همي الدعوه
16 Nov 2008, 05:45 AM
عزّ على محمد صلى الله عليه وسلم عنت أمته وضعفها!
د.سعد بن مطر العتيبي
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فهذه تأملات في الرحمة النبوية في ضياء قول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
فمعنى الآية عند أهل التفسير: لقد بعث الله فيكم رسولاً منكم يشقُّ عليه الأمرُ الذي يشقُّ عليكم ويُعنِتكم؛ إذ العَنَت هو: المشقة ولقاء المكروه الشديد، ولا سيما ما يُخاف منه الهلاك، ومنه: عزّ على فلان الأمرُ: ثقل واشتدّ عليه.
وقال في مختصر تفسير المنار:
"أي: شديد على طبعه وشعوره المرهف عنتكم؛ لأنه منكم، وهذا يشمل ما يكون في الدنيا، وما يكون في الآخرة، فلا يهون عليه أن يكونوا في دنياهم أمة ضعيفة ذليلة يعنتها أعداؤها بسيادتهم عليها وتحكمهم فيها، ولا أن يكونوا في الآخرة من أصحاب النار" [3/369-370].
ولا غرابة أن يتصف الحبيب صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة العظيمة، التي تفيض عاطفة وتتجسد رحمة؛ فقد كان خلقه -صلى الله عليه وسلم- القرآن، وفي الصحيح: ((إنَّ هذا الدين يُسْر))، وشريعته كلُّها سهلة سمحة كاملة، يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه..
وقد نفى الله عز وجل قصد الشقاء في إنزال القرآن وتشريع الأحكام، قال الله تعالى: { طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 1-3].
قال الشيخ السعدي رحمه الله:
"أي: ليس المقصود بالوحي وإنزال القرآن عليك وشرع الشريعة لِتشقَى بذلك، ويكون في الشريعة تكليف يشقّ على المكلَّفين، وتعجز عنه قوى العاملين، وإنَّما الوحي والقرآن والشرع شَرَعه الرحيم الرحمن، وجَعَلَه موصِلاً للسعادة والفلاح والفوز، وسهَّله غايةَ التسهيل، ويسّر كلّ طرقه وأبوابه وجعله غذاء للقلوب والأرواح وراحة للأبدان، فتلقّته الفطر السليمة والعقول المستقيمة بالقبول والإذعان، لعلمها بما احتوى عليه من الخير في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}: إلا ليتذكر من يخشى الله تعالى، فيتذكر ما فيه من الترغيب والترهيب إلى أجلّ المطالب فيعمل بذلك، ومن الترهيب عن الشقاء والخسران فيرهب منه، ويتذكر به الأحكام الحسنة الشرعيّة المفصّلة التي كان مستقرًا في عقله حسنُها مجملاً، فوافق التفصيلُ ما يجده في فطرته وعقله، ولهذا سمّاه الله تذكرة، والتّذكرة لشيء كان موجودًا، إلا أنّ صاحبه غافلٌ عنه" أهـ.
بل إن رحمته صلى الله عليه وآله وسلم لا تقف عند حد مؤمنِ أمتِه، بل حتى كافرهم، كان محلّ الرحمةِ وعزةِ العنتِ؛ كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 21].
قال الإمام الطبري -رحمه الله- مرجحًا عمومَ الآية على قول من خصصها بالمؤمنين:
"وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس. وذلك أن الله عمَّ بالخبر عن نبيّ الله أنه عزيز عليه ما عنت قومَه, ولم يخصص أهل الإيمان به. فكان صلى الله عليه وسلم [كما جاء الخبرُ من] الله به، عزيزٌ عليه عَنَتُ جمعهم. فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان عزيزًا عليه عنتُ جميعهم، وهو يقتل كفَّارَهم، ويسبي ذراريهم، ويسلبهم أموالهم؟ قيل: إن إسلامهم، لو كانوا أسلموا، كان أحبَّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه، حتى يستحقوا ذلك من الله. وإنما وصفه الله جل ثناؤه بأنه عزيزٌ عليه عنتهم , لأنه كان عزيزًا عليه أن يأتوا ما يُعنتهم، وذلك أن يضلُّوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي".
ومن يتأمل آيات القرآن الكريم؛ يجد مصداقَ ذلك في وصف الله عز وجل شعورَ نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسبب السيءِ من ردود الفعل من أهل الكفر، كالتي وصف الله تعالى في قوله سبحانه: {وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23]، وقوله جل وعلا: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: 176]، وقوله سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يقُولُونَ} [الأنعام: 33]، وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]..
