وردة نوري
17 Dec 2008, 12:52 AM
http://www.3rbe.com/vb/upload/2008/2/17775_61203925729.gif (http://www.3rbe.com/vb)
الطريق إلى الحلم وكظم الغيظ
http://www.ikhwanonline.net/Data/2008/7/15/ikh5.jpg
بقلم: محمد عبده
الحياة العصرية بكل ما فيها من ضغوطات ومشاكل، وحالات اقتصادية متردية، أفرزت شخصيات مضطربة، مُتقلبة المزاج، تُثار من أقل الأشياء، وتتعصب لأتفه الأسباب، وتغضب بلا ضابط ولا وعي من أصغر الأخطاء.
ولقد صادفت وأنا أكتب في هذا الموضوع أن طالعتنا الجرائد ونقلت إلينا الفضائيات حادثة القتل التي وقعت أثناء التشاجر على خلفية أزمة الخبز التي وقعت في مصر.. لماذا؟ لأن شخصًا أخذ مكان غيره في الصف بالقوة!!
تخيل معي نفسًا تُزهق وأسرة تُشرَّد لأن شخصًا لم يتحكم في نفسه في وقت غضبه، فيدفعه ذلك الغضب إلى ارتكاب جريمة من أعظم الجرائم وأخطرها، بل هي من أكبر الكبائر، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ، أَوْ قَالَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ" (رواه البخاري).
فالحلم هو الأناة وضبط النفس عند الغضب.
لماذا الحلم وكظم الغيظ من أخلاق الكبار؟
لأن الحلم وكظم الغيظ يحتاج إلى قوة نفسية كبيرة تمنع صاحبها من الانتقام والتشفي، وتقوده إلى التروي والحكمة قبل اتخاذ القرار.
ولأن الحلم وكظم الغيظ يعني الصبر على من ظلم، والعفو عمن أخطأ، وهي أيضًا تحتاج إلى قوة نفسية كبيرة تجعل الأمر هينًا على النفس.
ولأن الحلم وكظم الغيظ ضد طبيعة البشر التي جُبلت نفوسهم على حب الذات وعدم قبول الظلم أو الرضا به من أي شخص كان.
ولأن الحلم وكظم الغيظ يعني الارتقاء، والسمو النفسي الذي يعكس تحكم الشخص في نفسه، وتحليه بالهدوء والسكينة، وبُعده عنه ردود الفعل السريعة.
إيمان بالله:
والكبار بإيمانهم الذي رسخ في قلوبهم يستطيعون التحكم في أنفسهم، ودفع رغبات النفس في الغضب والانتقام؛ ذلك أن إيمانهم بالله جعلهم يوقنون بأن كل يُصيب الإنسان من أذى أو ما يعتريه من ظلم إنما لحكمة أرادها الله تعالى؛ فالمؤمن إذا ابتلي صبر على ما أصابه الله به فلم يغضب ولم يتضجر، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" (صحيح الجامع).
تفسير آية:
يقول تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية 134).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾: فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ؛ يَعْنِي فِي حَالِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ.
وَقِيلَ: فِي حَالِ السُّرُورِ وَالْغَمِّ لا يَقْطَعُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ إنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ؛ فَمَدَحَ الْمُنْفِقِينَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ، فَمَدَحَ مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَعَفَا عَمَّنْ اجْتَرَمَ إلَيْهِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "مَنْ خَافَ اللهَ لَمْ يَشْفِ غَيْظَهُ، وَمَنْ اتَّقَى اللهَ لَمْ يَصْنَعْ مَا يُرِيدُ، وَلَوْلا يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَكَانَ غَيْرَ مَا تَرَوْنَ".
وَكَظْمُ الْغَيْظِ وَالْعَفْوُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِمَا، مَوْعُودٌ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِمَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
مكارم الأخلاق:
الحلم وكظم الغيظ يأتيان في مقدمة مكارم الأخلاق وأفضلها، والتي يجب أن يتصف بها المسلم؛ لما يترتب عليهما من خير كثير، وتحقيق الأمن الاجتماعي بين الناس، وصفاء العلاقات ومتانتها، رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ الْهِلالِيُّ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ.. إنِّي أَتَيْتُك بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199).
