، لتكونَ لهم لِحافاً وفِراشاً ! .
فاغرورقتْ عينُ صاحِبنا بالبكاءِ ، وتخالجتْ المشاعرُ في صدرهِ ، ورقَّ لذلكَ الشيخ ِ ، ولحال ِ بناتهِ ، وتهاوتْ نحوهُ الهمومُ ، وتسابقتْ إليهِ العزماتُ لفعل ِ الخير ِ ، فأخذ َ بيدِ الشيخ ِ الكبير ِ ، ومضى معهُ إلى حيثُ يسكنُ ويأوي .
فدخلَ إلى كوخهِ ومأواهُ ، فهالهُ ما رأى من رثاثةِ حال ٍ ، وسوءِ مآل ٍ ، من بيتٍ هوى منهُ بعضُ سقفهِ وتهرّى ، والبعضُ الآخرُ قد تمسّكَ بالدعائم ِ ولاذ َ بها ، والجدرانُ صارتْ مأوىً للعناكبِ وبيوتها ، وقدّ طالتها يدُ الزمانُ فشقّقتها ، والبابُ قد استطالتْ فيهِ الشقوقُ واستدارتْ ، حتّى إنّ الساكنَ لا يُمكنهُ نضوُ ثيابهِ ، أو خلعُ ملابسهِ ، حذراً من جار ٍ يمرُّ ، أو غريبٍ يجتازُ ، وليسَ في البيتِ من متاع ِ الدنيا شيءٌ ، وفي ركنهِ القصيِّ سكنتْ أنفسُ بناتٍ من روائع ِ الخلق ِ ، ومحاسن ِ القُدرةِ ، كأنّهنَّ آياتٌ من زبور ِ عيسى ، أو بقايا من سحر ِ بابلَ ، تردّينَ أنماطاً بليتْ ، وأسمالاً خلِقتْ ، ونُقِشَ على محيّاهنَّ العفافُ والحِشمة ُ ، وبدا عليهنَّ الجُهدُ والإعياءُ ، وقد أكلتُ يدُ الدهر ِ منهم ، ما منحتهُ آياتُ الجمال ِ ، وسورُ الكمال ِ .
وما عدا ذلكَ فالبيتُ خلوٌ مقطوعٌ ، لا ترى فيهِ أثراً للحياةِ ، أو بقيّة ً من المُتعةِ ، ولا تجولُ عينُكَ إلا على المآسي وقد تجمّعنَ ، والرزايا وقد تمثّلنَّ .
قال صاحبُنا : فواللهِ ما تراءى لي إلا مشهدٌ من مشاهدِ أفلام ِ البؤس ِ والبائسينَ ، ولا خِلتُ نفسي إلا ودولابُ التأريخ ِ قد عادَ إلى الوراءِ ، حيثُ كانتْ الحياة ُ قاسية ً ، والفقرُ عاضٌ بنابهِ ، والجوعٌ ضاربٌ بأطنابهِ ، وعامُ الرمادةِ قد عقدَ لواءهُ ، ومدَّ رواقهُ .
قالَ : فوهبتهم ما جادتْ بهِ النفسُ ، وخرجتُ من هناكَ ، وأنا أجرُّ ورائي مآساة َ أسرةٍ تعيشُ في أكنافِ رجال ٍ عِظام ٍ أشدّاءٍ ، ولكنّهم غارّونَ غافلونَ ! .
وما إن أتمَّ صاحبي القصّة َ ، وانتهى من الخبر ِ ، حتّى دارتْ بيَ الأرضُ ، وضاقتْ عليَّ الفسيحة ُ ، وأظلمتْ الدنيا بعيني ، وتراقصتْ أمامي دُمى الأحزان ِ ، وشموعُ الأشجان ِ ، وخواطرُ البؤس ِ ، ورحتُ أترنّمُ بأغاني الشقاءِ .
سبحانَكَ ربّي ! .
هذه الصورة ُ البائسة ُ ، والمنظرُ المُشجي ، حصلَ في هذا المُجتمع ِ الأصيل ِ النبيل ِ ، والذي بدأت تتجسّدُ فيهِ أبشعُ صور ِ الرأسماليّةِ ، وأحطُّ صور ِ الإقطاع ِ ، وأنكى جراح ِ الجشع ِ ، وبدأت تغيبُ وتأفلُ عنهُ نُظمُ المثاليّةِ ، وأصبحتِ المادّة ُ طاغية ً ، والشحُّ منتشراً ، وراجَ حُبُّ المال ِ والدنيا ، حتّى قُطعتِ الأرحامُ ، ونُسيَ الفقراءُ ، وماتتِ النخوة ُ والكرامة ُ ، وبزغتْ شمسُ البؤس ِ والترح ِ .
