المراقب العام
12 Apr 2004, 11:46 PM
الكاتب / فهمي هويدي
مجلة المجلة
أتابع على بعد بتقدير وإعجاب شديدين جهود سيدة سعودية منقبة لا اعرفها، اسمها مها الحصين، فمنذ قرأت قصتها ووقعت على الجهد الهائل الذي تبذله لاستنقاذ زوجها دارس الدكتوراه السعودي سامي الحصين، الذي شاء قدره أن يصبح أحد ضحايا ( العدالة الأمريكية ) وأنا أسال كل قادم من الولايات المتحدة الأمريكية إضافة عما إذا كان يعرف مها أو سمع عن جهودها، وما إذا كان قد تضامن معها أم لا ؟
ما أدهشني ليس فقط ما تفعله السيدة لأجل زوجها الضحية، ولكن أيضا كونها سعودية تمتعت بذلك القدر من القوة والذكاء والثبات والقدرة على الحركة، ولست اخفي أن صورة المرأة السعودية في الإدراك العربي – ناهيك عن الغربي – أنها مخلوق سلبي ومغيب لا دور له في الحياة العامة، ولا حضور يذكر في حين أن حركتها لا تتجاوز حدود العباءة السوداء التي تغطي الجسم كله، ومن ثقبين صغيرين في النقاب الذي يغطي وجهها ترى العالم وتتواصل مع الآخرين وهي معقودة اللسان.
وجه مسكوت عنه:
وقعت على قصة السيدة مها وزجها سامي في مقالة نشرتها صحيفة الحياة اللندنية عدد ( 12/5 ) كتبها الدكتور أحمد بن راشد بن سعيد، في جامعة الملك سعود، وحين فرغت من قراءة النص تمنيت أن يطلع عليه كل إنسان، ليعرف مدى الظلم الذي يعاني منه في الولايات المتحدة الشباب العربي الوفي لأمته ودينه، وكيف أهدرت حقوق الإنسان وضمانات العدالة في ذلك البلد الذي كان يضرب به المثل في هذه وتلك، ولكي يعرف أيضا أن زوجة السعودي المتهم التي لم تتخل عنه وتبرئة ساحته، وهي رمز لجيل من السعوديات يفاجئنا بحضوره وقدرته، وتتمنى أن تكون من استثمار ما يتمتع به من طاقات مبدعة وخلاقة، في أن يكون شريكا حاضرا في مختلف ساحات وآفاق بناء الحاضر والمستقبل.
إن المتابعات الصحافية التي تحدثنا عن معاناة المسلمين الناشطين في الولايات المتحدة الذين لم تتجاوز أنشطة أغلبيتهم الساحقة حدود المجالات الثقافية والخيرية والدفاع عن قضايا التهم التي يتهم ينتمي بعضهم إليها، وقضية فلسطين في المقدمة منها، هذه المتابعات سلطت الأضواء على ما نزل بأولئك المسلمين من ظلم وإجحاف وكيد، لكنها لم تعن كثيرا بما أصاب عائلاتهم من أضرار مادية ونفسية، ولا بالجهود التي تبذلها الزوجات والأمهات والبنات والأبناء والأشقاء لأجل رفع الظلم عن أولئك الناشطين، وإخراجهم من المحنة التي يعيشونها وراء القضبان.
محنة أسرة الدكتور العريان:
مازلت أتذكر ما قراءته ذات مرة عن معاناة أسرة الدكتور سامي العريان الأكاديمي الفلسطيني الذي كانت جريمته انه لم ينس وطنه الأصلي فلسطين، فدافع عن شعبه في مهجره، وظلت الأجهزة الأمنية والمؤسسات الصهيونية طيلة عشر سنوات تلاحقه وتتابعه وتبحث عن ذريعة لإسكاته واغتياله معنويا، إلى أن نجحت في العام الماضي في إلقائه في السجن بتهم مفتعله، وفي فصله بغير حق من جامعة جنوب كارولينا التي عمل بها من عام 1986م وتواطأ الجميع ضده حتى قررت المحكمة احتجازه حتى عام 2005م، ليس لأنه أدين، ولكن لإعطاء الوقت لفحص الأدلة المفتعلة ضده، وفي المقدمة منها أشرطة تسجيل مكالماته الهاتفية لعدة سنوات خلت ! هكذا في تحد صارخ لأبسط قواعد العدالة ومبادئ حقوق الإنسان.