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ: "يَا جِبْرِيلُ.. مَا هَذَا؟" قَالَ: لا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ، ثُمَّ عَادَ جِبْرِيلُ، وَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ.. إنَّ رَبَّك يَأْمُرُك أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ".
كن كأبي ضمضم:
البعض اليوم تثور ثورتهم، وتنتفخ أوداجهم، ويُقيمون الدنيا ولا يُقعدونها، ويسعون إلى الانتقام والتشفي متى سمعوا أن شخصًا سبَّهم، أو أخطأ في حقهم، وقد يعتدون بأكثر مما أُعتدي عليهم بسبب الغضب الذي يلازمهم.
أما الكبار فإنهم يتروون ويتعقلون في ردود أفعالهم؛ فلا يُسارعون إلى الانتقام، ولا يسعون إلى رد الإساءة بمثلها، بل يجعلون الأولوية للمسامحة والعفو، والصلح والتفاهم.
جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضيغم؟- أو ضمضم، شك ابن عبيد- كان إذا أصبح قال اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك" (سنن أبي داود).
محبة الله:
الكبار بحلمهم على غيرهم، وصبرهم على الأذى، ورفضهم مقابلة الإساءة بالإساءة، وإيثارهم العفو على الانتقام؛ ينالون أعلى الدرجات، ويحظون بأشرف المقامات، وهي محبة الله تعالى لهم، رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْحَلِيمَ الْحَيِيَّ، وَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ".
نماذج مُضيئة:
للكبار مواقفهم التي لا تُنسى، وأقوالهم التي يجب أن تُدرس، وأفعالهم التي تُمثل قدوةً لكل من يبحث عن قدوة، وفي خلق الحلم وكظم الغيظ نماذج مُبهرة؛ قلما تجد مثلها في عالم الناس، وفي مقدمة هؤلاء يأتي:
أبو الدرداء:
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِرَجُلٍ أَسْمَعَهُ كَلامًا: يَا هَذَا.. لا تُغْرِقَنَّ فِي سَبِّنَا، وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا؛ فَإِنَّا لا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ.
الشعبي:
وَشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ: إنْ كُنْتُ مَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللهُ لِي، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللهُ لَك.
عائشة رضي الله عنها:
وَاغْتَاظَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَلَى خَادِمٍ لَهَا ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى نَفْسِهَا فَقَالَتْ: للهِ دَرُّ التَّقْوَى، مَا تَرَكَتْ لِذِي غَيْظٍ شِفَاءً.
معاوية:
وَقَسَّمَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قِطَافًا، فَأَعْطَى شَيْخًا مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ قَطِيفَةً فَلَمْ تُعْجِبْهُ، فَحَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ بِهَا رَأْسَ مُعَاوِيَةَ، فَأَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَوْفِ بِنَذْرِك، وَلْيَرْفُقْ الشَّيْخُ بِالشَّيْخِ.
من أسماء الله:
الحليم اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه ذو الصفح والأناة الذي لا يُعجِّل بالعقوبة مع القدرة، فتخيل معي أخي القارئ إلهًا عظيمًا خالقَ الأرض والسماء، وبيده ملكوت كل شيء، يحتاج إليه العبد في كل حركة وفي كل سكْنة، إلهًا خالقًا رازقًا، واهبًا مُعطيًا، مُنعمًا قادرًا، قادرًا أن يسحب نعمته من عبده متى شاء، قادرًا أن يُعجِّل بالعقوبة متى فُعِل الذنب؛ يشاهد العابدين، ويرى العاصين، ولكنه يسامحهم، ويتجاوز عن أفعالهم، يمنحهم الفرصة تلو الفرصة؛ لعلهم يتوبون أو يرجعون ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ (آل عمران: من الآية 155).
