تاج الوقار
22 Aug 2008, 01:43 PM
إلى ابنتي نجلاء
د.سلمان بن فهد العودة 25/4/1428
12/05/2007
سألتني ابنتي نجلاء - الحائرة- سؤلاً ذا شجون عن الدين الإسلامي، وعن جملة من أتباعه, وعن بعض من تصفهم بالواقفين في طريق الإبداع, وعن آخرين أخذوا موقفاً سلبياً من الدين ذاته, وعادوه، وعادوا كل أشكال التدين، وجعلوا الدين والخرافة شيئاً واحداً – معاذ الله –ورأوا أنهما حاجبان عن العمل والانتهاض, وحدثتني عن الذات وعلاقتها بالله عز وجل؛ فكان مما قلته لها:
أوافقك أن البعض حوَّلوا الدين إلى تقليد تاريخي أو اجتماعي يُصادر العقل والحرية، ويقتل الإبداع، لكن حلمنا الحقيقي هو في إعادة الدين إلى ذاته، واقتباسه من مصادره، ورفض الإضافات البشرية التي طالما سوَّدت صفحته وكدَّرت نقاءه.
الدِّينُ عصمة من التِّيه والضياع الحتمي للإنسان حين يقطع صلتَه بالله العظيم، ويكتفي بذاته، وحوله التحديات والصعاب، وجيوش الهموم والغموم ومصادر القلق.
الدِينُ سَلْوَى النفْسِ في آلامِها
وطَبيبُها مِنْ أَدْمُع وَجِراحِ
مناجاة الله ولو لثوانٍ تمنحني طاقةً هائلة لا تُقدّر بثمن، أجدها حين أحتاجها في المصائب والملمات، وفي مدارج الحياة العادية، وأجدها حين تواتيني فرصة للسعادة والهناء فيهجم وحش كاسر من الخوف أو الذكرى؛ لينغص عليّ سعادتي، فأجدُ ربي يمنحني الحماية والرضا والعطف، ويمنحني الفرصة بعد الفرصة حتى أكون سعيداً.
الإيمان الحق بالله يحفظ لي توازني حين تضطرب الموازين، فمعرفتي به تجعلني أكشف الزيف الذي يُمارس باسم الله، ولأني أعرف أن الله جميل يحب الجمال، ويكره الظلم والإجحاف والتعصب والهوى، وأنه رفيق يحب الرِّفق في الأمر كله، ويعطي على الرِّفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يُعطي على سواه، فالعنف الذي يُمارس باسمه سواءً كان أسرياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو دينياً هو عدوانية شخصانية تتترس بالتدين، والدين رحمة وسماحة.
عرفت الله الذي أُصلي بين يديه وأسجد له، وأدري أنه يراني هنا، كما يراني حين أهم بمخالفته، وهو يمهلني المرة بعد المرة، ويمد لي في العافية، وأتوسل إليه أن يكون وراء ذلك مغفرة وعفو، ففضله لا يُحد:
توضأ القلب من ظني ..
بأنك غفار وصلى ..
وكانت قبلتي الأمل ..
دع الهوى لذويه يهلكوا شغفاً ..
أو فاقتل النفس فيه مثل من قتلوا ..
الكون على مساحته واتساعه أضيق من سَمِّ الخياط إذا خلت الحياة من نسمة الإيمان بالله، وأين يذهب المرء من ربه وكل ذرة في كيانه تصيح هاتفةً باسم خالقها ومبدعها العظيم؟
وكيف يفر المرء عنه بذنبه
إذا كان تطوى في يديه المراحل
أعرف حقاً أن الظروف المحبطة المحيطة، والنماذج السيئة تصدّ عن سبيل الله، وأن الفهم المؤدلج ضيَّق سعةَ الدين، وغيَّب المفهوم الإنساني للحياة وللدين معاً، أو كاد, فليكن قدرنا أن نجاهد لتجلية المعنى الجميل للرسالة وتحقيق النموذج الراقي لها في عالم الإنسان, والإيمان الحقيقي بالله دافع للعمل والقوة ومحرك رئيس للانتفاض والانتهاض، وهذا مادة أساسية للحث على الاجتهاد والعمل والإحسان والعدل، ونشرها : " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"[النحل:90]. وقد جربت الحياة بعض التجريب، وصار مثلي كمثل عبد العزيز بن زرارة الكلابي إذ يقول:
قد عِشتُ في الدهر أطواراً على طرقٍ
شتّى فصادفتُ منهُ اللين والفضعا
لا يملأُ الأمر صدري قبل موقِعه
ولا يضيقُ بِه ذرعي إذا وقعا
كُلاً لبِست فلا النَّعماءُ تُبطِرُني
ولا تخشّعتُ من لأوائها جزعا
ما سدّ لي مطلع ضاقت ثنيته
إلا وجدت وراء الضيق متسعا
الإيمان بالله طريق سهلٌ سمحٌ لاحبٌ لكل سالك، وربما صعبه أو حال دونه من يظن بأنه يهدى إليه، ويدل عليه!
