المنذر
17 Jul 2008, 05:58 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أما بعد:
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه الكريم: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:123]، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام:131] ويقول تعالى أيضاً: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ [الأعراف:4] فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأعراف:5].
· استدراج الله للأمم بالنعم
وقال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:94-99].
إن هذه الآيات التي يبين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيها أنه ما أرسل من نبي في قرية إلا أخذ أهلها بالبأساء والضراء، ثم بدل مكان السيئة الحسنة، أي: أنهم أبدلت سيئاتهم وكربهم تلك بحسنات ونِعَم، ثم ماذا حصل لهم بعد ذلك؟
ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا: قد مس آباءنا السراء والضراء، كانوا يتكلمون مما عفى عليهم، يقولون: قد مس آباءنا في الماضي السراء والضراء، وهم منعمون وينزل عليهم من الخيرات الشيء الكثير، ماذا حصل لهم بعد ذلك؟ قال تعالى: فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف:95] فالذي ينظر إلى واقع المسلمين اليوم، وينظر إلى مثل هذه الآيات يجدها تتمثل في واقعنا وحياتنا.
كان آباؤنا وأجدادنا قد مستهم البأساء والضراء، فبدلنا مكان السيئة الحسنة، حتى تنعم كثير من المسلمين، وعندها بدأ كثير منهم لا يرعوي لنعمة الله، ولا لكلام الله، ولا لما أعطاه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من جزيل النعم في الدنيا، بل أنكر هذه النعم، وجعل يعفو عليها ويتبرم منها، ينكر هذه النعم، فلا نخشى أن تأتي المرحلة التي بعدها.. وهي: فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف:95].
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائد الغُرِّ المحجلين وأكرم الخلق الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى غيماً أو ريحاً، أو رأى رعداً أو برقاً يصفر وجهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت تسأله عائشة رضي الله عنها: وتقول له: {يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا السحاب ورأوا مثل هذا فرحوا واستبشروا، فقال لها: يا عائشة قد عُذب أقوام بالريح، وقد عذب أقوام بالمطر } وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [النمل:58].
فإذا كان هذا هو حال رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما هي حالنا اليوم وقد أغرقنا في الذنوب والمعاصي حتى فشت فينا كثير من الذنوب والمعاصي؟
ثم يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مبيناً أمراً آخر: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96] عندما تكذب الأمم ويكذب الناس يأخذهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا بظلم منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما بما كانوا يكسبون، ولذلك يقول -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- محذراً الأمة: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25] فحذرنا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من ذلك في القرآن، وبيَّن لنا، وأوضح لنا الطريق، وأوضح لنا سنته في الكون، وسننه تعالى في إهلاك الأمم، وإتيان الأمم من بعدهم، فيحل قوماً مكان قوم، وهذه هي سنة الله، وما ذهب القوم الأولون إلا بما كسبوا، وما أتى القوم الآخرون إلا ليستخلفهم الله فينظر ماذا يعملون.
· الأمن من مكر الله
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ [الأعراف:97] أفأمنوا مكر الله عندما عملوا تلك المعاصي وجاهروا بها وأعلنوا الرذيلة والفاحشة في المؤمنين؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
يقول الله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:98] وهم يلعبون في ناديهم، ومجتمعاتهم، وأعمالهم: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
ثم بين الله في الآية التي بعدها أمراً آخراً عظيماً ألا وهو قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [الأعراف:100، 101] أي: أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها، أن أمة محمد قد ورثت الأرض من بعد الأمم السابقة التي أهلكها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الأعراف:100] أما يخافون؟ أما اهتدوا إلى هذه النقطة المهمة العظيمة بأن الذنوب والمعاصي سبب في إهلاك الشعوب والأمم جميعاً لا فرق..! فهذا إنذار من رب العالمين: أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [الأعراف:100] نطبع على قلوبهم حتى لو رأوا الآيات والنذر فإنهم لا يؤمنون ولا يتبعون الحق؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم: وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100].
ثم بين بعد ذلك، قال: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا [الأعراف:101] إلى آخر الآية، وآيات أخرى.
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98] إذاً: لما آمنوا كانت النتيجة أن الله كشف عنهم عذاب الخزي ومتعهم إلى حين، وهذه هي نتيجة طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واتباع كتابه وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
· اقتراب موعد الهلاك
فإذا كثر الفساد في الأرض وانتشر الخبث في الناس، فإنه ينذر بعاقبة وخيمة...!
عندما سألت إحدى نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أونهلك يا رسول الله وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث } فالخبث إذا كثر في أمة من الأمم فإنه نذير بأن تهلك هذه الأمة كما ورد ذلك في القرآن؛ إما بخسف أو بمسخ أو بريح أو بعاصفة أو بفيضان أو بزلزال أو ببركان أو بطاعون أو بمرض أو بغير ذلك من جند الله التي لا يحصيها إلا رب العالمين، يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] فالشرط أن تكون ظالمة، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116-117].
فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ [هود:116] أما إذا أُمر بالفساد وانتشر الفساد، ولم يوجد أولو بقية من الصالحين والطائعين ينهون عن الفساد في الأرض، فإنها عند ذلك تقع الطامة، فقوله: أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ [هود:117] هؤلاء قليل، أما البقية الذين ظلموا فإنهم اتبعوا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين، مجرمين على أنفسهم، ومجتمعهم، وأسرهم، وديارهم التي كانوا يسكنون فيها، فإن العذاب لما حلَّ، حَلَّ بالجميع: قُلِبتَ الديار، وتضرر المجتمع، والأفراد، والأسرة، والدواب، والشجر، والحجر من تلك المعاصي التي كانوا يفعلونها.
فما كان ليهلكها بظلم وأهلها مصلحون، ونجزم بذلك لِماَ نُؤمن به من وعد الله ألا يهلكهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ويقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مبيناً كيف قصم الأمم التي ظلمت أنفسها وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ [الأنبياء:11-15] فما زالت تلك دعواهم، أي ما زالوا يرددون يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء:14] حتى جعلناهم حصيداً خامدين، والسبب هو: أنهم من قرية كانت ظالمة فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا [الأنبياء:12] لما أحسوا بالخطر والضياع والتشريد والدمار بدأت الصيحات وإنذارات الخطر تظهر يمنة ويسرة وأماماً وخلفاً، كلهم ينذرون صيحة الخطر فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ [الأنبياء:15].
· غفلة الأمم عن عذاب الله لها
ويقول: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مبيناً أن القرية التي ينذرها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بعقاب بسيط أو بإنذار يسير لا ترجع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن القوم تمر بهم النكبات والويلات من حولهم، ولا يعتبرون ولا يتعظون بمن حولهم، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95] لا يرجعون إلى الحق والصواب، وكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرام عليهم؛ فعندما يرون عذاب الله، وعندما ينذرهم الله ببعض هزات خفيفة لا تؤثر فيهم الأثر العظيم ومع ذلك يبقون على ذنوبهم ومعاصيهم، حتى يأتيهم العذاب الأليم، هذه نُذُر كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل المنافق مثل الحمار لا يدري فيم ربط ولا فيم أطلق } فهؤلاء حتى مع إنذارالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم فإنهم لا يفقهون ولا يرجعون ولا يعقلون، نسأل الله السلامة والعافية.
وكذلك يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ [الرعد:31] فهذا إنذار قارعة تصيبهم أو تحل قريباً من دارهم.
هذه آيات الله فينا تتلى، نسأل الله أن يرزقنا الخشية والإنابة والتوبة والمعرفة والصدق والإخلاص.
ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً [الطلاق:8-11] فبيَّن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مصير القرية التي عتت عن أمر ربها، وبين في الأخير الذين آمنوا به وبرسله، وبيَّن نعمته ومِنَّته على المؤمنين؛ إذ أرسل لهم رسولاً يدلهم على الخير والطريق المستقيم، ويُحذِّرهم من طريق الغواية، والآيات أكثر من ذلك وأعظم، ولكن نكتفي بهذا القدر لنتطرق إلى نقاط أخرى.
يقول الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي :
الحمد لله الذي من رحمته وفضله بيَّن أسباب النجاة ويسرها وأوضحها وجلَّاها، وبيَّن أسباب الدمار والهلاك، لنجتنبها ونتوقاها، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد المبعوث رحمةً للعالمين، أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ومن طريق الهلكة والدمار والخراب إلى طريق النجاة والسعادة والفلاح، وسدَّ من الحقوق والطاعات، كل طريق إلى الخير والنجاة والسعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة إلا من طريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد :
لو تأملنا كتاب الله وقرأناه، هذا الكتاب المهجور إلا ممن رحم الله! لوجدنا أن موضوعاته جميعاً تنحصر في ثلاثة:
إما الأمر بالتوحيد وما يتبعه من الحقوق والطاعات مع النهي عن الشرك وما يتبعه من المعاصي والذنوب.
وإما خبر عما صار لأهل التوحيد والطاعة من النجاة والسعادة والفلاح، وخبر عما كان لأهل الشرك والمعاصي من الدمار والوبال والخسارة.
وإما حال هؤلاء، وهؤلاء عند البعث يوم القيامة.
فهذه هي موضوعات القرآن.. وكل ما في القرآن لا يخرج عن هذا.
· 2 - فرح الأمم بما عندها من العلم جعلها ترفض قبول الحق
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الإنسان وهو يعلم حاله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] فهو يعلم أن هذا الإنسان ظلوم جهول، ولهذا احتمل الأمانة وقبلها بعد أن أبت منها السماوات والأرض إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] هذا الظلوم الجهول لا بد أن يُذَّكر، وأن تتلو الذكرى ذكرى، والموعظة موعظة، ولكن ما أكثر العبر! وما أقل الاعتبار! والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قصَّ علينا من أنباء ما قد سبق، وذكر لنا حال الأمم، أين قوم نوح؟ أين عاد؟ أين ثمود؟ أين فرعون؟ أين تلك الأمم؟ وأين تلك الحضارات؟ وأين القرى التي عُمِّرت وسادت وبنت وأترفت في الحياة الدنيا حتى ظن أصحابها أنه لا يقدر عليهم أحد حتى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! ولهذا قالت أعتى تلك الأمم وهي عاد: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة [فصلت:15] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو أشد منهم قوة ولكنها الغفلة.
