همي الدعوه
26 Nov 2008, 03:11 AM
أمية النبي صلى الله عليه وسلم
مبارك عامر بقنه
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله من المجمع عليه عند علماء الإسلام قاطبة أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قد حاز الكمال البشري، وأنه ليس في صفاته، وأخلاقه، وسلوكه نقص فقد أدبه الله واصطفاه، فأي صفة أتصف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي صفة مدح يمدح عليها. ومما اتفق عليه العقلاء أن القراءة والكتابة صفة مدح وكمال، وهي مطلب يُسعى إليه، وقد وصف الله نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بالأمي { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } الآية [الأعراف:157] فهل هذا يقتضي نقص في حقه وقدره صلى الله عليه وآله وسلم؟ إن نعت الله نبيه بالأمية كمال ومدح في حقه صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل في ذلك تقرير لنبوته، وإقامة الحجة الكاملة على الخلق؛ إذ من المفترض أن يقال أنه مرتاب ـ وقد قيل ـ إن هذا القرآن {أساطير الأولين أكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيل} ودفعاً لهذه الشبهة الإبليسية فقد قضى الله على خليله أن لا يجالس أحداً من أهل العلم بالكتب السابقة ، وأن يكون أمياً لا يتلوا الكتاب {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بينك إذا لارتاب المبطلون}[العنكبوت:48] ؛ بل جعل أميته صلى الله عليه وسلم أعجازاً وتحدياً للخلق؛ إذ كيف يكون لرجل لم يقرأ أو يكتب أو يجالس أهل الكتاب أن يأتي بكتاب فيه أخبار الأمم الماضية مفصلة . وفيه قصص الأنبياء من قبله وما حدث لهم مع أقوامه. وفيه تقرير عن الإنسان من الإيجاد والميلاد إلى الممات والمنشأ ثم الحساب والجزاء . وفيه ذكر الكون وأصل نشأته وتكوينه. وفيه ذكر كثير من أسرار الطبيعة التي عجز الإنسان عن كشف بعضها إلا في وقتنا الحاضر حتى قال الله عنه {ما فرطنا في الكتاب من شيء}كتاب معجز في جوهره ، حتى إذا تلي على أهل الفصاحة وعبدة البيان ألقوا أقلامهم ، وأصغوا إليه بأفئدتهم ، وخشعت أجسادهم ، وخروا سجداً وقالوا ما هذا قول البشر ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، ولكن من فرط جهلهم ، وسخف عقولهم ، تواصوا فيما بينهم { لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون } وقالوا {ائت بقرآن غير هذا أو بدله} فأوحي الله إلى عبده أن يقول لهم معلناً { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقائي نفسي ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ، قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ، ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون }[يونس:15،16] فهذا القرآن يكفي أن يكون لكم ولمن خلفكم آية فهو كتاب { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد }[فصلت:42] فهذه آية هذا النبي الأمي تتلى علينا تتحدى الثقلين بأن يأتوا بسورة من مثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . أفلا يكون في هذا بيان أن هذا النبي الأمي الكريم لم يتقوله إذ لا يستطيع ذلك فهو لا يقرأ ولا يكتب؛ فكانت صفة الأمية زيادة في معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم، وإظهار لصدقه.
وقد جاء في صحيح البخاري( ) من حديث البراء رضي الله عنه قال :" اعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذي القعدة ، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة ، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام . فلما كتبوا الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا : لا نقر بها ، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك ، لكن أنت محمد عبد الله . قال : أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله ، ثم قال لعلي : امح "رسول الله " قال : لا والله لا أمحوك أبداً ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب فكتب (وفي رواية : وليس يحسن يكتب فكتب( )) : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب ، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه ، وأن لا يمنع أحداً من أصحابه أراد أن يقيم بها ." وهنا يظهر إشكال وهو : أن محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب بنص القرآن ، ونجد في الحديث الثابت ما يعارض ذلك وأنه كتب بيده . فيكيف يتم الجمع بينهما ؟ من أجل ظاهر هذا الحديث أدعى القاضي أبو وليد الباجي: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كتب يوم الحديبية بيده بعد إن لم يكن يحسن الكتابة. وتبعه على هذا شيخه أبو ذر الهروي ، وأبو الفتح النيسابوري وغيرهما .