تخيل:
تخيل معي شخصًا أحسنت إليه، وأعطيته من نُصحك وتوجيهك، وأقرضته من مالك، ومنحته من خبراتك، حتى إذا اشتد عوده وقويَ ساعده تمرد عليك، وخرج عن طوعك، ولم يَرْعَ لك فضلاً، ولم يعترف لك بنعمة، بل جاهر بعداوتك، وأظهر عصيانه، وأنكر فضلك.
كيف ستكون حالتك؟! وكيف سيكون غضبك؟! ولله المثل الأعلى؛ فالله قد أنعم على الإنسان بأجهزةٍ في جسمه تعمل دون توقف لو شاء لأوقفها، ومنحه يدَيْن ورجلين يقضي بهما حوائجه لو شاء لشلَّ حركتهما، ومنحه عينًا ولسانًا وأذنًا ينظر ويسمع ويتعامل بها مع الآخرين، ولو شاء لأوقف عملها، ومع ذلك يتجرَّأ العبد ويعصي ربه، ويُنكر فضله بسلوكه وفعله، وحلم الله يسعه ويستوعبه؛ فلم يغضب- سبحانه- فيمنع عنه فضله، وصدق الله حين يقول: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ (النحل: من الآية 61).
القرآن يوجه:
الكبار متى خُيِّروا بين الحلم وكظم الغيظ وغيره اختاروا الحلم بنفس راضية، وقلب راضٍ مطمئن، وهذا لا ينفي وقوع الكبار أحيانًا- في لحظات الضعف البشري- في حالةٍ من الضيق والغيظ، وأحيانًا ما يتخذون قرارات متسرعة في تلك اللحظات، ولكنهم سرعان ما ينتبهون فيعودون إلى رشدهم، ويلتزمون الحق متى ظهر لهم، ويُبادرون إلى الحلم والعفو متى لاح في الأفق.
وسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم قد انتابه بعضٌ من الغضب عندما بلغه ما فعلته هند بنت عتبة بحمزة بن عبد المطلب من تمثيل بجثته، عن أبي هريرة قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة فرآه صريعًا، فلم ير شيئًا كان أوجع لقلبه منه، وقال: "والله.. لأقتِّلنَّ بك سبعين منهم"، فنزلت ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ (النحل: 126)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نصبر يا رب".
مقياس الرجولة:
صغار النفوس هم الذين يعتبرون الغضب والانتقام والتشفي ممن أخطأ في حقهم هو مقياس الرجولة، ودليل الفحولة، فيُبالغون في ردة فعلهم، حتى كأنهم يتباهون بذلك، ويدعون أنهم يحفظون هيبتهم وكرامتهم.
أما الكبار فيعتبرون من الحلم وكظم الغيظ دليلاً على سمو أخلاقهم، ورُقي فهمهم؛ فهم يتزينون بخلق الإسلام، ويتقيدون بتعاليمه، والقوي في الإسلام ليس ذلك الرجل المفتول العضلات، الشديد الشكيمة، إنما القوي هو ذلك الرجل الذي يتحكم في نفسه، ويضبطها بضابط الشرع عند الغضب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" (رواه البخاري).
بالحلم نصل إلى الهدف:
الغضب يُعمي الإنسان عن الحقيقة، ويُضخم له الأشياء فلا يراها على حقيقتها، وصغار النفوس تستجيب نفوسهم لنوازع الشر بداخلهم، فتطيش عقولهم، ويختل توازنهم، فتُرتكب الحماقات، وتخرج الأمور من بين أيديهم.
أما الكبار فقد استجابوا لوصية النبي صلى الله عليه وسلم بترك الغضب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، قَالَ: "لا تَغْضَبْ"، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: "لا تَغْضَبْ" (رواه البخاري).