ومن يتأمل سيرته صلى الله عليه وآله وسلم يلحظ ذلك جليًّا، حتى عاتبه ربه في موضوع أسرى بدر، كما في آية الأنفال؛ وفي موضوع لقاء كبراء قريش في سورة عبس وتولى، مع أنه كان مجتهدًا في رفع العنت عنهم، متحريًا الصواب في دعوتهم، وأمثلة ذلك في السيرة العطرة من الكثرة بمكان..
ومن ذلك: أمره صلى الله عليه وآله وسلم لثمامة بن أثال رضي الله عنه برفع المقاطعة الاقتصادية النجدية عن مكة.
ومن ذلك أيضًا: فكُّه الحصارَ عن الطائف كما في الصحيحين، مع أن التقارير العسكرية التي ترتفع للقيادة النبوية تؤكِّد قرب الفتح ؛ طمعًا في إسلامهم.
ومثله ردُّه صلى الله عليه وآله وسلم لسبي هوازن كما في الصحيح، وما جرى من تداول عظيم بشأن ذلك.
بل لقد كان صلى الله عليه وسلم يعز عليه العنت في التعبّد، والزيادة في العمل مما كان يراه شاقًّا على الأمة، كما في الصحيحين، في قصة مراجعته صلى الله عليه وسلّم ربَّه في عدد الصلوات المفروضة حتى استقرت على خمس في الفعل وخمسين في الأجر بعد أن كانت خمسين في الفعل والأجر.
ومن ذلك: ما جرى منه بعسفان حين أعلن الفطر عمليًّا في نهار رمضان كما في الصحيحين؛ وذلك حين شعر بأن الصوم في السفر قد شق على أصحابه رضوان الله عليهم.
بل لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بعض الأعمال من أعمال التعبد، فينقطع عنها خشية أن تفرض على أمته! صلوات ربي وسلامه عليه..
فلا أقلَّ من أن تلهج ألسنتُنا بالصلاة والسلام عليه، وتنقاد أرواحُنا وأجسادنا لما قاد إليه، ونتبعه في رحمته للخلق حين ندعو للحق.
فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، واجعلنا اللهم ممن اهتدى بهديه ونال بفضلك شفاعته..
صيد الفوائد
د.سعد بن مطر العتيبي
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فهذه تأملات في الرحمة النبوية في ضياء قول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
فمعنى الآية عند أهل التفسير: لقد بعث الله فيكم رسولاً منكم يشقُّ عليه الأمرُ الذي يشقُّ عليكم ويُعنِتكم؛ إذ العَنَت هو: المشقة ولقاء المكروه الشديد، ولا سيما ما يُخاف منه الهلاك، ومنه: عزّ على فلان الأمرُ: ثقل واشتدّ عليه.
وقال في مختصر تفسير المنار:
"أي: شديد على طبعه وشعوره المرهف عنتكم؛ لأنه منكم، وهذا يشمل ما يكون في الدنيا، وما يكون في الآخرة، فلا يهون عليه أن يكونوا في دنياهم أمة ضعيفة ذليلة يعنتها أعداؤها بسيادتهم عليها وتحكمهم فيها، ولا أن يكونوا في الآخرة من أصحاب النار" [3/369-370].
ولا غرابة أن يتصف الحبيب صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة العظيمة، التي تفيض عاطفة وتتجسد رحمة؛ فقد كان خلقه -صلى الله عليه وسلم- القرآن، وفي الصحيح: ((إنَّ هذا الدين يُسْر))، وشريعته كلُّها سهلة سمحة كاملة، يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه..
وقد نفى الله عز وجل قصد الشقاء في إنزال القرآن وتشريع الأحكام، قال الله تعالى: { طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 1-3].
قال الشيخ السعدي رحمه الله:
"أي: ليس المقصود بالوحي وإنزال القرآن عليك وشرع الشريعة لِتشقَى بذلك، ويكون في الشريعة تكليف يشقّ على المكلَّفين، وتعجز عنه قوى العاملين، وإنَّما الوحي والقرآن والشرع شَرَعه الرحيم الرحمن، وجَعَلَه موصِلاً للسعادة والفلاح والفوز، وسهَّله غايةَ التسهيل، ويسّر كلّ طرقه وأبوابه وجعله غذاء للقلوب والأرواح وراحة للأبدان، فتلقّته الفطر السليمة والعقول المستقيمة بالقبول والإذعان، لعلمها بما احتوى عليه من الخير في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}: إلا ليتذكر من يخشى الله تعالى، فيتذكر ما فيه من الترغيب والترهيب إلى أجلّ المطالب فيعمل بذلك، ومن الترهيب عن الشقاء والخسران فيرهب منه، ويتذكر به الأحكام الحسنة الشرعيّة المفصّلة التي كان مستقرًا في عقله حسنُها مجملاً، فوافق التفصيلُ ما يجده في فطرته وعقله، ولهذا سمّاه الله تذكرة، والتّذكرة لشيء كان موجودًا، إلا أنّ صاحبه غافلٌ عنه" أهـ.