لقد ضيقت السلطات الاميريكية الخنادق حوله، فنقلته إلى سجن يبعد 250 كم، ووضعته في زنزانة انفرادية كأنه من عتاة المجرمين الخطرين، وضغطت وحذرت الجالية المسلمة من تقديم أي عون لأسرته، في شأن تدبير نفقات محاميه، بل إن بعض السفارات الأمريكية في منطقة الخليج استدعت نفرا من أقاربه وحذرتهم من تقديم أي مساعدة مالية لأسرته في تدبير نفقات المحامي التي قدرت بعشرات الألوف من الدولارات وكان على زوجته نهلة وأبنائه أن يواجهوا وحدهم الموقف الذي فرض عليهم، من ضغوط الأجهزة الأمنية إلى شتائم الجيران التي لاحقت زوجته المحجبة وأبناءه، إلى نظرات الشك والازدراء التي أصبحت تحيط بالجميع حيثما ذهبوا فضلا عن التظاهرات المعادية التي نظمتها العناصر الصهيونية ضد الأسرة ومطالبتها بالرحيل، وانتهاء بقيام تلك المنظمات بتعليق صورته في الجامعة التي تدرس ابنته ( ليسا ) العلوم السياسية في إحدى كلياتها، وكان ولا يزال مطلوبا من الأسرة الصغيرة أن تواجه ذلك كله بثبات وشجاعة، وأن تنظم حملة دعاية لإطلاق سراح الأب الضحية، عن طريق الاتصال عبر الانترنت بالمنظمات الحقوقية الأمريكية ونشطاء حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، إضافة إلى مخاطبة الكونجرس، لعل ذلك يجدي في أنها المحنة، التي لم تدمر سمعة الدكتور العريان فحسب، ولكنها جاءت دليلا على تدهور أوضاع العدالة وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الاميريكة.لست أشك أن هناك مئات الحالات المماثلة التي لم نسمع بأغلبها، ولم نعرف شيئا عن جهود الأسر المسلمة العزلاء، وهي تواجه بشجاعة وبسالة الضغوط العاتية والقاسية التي تهدد أملها وكرامتها ورزقها طول الوقت، وقد وجدت في قصة السيدة مها الحصين نموذجا لتلك الشجاعة ينبغي أن يطلع عليه كل إنسان.
وحيدة أمام تطرف الإدارة الاميريكية:
أدري أنه ليس من تقاليد مهنة الصحافة أن ( يقتبس ) كاتب مقال كاتب آخر ويضع عليه اسمه، لكنني سمحت لنفسي أن أفعل ذلك، بعد نسب الكلام إلى صاحبه الذي أسجل انه عرض الموضوع باقتدار يستحق التحية عليه، وقد يثير غيرة بعض محترفي المهنة، وقد بررت لنفسي ما فعلت بما أدعية من أنني صاحب قضية قبل أن أكون صاحب حرفة، وإننا في عالمنا العربي بالذات لا نملك ترف الاحتراف في الإعلام لمجرد الاحتراف، كما أن الدور الخطير الذي أصبح يؤديه الإعلام في عالمنا المعاصر يحمله مسؤولية اكبر إزاء القضايا التي نعيشها، بحيث أن أي تخل عن تلك القضايا يصنف عداد ( الخيانة الثقافية ) التي لا تغتفر.
في عرضه لما جرى للمهندس السعودي سامي الحصين ( 34عاما) وما فعلته زوجته مها ( 29سنة) ذكر الدكتور بن سعيد أن عملاء المباحث الفيدرالية اختطفوا الرجل من بين أسرته في الساعة الرابعة من فجر السادس والعشرين من شهر فبراير ( شباط ) في العام الحالي 2003م ونقل عن الزوجة الصامدة والصابرة قولها ( أخذوا مني رفيق دربي إلى حيث لا اعلم داهمني الحزن على فراقه والخوف عليه حتى مرضت وتوجهت إلى الله بالدعاء أن يمنحني الرضا وان يجعل عواقب أمورنا إلى خير وقد استجاب الكريم فربط على قلبي وثبتني فله الحمد وله الشكر.
أضاف: سرى خبر اعتقال سامي في مدينة موسكو, وهي مدينة صغيرة تقع شمال ولاية آيداهو الأميركية, وتشتهر بجامعتها التي يدرس فيها سامي الدكتوراه في أمن الشبكات الحاسوبية مبتعثاً من المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني بالسعودية, وكان تخرجه متوقعاً في آذار (مارس) من عام 2004. تعاطف عدد كبير من الطلاب والأساتذة مع قضية سامي, لما يعرفون من حسن خلق الشاب ووداعته ونشاطه, ويذكرون موقفه بعيد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) حينما شارك في تظاهرة تندد بما حدث, وتبرع من دمه للمصابين. وما زاد تعاطف الجامعة مع سامي تهافت الاتهامات الموجهة إليه وضحالتها والتعسف الواضح في محاولة ربطه بما يوصف بالإرهاب. في ظل الحملة الشرسة على سامي لم تجد مها بداً