لماذا تأتي هذه الغفلات؟ ولماذا نجد صورتها ما تزال حية واقعة إلى اليوم في هذه الدنيا؟
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فصل ذلك وبينه.
من أعظم الأسباب التي تجعل القلوب تغفل عن الله عز وجل ولا تتعظ ولا تعتبر: أن يفرح الناس بالحضارة والتقدم والإنتاج والصناعة وما هم فيه من الترف والنعيم! فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ [غافر:83].
يقولون: لماذا نطيع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعلم لدينا إذا قيل لهم: أيها الناس! اتقوا الله وذروا الزنا واللواط والفحشاء تنجوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة، قالوا: لا نطيع أمر الله ولا أمر رسول الله، لدينا الأطباء، والعلم كل يوم يبحث لاختراع علاج لمقاومة الإيدز وما أشبهه، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ [سبأ:45] أي: عشر العشر، فالحضارات الماضية بلغت الشيء الذي لم تبلغ هذه الأمة منه عشر العشر، كل أمة تظن أنها أرقى الأمم في الحضارة، وأن ما عندها من العلم كافٍ لأن تنكر أمر الله وتعترض عليه ولا تتبعه، إذا قيل لهم: إن الله حرم الربا، قالوا: لا، عندنا علماء اقتصاد وعندنا خطط، وعندنا خبرات تكفي لأن نتوقى المخاطر التي تنجم عن الربا.
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] وظنوا أن هذا العلم يكفي لاجتناب ما ينزل من أخطار؛ حتى عندما هُددوا بالأعاصير والزلازل فرحوا بما عندهم من العلم، قالوا: أصبح بالإمكان مراقبة الإعصار وهو ما يزال في المحيط الأطلسي أو المحيط الهادي ، فلا يأتي إلى المدينة، إلا وقد أخذت جميع الاحتياطات والاستعدادات، والزلازل يمكن أن ترصد... وهكذا، لكن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يملي لهم كما قال: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45] ولكن إذا جاء أمر الله تتبخر وتتبدد كل هذه الأوهام، ويذهب ذلك العلم والكبرياء فيه، ويركضون... ولكن وراء السراب، حيث لا ينفع حينئذ إلا أن يتوبوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما أكثر الغافلين.
وأما قصة قوم يونس التي سمعتم فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ [يونس:98].
فهي قصة شاذة في تاريخ الأنبياء والأمم، أنَّ أمة تؤمن حال رؤية العذاب أو قرب رؤية العذاب، فمن رحمة الله أن يفتح الباب للتوبة وللاستغفار، ولكن قل من يتذكر.
· 3 - أسباب انهيار الأمم
إذا تكبرت الأمم وطغت وانتشر فيها الفساد عاجلها الله بالعقوبة، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ [الفجر:6-10] ماذا عملوا، وما صنعوا؟ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ [الفجر:11-12] فكانت النتيجة فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:13-14] فما هو الفساد والطغيان؟ فأوجه الفساد والطغيان كثيرة، ولكن هل في البشرية من يتدبر ويعقل؟! العقلاء هؤلاء يرفعون العقيرة بالنذر، وهم قليل جداً في التاريخ.
وبما أننا في عصر قد عُظِّمت فيه أوروبا وحضارتها الغربية المسيطرة على العالم، والتي تقوده إلى الدمار والهاوية؛ فلننظر ماذا قال علماء وباحثو الغرب ومفكروه العقلاء -وهم قلة- لما رأوا أمتهم تمضي إلى هذا الدمار والانهيار، تفكروا في حال أممهم وبحثوا عن أسباب الانهيار؟ وأسباب الفساد الذي أدى إلى من قبل في انهيار الامبراطورية الرومانية، وانهيار الحضارات.
· انتشار التبرج والزنا والخمور
هناك رجل غربي يعرفه كل مفكر غربي، وهو المعروف بـأرنولد توينبي ، ويعتبر توينبي أكبر مؤرخ في هذا العصر، فقد درس جميع الحضارات، وأحصى الحضارات القديمة التي يمكن أن تعرف، واستطاع أن يجد أن هناك أكثر من إحدى وعشرين حضارة من الحضارات، بعضها استمر ألف سنة، وبعضها خمسمائة سنة، في أنحاء مختلفة من الأرض، ومنها الحضارات التي نعرفها جميعاً: الحضارة اليونانية، الحضارة الرومانية، الحضارة التي يسميها هو الحضارة العربية، ثم الحضارة الأوروبية، هذه الأربع المعروفة الآن في التاريخ، وما قبلها مندثر منقرض، ومن آخر الحضارات حضارة لم تنقرض إلا قبل خمسمائة سنة في أمريكا الجنوبية ، وما تزال أعلامها ماثلة إلى اليوم، فوجد أن كل هذه الحضارات في التاريخ المكتوب تنهار وتنقرض وتدمر بأسباب منها: أن تخرج المرأة وتترك وظيفة الأمومة، وينتشر التبرج والزنا، فمن تتبع سقوط هذه الحضارات وجد أن السبب هو هذه الظاهرة.
انقرض اليونان لأن المسارح أصبحت علناً، وانتشر فيهم الاختلاط والخمر والزنا والتبرج..! وكذلك الحضارة الرومانية وقد كان من أسباب انهيار الحضارة الإسلامية في بغداد انتشار المعاصي والذنوب، كما شهد بذلك أعداء الإسلام وهم كفار، حتى أن الخليفة -الذي كان في بغداد لما دخلها هولاكو وحاصرها- كان قد كتب إلى أمير الموصل يقول: 'بلغنا أن مغنياً مشهوراً عندكم أوجد نغمات جديدة في السلم الموسيقي، فنريد أن تبعثوا به إلينا' وكان اسمه صفي الدين .
فسبق دخول هولاكو دخول ذلك المغني، فحصل الدمار، وقُتل من المسلمين على أيدي أولئك الوثنيين وبتعاون من الروافض الملاعين أكثر من مليون وقيل: مليوني رجل، وأقل ما قيل إنهم ثمانمائة ألف قتلوا من المسلمين في بغداد من أهل السنة ومن خيار أهل السنة ، فلما انتشرت المعاصي وانتشر الترف والتبرج والغناء، كانت النتيجة هي الدمار والخراب.
وهذا رجل غربي آخر يدعى توينبي : " الحضارة الغربية اليوم سوف تنهار لأنه ينتشر فيها شرب الخمر" فذكر أحد الأسباب: شرب الخمر، والسبب الآخر الذي ذكره قال: ' إن أوروبا سوف تصبح أقلية بين الشعوب ولهذا تنهار أوروبا '.
· الكفر بالله من أعظم أسباب الانهيار
نحن نعلم أن السبب هو: الكفر بالله عز وجل، وأما باقي ذكره فهي أسباب عرضية أو فرعية، فلماذا تصبح أوروبا أقلية؟
في جميع البحوث التي أجريت في أكثر من دولة أوروبية، تبين لهم أن السبب في نقص عدد السكان وكثرة عدد الوفيات بالنسبة للمواليد هو: خروج المرأة لتعمل ولتشارك الرجل في العمل، فلما خرجت لم تتزوج، واكتفت بالعشيق فلم تنجب، فكانت النتيجة أن عدد المواليد أقل من عدد الوفيات، وبالتالي ستصبح هذه الأمة أقلية، فمن سنن الله أنه لم يجعل الدمار والانهيار فجأة بغير مقدمات وبغير أسباب تؤدي إلى نتائج.
وأما أوزوالد اشبنجلر المؤرخ الألماني الذي أصدر كتاباً ضخماً في ثلاث مجلدات عن تدهور الحضارة الغربية وانحطاطها، مع أن هذا الرجل توفي عام 1923م أو قريباً من ذلك، قبل أن يصل الفساد إلى ما نراه اليوم -يقول هذا الرجل: 'إن خروج المرأة من البيت هو المنعطف الخطير الذي إذا وصلت إليه أي حضارة من الحضارات بدأت بالسقوط، وبدأت بالانهيار'.
ويضرب لذلك مثالاً ببطلة إبسون -إبسون هو أديب من أدبائهم- يقول: ' إذا أصبحت بطلة إبسون هذه هي النموذج للمرأة الغربية، فالحضارة الغربية سوف تنهار ' وهذا ما وقع والانهيار حاصل، فقد أنطقهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما تدبروا ولما تأملوا والأمثلة على ذلك كثيرة.
· الترف من أسباب الانهيار
من أسباب الانهيار التي ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: انتشار الترف، ولهذا فإن أول من يرد دعوة الأنبياء هم المترفون، كما قال تعالى: إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ:34]، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [الإسراء:16]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا [الأنعام:123] فأكابر المجرمين المترفين يردون الحق والدعوات وواعظ الخير، لأن ترفهم قد ران على قلوبهم، فالترفُ وحبُّ الدنيا يُقسِّي القلب، فلا يطيق صاحبه أن يسمع شيئاً عن الآخرة، هذا الرجل المترف الذي هذا حاله، لو جلست معه أو جلس أمام أي منظار أو مرآة أو مشهد ساعات فإنه لا يمل، ولو جاءه رجل يذكره بالموت خمس دقائق لملَّ ولخرج، لا يريد أن يسمع ذكراً للموت، ولا يريد أن يسمع ذكراً للآخرة -نسأل الله العفو والعافية- قست قلوبهم، حتى إذا جاءهم العذاب، فإنه يأتيهم وهم في تلك القسوة فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:24-25] هكذا قسوة القلب فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُم [الأنعام:43].
يقول الحسن البصري رحمه الله: [[يا أهل العراق لا تدفعوا عذاب الله بأيديكم وأرجلكم، ولكن ادفعوه بالتوبة إلى الله، فإن الله تبارك وتعالى يقول: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43] ]] تضرعوا إلى الله وتوبوا إليه يكشف ما بكم من سوء ويبدل حالكم.
يقول مالك بن دينار : [[ ذهب أهل البصرة يستسقون فلم يمطروا، فعادوا وقالوا: عجباً والله! استسقينا ولم نمطر، قال مالك: سبحان الله! ستبطئون المطر، أما والله إني لأستبطئ الحجارة من السماء ]].
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما جعل للمطر وللنعم سبباً إلا الاستغفار فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12] استغفروا الله وتوبوا إليه [[ تستبطئون المطر، أما والله إني لأستبطئ الحجارة من السماء ]] هكذا يقول مالك بن دينار رحمه الله في عصر الخير، في القرن الأول أو بداية الثاني، وأين نحن من هذا؟!