واحتجوا لتأييد قولهم بما رواه الطبراني من طريق مجاهد عن عون بن عبد الله قال :" ما مات رسول الله حتى كتب وقرأ ." قال مجاهد : فذكرته للشعبي ، فقال : صدق قد سمعت من يذكر ذلك.
واحتجوا بما روى عن سهل بن الحنظلية :" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعيينة . فقال عيينة : أتراني اذهب بصحيفة المتلمس ؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحيفة فنظر فيها فقال : قد كتب لك بما أمر لك .( )" وقد وردت آثار أنه يعرف الخط وكيفية رسمه فذكر القاضي عياض عن معاوية : أنه كان يكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له :" ألق الدواة ، وحرف القلم ، وأقم الباء ، وفرق السين ، ولا تعور الميم ، وحسن الله ، ومد الرحمن ، وجود الرحيم " قال القاضي : وهذا وإن لم تصح الرواية أنه صلى الله عليه وآله وسلم كتب فلا يبعد أن يرزق علم هذا ، ـ أي وضع الكتابة في صلح الحديبية ـ ويمنع القراءة والكتابة .( ) ورأى كثير من علماء المشرق والمغرب أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب قط في حياته، ومن أدعى أنه كتب فقد عارض القرآن، ولذلك أشتد النكير على أبي الوليد، وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر:" فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه، ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله مخالف للقرآن حتى قال قائلهم:
برئت ممن شرى دنيا بآخرة وقال إن رسول الله قد كتبا
فجمعهم الأمير، فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن؛ بل نؤخذ من مفهوم القرآن لأنه قيد النفي بما قبل وروود القرآن فقال:{وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } وبعد أن تحققت أميته، وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب في ذلك لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فيكون معجزة أخرى .( )"
ورأي الجمهور أوفق إلى الصواب بل هو الحق المتعين؛ إذ يجب عند وجود تعارض بين أمرين أن تجمع أطراف الأدلة ، ولا يسقط منها شيء ويتعامل معها كوحدة متكاملة ، ولا نسلك مسلك أهل البدع برد الحديث بأنه آحاد ، أو نؤول الأقوال ونحرف الكلم عن مواضعه ، فنرد الحق أو بعضه فتزيغ قلوبنا كما قال أبو بكر رضي الله عنه :" إني أخشى أن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ." فنظر الجمهور إلى روايات قصة الحديبية فجمعوا رواياتها فزال التعارض إذ حملوا رواية " فكتب " على الرواية الأخرى " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله ( )" ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي رضي الله عنه :" أرني إياها " حيث قال الحافظ :" ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة .( )" وقال القرطبي:" الصحيح في الباب أنه ما كتب ولا حرفا واحدا، وإنما أمر من يكتب، وكذلك ما قرأ ولا تهجى .
فإن قيل: فقد تهجى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين ذكر الدجال فقال: " مكتوب بين عينيه ك ا ف ر " وقلتم أن المعجزة قائمة في كونه أميا … فكيف هذا ؟ فالجواب ما نص عليه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث حذيفة، والحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضا . ففي حديث حذيفة :" يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب " فقد نص في ذلك على غير الكتاب ممن يكون أمياً . وهذا من أوضح ما يكون جلياً.( )" أما الأحاديث الأخرى فقد ضعفها الجمهور، فلا تقوى لمعارضة القرآن، فيسقط الاحتجاج بها .