من الوقوف أمام الإرهاب الذي تمارسه إدارة الرئيس جورج بوش بحق العرب والمسلمين, سيما أنه طاول هذه المرة شريك الحياة ورفيق الدرب. تقول مها: "إثر اعتقال سامي حدثت ضجة إعلامية كبيرة, وتوافد الصحافيون على بيتنا يتساءلون عن الأمر, فطفقت أحدثهم عن سامي الزوج والأب والطالب والإنسان. قلت لهم: إن لسامي من اسمه نصيباً, فقد تسامى عن كل رذيلة, وهو أهل لكل فضيلة, وما كان لرجل يحمل قلباً كبيراً كسامي أن يكون كما يقولون. وليس كبير القوم من يحمل الحقد". لم يكن سهلاً على مها أن تقاوم بوش ورامسفيلد وآشكروفت وغيرهم من متطرفي الإدارة الأميركية, لكن كان لا بد من التحرك, ومن العار أن تغضي الحرة على الضيم. قاومت مها ببسالة, وتحدثت للصحافة عن كل ما يؤكد براءة سامي. جمعت جاراتها الأميركيات وحثتهن على التحرك للمطالبة بالإفراج عنه. وكانت أبرز خطواتها أن نظمت حفلة عشاء كبيرة على مستوى مدينة موسكو وأرسلت بطاقات دعوة للمسؤولين, كما وزعت بطاقات دعوة خاصة على سكان المجمع الذي تقيم فيه, ونشرت دعوة عامة في الصحافة والتلفزيون, وقد حضر الحفلة قرابة مئتي مدعو. تحدث في الحفلة محامي حقوق الإنسان في جامعة آيداهو, والمشرف على برنامج سامي للدكتوراه, والمهند الابن الأكبر لسامي, ومحامي سامي, لكن مها كانت نجمة الحفلة إذ وقفت شامخة بنقابها ودافعت عن زوجها بلغة أدهشت الحاضرين وبأداء بلاغي حرك المشاعر في مجتمع يقدس الخطابة ويعامل أصحابها معاملة القادة. أعدت مها طاولة وضعت عليها نماذج لرسائل احتجاج جاهزة يقوم الحضور فقط بتوقيعها, ومن ثم يتم إرسالها إلى البيت الأبيض والكونغرس ومنظمات حقوق الإنسان. وزعت على الحضور أيضاً عشرات الفانلات المحتوية على عبارات مطالبة بالإفراج عن سامي, وحثت الجميع على المشاركة في مسيرة احتجاج ضد بقاء سامي في السجن, وارتداء الفانلات أثناء المسيرة. وبالفعل تم تنظيم مسيرة حاشدة رفعت فيها لافتات ظهرت عليها صور سامي وأطفاله, وطبعت عليها عبارات مثل: "اعملوا على جمع شمل العائلة". وسار المتظاهرون حاملين الشموع, وتم تناول الحدث في الصحافة المحلية. تقول مها: "لم يكن هدفي هو الدفاع عن سامي وحشد التأييد لإطلاق سراحه فحسب, بل كنت أسعى أيضاً للتعريف بحقيقة الإسلام وتقديمه للناس بصورته الجلية الناصعة".
وعندما تقرر حضور أحد المسؤولين عن مكافحة ما يسمى بالإرهاب إلى المدينة ليلقي كلمة عن الأحداث, هرعت مها إلى محاميتها وطلبت منها صياغة خطاب باسمها موجه إلى جورج بوش ليتم إلقاؤه أمام هذا المسؤول, وتم إعداد الخطاب وألقته المحامية أمام الحضور الذين تجاوز عددهم 300 شخص, وتحدث أيضاً أبناء سامي: المهند, وتميم, وزياد مرددين عبارات قصيرة حول شوقهم وحنينهم إلى والدهم. ولما بدأ العام الدراسي الجديد في أواخر آب (أغسطس) 2003 كتبت مها رسالة تهنئة للطلاب الجدد باسم سامي, ونشرته في صحيفة الجامعة, كما وضعته في لوحة الإعلانات في المكتبة العامة وفي الكليات. واستغلت عقد اجتماع عام للطلاب لمناقشة شؤونهم واحتياجاتهم, فذهبت إليه (على رغم أنها لم تكن من المنتسبين إلى الجامعة، وخاطبت الطلاب في شأن سامي قائلة إنه كان معهم قبل عام شعلة من نشاط, وهو الآن يقبع في زنزانة انفرادية من دون محاكمة ولا ذنب جناه. وامتد نشاط مها إلى استراحة الطلاب, حيث وضعت طاولة خاصة بالقضية, تتوسطها لافتة كتب عليها "سامي يحتاج إلى دعمك" وبجانبها صورة لأطفالها. تذهب مها إلى هذا المكان كل أربعاء وتمكث فيه ساعتين على الأقل, وتوزع مطويات عن القضية, وتجمع أكبر عدد ممكن من توقيعات الطلاب على نماذج الاحتجاج. تراسل مها عشرات الصحافيين وناشطي حقوق الإنسان في أميركا الشمالية وأوروبا, وتحثهم على تبني قضية سامي, في الوقت الذي تقوم فيه بتزويد موقع www.samiomar.com الذي أنشأه أصدقاء سامي بالمعلومات والصور. وامتد نشاط مها إلى كل الولايات, فتناولت القضية وتداعياتها في برنامج بثته شبكة إذاعية على مستوى البلاد.