فهم لا يستجيبون لغضب أهوج، ولا انفعال طائش، وبهذا التحكم في النفس والضبط للأعصاب عند الثورة والانفعال تتم السيطرة على الموقف، ودرء الفتن، ولهذا امتدح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الخلق في الصحابي الجليل أشج بن قيس؛ فعن بن عباس رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأَشَجِّ بن عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ" (رواه مسلم).
متى تغضب؟
صغار النفوس هم أسرع الناس غضبًا، وليتهم حين يغضبون يكون الغضب لله، لكن غضبهم في غالبه يكون لأنفسهم ولعصبيتهم؛ فهذا يغضب لأن أحدًا سبَّه أو شتمه، وذاك يغضب لأنه اعتُديَ على قبيلته أو عشيرته، وهذا يثأر لأجل كرامته وهيبته.
أما الكبار فلا يغضبون إلا لله؛ فعندما تُنتهك حرمة من حرمات الله، أو يُعتدَى على شعيرة من شعائره، أو يُعطَّل حكمٌ من إحكامه، فحينئذ تكون الهَبَّةُ، وتكون الغيرة كما كان القدوة صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ حَتَّى يُنْتَهَكَ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ للهِ" (رواه البخاري).
قلوبهم كبيرة:
الكبار قلوبهم كبيرة؛ يصبرون على الأذى، ويتحملون المشاقّ؛ لعل الله يهدي من أساء إليهم، ويفتح على مَن بغى عليهم، فيعودون إلى رشدهم ويكونون رفقاء الطريق وأصدقاء المستقبل.
الكبار لا يدَّعون على من ظلمهم أو يتمنون سوء الخاتمة لهم، بل يتعالون على كل ذلك فيدعون لهم بالهداية وصلاح الحال، ويلتمسون لهم العذر، فعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ" (رواه البخاري).
الأقربون أولى بالحلم:
الكبار هم أقرب الناس إلى قلوب ذوي الرحم، وهم أرفق الناس بهم، وأحلم الناس عليهم، حتى وإن آذوهم أو ظلموهم، وبحلمهم هذا يرفعهم الله ويُعلي قدرهم، وينصرهم ويقف معهم أمام من يعاديهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ.. إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ: فَقَالَ: "لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ" (رواه مسلم).
به تُبوّء المراكز المهمة:
الحلم وكظم الغيظ خُلُقان يؤهلان صاحبيهما إلى تبوء أعلى المراكز وأفضلها؛ ذلك أن الحليم يستطيع التفكير بطريقة سليمة، ولا يخضع للاستفزاز، ولا يفقد تركيزه بسهولة، وبالتأكيد فإن شخصًا بهذه الإمكانات هو أولى من غيره بتولي المراكز القيادية؛ إذ إنه بحلمه سيستطيع استيعاب السواد الأعظم ممن تولى عليهم، وكانت العرب تقول في أمثالها: "من حلم ساد".
ومن هؤلاء الذين تزعموا أقوامهم بسبب حلمهم عرابة بن أوس، والأحنف بن قيس، رُويَّ أن معاوية بن أبي سفيان قال لعرابة بن أوس: بِمَ سدتُ قومك يا عرابة؟ فقال عرابة: "يا أمير المؤمنين.. كنت أحلم عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم؛ فمن فعل منهم فِعْلي فهو مثلي، ومن جاوزني فهو أفضل مني، ومن قصر عني فأنا خير منه".
تنفيس الكبار:
الكبار يعتريهم ما يعتري الناس من لحظات الغضب والضيق، ولكنهم يكونون أقدر من غيرهم على التحكم في أنفسهم؛ فلا يبدو على قسمات وجوههم وتعبيرات ألسنتهم إلا ما ينم عن أصالة معدنهم ونبل أخلاقهم؛ فلا تجريح، ولا إهانة، ولا سبَّ ولا شتم.
وهم لا يُنفسُّون عن أنفسهم إذا احتدم الأمر إلا بطريقة مهذبة وغير مؤذية؛ فتراهم لا يتلفظون إلا بألفاظ لا يؤاخذون عليها شرعًا، وتساعدهم على امتصاص التوتر المسيطر على الموقف، كأن يرددون مثلاً "سامحك الله "، "غفر الله لك"، "لا حول ولا قوة إلا بالله".