وإن نعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأمي أصبح صفة لنا كما قال الله تعالى :{ هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم}[الجمعة:2] وقال الله:{وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم}[آل عمران:20] وفي الحديث :"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ( )" فالكتابة في العرب نادرة ولهذا وصفت اليهود العرب بالأمية :{ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل}[آل عمران:75] . وقد جاءت أحاديث تبين أن الأمية ستقل، وينتشر القلم كما في حديث عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" إن بين يدي الساعة … ظهور القلم.( )" ولا شك أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم داخلة في هذا الخطاب، وهذا ما نراه الآن من انتشار الكتابة بين العامة؛ حتى أنك تشاهد الصبي يكتب ما يشاء. والمتأمل في لفظة الحديث قوله " ظهور القلم " ولم يقل " ظهور العلم " فكأن الحديث يلمح إلى أن محو الأمية ستنتشر إلا أن الجهل بالعلم الشرعي يكثر ويزداد وهذا ما يحكيه الواقع، وقد روى الحاكم في "مستدركه" عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :" إن من أشراط الساعة : أن يفيض المال ، ويكثر الجهل ، وتظهر الفتن ، وتكثر التجارة .( ) " يقول الشيخ التويجري رحمه الله :" وقد ظهرت في هذه الأزمان ـ أي الكتب ـ ظهوراً باهراً ، وانتشرت في جميع أرجاء الأرض ، ومع هذا ؛ فقد ظهر الجهل في الناس ، وقلّ فيهم العلم النافع ، وهو علم الكتاب والسنة والعمل بهما ، ولم تغن عنهم كثرة الكتب شيئاً.( )"
ومن البلية أنك تجد هؤلاء الأميين ـ في الأمور الشرعية ـ قد نصبوا أنفسهم في قيادة فكر الأمة، وطرح قضاياها، ومعالجتها وفق فكرهم الأمي ، متباهين بقلمهم الغربي ، فأتوا بما لم يأتي به الأوائل مما يضحك صغار الولدان . إنها صفاقة وجه ، ورقة دين وما جاء على أصله فلا يعاب فهذه من رعونات الفسقة وقد جاء في الحديث :" يكون في آخر الزمان عباد جهال، وقراء فسقة " وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
صيد الفوائد
مبارك عامر بقنه
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله من المجمع عليه عند علماء الإسلام قاطبة أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قد حاز الكمال البشري، وأنه ليس في صفاته، وأخلاقه، وسلوكه نقص فقد أدبه الله واصطفاه، فأي صفة أتصف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي صفة مدح يمدح عليها. ومما اتفق عليه العقلاء أن القراءة والكتابة صفة مدح وكمال، وهي مطلب يُسعى إليه، وقد وصف الله نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بالأمي { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } الآية [الأعراف:157] فهل هذا يقتضي نقص في حقه وقدره صلى الله عليه وآله وسلم؟ إن نعت الله نبيه بالأمية كمال ومدح في حقه صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل في ذلك تقرير لنبوته، وإقامة الحجة الكاملة على الخلق؛ إذ من المفترض أن يقال أنه مرتاب ـ وقد قيل ـ إن هذا القرآن {أساطير الأولين أكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيل} ودفعاً لهذه الشبهة الإبليسية فقد قضى الله على خليله أن لا يجالس أحداً من أهل العلم بالكتب السابقة ، وأن يكون أمياً لا يتلوا الكتاب {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بينك إذا لارتاب المبطلون}[العنكبوت:48] ؛ بل جعل أميته صلى الله عليه وسلم أعجازاً وتحدياً للخلق؛ إذ كيف يكون لرجل لم يقرأ أو يكتب أو يجالس أهل الكتاب أن يأتي بكتاب فيه أخبار الأمم الماضية مفصلة . وفيه قصص الأنبياء من قبله وما حدث لهم مع أقوامه. وفيه تقرير عن الإنسان من الإيجاد والميلاد إلى الممات والمنشأ ثم الحساب والجزاء . وفيه ذكر الكون وأصل نشأته وتكوينه. وفيه ذكر كثير من أسرار الطبيعة التي عجز الإنسان عن كشف بعضها إلا في وقتنا الحاضر حتى قال الله عنه {ما فرطنا في الكتاب من شيء}كتاب معجز في جوهره ، حتى إذا تلي على أهل الفصاحة وعبدة البيان ألقوا أقلامهم ، وأصغوا إليه بأفئدتهم ، وخشعت أجسادهم ، وخروا سجداً وقالوا ما هذا قول البشر ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، ولكن من فرط جهلهم ، وسخف عقولهم ، تواصوا فيما بينهم { لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون } وقالوا {ائت بقرآن غير هذا أو بدله} فأوحي الله إلى عبده أن يقول لهم معلناً { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقائي نفسي ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ، قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ، ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون }[يونس:15،16] فهذا القرآن يكفي أن يكون لكم ولمن خلفكم آية فهو كتاب { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد }[فصلت:42] فهذه آية هذا النبي الأمي تتلى علينا تتحدى الثقلين بأن يأتوا بسورة من مثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . أفلا يكون في هذا بيان أن هذا النبي الأمي الكريم لم يتقوله إذ لا يستطيع ذلك فهو لا يقرأ ولا يكتب؛ فكانت صفة الأمية زيادة في معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم، وإظهار لصدقه.