أصبح منزل سامي/ مها مقصداً لمراسلي الصحف ومحطات التلفزيون والجيران المتضامنين. تقول مها إن جيرانها "يشعرون بالعار من الذي حدث لها ولأسرتها". أثمرت جهود مها, فالرسائل المتعاطفة تنهال على بيتها من كل أنحاء الولايات المتحدة, وهي تقول إنها لا تستطيع إحصاء البطاقات المعبرة عن الدعم والمساندة والتي تتدفق على عنوانها. إحدى الرسائل التي وصلتها بعث بها طبيب يعرض اقتطاع جزء من مرتبه الشهري مساعدة لها ولأطفالها, أو التكفل بإقامتهم. تذكر مها وأطفالها أنهم ذات صباح وجدوا كيساً عند باب بيتهم فيه ثلاث قصاصات مكتوب فيها عبارات تضامن مثل "قلوبنا معكم".
الإرهاب طال الزوجة:
ضاق رجال المباحث الأميركية ذرعاً بنشاط مها وحاولوا إرهابها عبر مباغتاتهم المتكررة لبيتها, لكن ذلك لم يوهن عزيمتها. أخيراً قبضوا عليها وخيروها بين المحاكمة أو الرحيل الفوري عن البلاد, وأمهلوها خمس دقائق لاتخاذ القرار. اضطرت للقبول بالمحاكمة. نشرت بعض الصحف مقالات تشيد بمها وبنزاهتها, وردت الحكومة ببيانات صحافية تتهم مها بكراهية أميركا, واستندت في ذلك إلى مكالمات هاتفية مسجلة لها, بيد أن ترجمة هذه المكالمات كانت سيئة ومليئة بالتحامل وسوء النية. كان رأي المباحث الاتحادية أن مها امرأة ذات ميول إرهابية في الأصل, ولذا اختارت سامي زوجاً. عقدت المحاكمة, وحكم على مها وطفلين من أطفالها بالرحيل عن الولايات المتحدة في مدة أقصاها أربعة أشهر, أما الطفل الأصغر فيمكن له البقاء, نظراً لأنه ولد في أميركا ويحمل جنسيتها.
تذهب مها كل نهاية أسبوع لزيارة زوجها في سجنه في مدينة بويزي التي تبعد نحو 800 كلم جنوبي موسكو. مدة الزيارة نصف ساعة, ويسمح لهما باللقاء عبر نافذة زجاجية صغيرة لا يتجاوز طولها ثلاثين سنتيمتراً, وتتحدث معه عبر الهاتف. لكنها في كل مرة تهمس لزوجها بعبارات تشد من أزره وتخفف لوعته.
ما زالت مها تقاوم الضغوط الرهيبة التي تمارس عليها وتبذل المستحيل لإنقاذ شريك حياتها من براثن (العدالة) الأميركية. عشرة أشهر مرت تغيرت خلالها حياة مها, أصبحت محامية وصحافية وخطيبة وناشطة حقوق إنسان. أصبحت لأولادها أماً وأباً. مها لا تقود السيارة, لأن نظام آيداهو يمنع القيادة بالنقاب, ولذا تقضي شؤونها مشياً على الأقدام. تقول: "أصطحب أطفالي معي إلى كل مكان, وعندما أوصل أولادي إلى المدرسة أقضي ساعات النهار خارج البيت. لم أدع طريقاً لدعم قضية سامي إلا سلكته, لا يهم إن كان الجو ماطراً أو ساخناً أو بارداً. المعاناة كبيرة, لكن أجر, وطيف أبي مهند يراودني ويسري عني ويخفف ما يصيبني من الأذى". مها تحزم أمتعتها للعودة إلى الوطن, فلم يعد في القوس منزع لمزيد من المقاومة, وان كان في الصدر متسع من إرادة صلبة وعزيمة لا تلين. تقول: "يتساءل الأطفال: هل نسافر ونترك بابا هنا". تكفكف مها دمعة ساخنة وتتمتم بالدعاء: "أسأل الله الذي رد موسى إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن, ورد يوسف بعد طول غياب إلى يعقوب أن يرد إلينا سامي. إن ربي لطيف لما يشاء. ما زلت في انتظار موعود الله باليسر بعد اليسر, ومن أوفى بعهده من الله, والله خيرٌ حافظاً, وهو أرحم الراحمين".
في ختام مقاله ذكر الدكتور بن سعيد أنه :
وفيما تستعد أسرة سامي للعودة, ينتظر سامي محاكمته في شهر كانون الثاني (يناير) المقبل. قضية سامي شاهد حي على المأزق الأخلاقي والسياسي الذي تتخبط فيه أميركا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر), وهي أيضاً شاهد على هشاشة الديموقراطية الأميركية التي لم تصمد في أول امتحان حقيقي لها, فضحت بقيمها ومؤسساتها وشعاراتها أمام قربان التعصب, زاجة بمئات المسلمين خلف القضبان بتهم أكثرها ملفق ومصطنع, ومقيمة معسكرات اعتقال جماعية خارج حدودها. لكن قضية سامي هي أيضا قضية أمة يراد لها أن تبقى رهينة سجن كبير, وعنوان لحضارة جميلة متسامحة تنفض عنها الغبار وتتهيأ للانبعاث من تحت الركام.