قد يُفسد عملك:
الكبار لا يستجيبون للطرف الآخر الذي يحاول جرَّهم إلى معارك الغضب غير المحسوبة العواقب، ويحذرون من الانسياق إلى منزلق لا يليق بمستواهم، ولا يُناسب قدرهم؛ ذلك أنهم اتخذوا من صبرهم على الأذى طريقًا لدخول الجنة، كما أنهم يحذرون من تحول نواياهم، أو أن يكون الغضب سببًا في إفساد أعمالهم.
روي أن عليًّا بن أبي طالب كان يقاتل عمرو بن عبد ود العامري في أحد المعارك، فلما تمكن منه وارتقاه بصق في وجهه وهو يوشك أن يرديَه قتيلاً، فلم يُعَجِل عليّ بالانقضاض عليه، بل استدار قليلاً، ولما قيل له في ذلك، قال: أردت أن أقتله غضبًا لله لا غضبًا لنفسي؛ ولذا لم يعاجله على الفور، وإنّما تركه برهة ثمّ صرعه.
مهر الحور الحين:
الكبار يسعون إلى نيل الجائزة الكبرى التي دلهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الاختيار من أي حور العين شاء؛ لذا فهم يكظمون غيظهم، ويحلمون على من أساء إليهم ابتغاء الرفعة والمكانة العالية عند الله، عنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ" (رواه البخاري).
يغيظون الشيطان:
الكبار يعلمون أن الشيطان يجري مجرى الدم من ابن آدم، ويوقنون أن الشيطان أحرص الناس على إحداث الفتنة بين الناس، وعرفوا أن أعظم لحظات الشيطان سعادةً هي تلك التي يوقع فيها بين متحابين؛ لذا فالكبار أحرص من غيرهم على إغاظة الشيطان؛ فهم يكظمون غيظهم ويغيظون شياطينهم.
عن أنس رضي الله عنه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقومٍ يصطرعون؛ فقال: "ما هذا؟" قالوا: فلانٌ ما يُصارع أحدًا إلا صرعه، قال: "أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟! رجلٌ كلمه رجلٌ فكظم غيظه فغلبه، وغلبَ شيطانه، وغلب شيطان صاحِبِهِ".
وجاء غلام لأبي ذر رضي الله عنه وقد كسر رجل شاةٍ له فقال له: من كسر رِجل هذه؟ قال: أنا فعلتُهُ عمدًا لأغيظك فتضربني فتأثم، فقال: لأغيظنَّ من حرَّضك على غيظي، فأعتقه.
نماذج من الكبار:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من اتقى الله لم يشفِ غيظهُ، ومن خاف الله لم يفعل ما يُريدُ، ولولا يومُ القيامة لكان غير ما ترون".
عمر بن الخطاب:
عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قال: قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر ابن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كُهولاً أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: ألك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟، قال: سأستأذن لك عليه، فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب! فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل!، فغضب عمر حتى همَّ أن يوقع به، فقال له الحر: "يا أمير المؤمنين.. إن الله تعالى قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199)، وإن هذا من الجاهلين"، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله.
عدي بن حاتم:
شتم رجلٌ عديَّ بن حاتم وهو ساكتٌ، فلما فرغ من مقالته قال: إن كان بقي عندك شيءٌ فقل قبل أن يأتي شباب الحي، فإنهم إن سمعوك تقول هذا لسيدهم لم يرضوا.
محمد بن كعب:
قال محمد بن كعب رحمه الله تعالى: ثلاثٌ من كُنَّ فيه استكمل الإيمان بالله: إذا رضي لم يُدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يُخرجه غضبُهُ عن الحق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له.
وهب بن منبه:
قال رجلٌ لوهب بن منبه رحمه الله تعالى: إن فلانًا شتمك. فقال: ما وجد الشيطان بريدًا غيرك؟!.