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى غيماً أو سحاباً يخاف ويصفر وجهه، وكأن عذاباً سينزل، وأولئك الذين قست قلوبهم يقولون: (عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) فلنقارن بين الحالين، ولننظر في واقعنا، هل نحن أقرب إلى حال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخوف من عذاب الله وتوقع عذاب الله بسبب ذنوبنا ومعاصينا، أم نحن أقرب إلى قسوة عاد، ونظرتها إلى كل هذه الأمور أنها ليست إلا عوارض، أو أمور تنتهي؟
· البطر والملك من أسباب الانهيار
من الأسباب الأخرى والعوامل التي تنخر في كيان الأمم والشعوب البطر والملل من الحياة الرغيدة الهنيئة، فقد ذكر الله تعالى لذلك مثالاً لأمة عجيبة ذكرها القرآن تفصيلاً وهي سبأ: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:16] جنة عن يمين وجنة عن شمال كلوا واشربوا من هذه النِعم، بلدة طيبة معطاءة، ورب غفور يغفر الخطايا، استغفروا وكلوا وتمتعوا، فماذا كانت النتيجة؟ أعرضوا! وهذا الإعراض هو الذي دمر الأمم، فماذا كان من تلك الجنات؟ وأين ذهبت؟ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16].
لقد رأيت هذا بعيني، وإنها لعبرة لمن يذهب إلى هنالك، وأنت ترى ما ذكره الله من الأثل والسدر القليل، في تربة يزيد سمكها عن عشرة أمتار، من أجود أنواع التربة، ولا ينبت فيها شيء إلا الأثل وشيء من سدر قليل، كما أخبر الله، والماء يجري إلى اليوم، وإذا جاء السيل فإنه يجري جرياناً كأنه نهر عظيم، والتربة خصبة ولا يوجد إلا أثل وشيء من سدر قليل، فالذنوب وأثرها يتعدى إلى الأرض فلا تنتج بل تجدب، يتعدى إلى الدواب، فتعذب البهائم بالقحط، وتعذب بالزلازل والغرق، فما ذنب البهائم؟! لا ذنب لها، ما الذنب إلا ذنب من عصى الله عز وجل وجاهر الله تبارك وتعالى بالمعاصي وأعلنها، فهذا هو البطر.
ماذا قالت سبأ لما بطرت النعمة: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ [سبأ:18] حكمة من الله ورحمة منه أن أعاد لهم مرة ثانية شيئاً من الخير في الأرض، وجعل بينها وبين القرى التي بارك فيها -بلاد الشام - قرىً ظاهرة وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ [سبأ:18] تجارة وأمن وقرى ظاهرة، تمشي في الصباح من قرية وتبيت في قرية، فماذا قالوا؟ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ:19] يريدون المشقة والتعب ويريدون أن يتذوقوا متعة الرحلات.
فحالة البطر والملل التي تصيب الإنسان معروفة اليوم حتى عند علماء النفس والاجتماع، لو وجدت شاباً نشأ في ترف لا تصادفه أي مشكلة أبداً، كل شيء مهيأ له تجد أنه يحاول أن يفتعل مشكلة كبيرة يجرها على نفسه أو على أبيه أو على المجتمع، حتى يعاني من مشكلة، فهو لا يريد أن يعيش من دون مشاكل.
هذه حالة هؤلاء القوم فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ [سبأ:19] أين هم؟ لم يبق من أولئك القوم إلا أحاديث يتحدث بها في المجالس، ذكريات عابرة، هذا الذي بقي من أمة عظيمة كانت تطغى وتتجبر على خالق الأرض والسماء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما عصت الله عز وجل فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّق [سبأ:9] فهذه حالتهم.
· ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هناك أكابر المجرمين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، إذا تآمروا وإذا تُرِكَ لهم الحبل على الغارب، وأطلق لهم العنان، ولم يضرب على أيديهم، ولم يؤطروا على الحق أطرا، فهذا من أعظم أسباب دمار الأمم والشعوب.
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوم صالح: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:48-49].
فالذين كانوا يمثلون دور أكابر مجرميها، ودور مترفيها، كانوا تسعة، وقالوا: لا بد أن نقضي على صالح، ولا بد أن نقضي على الناقة، فانطلق أشقاها فضربها بسهمه، فماذا كانت النتيجة؟ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:51] دمر التسعة ومن معهم...! وما ذلك إلا لأن العاقل لم يأخذ على يد السفيه، ولم يضرب عليه.
· المحاباة في حدود الله
بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبباً عظيماً من أسباب هلاك الأمم ودمارها، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه } إذا عطَّلنا أحكام الله عز وجل مراعاةً لحال فلان (هذا قريب) (هذا بعيد) (هذا شريف) فتدخل الشفاعة في حدود الله، وتقام على الضعفاء ولا تقام على الكبراء، فهذا مما يمهد لكي يكون المترفون أكثر قوة وتمكناً، حتى أن أحدهم لا يخاف من أي شيء، لأنه مطمئن أن أي شيء يقع فبيده أن يتخلص منه، فإن خُوِّف بعذاب أو بأمر أو بعقوبة، قال: العقوبة أستطيع أن أدفعها، وإن خوف بالفقر فهو يرى أنه أغنى من في المجتمع أومن أغنى الناس، وهكذا البطر حين يأتي إلى هذه القلوب.
فالأمة التي تقيم حدود الله على ضعفائها ولا تقيمها على أشرافها أمة معرضة للهلاك والدمار، فلا بد من إقامة أمر الله وحدود الله على الصغير والكبير، حتى ينزجر الناس ويرتدعوا، فتسلم بذلك الأمة، وتنجو من عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن عقوبته، وبغير ذلك فإن الناس لا يزدادون إلا قسوة، مهما رأوا من نذر العذاب، فإن القلوب إذا قست وإذا غفلت عن الله لا يؤثر فيها عبرة ولا موعظة، فهذان مثلان حالهما واحد.
· مجاهرة الله بالمعاصي
يقول تشرشل قائد جيوش الانجليز في الحرب العالمية الثانية: ' لما كانت الطائرات الألمانية تضرب لندن كل يوم، وتنزل عليها الأمطار من القنابل، اضطر الناس إلى أن يضعوا المسارح والمراقص تحت الأرض ويقول العاملون فيها: إن الإقبال على المراقص وعلى المسارح وعلى شرب الخمر تضاعف، ويتضاعف عند القصف الألماني على البلد'.
وفي بلد آخر عربي ما هو منا ببعيد نفس المشكلة، يقولون: إن المراقص والمسارح تحت الأرض، فإذا تقاتلت المليشيات، ينزلون فيسكرون ويرقصون، فإذا أُعلنت هدنة مؤقتة عادوا إلى بيوتهم!
لا تظن أن الإنسان إذا ابتعد عن الله يمكن أن يعظه أي واعظ أو أي زاجر، ولهذا لما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأمم التي أهلكها، وما تركت من آبار معطلة وقصور مشيدة قال بعد ذلك: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] فالقلوب إذا عميت ترى الآثار شاخصة ولكنها لا تعتبر ولا تتعظ، يمر بقصر مهجور، وببئر معطلة، ويمر بآثار العذاب -وقد يكون قريب منه ولكنه في غفلة، ولو عرضت عليه أسباب اللهو، لانتهزها فرصة، وترك العبرة والموعظة، وهذا لا يفعله حيوان، فالحيوان إذا رأى حيواناً يذبح فإنه يفر، ويخاف، وأما هؤلاء الناس فإنهم يرون الدمار والخراب، ويستمرون في معصية الله ويعرضون عن طاعة الله وذكره، ولهذا كان التهديد من الله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ [الأعراف:97] في أثناء هذا الليل الطويل من السكر والعربدة واللهو أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:98] اللعب العام، فحياتهم كلها لعب، أو اللعب الخاص حين يجتمع في الملعب خمسون ألفاً أو مائة ألف ليس فيهم من يصلي -نسأل الله العفو والعافية- فماذا يريدون؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
نعوذ بالله من الأمن من مكر الله، ونعوذ بالله من الخسارة والدمار، ونسأل الله تعالى أن يحفظنا، وأمتنا، وإخواننا المسلمين من أسباب عقوبته وانتقامه، وأن يردنا إليه رداً حميداً؛ إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
- العلاج
يقول الشيخ عبد الله المحمدي :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أما بعد:
إن علاج هذا الموضوع بسيط جداً، ويتلخص في اتباع كلام الله، وسنة رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأول علاج هو عدم الشرك بالله، ثم عدم الابتداع في دين الله، ثم عدم
الاختلاف بين المسلمين، وهذه سوف أترك الكلام فيها على الشيخ سفر ، لكن أطرق علاج المشكلة من جوانب اجتماعية حذَّر منها الله ورسوله والإسلام.
· القضاء على الزنا
فأول هذه المشاكل الاجتماعية التي تؤدي إلى انهيار الأمم وإلى الخسف والمسخ هو الزنا، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عنه ابن عباس : {إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله } رواه الحاكم ، وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه.
وكذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه ابن عباس : {ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقي في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم الموت }.
وكذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما ترويه ميمونة رضي الله عنها: {لا تزال أمتي بخير ما لم يفشُ فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا، فيوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب من عنده } رواه الإمام أحمد .
ويقول ابن القيم رحمه الله: 'إن الزنا من أسباب الموت العام، والطواعين المتصلة، ولما اختلطت البغايا بعسكر موسى عليه السلام وفشت فيهم الفاحشة، أرسل الله عليهم الطاعون، فمات في يوم واحد سبعون ألفاً' فعوامل انهيار الأمم تكمن في موتهم بطاعون أو بغير ذلك.
وإن أعظم نتائج الزنا اليومك انتشار الأمراض الجنسية وغيرها، من الزهري والسيلان والهربز والإيدز، هذه التي بدأت تفتك بالمجتمع الغربي اليوم حتى بدأت جذورها تنتقل إلينا.
إننا في معالجة هذا الموضوع لا بد أن نضع نصب أعيننا أن نمنع الفاحشة بين المؤمنين، فإن الفاحشة ما انتشرت في قوم إلا عمهم الله بعقاب أو عمهم بمرض أو طاعون، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكمن ذلك في تطبيق حدود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بجلد الزاني إن كان غير محصن، أو برجمه إن كان محصناً، فوجود هذا الأمر هو أكبر علاج في القضايا الاجتماعية.