مجلة المجلة
أتابع على بعد بتقدير وإعجاب شديدين جهود سيدة سعودية منقبة لا اعرفها، اسمها مها الحصين، فمنذ قرأت قصتها ووقعت على الجهد الهائل الذي تبذله لاستنقاذ زوجها دارس الدكتوراه السعودي سامي الحصين، الذي شاء قدره أن يصبح أحد ضحايا ( العدالة الأمريكية ) وأنا أسال كل قادم من الولايات المتحدة الأمريكية إضافة عما إذا كان يعرف مها أو سمع عن جهودها، وما إذا كان قد تضامن معها أم لا ؟
ما أدهشني ليس فقط ما تفعله السيدة لأجل زوجها الضحية، ولكن أيضا كونها سعودية تمتعت بذلك القدر من القوة والذكاء والثبات والقدرة على الحركة، ولست اخفي أن صورة المرأة السعودية في الإدراك العربي – ناهيك عن الغربي – أنها مخلوق سلبي ومغيب لا دور له في الحياة العامة، ولا حضور يذكر في حين أن حركتها لا تتجاوز حدود العباءة السوداء التي تغطي الجسم كله، ومن ثقبين صغيرين في النقاب الذي يغطي وجهها ترى العالم وتتواصل مع الآخرين وهي معقودة اللسان.
وجه مسكوت عنه:
وقعت على قصة السيدة مها وزجها سامي في مقالة نشرتها صحيفة الحياة اللندنية عدد ( 12/5 ) كتبها الدكتور أحمد بن راشد بن سعيد، في جامعة الملك سعود، وحين فرغت من قراءة النص تمنيت أن يطلع عليه كل إنسان، ليعرف مدى الظلم الذي يعاني منه في الولايات المتحدة الشباب العربي الوفي لأمته ودينه، وكيف أهدرت حقوق الإنسان وضمانات العدالة في ذلك البلد الذي كان يضرب به المثل في هذه وتلك، ولكي يعرف أيضا أن زوجة السعودي المتهم التي لم تتخل عنه وتبرئة ساحته، وهي رمز لجيل من السعوديات يفاجئنا بحضوره وقدرته، وتتمنى أن تكون من استثمار ما يتمتع به من طاقات مبدعة وخلاقة، في أن يكون شريكا حاضرا في مختلف ساحات وآفاق بناء الحاضر والمستقبل.
إن المتابعات الصحافية التي تحدثنا عن معاناة المسلمين الناشطين في الولايات المتحدة الذين لم تتجاوز أنشطة أغلبيتهم الساحقة حدود المجالات الثقافية والخيرية والدفاع عن قضايا التهم التي يتهم ينتمي بعضهم إليها، وقضية فلسطين في المقدمة منها، هذه المتابعات سلطت الأضواء على ما نزل بأولئك المسلمين من ظلم وإجحاف وكيد، لكنها لم تعن كثيرا بما أصاب عائلاتهم من أضرار مادية ونفسية، ولا بالجهود التي تبذلها الزوجات والأمهات والبنات والأبناء والأشقاء لأجل رفع الظلم عن أولئك الناشطين، وإخراجهم من المحنة التي يعيشونها وراء القضبان.
محنة أسرة الدكتور العريان:
مازلت أتذكر ما قراءته ذات مرة عن معاناة أسرة الدكتور سامي العريان الأكاديمي الفلسطيني الذي كانت جريمته انه لم ينس وطنه الأصلي فلسطين، فدافع عن شعبه في مهجره، وظلت الأجهزة الأمنية والمؤسسات الصهيونية طيلة عشر سنوات تلاحقه وتتابعه وتبحث عن ذريعة لإسكاته واغتياله معنويا، إلى أن نجحت في العام الماضي في إلقائه في السجن بتهم مفتعله، وفي فصله بغير حق من جامعة جنوب كارولينا التي عمل بها من عام 1986م وتواطأ الجميع ضده حتى قررت المحكمة احتجازه حتى عام 2005م، ليس لأنه أدين، ولكن لإعطاء الوقت لفحص الأدلة المفتعلة ضده، وفي المقدمة منها أشرطة تسجيل مكالماته الهاتفية لعدة سنوات خلت ! هكذا في تحد صارخ لأبسط قواعد العدالة ومبادئ حقوق الإنسان.