عمر بن عبد العزيز:
ذكر ابن كثير في سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أن رجلاً كلمه يومًا حتى أغضبه، فهم به عمر، ثم أمسك نفسه، ثم قال للرجل: أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدًا؟ قم عافاك الله، لا حاجة لنا في مقاولتك.
الاخوان المسلمون
http://www.3rbe.com/vb/upload/2008/3/17775_11208775074.gif (http://www.3rbe.com/vb)
الطريق إلى الحلم وكظم الغيظ
http://www.ikhwanonline.net/Data/2008/7/15/ikh5.jpg
بقلم: محمد عبده
الحياة العصرية بكل ما فيها من ضغوطات ومشاكل، وحالات اقتصادية متردية، أفرزت شخصيات مضطربة، مُتقلبة المزاج، تُثار من أقل الأشياء، وتتعصب لأتفه الأسباب، وتغضب بلا ضابط ولا وعي من أصغر الأخطاء.
ولقد صادفت وأنا أكتب في هذا الموضوع أن طالعتنا الجرائد ونقلت إلينا الفضائيات حادثة القتل التي وقعت أثناء التشاجر على خلفية أزمة الخبز التي وقعت في مصر.. لماذا؟ لأن شخصًا أخذ مكان غيره في الصف بالقوة!!
تخيل معي نفسًا تُزهق وأسرة تُشرَّد لأن شخصًا لم يتحكم في نفسه في وقت غضبه، فيدفعه ذلك الغضب إلى ارتكاب جريمة من أعظم الجرائم وأخطرها، بل هي من أكبر الكبائر، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ، أَوْ قَالَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ" (رواه البخاري).
فالحلم هو الأناة وضبط النفس عند الغضب.
لماذا الحلم وكظم الغيظ من أخلاق الكبار؟
لأن الحلم وكظم الغيظ يحتاج إلى قوة نفسية كبيرة تمنع صاحبها من الانتقام والتشفي، وتقوده إلى التروي والحكمة قبل اتخاذ القرار.
ولأن الحلم وكظم الغيظ يعني الصبر على من ظلم، والعفو عمن أخطأ، وهي أيضًا تحتاج إلى قوة نفسية كبيرة تجعل الأمر هينًا على النفس.
ولأن الحلم وكظم الغيظ ضد طبيعة البشر التي جُبلت نفوسهم على حب الذات وعدم قبول الظلم أو الرضا به من أي شخص كان.
ولأن الحلم وكظم الغيظ يعني الارتقاء، والسمو النفسي الذي يعكس تحكم الشخص في نفسه، وتحليه بالهدوء والسكينة، وبُعده عنه ردود الفعل السريعة.
إيمان بالله:
والكبار بإيمانهم الذي رسخ في قلوبهم يستطيعون التحكم في أنفسهم، ودفع رغبات النفس في الغضب والانتقام؛ ذلك أن إيمانهم بالله جعلهم يوقنون بأن كل يُصيب الإنسان من أذى أو ما يعتريه من ظلم إنما لحكمة أرادها الله تعالى؛ فالمؤمن إذا ابتلي صبر على ما أصابه الله به فلم يغضب ولم يتضجر، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" (صحيح الجامع).
تفسير آية:
يقول تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية 134).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾: فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ؛ يَعْنِي فِي حَالِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ.
وَقِيلَ: فِي حَالِ السُّرُورِ وَالْغَمِّ لا يَقْطَعُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ إنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ؛ فَمَدَحَ الْمُنْفِقِينَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ، فَمَدَحَ مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَعَفَا عَمَّنْ اجْتَرَمَ إلَيْهِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "مَنْ خَافَ اللهَ لَمْ يَشْفِ غَيْظَهُ، وَمَنْ اتَّقَى اللهَ لَمْ يَصْنَعْ مَا يُرِيدُ، وَلَوْلا يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَكَانَ غَيْرَ مَا تَرَوْنَ".