· القضاء على الربا
لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] فأسباب الهلاك أن نعاند الله وأن نحاربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكم من ربا في ديار المسلمين، وكم من المسلمين ممن يتعامل بالربا، حتى أصبحت البنوك الربوية تتفاخر، وأصبح أحدهم يُعلن عن قيامه منذ خمسين عاماً، ويعلن الآخر عن قيامه منذ ستين عاماً، ويعلن له في جميع الصحف والمجلات، وأصبح الكثير منا يؤمن بالربا ويتعامل به، ويحث عليه، نسأل الله السلامة والعافية!! أليس هذا مرضاً خطيراً وداءً عظيماً، إن من أسباب العلاج إن أردناه أن ننبذ ما سوى شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كالربا والزنا وكل ما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
· القضاء على شرب الخمر
الخمر أم الخبائث كما سماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس هناك مجال لأذكر لكم الآيات والأحاديث في تحريمها، ولكن أبين لكم الجانب الذي تهدم فيه الخمر الأمم والشعوب.
أذكر لكم إحصائيات في دول أوروبا حيث انتشرت هناك الخمر، إحصائية تقول: إن (66%) من جنايات الاعتداء على الأشخاص مرتكبوها هم من مدمني الخمر؛ لأن الذي يشرب الخمر يعتدي ويقتل، فهذا سبب من أسباب انهيار الأمم، وإحصائية أخرى تقول: نسبة المدمنين من مجرمي العنف (82%) وفي جرائم القتل (53%) ممن قتلوا بسبب الخمر، وكذلك في التشريد، والمتشردين، والمتسولين (80%) من الخمر.
· الحد من عمل المرأة
فقد بدأت تظهر في المجتمع علامات هذا الداء، ألا وهو خروج المرأة، وتبرجها، وسفورها، وخروجها إلى العمل؛ بل الأعظم من ذلك أننا جميعاً نعلن ذلك في صحفنا وإعلامنا وندعو نساءنا إلى التبرج، والسفور، وأن يتكلمن أمام الملأ، وندعوهن إلى كشف الوجه، وإلى الفن والأدب، ونطرق لهن أبواباً لم تطرق من قبل، حتى دعا بعضهم النساء والفتيات إلى الرياضة، والأندية الرياضية.
إنه -والله- كما يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما تركت فتنة بعدي أضر على الرجال من النساء } إذا خرجت المرأة كما حدث في المجتمع الغربي، وشاركت الرجل في عمله، وخرجت ماجنة متعطرة فاجرة فاسقة، تضرب بالمثل والدين والقيم عرض الحائط، فعند ذلك لن يتربى جيلنا تربية إسلامية، ولا شبابنا أيضاً، ولن يجد الشارع المسلم الذي يمنعه من الرذيلة، فينبغي علينا جميعاً أن نتقي الله في نسائنا، وبناتنا وأخواتنا، وفي كل قريبة لنا، وأن نمنعهن من أن ينجرفن أمام الدعايات الفتاكة، والحياة الفتانة باسم الحرية والفن والتقدم وعدم الرجعية، كل ذلك يدعو شبابنا وشاباتنا؛ لأن ينجرفوا أمام الملهيات والمغريات، فلنتق الله، ولنعلم أننا مسئولون عن ذلك، فإن هذه الأمة تقدم على أمر خطير بيد قوم لا يرعوون عن مخالفة أمر الله فيها، ولا ينصاعون لأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي الأخير أذكر لكم بعض النقولات، يقول باتلر وموريل ، -وهما طبيبان أوروبيان- : 'يذهب الوالدان للعمل خارج البيت، ويتركان الأولاد المراهقين ليعتنوا بأنفسهم مما أدى إلى ضعف الصلات العائلية' أي: أن ذلك يؤدي إلى تفكك الأسرة والمجتمع، وضياع الأمة، ويؤدي إلى ترك الزوجة لزوجها، واتخاذ خدين لها، وإلى أن تتعرف البنت على صديق وعشيق لها، وما إلى ذلك..!
أترك المجال لنقاط أخرى في علاج هذه القضية، وأسال الله الكريم أن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير والسداد.
· فضل التوبة والاستغفار
الحمد لله رب العالمين؛ فإن من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على العالمين أنه جل شأنه يقبل من أناب وتاب مهما عصى وفَجَرَ، ومهما عمل من السيئات، فاللحظات والأيام والليالي التي تسبق نذر العذاب هي أغلى ما تملكه أي أمة من الأمم أو فرد من الأفراد، فأغلى ما في حياة الإنسان هي تلك اللحظات التي تسبق نذر العقوبة بأن يتوب إلى الله ويستغفره.
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من كرمه وجوده فتح باب التوبة، لأعدى أعدائه الذين حرقوا أولياءه وشقوا لهم الأخاديد وألقوهم في النار إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ [البروج:10] يفتح باب التوبة لمن يحرق أولياءه المؤمنين الموحدين أحياء في النار، فما بالكم بمن كان ذنبه دون ذلك كالزنا أو الربا أو ما أشبه ذلك من المعاصي؟
· القيام بتحمل المسؤولية
الحل بأيدينا فلا يقل أحدنا: الحل عند فلان، والمسئولية على فلان، فإن من أعظم الأدواء ومن أكثر أسباب انتشار واستشراء أسباب الدمار والهلاك أن نلقي بالتبعة وبالمسئولية على جهة معينة أو شخص معين، حتى مسئولياتنا في البيت قد يلقيها الرجل على الزوجة والأولاد، لا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته } فابدأ بنفسك تجد الحل، وانظر إلى تقصيرك في طاعة الله -عز وجل- وزن نفسك بالميزان الصحيح، فستجد أن ما فيك من الذنوب جدير وحقيق بالعقوبة، وأنك إن تبت إلى الله عز وجل فسوف تجده غفوراً رحيما، وكلنا ذلك الرجل، فعلينا أن نبدأ بأنفسنا، وأن ننظر إلى ذنوبنا، وإلى حال غيرنا من الناس نظرة النصح والإشفاق، لا أن نحملهم كل المسؤوليات ونترك أنفسنا، فالحل هو الاستغفار والتوبة.
قال تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98] لما آمنوا كشف الله تعالى عنهم العذاب، وقد كان وشيك الوقوع.
فنحن والله اليوم يوشك أن يعمنا الله بعذاب، فهذه الأرض، قد امتلأت بالخطايا والفجور والفحشاء بما لم يعهد في التاريخ المكتوب أبداً، فالحل أن نستغفر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأن نتوب إلى الله:
أولاً: من الذنوب الكبار، من الشرك بالله تعالى، فهو أعظم ذنب عُصِيَ الله به، ونخلص في عبادتنا ودعائنا وخوفنا ورجائنا، وإنابتنا وتوكلنا لله رب العالمين، لا شريك له، ثم نتوب من الابتداع في دين الله والقول على الله تعالى بغير علم، والزيادة والنقصان في شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم نتوب من المعاصي التي زجرنا عنها الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم نتوب إلى ربنا توبة صادقة، ونتبع السيئة الحسنة، سنجد أن الخير والنعمة والرخاء يعود إلينا، ويعمنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنعيم بعد العذاب.
عندما نقول: الفرد، والمسئولية الفردية، ونؤكد عليه، فإن السبب في ذلك أننا دائماً ننظر إلى أخطاء الآخرين ولا ننظر إلى أخطائنا، فكلٌ منا اليوم أصبح يشكو الوضع الاقتصادي، حتى أصبحت ظاهرة عامة في المجالس، فلماذا بدلت بعد ذلك بالترف والبطر؟ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53] لقد غيرنا، لاحظوا لماذا هذا النقص الاقتصادي الذي حصل؟ لقد قرأت إحصائية لوزارة المالية ووجدت فيها أن المملكة تستهلك من الدخان ما قيمته ألف ومائتي مليون ريالاً سنوياً!! لقد أحللنا بأنفسنا العقوبة، انظروا إلى الأفلام أو أشرطة الغناء، كم يصرف كل إنسان على هذه المعاصي؟ قبل سنوات ما كان هذا الباب يستهلك، والآن كم يشتري كل واحد بالإضافة إلى إيجار المحلات، ومزاحمتها في الأسواق ومنافسة الناس على ذلك صار سبباً من أسباب الغلاء، فهو بسيط لكن له أثر كبير أيضاً.
المشاغل الرجالية التي يذهب إليها النساء أفواجاً وراء أفواج، كم ينفق فيها من الأموال، محلات الأزياء والعطورات، ومحلات التجميل ومشاغل الخياطة، كلها حول شيء واحد، فالمرأة المسلمة لا تتزين ولا تتجمل إلا في البيت لزوجها، فلما عصينا الله عز وجل، وأصبحت المرأة تتزين إذا أرادت الخروج، فكم من الملايين سوف نخسر نتيجة هذه المعصية التي لا يرى كثير من الناس كما أنها معصية، بل معصية خطيرة، ويترتب عليها أضعافاً مضاعفة من الخسارة في الدنيا والآخرة، وهؤلاء الخادمات كم يستهلكن من مال سنوياً؟ وأولئك السائقون كم ندفع لهم سنوياً من الملايين.
ثم نقول: نحن في أزمة! لا والله. نحن اختلقنا هذه الأزمة، وأوجدناها وأحللنا عقوبة الله بأنفسنا وبأيدينا؛ لأننا لم نتب إلى الله ولم نستغفر الله، وارتكبنا ما حرم الله، لو ألغينا كل هذه الأشياء من حياتنا: لو ألغينا الدخان، ومشاغل الخياطة الرجالية، ومحلات بيع الأغاني، ومحلات الفيديو، والتعامل بالربا والفوائد الربوية، والخادمات الأجنبيات، والسائقين الأجانب وبالذات الكفرة، واقتصدنا في استيراد العمال الكفار من بلادهم، بالله كم من الملايين سنوفر؟ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] يريد أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] فنحن أولى بهذه الآية، فعلى الإنسان منا أن يكون حسيب نفسه قبل أن يحاسب، وما أكثر ما نحتاج أن نحاسب أنفسنا في هذا.