وقد جاء في صحيح البخاري( ) من حديث البراء رضي الله عنه قال :" اعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذي القعدة ، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة ، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام . فلما كتبوا الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا : لا نقر بها ، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك ، لكن أنت محمد عبد الله . قال : أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله ، ثم قال لعلي : امح "رسول الله " قال : لا والله لا أمحوك أبداً ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب فكتب (وفي رواية : وليس يحسن يكتب فكتب( )) : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب ، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه ، وأن لا يمنع أحداً من أصحابه أراد أن يقيم بها ." وهنا يظهر إشكال وهو : أن محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب بنص القرآن ، ونجد في الحديث الثابت ما يعارض ذلك وأنه كتب بيده . فيكيف يتم الجمع بينهما ؟ من أجل ظاهر هذا الحديث أدعى القاضي أبو وليد الباجي: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كتب يوم الحديبية بيده بعد إن لم يكن يحسن الكتابة. وتبعه على هذا شيخه أبو ذر الهروي ، وأبو الفتح النيسابوري وغيرهما .
واحتجوا لتأييد قولهم بما رواه الطبراني من طريق مجاهد عن عون بن عبد الله قال :" ما مات رسول الله حتى كتب وقرأ ." قال مجاهد : فذكرته للشعبي ، فقال : صدق قد سمعت من يذكر ذلك.
واحتجوا بما روى عن سهل بن الحنظلية :" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعيينة . فقال عيينة : أتراني اذهب بصحيفة المتلمس ؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحيفة فنظر فيها فقال : قد كتب لك بما أمر لك .( )" وقد وردت آثار أنه يعرف الخط وكيفية رسمه فذكر القاضي عياض عن معاوية : أنه كان يكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له :" ألق الدواة ، وحرف القلم ، وأقم الباء ، وفرق السين ، ولا تعور الميم ، وحسن الله ، ومد الرحمن ، وجود الرحيم " قال القاضي : وهذا وإن لم تصح الرواية أنه صلى الله عليه وآله وسلم كتب فلا يبعد أن يرزق علم هذا ، ـ أي وضع الكتابة في صلح الحديبية ـ ويمنع القراءة والكتابة .( ) ورأى كثير من علماء المشرق والمغرب أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب قط في حياته، ومن أدعى أنه كتب فقد عارض القرآن، ولذلك أشتد النكير على أبي الوليد، وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر:" فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه، ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله مخالف للقرآن حتى قال قائلهم:
برئت ممن شرى دنيا بآخرة وقال إن رسول الله قد كتبا
فجمعهم الأمير، فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن؛ بل نؤخذ من مفهوم القرآن لأنه قيد النفي بما قبل وروود القرآن فقال:{وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } وبعد أن تحققت أميته، وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب في ذلك لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فيكون معجزة أخرى .( )"
ورأي الجمهور أوفق إلى الصواب بل هو الحق المتعين؛ إذ يجب عند وجود تعارض بين أمرين أن تجمع أطراف الأدلة ، ولا يسقط منها شيء ويتعامل معها كوحدة متكاملة ، ولا نسلك مسلك أهل البدع برد الحديث بأنه آحاد ، أو نؤول الأقوال ونحرف الكلم عن مواضعه ، فنرد الحق أو بعضه فتزيغ قلوبنا كما قال أبو بكر رضي الله عنه :" إني أخشى أن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ." فنظر الجمهور إلى روايات قصة الحديبية فجمعوا رواياتها فزال التعارض إذ حملوا رواية " فكتب " على الرواية الأخرى " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله ( )" ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي رضي الله عنه :" أرني إياها " حيث قال الحافظ :" ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة .( )" وقال القرطبي:" الصحيح في الباب أنه ما كتب ولا حرفا واحدا، وإنما أمر من يكتب، وكذلك ما قرأ ولا تهجى .