لقد ضيقت السلطات الاميريكية الخنادق حوله، فنقلته إلى سجن يبعد 250 كم، ووضعته في زنزانة انفرادية كأنه من عتاة المجرمين الخطرين، وضغطت وحذرت الجالية المسلمة من تقديم أي عون لأسرته، في شأن تدبير نفقات محاميه، بل إن بعض السفارات الأمريكية في منطقة الخليج استدعت نفرا من أقاربه وحذرتهم من تقديم أي مساعدة مالية لأسرته في تدبير نفقات المحامي التي قدرت بعشرات الألوف من الدولارات وكان على زوجته نهلة وأبنائه أن يواجهوا وحدهم الموقف الذي فرض عليهم، من ضغوط الأجهزة الأمنية إلى شتائم الجيران التي لاحقت زوجته المحجبة وأبناءه، إلى نظرات الشك والازدراء التي أصبحت تحيط بالجميع حيثما ذهبوا فضلا عن التظاهرات المعادية التي نظمتها العناصر الصهيونية ضد الأسرة ومطالبتها بالرحيل، وانتهاء بقيام تلك المنظمات بتعليق صورته في الجامعة التي تدرس ابنته ( ليسا ) العلوم السياسية في إحدى كلياتها، وكان ولا يزال مطلوبا من الأسرة الصغيرة أن تواجه ذلك كله بثبات وشجاعة، وأن تنظم حملة دعاية لإطلاق سراح الأب الضحية، عن طريق الاتصال عبر الانترنت بالمنظمات الحقوقية الأمريكية ونشطاء حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، إضافة إلى مخاطبة الكونجرس، لعل ذلك يجدي في أنها المحنة، التي لم تدمر سمعة الدكتور العريان فحسب، ولكنها جاءت دليلا على تدهور أوضاع العدالة وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الاميريكة.لست أشك أن هناك مئات الحالات المماثلة التي لم نسمع بأغلبها، ولم نعرف شيئا عن جهود الأسر المسلمة العزلاء، وهي تواجه بشجاعة وبسالة الضغوط العاتية والقاسية التي تهدد أملها وكرامتها ورزقها طول الوقت، وقد وجدت في قصة السيدة مها الحصين نموذجا لتلك الشجاعة ينبغي أن يطلع عليه كل إنسان.
وحيدة أمام تطرف الإدارة الاميريكية:
أدري أنه ليس من تقاليد مهنة الصحافة أن ( يقتبس ) كاتب مقال كاتب آخر ويضع عليه اسمه، لكنني سمحت لنفسي أن أفعل ذلك، بعد نسب الكلام إلى صاحبه الذي أسجل انه عرض الموضوع باقتدار يستحق التحية عليه، وقد يثير غيرة بعض محترفي المهنة، وقد بررت لنفسي ما فعلت بما أدعية من أنني صاحب قضية قبل أن أكون صاحب حرفة، وإننا في عالمنا العربي بالذات لا نملك ترف الاحتراف في الإعلام لمجرد الاحتراف، كما أن الدور الخطير الذي أصبح يؤديه الإعلام في عالمنا المعاصر يحمله مسؤولية اكبر إزاء القضايا التي نعيشها، بحيث أن أي تخل عن تلك القضايا يصنف عداد ( الخيانة الثقافية ) التي لا تغتفر.
في عرضه لما جرى للمهندس السعودي سامي الحصين ( 34عاما) وما فعلته زوجته مها ( 29سنة) ذكر الدكتور بن سعيد أن عملاء المباحث الفيدرالية اختطفوا الرجل من بين أسرته في الساعة الرابعة من فجر السادس والعشرين من شهر فبراير ( شباط ) في العام الحالي 2003م ونقل عن الزوجة الصامدة والصابرة قولها ( أخذوا مني رفيق دربي إلى حيث لا اعلم داهمني الحزن على فراقه والخوف عليه حتى مرضت وتوجهت إلى الله بالدعاء أن يمنحني الرضا وان يجعل عواقب أمورنا إلى خير وقد استجاب الكريم فربط على قلبي وثبتني فله الحمد وله الشكر.
أضاف: سرى خبر اعتقال سامي في مدينة موسكو, وهي مدينة صغيرة تقع شمال ولاية آيداهو الأميركية, وتشتهر بجامعتها التي يدرس فيها سامي الدكتوراه في أمن الشبكات الحاسوبية مبتعثاً من المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني بالسعودية, وكان تخرجه متوقعاً في آذار (مارس) من عام 2004. تعاطف عدد كبير من الطلاب والأساتذة مع قضية سامي, لما يعرفون من حسن خلق الشاب ووداعته ونشاطه, ويذكرون موقفه بعيد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) حينما شارك في تظاهرة تندد بما حدث, وتبرع من دمه للمصابين. وما زاد تعاطف الجامعة مع سامي تهافت الاتهامات الموجهة إليه وضحالتها والتعسف الواضح في محاولة ربطه بما يوصف بالإرهاب. في ظل الحملة الشرسة على سامي لم تجد مها بداً