نسأل الله أن يغفر لنا ولكم أجمعين، إنه سميع مجيب
د/ محمد عبدالغني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أما بعد:
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه الكريم: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:123]، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام:131] ويقول تعالى أيضاً: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ [الأعراف:4] فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأعراف:5].
· استدراج الله للأمم بالنعم
وقال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:94-99].
إن هذه الآيات التي يبين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيها أنه ما أرسل من نبي في قرية إلا أخذ أهلها بالبأساء والضراء، ثم بدل مكان السيئة الحسنة، أي: أنهم أبدلت سيئاتهم وكربهم تلك بحسنات ونِعَم، ثم ماذا حصل لهم بعد ذلك؟
ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا: قد مس آباءنا السراء والضراء، كانوا يتكلمون مما عفى عليهم، يقولون: قد مس آباءنا في الماضي السراء والضراء، وهم منعمون وينزل عليهم من الخيرات الشيء الكثير، ماذا حصل لهم بعد ذلك؟ قال تعالى: فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف:95] فالذي ينظر إلى واقع المسلمين اليوم، وينظر إلى مثل هذه الآيات يجدها تتمثل في واقعنا وحياتنا.
كان آباؤنا وأجدادنا قد مستهم البأساء والضراء، فبدلنا مكان السيئة الحسنة، حتى تنعم كثير من المسلمين، وعندها بدأ كثير منهم لا يرعوي لنعمة الله، ولا لكلام الله، ولا لما أعطاه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من جزيل النعم في الدنيا، بل أنكر هذه النعم، وجعل يعفو عليها ويتبرم منها، ينكر هذه النعم، فلا نخشى أن تأتي المرحلة التي بعدها.. وهي: فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف:95].
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائد الغُرِّ المحجلين وأكرم الخلق الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى غيماً أو ريحاً، أو رأى رعداً أو برقاً يصفر وجهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت تسأله عائشة رضي الله عنها: وتقول له: {يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا السحاب ورأوا مثل هذا فرحوا واستبشروا، فقال لها: يا عائشة قد عُذب أقوام بالريح، وقد عذب أقوام بالمطر } وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [النمل:58].
فإذا كان هذا هو حال رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما هي حالنا اليوم وقد أغرقنا في الذنوب والمعاصي حتى فشت فينا كثير من الذنوب والمعاصي؟
ثم يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مبيناً أمراً آخر: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96] عندما تكذب الأمم ويكذب الناس يأخذهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا بظلم منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما بما كانوا يكسبون، ولذلك يقول -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- محذراً الأمة: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25] فحذرنا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من ذلك في القرآن، وبيَّن لنا، وأوضح لنا الطريق، وأوضح لنا سنته في الكون، وسننه تعالى في إهلاك الأمم، وإتيان الأمم من بعدهم، فيحل قوماً مكان قوم، وهذه هي سنة الله، وما ذهب القوم الأولون إلا بما كسبوا، وما أتى القوم الآخرون إلا ليستخلفهم الله فينظر ماذا يعملون.
· الأمن من مكر الله
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ [الأعراف:97] أفأمنوا مكر الله عندما عملوا تلك المعاصي وجاهروا بها وأعلنوا الرذيلة والفاحشة في المؤمنين؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
يقول الله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:98] وهم يلعبون في ناديهم، ومجتمعاتهم، وأعمالهم: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
ثم بين الله في الآية التي بعدها أمراً آخراً عظيماً ألا وهو قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ [الأعراف:100، 101] أي: أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها، أن أمة محمد قد ورثت الأرض من بعد الأمم السابقة التي أهلكها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الأعراف:100] أما يخافون؟ أما اهتدوا إلى هذه النقطة المهمة العظيمة بأن الذنوب والمعاصي سبب في إهلاك الشعوب والأمم جميعاً لا فرق..! فهذا إنذار من رب العالمين: أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [الأعراف:100] نطبع على قلوبهم حتى لو رأوا الآيات والنذر فإنهم لا يؤمنون ولا يتبعون الحق؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم: وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100].
ثم بين بعد ذلك، قال: تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا [الأعراف:101] إلى آخر الآية، وآيات أخرى.
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98] إذاً: لما آمنوا كانت النتيجة أن الله كشف عنهم عذاب الخزي ومتعهم إلى حين، وهذه هي نتيجة طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واتباع كتابه وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
· اقتراب موعد الهلاك
فإذا كثر الفساد في الأرض وانتشر الخبث في الناس، فإنه ينذر بعاقبة وخيمة...!
عندما سألت إحدى نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أونهلك يا رسول الله وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث } فالخبث إذا كثر في أمة من الأمم فإنه نذير بأن تهلك هذه الأمة كما ورد ذلك في القرآن؛ إما بخسف أو بمسخ أو بريح أو بعاصفة أو بفيضان أو بزلزال أو ببركان أو بطاعون أو بمرض أو بغير ذلك من جند الله التي لا يحصيها إلا رب العالمين، يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] فالشرط أن تكون ظالمة، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116-117].
فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ [هود:116] أما إذا أُمر بالفساد وانتشر الفساد، ولم يوجد أولو بقية من الصالحين والطائعين ينهون عن الفساد في الأرض، فإنها عند ذلك تقع الطامة، فقوله: أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ [هود:117] هؤلاء قليل، أما البقية الذين ظلموا فإنهم اتبعوا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين، مجرمين على أنفسهم، ومجتمعهم، وأسرهم، وديارهم التي كانوا يسكنون فيها، فإن العذاب لما حلَّ، حَلَّ بالجميع: قُلِبتَ الديار، وتضرر المجتمع، والأفراد، والأسرة، والدواب، والشجر، والحجر من تلك المعاصي التي كانوا يفعلونها.
فما كان ليهلكها بظلم وأهلها مصلحون، ونجزم بذلك لِماَ نُؤمن به من وعد الله ألا يهلكهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ويقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مبيناً كيف قصم الأمم التي ظلمت أنفسها وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ [الأنبياء:11-15] فما زالت تلك دعواهم، أي ما زالوا يرددون يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء:14] حتى جعلناهم حصيداً خامدين، والسبب هو: أنهم من قرية كانت ظالمة فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا [الأنبياء:12] لما أحسوا بالخطر والضياع والتشريد والدمار بدأت الصيحات وإنذارات الخطر تظهر يمنة ويسرة وأماماً وخلفاً، كلهم ينذرون صيحة الخطر فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ [الأنبياء:15].
· غفلة الأمم عن عذاب الله لها
ويقول: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مبيناً أن القرية التي ينذرها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بعقاب بسيط أو بإنذار يسير لا ترجع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن القوم تمر بهم النكبات والويلات من حولهم، ولا يعتبرون ولا يتعظون بمن حولهم، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95] لا يرجعون إلى الحق والصواب، وكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرام عليهم؛ فعندما يرون عذاب الله، وعندما ينذرهم الله ببعض هزات خفيفة لا تؤثر فيهم الأثر العظيم ومع ذلك يبقون على ذنوبهم ومعاصيهم، حتى يأتيهم العذاب الأليم، هذه نُذُر كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل المنافق مثل الحمار لا يدري فيم ربط ولا فيم أطلق } فهؤلاء حتى مع إنذارالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم فإنهم لا يفقهون ولا يرجعون ولا يعقلون، نسأل الله السلامة والعافية.
وكذلك يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ [الرعد:31] فهذا إنذار قارعة تصيبهم أو تحل قريباً من دارهم.
هذه آيات الله فينا تتلى، نسأل الله أن يرزقنا الخشية والإنابة والتوبة والمعرفة والصدق والإخلاص.
ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً [الطلاق:8-11] فبيَّن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مصير القرية التي عتت عن أمر ربها، وبين في الأخير الذين آمنوا به وبرسله، وبيَّن نعمته ومِنَّته على المؤمنين؛ إذ أرسل لهم رسولاً يدلهم على الخير والطريق المستقيم، ويُحذِّرهم من طريق الغواية، والآيات أكثر من ذلك وأعظم، ولكن نكتفي بهذا القدر لنتطرق إلى نقاط أخرى.
يقول الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي :
الحمد لله الذي من رحمته وفضله بيَّن أسباب النجاة ويسرها وأوضحها وجلَّاها، وبيَّن أسباب الدمار والهلاك، لنجتنبها ونتوقاها، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد المبعوث رحمةً للعالمين، أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ومن طريق الهلكة والدمار والخراب إلى طريق النجاة والسعادة والفلاح، وسدَّ من الحقوق والطاعات، كل طريق إلى الخير والنجاة والسعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة إلا من طريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد :
لو تأملنا كتاب الله وقرأناه، هذا الكتاب المهجور إلا ممن رحم الله! لوجدنا أن موضوعاته جميعاً تنحصر في ثلاثة:
إما الأمر بالتوحيد وما يتبعه من الحقوق والطاعات مع النهي عن الشرك وما يتبعه من المعاصي والذنوب.
وإما خبر عما صار لأهل التوحيد والطاعة من النجاة والسعادة والفلاح، وخبر عما كان لأهل الشرك والمعاصي من الدمار والوبال والخسارة.
وإما حال هؤلاء، وهؤلاء عند البعث يوم القيامة.
فهذه هي موضوعات القرآن.. وكل ما في القرآن لا يخرج عن هذا.
· 2 - فرح الأمم بما عندها من العلم جعلها ترفض قبول الحق
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الإنسان وهو يعلم حاله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] فهو يعلم أن هذا الإنسان ظلوم جهول، ولهذا احتمل الأمانة وقبلها بعد أن أبت منها السماوات والأرض إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] هذا الظلوم الجهول لا بد أن يُذَّكر، وأن تتلو الذكرى ذكرى، والموعظة موعظة، ولكن ما أكثر العبر! وما أقل الاعتبار! والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قصَّ علينا من أنباء ما قد سبق، وذكر لنا حال الأمم، أين قوم نوح؟ أين عاد؟ أين ثمود؟ أين فرعون؟ أين تلك الأمم؟ وأين تلك الحضارات؟ وأين القرى التي عُمِّرت وسادت وبنت وأترفت في الحياة الدنيا حتى ظن أصحابها أنه لا يقدر عليهم أحد حتى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! ولهذا قالت أعتى تلك الأمم وهي عاد: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة [فصلت:15] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو أشد منهم قوة ولكنها الغفلة.