والمرء قد يفكر في قضية ما وهو مكروب محروب، فيخلص فيها إلى رأي يتيقنه بعقله وقلبه، فإذا تغيرت حاله، وانفسح أمره، وجاءته البشرى، وفُتحت الدنيا، فنظر في الأمر ذاته فاستغرب ما كان يظنه يقيناً، وعزف عنه، ومال إلى غيره بقلبه وبعقله، فالفكر والرأي ليس بمعزل عن معاناتنا النفسية والعاطفية.
وقد تتبعت سير بعض الناكبين عن الصراط، فرأيت منهم من ترك التدين، ومنهم من كره المتدينين، ومنهم من ألحد -والعياذ بالله- ورأيت أن الأمر في غالبه لا يعدو أن يكون تردياً في حالة نفسية استحكمت بسبب غياب الأنموذج والقدوة التي تمتلك الصبر والاتزان والهدوء الكافي لتقبل الحق وتفرح به: "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا"[يونس:58]، تفرح به في بيداء الحياة الحارة التي لا يقطعها المرء إلا أن يكون آوياً إلى ركن شديد، ومتصلاً بالقوة الربانية التي هي فوق حدود البشر.
الكاتب الشيخ سلمان العودة
د.سلمان بن فهد العودة 25/4/1428
12/05/2007
سألتني ابنتي نجلاء - الحائرة- سؤلاً ذا شجون عن الدين الإسلامي، وعن جملة من أتباعه, وعن بعض من تصفهم بالواقفين في طريق الإبداع, وعن آخرين أخذوا موقفاً سلبياً من الدين ذاته, وعادوه، وعادوا كل أشكال التدين، وجعلوا الدين والخرافة شيئاً واحداً – معاذ الله –ورأوا أنهما حاجبان عن العمل والانتهاض, وحدثتني عن الذات وعلاقتها بالله عز وجل؛ فكان مما قلته لها:
أوافقك أن البعض حوَّلوا الدين إلى تقليد تاريخي أو اجتماعي يُصادر العقل والحرية، ويقتل الإبداع، لكن حلمنا الحقيقي هو في إعادة الدين إلى ذاته، واقتباسه من مصادره، ورفض الإضافات البشرية التي طالما سوَّدت صفحته وكدَّرت نقاءه.
الدِّينُ عصمة من التِّيه والضياع الحتمي للإنسان حين يقطع صلتَه بالله العظيم، ويكتفي بذاته، وحوله التحديات والصعاب، وجيوش الهموم والغموم ومصادر القلق.
الدِينُ سَلْوَى النفْسِ في آلامِها
وطَبيبُها مِنْ أَدْمُع وَجِراحِ
مناجاة الله ولو لثوانٍ تمنحني طاقةً هائلة لا تُقدّر بثمن، أجدها حين أحتاجها في المصائب والملمات، وفي مدارج الحياة العادية، وأجدها حين تواتيني فرصة للسعادة والهناء فيهجم وحش كاسر من الخوف أو الذكرى؛ لينغص عليّ سعادتي، فأجدُ ربي يمنحني الحماية والرضا والعطف، ويمنحني الفرصة بعد الفرصة حتى أكون سعيداً.