من الوقوف أمام الإرهاب الذي تمارسه إدارة الرئيس جورج بوش بحق العرب والمسلمين, سيما أنه طاول هذه المرة شريك الحياة ورفيق الدرب. تقول مها: "إثر اعتقال سامي حدثت ضجة إعلامية كبيرة, وتوافد الصحافيون على بيتنا يتساءلون عن الأمر, فطفقت أحدثهم عن سامي الزوج والأب والطالب والإنسان. قلت لهم: إن لسامي من اسمه نصيباً, فقد تسامى عن كل رذيلة, وهو أهل لكل فضيلة, وما كان لرجل يحمل قلباً كبيراً كسامي أن يكون كما يقولون. وليس كبير القوم من يحمل الحقد". لم يكن سهلاً على مها أن تقاوم بوش ورامسفيلد وآشكروفت وغيرهم من متطرفي الإدارة الأميركية, لكن كان لا بد من التحرك, ومن العار أن تغضي الحرة على الضيم. قاومت مها ببسالة, وتحدثت للصحافة عن كل ما يؤكد براءة سامي. جمعت جاراتها الأميركيات وحثتهن على التحرك للمطالبة بالإفراج عنه. وكانت أبرز خطواتها أن نظمت حفلة عشاء كبيرة على مستوى مدينة موسكو وأرسلت بطاقات دعوة للمسؤولين, كما وزعت بطاقات دعوة خاصة على سكان المجمع الذي تقيم فيه, ونشرت دعوة عامة في الصحافة والتلفزيون, وقد حضر الحفلة قرابة مئتي مدعو. تحدث في الحفلة محامي حقوق الإنسان في جامعة آيداهو, والمشرف على برنامج سامي للدكتوراه, والمهند الابن الأكبر لسامي, ومحامي سامي, لكن مها كانت نجمة الحفلة إذ وقفت شامخة بنقابها ودافعت عن زوجها بلغة أدهشت الحاضرين وبأداء بلاغي حرك المشاعر في مجتمع يقدس الخطابة ويعامل أصحابها معاملة القادة. أعدت مها طاولة وضعت عليها نماذج لرسائل احتجاج جاهزة يقوم الحضور فقط بتوقيعها, ومن ثم يتم إرسالها إلى البيت الأبيض والكونغرس ومنظمات حقوق الإنسان. وزعت على الحضور أيضاً عشرات الفانلات المحتوية على عبارات مطالبة بالإفراج عن سامي, وحثت الجميع على المشاركة في مسيرة احتجاج ضد بقاء سامي في السجن, وارتداء الفانلات أثناء المسيرة. وبالفعل تم تنظيم مسيرة حاشدة رفعت فيها لافتات ظهرت عليها صور سامي وأطفاله, وطبعت عليها عبارات مثل: "اعملوا على جمع شمل العائلة". وسار المتظاهرون حاملين الشموع, وتم تناول الحدث في الصحافة المحلية. تقول مها: "لم يكن هدفي هو الدفاع عن سامي وحشد التأييد لإطلاق سراحه فحسب, بل كنت أسعى أيضاً للتعريف بحقيقة الإسلام وتقديمه للناس بصورته الجلية الناصعة".
وعندما تقرر حضور أحد المسؤولين عن مكافحة ما يسمى بالإرهاب إلى المدينة ليلقي كلمة عن الأحداث, هرعت مها إلى محاميتها وطلبت منها صياغة خطاب باسمها موجه إلى جورج بوش ليتم إلقاؤه أمام هذا المسؤول, وتم إعداد الخطاب وألقته المحامية أمام الحضور الذين تجاوز عددهم 300 شخص, وتحدث أيضاً أبناء سامي: المهند, وتميم, وزياد مرددين عبارات قصيرة حول شوقهم وحنينهم إلى والدهم. ولما بدأ العام الدراسي الجديد في أواخر آب (أغسطس) 2003 كتبت مها رسالة تهنئة للطلاب الجدد باسم سامي, ونشرته في صحيفة الجامعة, كما وضعته في لوحة الإعلانات في المكتبة العامة وفي الكليات. واستغلت عقد اجتماع عام للطلاب لمناقشة شؤونهم واحتياجاتهم, فذهبت إليه (على رغم أنها لم تكن من المنتسبين إلى الجامعة، وخاطبت الطلاب في شأن سامي قائلة إنه كان معهم قبل عام شعلة من نشاط, وهو الآن يقبع في زنزانة انفرادية من دون محاكمة ولا ذنب جناه. وامتد نشاط مها إلى استراحة الطلاب, حيث وضعت طاولة خاصة بالقضية, تتوسطها لافتة كتب عليها "سامي يحتاج إلى دعمك" وبجانبها صورة لأطفالها. تذهب مها إلى هذا المكان كل أربعاء وتمكث فيه ساعتين على الأقل, وتوزع مطويات عن القضية, وتجمع أكبر عدد ممكن من توقيعات الطلاب على نماذج الاحتجاج. تراسل مها عشرات الصحافيين وناشطي حقوق الإنسان في أميركا الشمالية وأوروبا, وتحثهم على تبني قضية سامي, في الوقت الذي تقوم فيه بتزويد موقع www.samiomar.com الذي أنشأه أصدقاء سامي بالمعلومات والصور. وامتد نشاط مها إلى كل الولايات, فتناولت القضية وتداعياتها في برنامج بثته شبكة إذاعية على مستوى البلاد.