لماذا تأتي هذه الغفلات؟ ولماذا نجد صورتها ما تزال حية واقعة إلى اليوم في هذه الدنيا؟
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فصل ذلك وبينه.
من أعظم الأسباب التي تجعل القلوب تغفل عن الله عز وجل ولا تتعظ ولا تعتبر: أن يفرح الناس بالحضارة والتقدم والإنتاج والصناعة وما هم فيه من الترف والنعيم! فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ [غافر:83].
يقولون: لماذا نطيع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعلم لدينا إذا قيل لهم: أيها الناس! اتقوا الله وذروا الزنا واللواط والفحشاء تنجوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة، قالوا: لا نطيع أمر الله ولا أمر رسول الله، لدينا الأطباء، والعلم كل يوم يبحث لاختراع علاج لمقاومة الإيدز وما أشبهه، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ [سبأ:45] أي: عشر العشر، فالحضارات الماضية بلغت الشيء الذي لم تبلغ هذه الأمة منه عشر العشر، كل أمة تظن أنها أرقى الأمم في الحضارة، وأن ما عندها من العلم كافٍ لأن تنكر أمر الله وتعترض عليه ولا تتبعه، إذا قيل لهم: إن الله حرم الربا، قالوا: لا، عندنا علماء اقتصاد وعندنا خطط، وعندنا خبرات تكفي لأن نتوقى المخاطر التي تنجم عن الربا.
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] وظنوا أن هذا العلم يكفي لاجتناب ما ينزل من أخطار؛ حتى عندما هُددوا بالأعاصير والزلازل فرحوا بما عندهم من العلم، قالوا: أصبح بالإمكان مراقبة الإعصار وهو ما يزال في المحيط الأطلسي أو المحيط الهادي ، فلا يأتي إلى المدينة، إلا وقد أخذت جميع الاحتياطات والاستعدادات، والزلازل يمكن أن ترصد... وهكذا، لكن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يملي لهم كما قال: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45] ولكن إذا جاء أمر الله تتبخر وتتبدد كل هذه الأوهام، ويذهب ذلك العلم والكبرياء فيه، ويركضون... ولكن وراء السراب، حيث لا ينفع حينئذ إلا أن يتوبوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما أكثر الغافلين.
وأما قصة قوم يونس التي سمعتم فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ [يونس:98].
فهي قصة شاذة في تاريخ الأنبياء والأمم، أنَّ أمة تؤمن حال رؤية العذاب أو قرب رؤية العذاب، فمن رحمة الله أن يفتح الباب للتوبة وللاستغفار، ولكن قل من يتذكر.
· 3 - أسباب انهيار الأمم
إذا تكبرت الأمم وطغت وانتشر فيها الفساد عاجلها الله بالعقوبة، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ [الفجر:6-10] ماذا عملوا، وما صنعوا؟ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ [الفجر:11-12] فكانت النتيجة فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:13-14] فما هو الفساد والطغيان؟ فأوجه الفساد والطغيان كثيرة، ولكن هل في البشرية من يتدبر ويعقل؟! العقلاء هؤلاء يرفعون العقيرة بالنذر، وهم قليل جداً في التاريخ.
وبما أننا في عصر قد عُظِّمت فيه أوروبا وحضارتها الغربية المسيطرة على العالم، والتي تقوده إلى الدمار والهاوية؛ فلننظر ماذا قال علماء وباحثو الغرب ومفكروه العقلاء -وهم قلة- لما رأوا أمتهم تمضي إلى هذا الدمار والانهيار، تفكروا في حال أممهم وبحثوا عن أسباب الانهيار؟ وأسباب الفساد الذي أدى إلى من قبل في انهيار الامبراطورية الرومانية، وانهيار الحضارات.
· انتشار التبرج والزنا والخمور
هناك رجل غربي يعرفه كل مفكر غربي، وهو المعروف بـأرنولد توينبي ، ويعتبر توينبي أكبر مؤرخ في هذا العصر، فقد درس جميع الحضارات، وأحصى الحضارات القديمة التي يمكن أن تعرف، واستطاع أن يجد أن هناك أكثر من إحدى وعشرين حضارة من الحضارات، بعضها استمر ألف سنة، وبعضها خمسمائة سنة، في أنحاء مختلفة من الأرض، ومنها الحضارات التي نعرفها جميعاً: الحضارة اليونانية، الحضارة الرومانية، الحضارة التي يسميها هو الحضارة العربية، ثم الحضارة الأوروبية، هذه الأربع المعروفة الآن في التاريخ، وما قبلها مندثر منقرض، ومن آخر الحضارات حضارة لم تنقرض إلا قبل خمسمائة سنة في أمريكا الجنوبية ، وما تزال أعلامها ماثلة إلى اليوم، فوجد أن كل هذه الحضارات في التاريخ المكتوب تنهار وتنقرض وتدمر بأسباب منها: أن تخرج المرأة وتترك وظيفة الأمومة، وينتشر التبرج والزنا، فمن تتبع سقوط هذه الحضارات وجد أن السبب هو هذه الظاهرة.
انقرض اليونان لأن المسارح أصبحت علناً، وانتشر فيهم الاختلاط والخمر والزنا والتبرج..! وكذلك الحضارة الرومانية وقد كان من أسباب انهيار الحضارة الإسلامية في بغداد انتشار المعاصي والذنوب، كما شهد بذلك أعداء الإسلام وهم كفار، حتى أن الخليفة -الذي كان في بغداد لما دخلها هولاكو وحاصرها- كان قد كتب إلى أمير الموصل يقول: 'بلغنا أن مغنياً مشهوراً عندكم أوجد نغمات جديدة في السلم الموسيقي، فنريد أن تبعثوا به إلينا' وكان اسمه صفي الدين .
فسبق دخول هولاكو دخول ذلك المغني، فحصل الدمار، وقُتل من المسلمين على أيدي أولئك الوثنيين وبتعاون من الروافض الملاعين أكثر من مليون وقيل: مليوني رجل، وأقل ما قيل إنهم ثمانمائة ألف قتلوا من المسلمين في بغداد من أهل السنة ومن خيار أهل السنة ، فلما انتشرت المعاصي وانتشر الترف والتبرج والغناء، كانت النتيجة هي الدمار والخراب.
وهذا رجل غربي آخر يدعى توينبي : " الحضارة الغربية اليوم سوف تنهار لأنه ينتشر فيها شرب الخمر" فذكر أحد الأسباب: شرب الخمر، والسبب الآخر الذي ذكره قال: ' إن أوروبا سوف تصبح أقلية بين الشعوب ولهذا تنهار أوروبا '.
· الكفر بالله من أعظم أسباب الانهيار
نحن نعلم أن السبب هو: الكفر بالله عز وجل، وأما باقي ذكره فهي أسباب عرضية أو فرعية، فلماذا تصبح أوروبا أقلية؟
في جميع البحوث التي أجريت في أكثر من دولة أوروبية، تبين لهم أن السبب في نقص عدد السكان وكثرة عدد الوفيات بالنسبة للمواليد هو: خروج المرأة لتعمل ولتشارك الرجل في العمل، فلما خرجت لم تتزوج، واكتفت بالعشيق فلم تنجب، فكانت النتيجة أن عدد المواليد أقل من عدد الوفيات، وبالتالي ستصبح هذه الأمة أقلية، فمن سنن الله أنه لم يجعل الدمار والانهيار فجأة بغير مقدمات وبغير أسباب تؤدي إلى نتائج.
وأما أوزوالد اشبنجلر المؤرخ الألماني الذي أصدر كتاباً ضخماً في ثلاث مجلدات عن تدهور الحضارة الغربية وانحطاطها، مع أن هذا الرجل توفي عام 1923م أو قريباً من ذلك، قبل أن يصل الفساد إلى ما نراه اليوم -يقول هذا الرجل: 'إن خروج المرأة من البيت هو المنعطف الخطير الذي إذا وصلت إليه أي حضارة من الحضارات بدأت بالسقوط، وبدأت بالانهيار'.
ويضرب لذلك مثالاً ببطلة إبسون -إبسون هو أديب من أدبائهم- يقول: ' إذا أصبحت بطلة إبسون هذه هي النموذج للمرأة الغربية، فالحضارة الغربية سوف تنهار ' وهذا ما وقع والانهيار حاصل، فقد أنطقهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما تدبروا ولما تأملوا والأمثلة على ذلك كثيرة.
· الترف من أسباب الانهيار
من أسباب الانهيار التي ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: انتشار الترف، ولهذا فإن أول من يرد دعوة الأنبياء هم المترفون، كما قال تعالى: إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ:34]، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [الإسراء:16]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا [الأنعام:123] فأكابر المجرمين المترفين يردون الحق والدعوات وواعظ الخير، لأن ترفهم قد ران على قلوبهم، فالترفُ وحبُّ الدنيا يُقسِّي القلب، فلا يطيق صاحبه أن يسمع شيئاً عن الآخرة، هذا الرجل المترف الذي هذا حاله، لو جلست معه أو جلس أمام أي منظار أو مرآة أو مشهد ساعات فإنه لا يمل، ولو جاءه رجل يذكره بالموت خمس دقائق لملَّ ولخرج، لا يريد أن يسمع ذكراً للموت، ولا يريد أن يسمع ذكراً للآخرة -نسأل الله العفو والعافية- قست قلوبهم، حتى إذا جاءهم العذاب، فإنه يأتيهم وهم في تلك القسوة فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:24-25] هكذا قسوة القلب فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُم [الأنعام:43].
يقول الحسن البصري رحمه الله: [[يا أهل العراق لا تدفعوا عذاب الله بأيديكم وأرجلكم، ولكن ادفعوه بالتوبة إلى الله، فإن الله تبارك وتعالى يقول: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43] ]] تضرعوا إلى الله وتوبوا إليه يكشف ما بكم من سوء ويبدل حالكم.
يقول مالك بن دينار : [[ ذهب أهل البصرة يستسقون فلم يمطروا، فعادوا وقالوا: عجباً والله! استسقينا ولم نمطر، قال مالك: سبحان الله! ستبطئون المطر، أما والله إني لأستبطئ الحجارة من السماء ]].
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما جعل للمطر وللنعم سبباً إلا الاستغفار فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12] استغفروا الله وتوبوا إليه [[ تستبطئون المطر، أما والله إني لأستبطئ الحجارة من السماء ]] هكذا يقول مالك بن دينار رحمه الله في عصر الخير، في القرن الأول أو بداية الثاني، وأين نحن من هذا؟!