الإيمان الحق بالله يحفظ لي توازني حين تضطرب الموازين، فمعرفتي به تجعلني أكشف الزيف الذي يُمارس باسم الله، ولأني أعرف أن الله جميل يحب الجمال، ويكره الظلم والإجحاف والتعصب والهوى، وأنه رفيق يحب الرِّفق في الأمر كله، ويعطي على الرِّفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يُعطي على سواه، فالعنف الذي يُمارس باسمه سواءً كان أسرياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو دينياً هو عدوانية شخصانية تتترس بالتدين، والدين رحمة وسماحة.
عرفت الله الذي أُصلي بين يديه وأسجد له، وأدري أنه يراني هنا، كما يراني حين أهم بمخالفته، وهو يمهلني المرة بعد المرة، ويمد لي في العافية، وأتوسل إليه أن يكون وراء ذلك مغفرة وعفو، ففضله لا يُحد:
توضأ القلب من ظني ..
بأنك غفار وصلى ..
وكانت قبلتي الأمل ..
دع الهوى لذويه يهلكوا شغفاً ..
أو فاقتل النفس فيه مثل من قتلوا ..
الكون على مساحته واتساعه أضيق من سَمِّ الخياط إذا خلت الحياة من نسمة الإيمان بالله، وأين يذهب المرء من ربه وكل ذرة في كيانه تصيح هاتفةً باسم خالقها ومبدعها العظيم؟
وكيف يفر المرء عنه بذنبه
إذا كان تطوى في يديه المراحل
أعرف حقاً أن الظروف المحبطة المحيطة، والنماذج السيئة تصدّ عن سبيل الله، وأن الفهم المؤدلج ضيَّق سعةَ الدين، وغيَّب المفهوم الإنساني للحياة وللدين معاً، أو كاد, فليكن قدرنا أن نجاهد لتجلية المعنى الجميل للرسالة وتحقيق النموذج الراقي لها في عالم الإنسان, والإيمان الحقيقي بالله دافع للعمل والقوة ومحرك رئيس للانتفاض والانتهاض، وهذا مادة أساسية للحث على الاجتهاد والعمل والإحسان والعدل، ونشرها : " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"[النحل:90]. وقد جربت الحياة بعض التجريب، وصار مثلي كمثل عبد العزيز بن زرارة الكلابي إذ يقول:
قد عِشتُ في الدهر أطواراً على طرقٍ
شتّى فصادفتُ منهُ اللين والفضعا
لا يملأُ الأمر صدري قبل موقِعه
ولا يضيقُ بِه ذرعي إذا وقعا
كُلاً لبِست فلا النَّعماءُ تُبطِرُني
ولا تخشّعتُ من لأوائها جزعا
ما سدّ لي مطلع ضاقت ثنيته
إلا وجدت وراء الضيق متسعا
الإيمان بالله طريق سهلٌ سمحٌ لاحبٌ لكل سالك، وربما صعبه أو حال دونه من يظن بأنه يهدى إليه، ويدل عليه!
والمرء قد يفكر في قضية ما وهو مكروب محروب، فيخلص فيها إلى رأي يتيقنه بعقله وقلبه، فإذا تغيرت حاله، وانفسح أمره، وجاءته البشرى، وفُتحت الدنيا، فنظر في الأمر ذاته فاستغرب ما كان يظنه يقيناً، وعزف عنه، ومال إلى غيره بقلبه وبعقله، فالفكر والرأي ليس بمعزل عن معاناتنا النفسية والعاطفية.
وقد تتبعت سير بعض الناكبين عن الصراط، فرأيت منهم من ترك التدين، ومنهم من كره المتدينين، ومنهم من ألحد -والعياذ بالله- ورأيت أن الأمر في غالبه لا يعدو أن يكون تردياً في حالة نفسية استحكمت بسبب غياب الأنموذج والقدوة التي تمتلك الصبر والاتزان والهدوء الكافي لتقبل الحق وتفرح به: "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا"[يونس:58]، تفرح به في بيداء الحياة الحارة التي لا يقطعها المرء إلا أن يكون آوياً إلى ركن شديد، ومتصلاً بالقوة الربانية التي هي فوق حدود البشر.
الكاتب الشيخ سلمان العودة