فإن قيل: فقد تهجى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين ذكر الدجال فقال: " مكتوب بين عينيه ك ا ف ر " وقلتم أن المعجزة قائمة في كونه أميا … فكيف هذا ؟ فالجواب ما نص عليه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث حذيفة، والحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضا . ففي حديث حذيفة :" يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب " فقد نص في ذلك على غير الكتاب ممن يكون أمياً . وهذا من أوضح ما يكون جلياً.( )" أما الأحاديث الأخرى فقد ضعفها الجمهور، فلا تقوى لمعارضة القرآن، فيسقط الاحتجاج بها .
وإن نعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأمي أصبح صفة لنا كما قال الله تعالى :{ هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم}[الجمعة:2] وقال الله:{وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم}[آل عمران:20] وفي الحديث :"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ( )" فالكتابة في العرب نادرة ولهذا وصفت اليهود العرب بالأمية :{ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل}[آل عمران:75] . وقد جاءت أحاديث تبين أن الأمية ستقل، وينتشر القلم كما في حديث عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" إن بين يدي الساعة … ظهور القلم.( )" ولا شك أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم داخلة في هذا الخطاب، وهذا ما نراه الآن من انتشار الكتابة بين العامة؛ حتى أنك تشاهد الصبي يكتب ما يشاء. والمتأمل في لفظة الحديث قوله " ظهور القلم " ولم يقل " ظهور العلم " فكأن الحديث يلمح إلى أن محو الأمية ستنتشر إلا أن الجهل بالعلم الشرعي يكثر ويزداد وهذا ما يحكيه الواقع، وقد روى الحاكم في "مستدركه" عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :" إن من أشراط الساعة : أن يفيض المال ، ويكثر الجهل ، وتظهر الفتن ، وتكثر التجارة .( ) " يقول الشيخ التويجري رحمه الله :" وقد ظهرت في هذه الأزمان ـ أي الكتب ـ ظهوراً باهراً ، وانتشرت في جميع أرجاء الأرض ، ومع هذا ؛ فقد ظهر الجهل في الناس ، وقلّ فيهم العلم النافع ، وهو علم الكتاب والسنة والعمل بهما ، ولم تغن عنهم كثرة الكتب شيئاً.( )"
ومن البلية أنك تجد هؤلاء الأميين ـ في الأمور الشرعية ـ قد نصبوا أنفسهم في قيادة فكر الأمة، وطرح قضاياها، ومعالجتها وفق فكرهم الأمي ، متباهين بقلمهم الغربي ، فأتوا بما لم يأتي به الأوائل مما يضحك صغار الولدان . إنها صفاقة وجه ، ورقة دين وما جاء على أصله فلا يعاب فهذه من رعونات الفسقة وقد جاء في الحديث :" يكون في آخر الزمان عباد جهال، وقراء فسقة " وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
صيد الفوائد