لسنا في حاجةٍ إلى نشر ِ مظاهر ِ البذخ ِ والثراءِ ، والتي ضجّتْ بها المجالسُ ، واعتادتها النفوسُ حتّى تبرّمتْ ، وسمعتْها الآذانُ ، وزكمتْ منها الأنوفُ ، ولا نريدُ أن نعرفَ الأرقامَ الفلكيّة َ لأرصدتهم ، ولا كم يُسرفونَ على الليالي الحمراءِ ، وكم يدفعونَ للفسقةِ من الأجراءِ ، من مغنّينَ ومغنّياتٍ ، ولا على سهراتِ الطربِ ، وشُربِ النخبِ ! .
لقد ملكَ الأغنياءُ على الفقراءِ كلَّ شيءٍ ، فلا تجدُ شيئاً من متاع ِ الدنيا ، يهوي إليهِ الفقيرُ ليقتاتَ منهُ ، إلا وجدَ نذلاً من الأغنياءِ ، ووغداً من السفهاءِ ، قد رنا إليهِ ، ومالَ نحوهُ ، فحماهُ ومنعَ منهُ النّاسَ ، وأقطعهُ لنفسهِ ولحاشيتهِ ، وأباحهُ لزمرتهِ .
إن مئونة َ الدين ِ والدّنيا قد عظُمتْ ، أمّا الدينُ فلا تجدُ عليهِ أعواناً ، وأمّا الدنيا فلا تمدُ يدكَ إلى شيءٍ منها ، إلا وتجدُ نذلاً قد سبقكَ إليها ! .
هل عدِمتِ الأمّة ُ كلّها ، في طولها وعرضها ، وشرقها وغربِها ، من يأسو الفقيرَ وذا الحاجةِ !؟ ، ومن يكسو الخلِقَ العاري ! ، وهل انتهتْ من رجال ٍ كِرام ٍ يتعاهدونَ فقراءَ التعفّفِ ، والذين أبتْ لهم كرامتهم ، أن يُريقوا ماءَ وجههم بالسؤال ِ ، وأبتْ عليهم عفّتهم أن يطلبوا ويمدّوا أيدهم للنوال ِ .
أيّها السادة ُ : إنّ صورَ الفقر ِ ومظاهرهِ ، ورسوماتِ التعاسةِ وأشكالها ، تنخرُ في مجتمعاتِنا ، وتدكُّ حصونها ، وتُوشكُ أن تجعلها فيما يُستقبلُ من وقتٍ مُدناً من ملح ٍ ، وقصوراً من رمل ٍ ، وبُحيرة ً من سرابٍ ، وسحابة َ صيفٍ ، قد دنا زوالُها واقتربَ فناؤها .
أيُّ فضل ٍ يا سادة ُ للأحياءِ على الأمواتِ ، إذا كانَ بعضُ أحيائنا يُشاركونَ الموتى في كلِّ شيءٍ ، من الإقتار ِ والعدم ِ ، وخلوِّ اليدِ من المتاع ِ ، وانقطاع ِ العين ِ عن رؤيةِ مباهج ِ الحياةِ ، ومغاني الدّنيا ، وهل الرّوحُ تكفي للعيش ِ ، في جنباتِ جسم ٍ شقيٍّ ، بائس ٍ ، يائس ٍ ! .
إنّ الإحساسَ بالفقر ِ وشجونهِ ، وبالبؤس ِ وهمومهِ ، هو من رواسبِ الإنسانيّةِ ، وبقايا النّخوةِ في النّفوس ِ ، والإحساسُ بالمعاناةِ قدرٌ مُشتركٌ بينَ الخلق ِ ، مهما علتْ مناصبُهم ، أو ارتفعتْ أسهمهم .
لقد قالَ العربُ : إنّ الحرّة َ تجوعُ ، ولا تأكلُ بثدييها ! .
ولكنْ لمَ نتركُ الحرّة َ حتى تجوعَ ، ثُمَّ تُعاركُ صفوَ الحياةِ ، ويُعاركها الفقرُ ، ويعضّها ألمُ الدهر ِ ، فتُقدمُ رجلاً وتؤخرُ أخرى ، وتتلظّى بنار ِ الفقر ِ تارة ً ، وبنار ِ الشرفِ أخرى ، فلا تدري أيّ النارين ِ تصلى ! ، هل نارُ فقر ٍ مُدقع ٍ ، تموتُ بهِ جوعاً وضيقاً ، أم نارُ الشرفِ ، الذي هو أعزُّ ما تملكهُ ، وأشرفُ ما تحيى بهِ !؟ .