بل إن رحمته صلى الله عليه وآله وسلم لا تقف عند حد مؤمنِ أمتِه، بل حتى كافرهم، كان محلّ الرحمةِ وعزةِ العنتِ؛ كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 21].
قال الإمام الطبري -رحمه الله- مرجحًا عمومَ الآية على قول من خصصها بالمؤمنين:
"وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس. وذلك أن الله عمَّ بالخبر عن نبيّ الله أنه عزيز عليه ما عنت قومَه, ولم يخصص أهل الإيمان به. فكان صلى الله عليه وسلم [كما جاء الخبرُ من] الله به، عزيزٌ عليه عَنَتُ جمعهم. فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان عزيزًا عليه عنتُ جميعهم، وهو يقتل كفَّارَهم، ويسبي ذراريهم، ويسلبهم أموالهم؟ قيل: إن إسلامهم، لو كانوا أسلموا، كان أحبَّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه، حتى يستحقوا ذلك من الله. وإنما وصفه الله جل ثناؤه بأنه عزيزٌ عليه عنتهم , لأنه كان عزيزًا عليه أن يأتوا ما يُعنتهم، وذلك أن يضلُّوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي".
ومن يتأمل آيات القرآن الكريم؛ يجد مصداقَ ذلك في وصف الله عز وجل شعورَ نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسبب السيءِ من ردود الفعل من أهل الكفر، كالتي وصف الله تعالى في قوله سبحانه: {وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} [لقمان: 23]، وقوله جل وعلا: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: 176]، وقوله سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يقُولُونَ} [الأنعام: 33]، وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]..
ومن يتأمل سيرته صلى الله عليه وآله وسلم يلحظ ذلك جليًّا، حتى عاتبه ربه في موضوع أسرى بدر، كما في آية الأنفال؛ وفي موضوع لقاء كبراء قريش في سورة عبس وتولى، مع أنه كان مجتهدًا في رفع العنت عنهم، متحريًا الصواب في دعوتهم، وأمثلة ذلك في السيرة العطرة من الكثرة بمكان..
ومن ذلك: أمره صلى الله عليه وآله وسلم لثمامة بن أثال رضي الله عنه برفع المقاطعة الاقتصادية النجدية عن مكة.
ومن ذلك أيضًا: فكُّه الحصارَ عن الطائف كما في الصحيحين، مع أن التقارير العسكرية التي ترتفع للقيادة النبوية تؤكِّد قرب الفتح ؛ طمعًا في إسلامهم.
ومثله ردُّه صلى الله عليه وآله وسلم لسبي هوازن كما في الصحيح، وما جرى من تداول عظيم بشأن ذلك.
بل لقد كان صلى الله عليه وسلم يعز عليه العنت في التعبّد، والزيادة في العمل مما كان يراه شاقًّا على الأمة، كما في الصحيحين، في قصة مراجعته صلى الله عليه وسلّم ربَّه في عدد الصلوات المفروضة حتى استقرت على خمس في الفعل وخمسين في الأجر بعد أن كانت خمسين في الفعل والأجر.
ومن ذلك: ما جرى منه بعسفان حين أعلن الفطر عمليًّا في نهار رمضان كما في الصحيحين؛ وذلك حين شعر بأن الصوم في السفر قد شق على أصحابه رضوان الله عليهم.
بل لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بعض الأعمال من أعمال التعبد، فينقطع عنها خشية أن تفرض على أمته! صلوات ربي وسلامه عليه..
فلا أقلَّ من أن تلهج ألسنتُنا بالصلاة والسلام عليه، وتنقاد أرواحُنا وأجسادنا لما قاد إليه، ونتبعه في رحمته للخلق حين ندعو للحق.
فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، واجعلنا اللهم ممن اهتدى بهديه ونال بفضلك شفاعته..
صيد الفوائد