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى غيماً أو سحاباً يخاف ويصفر وجهه، وكأن عذاباً سينزل، وأولئك الذين قست قلوبهم يقولون: (عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) فلنقارن بين الحالين، ولننظر في واقعنا، هل نحن أقرب إلى حال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخوف من عذاب الله وتوقع عذاب الله بسبب ذنوبنا ومعاصينا، أم نحن أقرب إلى قسوة عاد، ونظرتها إلى كل هذه الأمور أنها ليست إلا عوارض، أو أمور تنتهي؟
· البطر والملك من أسباب الانهيار
من الأسباب الأخرى والعوامل التي تنخر في كيان الأمم والشعوب البطر والملل من الحياة الرغيدة الهنيئة، فقد ذكر الله تعالى لذلك مثالاً لأمة عجيبة ذكرها القرآن تفصيلاً وهي سبأ: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:16] جنة عن يمين وجنة عن شمال كلوا واشربوا من هذه النِعم، بلدة طيبة معطاءة، ورب غفور يغفر الخطايا، استغفروا وكلوا وتمتعوا، فماذا كانت النتيجة؟ أعرضوا! وهذا الإعراض هو الذي دمر الأمم، فماذا كان من تلك الجنات؟ وأين ذهبت؟ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16].
لقد رأيت هذا بعيني، وإنها لعبرة لمن يذهب إلى هنالك، وأنت ترى ما ذكره الله من الأثل والسدر القليل، في تربة يزيد سمكها عن عشرة أمتار، من أجود أنواع التربة، ولا ينبت فيها شيء إلا الأثل وشيء من سدر قليل، كما أخبر الله، والماء يجري إلى اليوم، وإذا جاء السيل فإنه يجري جرياناً كأنه نهر عظيم، والتربة خصبة ولا يوجد إلا أثل وشيء من سدر قليل، فالذنوب وأثرها يتعدى إلى الأرض فلا تنتج بل تجدب، يتعدى إلى الدواب، فتعذب البهائم بالقحط، وتعذب بالزلازل والغرق، فما ذنب البهائم؟! لا ذنب لها، ما الذنب إلا ذنب من عصى الله عز وجل وجاهر الله تبارك وتعالى بالمعاصي وأعلنها، فهذا هو البطر.
ماذا قالت سبأ لما بطرت النعمة: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ [سبأ:18] حكمة من الله ورحمة منه أن أعاد لهم مرة ثانية شيئاً من الخير في الأرض، وجعل بينها وبين القرى التي بارك فيها -بلاد الشام - قرىً ظاهرة وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ [سبأ:18] تجارة وأمن وقرى ظاهرة، تمشي في الصباح من قرية وتبيت في قرية، فماذا قالوا؟ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ:19] يريدون المشقة والتعب ويريدون أن يتذوقوا متعة الرحلات.
فحالة البطر والملل التي تصيب الإنسان معروفة اليوم حتى عند علماء النفس والاجتماع، لو وجدت شاباً نشأ في ترف لا تصادفه أي مشكلة أبداً، كل شيء مهيأ له تجد أنه يحاول أن يفتعل مشكلة كبيرة يجرها على نفسه أو على أبيه أو على المجتمع، حتى يعاني من مشكلة، فهو لا يريد أن يعيش من دون مشاكل.
هذه حالة هؤلاء القوم فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ [سبأ:19] أين هم؟ لم يبق من أولئك القوم إلا أحاديث يتحدث بها في المجالس، ذكريات عابرة، هذا الذي بقي من أمة عظيمة كانت تطغى وتتجبر على خالق الأرض والسماء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما عصت الله عز وجل فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّق [سبأ:9] فهذه حالتهم.
· ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هناك أكابر المجرمين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، إذا تآمروا وإذا تُرِكَ لهم الحبل على الغارب، وأطلق لهم العنان، ولم يضرب على أيديهم، ولم يؤطروا على الحق أطرا، فهذا من أعظم أسباب دمار الأمم والشعوب.
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوم صالح: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:48-49].
فالذين كانوا يمثلون دور أكابر مجرميها، ودور مترفيها، كانوا تسعة، وقالوا: لا بد أن نقضي على صالح، ولا بد أن نقضي على الناقة، فانطلق أشقاها فضربها بسهمه، فماذا كانت النتيجة؟ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:51] دمر التسعة ومن معهم...! وما ذلك إلا لأن العاقل لم يأخذ على يد السفيه، ولم يضرب عليه.
· المحاباة في حدود الله
بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبباً عظيماً من أسباب هلاك الأمم ودمارها، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه } إذا عطَّلنا أحكام الله عز وجل مراعاةً لحال فلان (هذا قريب) (هذا بعيد) (هذا شريف) فتدخل الشفاعة في حدود الله، وتقام على الضعفاء ولا تقام على الكبراء، فهذا مما يمهد لكي يكون المترفون أكثر قوة وتمكناً، حتى أن أحدهم لا يخاف من أي شيء، لأنه مطمئن أن أي شيء يقع فبيده أن يتخلص منه، فإن خُوِّف بعذاب أو بأمر أو بعقوبة، قال: العقوبة أستطيع أن أدفعها، وإن خوف بالفقر فهو يرى أنه أغنى من في المجتمع أومن أغنى الناس، وهكذا البطر حين يأتي إلى هذه القلوب.
فالأمة التي تقيم حدود الله على ضعفائها ولا تقيمها على أشرافها أمة معرضة للهلاك والدمار، فلا بد من إقامة أمر الله وحدود الله على الصغير والكبير، حتى ينزجر الناس ويرتدعوا، فتسلم بذلك الأمة، وتنجو من عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن عقوبته، وبغير ذلك فإن الناس لا يزدادون إلا قسوة، مهما رأوا من نذر العذاب، فإن القلوب إذا قست وإذا غفلت عن الله لا يؤثر فيها عبرة ولا موعظة، فهذان مثلان حالهما واحد.
· مجاهرة الله بالمعاصي
يقول تشرشل قائد جيوش الانجليز في الحرب العالمية الثانية: ' لما كانت الطائرات الألمانية تضرب لندن كل يوم، وتنزل عليها الأمطار من القنابل، اضطر الناس إلى أن يضعوا المسارح والمراقص تحت الأرض ويقول العاملون فيها: إن الإقبال على المراقص وعلى المسارح وعلى شرب الخمر تضاعف، ويتضاعف عند القصف الألماني على البلد'.
وفي بلد آخر عربي ما هو منا ببعيد نفس المشكلة، يقولون: إن المراقص والمسارح تحت الأرض، فإذا تقاتلت المليشيات، ينزلون فيسكرون ويرقصون، فإذا أُعلنت هدنة مؤقتة عادوا إلى بيوتهم!
لا تظن أن الإنسان إذا ابتعد عن الله يمكن أن يعظه أي واعظ أو أي زاجر، ولهذا لما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأمم التي أهلكها، وما تركت من آبار معطلة وقصور مشيدة قال بعد ذلك: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] فالقلوب إذا عميت ترى الآثار شاخصة ولكنها لا تعتبر ولا تتعظ، يمر بقصر مهجور، وببئر معطلة، ويمر بآثار العذاب -وقد يكون قريب منه ولكنه في غفلة، ولو عرضت عليه أسباب اللهو، لانتهزها فرصة، وترك العبرة والموعظة، وهذا لا يفعله حيوان، فالحيوان إذا رأى حيواناً يذبح فإنه يفر، ويخاف، وأما هؤلاء الناس فإنهم يرون الدمار والخراب، ويستمرون في معصية الله ويعرضون عن طاعة الله وذكره، ولهذا كان التهديد من الله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ [الأعراف:97] في أثناء هذا الليل الطويل من السكر والعربدة واللهو أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:98] اللعب العام، فحياتهم كلها لعب، أو اللعب الخاص حين يجتمع في الملعب خمسون ألفاً أو مائة ألف ليس فيهم من يصلي -نسأل الله العفو والعافية- فماذا يريدون؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
نعوذ بالله من الأمن من مكر الله، ونعوذ بالله من الخسارة والدمار، ونسأل الله تعالى أن يحفظنا، وأمتنا، وإخواننا المسلمين من أسباب عقوبته وانتقامه، وأن يردنا إليه رداً حميداً؛ إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
- العلاج
يقول الشيخ عبد الله المحمدي :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أما بعد:
إن علاج هذا الموضوع بسيط جداً، ويتلخص في اتباع كلام الله، وسنة رسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأول علاج هو عدم الشرك بالله، ثم عدم الابتداع في دين الله، ثم عدم
الاختلاف بين المسلمين، وهذه سوف أترك الكلام فيها على الشيخ سفر ، لكن أطرق علاج المشكلة من جوانب اجتماعية حذَّر منها الله ورسوله والإسلام.
· القضاء على الزنا
فأول هذه المشاكل الاجتماعية التي تؤدي إلى انهيار الأمم وإلى الخسف والمسخ هو الزنا، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عنه ابن عباس : {إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله } رواه الحاكم ، وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه.
وكذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه ابن عباس : {ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقي في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم الموت }.
وكذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما ترويه ميمونة رضي الله عنها: {لا تزال أمتي بخير ما لم يفشُ فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا، فيوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب من عنده } رواه الإمام أحمد .
ويقول ابن القيم رحمه الله: 'إن الزنا من أسباب الموت العام، والطواعين المتصلة، ولما اختلطت البغايا بعسكر موسى عليه السلام وفشت فيهم الفاحشة، أرسل الله عليهم الطاعون، فمات في يوم واحد سبعون ألفاً' فعوامل انهيار الأمم تكمن في موتهم بطاعون أو بغير ذلك.
وإن أعظم نتائج الزنا اليومك انتشار الأمراض الجنسية وغيرها، من الزهري والسيلان والهربز والإيدز، هذه التي بدأت تفتك بالمجتمع الغربي اليوم حتى بدأت جذورها تنتقل إلينا.
إننا في معالجة هذا الموضوع لا بد أن نضع نصب أعيننا أن نمنع الفاحشة بين المؤمنين، فإن الفاحشة ما انتشرت في قوم إلا عمهم الله بعقاب أو عمهم بمرض أو طاعون، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكمن ذلك في تطبيق حدود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بجلد الزاني إن كان غير محصن، أو برجمه إن كان محصناً، فوجود هذا الأمر هو أكبر علاج في القضايا الاجتماعية.