ألا يُشجيكم صورة ُ تلكِ الحرّةِ العفيفةِ البائس ِ ، حينَ تستجدي النّوالَ ، وتطلبُ الصدقة َ ، لتُعفَّ نفسها ، وتُطعمَ صغارها ، بعدَ فقدها لكاسبهم وعائلهم ، في صورةٍ تستدرُّ الدمعَ ، وتستحقُّ الشفقة َ ، مهما قستِ القلوبُ ، أو جمدتِ العيونُ ، أو تقادمَ العهدُ بالعوز ِ والحاجةِ .
كم همُ البائسونَ المُعوزونَ ! ، ألا يُشجينا منظرهم وقد ملئوا المُدنَ والقُرى ، وضاقَ بهم السهلُ والجبلُ ! ، وكم تبلغُ أملاكُنا وأموالُنا ! ، وتِجاراتُنا ومتاجرُنا ! .
أليستْ البسمة ُ حقّاً مُشاعاً ، يجبُ بذلهُ وخلقُ أسبابهِ ، ونشرهُ بينَ النّاس ِ ، فنراهُ يعلو كلَّ الوجوهِ ، ويكسو كلَّ الخلائق ِ ، حتّى لو تقطّعتْ بنا السبلُ ، أو تناءتْ بنا الدارُ ، ولم يجمعنا رحمٌ واحدٌ .
أوليستْ الرحمة ُ بابَ الجنّةِ الأعظمَ ؟! ، والشفقة ُ رائدُ النجاةِ من النّار ِ ؟! .
ألم ينجّي اللهُ بغيّاً من النّار ِ ، وحجزتْ لها مقعداً في الجنّةِ ، وبنتْ لها فيهِ قصراً ، وشرتْ مصراً ، بعدَ أن سقتْ كلباً عطِشاً ، ورحمتْ بهيماً ! .
فكم من رحمةٍ تنزلُ حينَ نرحمُ البشرَ ! ، وكم هو الأجرُ حينَ نسمحُ الدمعة َ ، ونرسمُ البسمة َ ، ونجدّدُ العهدَ بالسعادةِ ، وننشرُ لواءَ المواساةِ ؟ .
" إن الألمَ هو اليبنوعُ الذي تنفجرُ منهُ جميعُ العواطفِ ، وهو الصلة ُ الكُبرى بينَ أفرادِ المُجتمع ِ ، والجامعة ُ الوحيدة ُ التي تجمعُ بينَ طبقاتهِ وأجناسهِ ، بل هو معنى الإنسانيّةِ وروحها وجوهرها ، فمن حرمهُ فقد حُرمَ كلَّ فضيلةٍ من فضائل ِ النفس ِ ، وكلَّ مَكرُمةٍ من مكرماتِها ، وأصبحَ بالصخرةِ الصلداءِ الصّمّاءِ ، أشبهَ منهُ بالإنسان ِ النّاطق ِ " .
أيّها الرافلونَ في حُلَل ِ الوشْـ ********** ـي ِ يجرّونَ للذّيول ِ افتِخارا
إنَّ فوقَ العراءِ قوماً جِياعاً *********** يَتوارونَ ذلّة ً وانكسارا
يلبسونَ الظّلامَ حتّى إذا ما ********** أقبلَ الصبحُ يلبسونَ النهارا
قد شهِدنا بالأمس ِ في نجدَ عُرساً ********* ملأ العينَ والفؤادَ ابتهارا
سالَ فيهِ النُّضارُ حتى حسبِنا ********* أنّ ذاكَ الفِناءَ يجري نُضارا
باتَ فيهِ المنَعَّمونَ بليل ٍ ********** أخجلَ الصُّبحَ حُسنهُ فتوارى
يكتسونَ السُّرورَ طوراً وطوراً ********* في يدِ الكأس ِ يخلعونَ الوقارا
جلَّ من قسّمَ الحظوظَ فهذا ********* يتغنّى ! وذاك يبكي الديارا !
رُبَّ ليل ٍ في الدهر ِ قد ضمَّ نحساً ********* وسُعوداً وعُسرة ً ويسارا !
دمتم بخير ٍ .
==========
تموتُ النّفوسُ بأوصابها ********* ولم تدر ِ عوّادها ما بها
وما أنصفتْ مهجة ٌ تشتكي ********* أذاها إلى غير ِ أحبابها