أصبح منزل سامي/ مها مقصداً لمراسلي الصحف ومحطات التلفزيون والجيران المتضامنين. تقول مها إن جيرانها "يشعرون بالعار من الذي حدث لها ولأسرتها". أثمرت جهود مها, فالرسائل المتعاطفة تنهال على بيتها من كل أنحاء الولايات المتحدة, وهي تقول إنها لا تستطيع إحصاء البطاقات المعبرة عن الدعم والمساندة والتي تتدفق على عنوانها. إحدى الرسائل التي وصلتها بعث بها طبيب يعرض اقتطاع جزء من مرتبه الشهري مساعدة لها ولأطفالها, أو التكفل بإقامتهم. تذكر مها وأطفالها أنهم ذات صباح وجدوا كيساً عند باب بيتهم فيه ثلاث قصاصات مكتوب فيها عبارات تضامن مثل "قلوبنا معكم".
الإرهاب طال الزوجة:
ضاق رجال المباحث الأميركية ذرعاً بنشاط مها وحاولوا إرهابها عبر مباغتاتهم المتكررة لبيتها, لكن ذلك لم يوهن عزيمتها. أخيراً قبضوا عليها وخيروها بين المحاكمة أو الرحيل الفوري عن البلاد, وأمهلوها خمس دقائق لاتخاذ القرار. اضطرت للقبول بالمحاكمة. نشرت بعض الصحف مقالات تشيد بمها وبنزاهتها, وردت الحكومة ببيانات صحافية تتهم مها بكراهية أميركا, واستندت في ذلك إلى مكالمات هاتفية مسجلة لها, بيد أن ترجمة هذه المكالمات كانت سيئة ومليئة بالتحامل وسوء النية. كان رأي المباحث الاتحادية أن مها امرأة ذات ميول إرهابية في الأصل, ولذا اختارت سامي زوجاً. عقدت المحاكمة, وحكم على مها وطفلين من أطفالها بالرحيل عن الولايات المتحدة في مدة أقصاها أربعة أشهر, أما الطفل الأصغر فيمكن له البقاء, نظراً لأنه ولد في أميركا ويحمل جنسيتها.
تذهب مها كل نهاية أسبوع لزيارة زوجها في سجنه في مدينة بويزي التي تبعد نحو 800 كلم جنوبي موسكو. مدة الزيارة نصف ساعة, ويسمح لهما باللقاء عبر نافذة زجاجية صغيرة لا يتجاوز طولها ثلاثين سنتيمتراً, وتتحدث معه عبر الهاتف. لكنها في كل مرة تهمس لزوجها بعبارات تشد من أزره وتخفف لوعته.
ما زالت مها تقاوم الضغوط الرهيبة التي تمارس عليها وتبذل المستحيل لإنقاذ شريك حياتها من براثن (العدالة) الأميركية. عشرة أشهر مرت تغيرت خلالها حياة مها, أصبحت محامية وصحافية وخطيبة وناشطة حقوق إنسان. أصبحت لأولادها أماً وأباً. مها لا تقود السيارة, لأن نظام آيداهو يمنع القيادة بالنقاب, ولذا تقضي شؤونها مشياً على الأقدام. تقول: "أصطحب أطفالي معي إلى كل مكان, وعندما أوصل أولادي إلى المدرسة أقضي ساعات النهار خارج البيت. لم أدع طريقاً لدعم قضية سامي إلا سلكته, لا يهم إن كان الجو ماطراً أو ساخناً أو بارداً. المعاناة كبيرة, لكن أجر, وطيف أبي مهند يراودني ويسري عني ويخفف ما يصيبني من الأذى". مها تحزم أمتعتها للعودة إلى الوطن, فلم يعد في القوس منزع لمزيد من المقاومة, وان كان في الصدر متسع من إرادة صلبة وعزيمة لا تلين. تقول: "يتساءل الأطفال: هل نسافر ونترك بابا هنا". تكفكف مها دمعة ساخنة وتتمتم بالدعاء: "أسأل الله الذي رد موسى إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن, ورد يوسف بعد طول غياب إلى يعقوب أن يرد إلينا سامي. إن ربي لطيف لما يشاء. ما زلت في انتظار موعود الله باليسر بعد اليسر, ومن أوفى بعهده من الله, والله خيرٌ حافظاً, وهو أرحم الراحمين".
في ختام مقاله ذكر الدكتور بن سعيد أنه :
وفيما تستعد أسرة سامي للعودة, ينتظر سامي محاكمته في شهر كانون الثاني (يناير) المقبل. قضية سامي شاهد حي على المأزق الأخلاقي والسياسي الذي تتخبط فيه أميركا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر), وهي أيضاً شاهد على هشاشة الديموقراطية الأميركية التي لم تصمد في أول امتحان حقيقي لها, فضحت بقيمها ومؤسساتها وشعاراتها أمام قربان التعصب, زاجة بمئات المسلمين خلف القضبان بتهم أكثرها ملفق ومصطنع, ومقيمة معسكرات اعتقال جماعية خارج حدودها. لكن قضية سامي هي أيضا قضية أمة يراد لها أن تبقى رهينة سجن كبير, وعنوان لحضارة جميلة متسامحة تنفض عنها الغبار وتتهيأ للانبعاث من تحت الركام.