· القضاء على الربا
لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] فأسباب الهلاك أن نعاند الله وأن نحاربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكم من ربا في ديار المسلمين، وكم من المسلمين ممن يتعامل بالربا، حتى أصبحت البنوك الربوية تتفاخر، وأصبح أحدهم يُعلن عن قيامه منذ خمسين عاماً، ويعلن الآخر عن قيامه منذ ستين عاماً، ويعلن له في جميع الصحف والمجلات، وأصبح الكثير منا يؤمن بالربا ويتعامل به، ويحث عليه، نسأل الله السلامة والعافية!! أليس هذا مرضاً خطيراً وداءً عظيماً، إن من أسباب العلاج إن أردناه أن ننبذ ما سوى شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كالربا والزنا وكل ما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
· القضاء على شرب الخمر
الخمر أم الخبائث كما سماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس هناك مجال لأذكر لكم الآيات والأحاديث في تحريمها، ولكن أبين لكم الجانب الذي تهدم فيه الخمر الأمم والشعوب.
أذكر لكم إحصائيات في دول أوروبا حيث انتشرت هناك الخمر، إحصائية تقول: إن (66%) من جنايات الاعتداء على الأشخاص مرتكبوها هم من مدمني الخمر؛ لأن الذي يشرب الخمر يعتدي ويقتل، فهذا سبب من أسباب انهيار الأمم، وإحصائية أخرى تقول: نسبة المدمنين من مجرمي العنف (82%) وفي جرائم القتل (53%) ممن قتلوا بسبب الخمر، وكذلك في التشريد، والمتشردين، والمتسولين (80%) من الخمر.
· الحد من عمل المرأة
فقد بدأت تظهر في المجتمع علامات هذا الداء، ألا وهو خروج المرأة، وتبرجها، وسفورها، وخروجها إلى العمل؛ بل الأعظم من ذلك أننا جميعاً نعلن ذلك في صحفنا وإعلامنا وندعو نساءنا إلى التبرج، والسفور، وأن يتكلمن أمام الملأ، وندعوهن إلى كشف الوجه، وإلى الفن والأدب، ونطرق لهن أبواباً لم تطرق من قبل، حتى دعا بعضهم النساء والفتيات إلى الرياضة، والأندية الرياضية.
إنه -والله- كما يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما تركت فتنة بعدي أضر على الرجال من النساء } إذا خرجت المرأة كما حدث في المجتمع الغربي، وشاركت الرجل في عمله، وخرجت ماجنة متعطرة فاجرة فاسقة، تضرب بالمثل والدين والقيم عرض الحائط، فعند ذلك لن يتربى جيلنا تربية إسلامية، ولا شبابنا أيضاً، ولن يجد الشارع المسلم الذي يمنعه من الرذيلة، فينبغي علينا جميعاً أن نتقي الله في نسائنا، وبناتنا وأخواتنا، وفي كل قريبة لنا، وأن نمنعهن من أن ينجرفن أمام الدعايات الفتاكة، والحياة الفتانة باسم الحرية والفن والتقدم وعدم الرجعية، كل ذلك يدعو شبابنا وشاباتنا؛ لأن ينجرفوا أمام الملهيات والمغريات، فلنتق الله، ولنعلم أننا مسئولون عن ذلك، فإن هذه الأمة تقدم على أمر خطير بيد قوم لا يرعوون عن مخالفة أمر الله فيها، ولا ينصاعون لأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي الأخير أذكر لكم بعض النقولات، يقول باتلر وموريل ، -وهما طبيبان أوروبيان- : 'يذهب الوالدان للعمل خارج البيت، ويتركان الأولاد المراهقين ليعتنوا بأنفسهم مما أدى إلى ضعف الصلات العائلية' أي: أن ذلك يؤدي إلى تفكك الأسرة والمجتمع، وضياع الأمة، ويؤدي إلى ترك الزوجة لزوجها، واتخاذ خدين لها، وإلى أن تتعرف البنت على صديق وعشيق لها، وما إلى ذلك..!
أترك المجال لنقاط أخرى في علاج هذه القضية، وأسال الله الكريم أن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير والسداد.
· فضل التوبة والاستغفار
الحمد لله رب العالمين؛ فإن من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على العالمين أنه جل شأنه يقبل من أناب وتاب مهما عصى وفَجَرَ، ومهما عمل من السيئات، فاللحظات والأيام والليالي التي تسبق نذر العذاب هي أغلى ما تملكه أي أمة من الأمم أو فرد من الأفراد، فأغلى ما في حياة الإنسان هي تلك اللحظات التي تسبق نذر العقوبة بأن يتوب إلى الله ويستغفره.
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من كرمه وجوده فتح باب التوبة، لأعدى أعدائه الذين حرقوا أولياءه وشقوا لهم الأخاديد وألقوهم في النار إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ [البروج:10] يفتح باب التوبة لمن يحرق أولياءه المؤمنين الموحدين أحياء في النار، فما بالكم بمن كان ذنبه دون ذلك كالزنا أو الربا أو ما أشبه ذلك من المعاصي؟
· القيام بتحمل المسؤولية
الحل بأيدينا فلا يقل أحدنا: الحل عند فلان، والمسئولية على فلان، فإن من أعظم الأدواء ومن أكثر أسباب انتشار واستشراء أسباب الدمار والهلاك أن نلقي بالتبعة وبالمسئولية على جهة معينة أو شخص معين، حتى مسئولياتنا في البيت قد يلقيها الرجل على الزوجة والأولاد، لا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته } فابدأ بنفسك تجد الحل، وانظر إلى تقصيرك في طاعة الله -عز وجل- وزن نفسك بالميزان الصحيح، فستجد أن ما فيك من الذنوب جدير وحقيق بالعقوبة، وأنك إن تبت إلى الله عز وجل فسوف تجده غفوراً رحيما، وكلنا ذلك الرجل، فعلينا أن نبدأ بأنفسنا، وأن ننظر إلى ذنوبنا، وإلى حال غيرنا من الناس نظرة النصح والإشفاق، لا أن نحملهم كل المسؤوليات ونترك أنفسنا، فالحل هو الاستغفار والتوبة.
قال تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98] لما آمنوا كشف الله تعالى عنهم العذاب، وقد كان وشيك الوقوع.
فنحن والله اليوم يوشك أن يعمنا الله بعذاب، فهذه الأرض، قد امتلأت بالخطايا والفجور والفحشاء بما لم يعهد في التاريخ المكتوب أبداً، فالحل أن نستغفر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأن نتوب إلى الله:
أولاً: من الذنوب الكبار، من الشرك بالله تعالى، فهو أعظم ذنب عُصِيَ الله به، ونخلص في عبادتنا ودعائنا وخوفنا ورجائنا، وإنابتنا وتوكلنا لله رب العالمين، لا شريك له، ثم نتوب من الابتداع في دين الله والقول على الله تعالى بغير علم، والزيادة والنقصان في شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم نتوب من المعاصي التي زجرنا عنها الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم نتوب إلى ربنا توبة صادقة، ونتبع السيئة الحسنة، سنجد أن الخير والنعمة والرخاء يعود إلينا، ويعمنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنعيم بعد العذاب.
عندما نقول: الفرد، والمسئولية الفردية، ونؤكد عليه، فإن السبب في ذلك أننا دائماً ننظر إلى أخطاء الآخرين ولا ننظر إلى أخطائنا، فكلٌ منا اليوم أصبح يشكو الوضع الاقتصادي، حتى أصبحت ظاهرة عامة في المجالس، فلماذا بدلت بعد ذلك بالترف والبطر؟ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53] لقد غيرنا، لاحظوا لماذا هذا النقص الاقتصادي الذي حصل؟ لقد قرأت إحصائية لوزارة المالية ووجدت فيها أن المملكة تستهلك من الدخان ما قيمته ألف ومائتي مليون ريالاً سنوياً!! لقد أحللنا بأنفسنا العقوبة، انظروا إلى الأفلام أو أشرطة الغناء، كم يصرف كل إنسان على هذه المعاصي؟ قبل سنوات ما كان هذا الباب يستهلك، والآن كم يشتري كل واحد بالإضافة إلى إيجار المحلات، ومزاحمتها في الأسواق ومنافسة الناس على ذلك صار سبباً من أسباب الغلاء، فهو بسيط لكن له أثر كبير أيضاً.
المشاغل الرجالية التي يذهب إليها النساء أفواجاً وراء أفواج، كم ينفق فيها من الأموال، محلات الأزياء والعطورات، ومحلات التجميل ومشاغل الخياطة، كلها حول شيء واحد، فالمرأة المسلمة لا تتزين ولا تتجمل إلا في البيت لزوجها، فلما عصينا الله عز وجل، وأصبحت المرأة تتزين إذا أرادت الخروج، فكم من الملايين سوف نخسر نتيجة هذه المعصية التي لا يرى كثير من الناس كما أنها معصية، بل معصية خطيرة، ويترتب عليها أضعافاً مضاعفة من الخسارة في الدنيا والآخرة، وهؤلاء الخادمات كم يستهلكن من مال سنوياً؟ وأولئك السائقون كم ندفع لهم سنوياً من الملايين.
ثم نقول: نحن في أزمة! لا والله. نحن اختلقنا هذه الأزمة، وأوجدناها وأحللنا عقوبة الله بأنفسنا وبأيدينا؛ لأننا لم نتب إلى الله ولم نستغفر الله، وارتكبنا ما حرم الله، لو ألغينا كل هذه الأشياء من حياتنا: لو ألغينا الدخان، ومشاغل الخياطة الرجالية، ومحلات بيع الأغاني، ومحلات الفيديو، والتعامل بالربا والفوائد الربوية، والخادمات الأجنبيات، والسائقين الأجانب وبالذات الكفرة، واقتصدنا في استيراد العمال الكفار من بلادهم، بالله كم من الملايين سنوفر؟ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] يريد أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] فنحن أولى بهذه الآية، فعلى الإنسان منا أن يكون حسيب نفسه قبل أن يحاسب، وما أكثر ما نحتاج أن نحاسب أنفسنا في هذا.
نسأل الله أن يغفر لنا ولكم أجمعين، إنه سميع مجيب
د/ محمد عبدالغني