وَكَظْمُ الْغَيْظِ وَالْعَفْوُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِمَا، مَوْعُودٌ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِمَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
مكارم الأخلاق:
الحلم وكظم الغيظ يأتيان في مقدمة مكارم الأخلاق وأفضلها، والتي يجب أن يتصف بها المسلم؛ لما يترتب عليهما من خير كثير، وتحقيق الأمن الاجتماعي بين الناس، وصفاء العلاقات ومتانتها، رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ الْهِلالِيُّ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ.. إنِّي أَتَيْتُك بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199).
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ: "يَا جِبْرِيلُ.. مَا هَذَا؟" قَالَ: لا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ، ثُمَّ عَادَ جِبْرِيلُ، وَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ.. إنَّ رَبَّك يَأْمُرُك أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ".
كن كأبي ضمضم:
البعض اليوم تثور ثورتهم، وتنتفخ أوداجهم، ويُقيمون الدنيا ولا يُقعدونها، ويسعون إلى الانتقام والتشفي متى سمعوا أن شخصًا سبَّهم، أو أخطأ في حقهم، وقد يعتدون بأكثر مما أُعتدي عليهم بسبب الغضب الذي يلازمهم.
أما الكبار فإنهم يتروون ويتعقلون في ردود أفعالهم؛ فلا يُسارعون إلى الانتقام، ولا يسعون إلى رد الإساءة بمثلها، بل يجعلون الأولوية للمسامحة والعفو، والصلح والتفاهم.
جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضيغم؟- أو ضمضم، شك ابن عبيد- كان إذا أصبح قال اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك" (سنن أبي داود).
محبة الله:
الكبار بحلمهم على غيرهم، وصبرهم على الأذى، ورفضهم مقابلة الإساءة بالإساءة، وإيثارهم العفو على الانتقام؛ ينالون أعلى الدرجات، ويحظون بأشرف المقامات، وهي محبة الله تعالى لهم، رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْحَلِيمَ الْحَيِيَّ، وَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ".
نماذج مُضيئة:
للكبار مواقفهم التي لا تُنسى، وأقوالهم التي يجب أن تُدرس، وأفعالهم التي تُمثل قدوةً لكل من يبحث عن قدوة، وفي خلق الحلم وكظم الغيظ نماذج مُبهرة؛ قلما تجد مثلها في عالم الناس، وفي مقدمة هؤلاء يأتي:
أبو الدرداء:
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِرَجُلٍ أَسْمَعَهُ كَلامًا: يَا هَذَا.. لا تُغْرِقَنَّ فِي سَبِّنَا، وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا؛ فَإِنَّا لا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ.
الشعبي:
وَشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ: إنْ كُنْتُ مَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللهُ لِي، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللهُ لَك.
عائشة رضي الله عنها:
وَاغْتَاظَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَلَى خَادِمٍ لَهَا ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى نَفْسِهَا فَقَالَتْ: للهِ دَرُّ التَّقْوَى، مَا تَرَكَتْ لِذِي غَيْظٍ شِفَاءً.
معاوية:
وَقَسَّمَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قِطَافًا، فَأَعْطَى شَيْخًا مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ قَطِيفَةً فَلَمْ تُعْجِبْهُ، فَحَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ بِهَا رَأْسَ مُعَاوِيَةَ، فَأَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَوْفِ بِنَذْرِك، وَلْيَرْفُقْ الشَّيْخُ بِالشَّيْخِ.
من أسماء الله:
الحليم اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه ذو الصفح والأناة الذي لا يُعجِّل بالعقوبة مع القدرة، فتخيل معي أخي القارئ إلهًا عظيمًا خالقَ الأرض والسماء، وبيده ملكوت كل شيء، يحتاج إليه العبد في كل حركة وفي كل سكْنة، إلهًا خالقًا رازقًا، واهبًا مُعطيًا، مُنعمًا قادرًا، قادرًا أن يسحب نعمته من عبده متى شاء، قادرًا أن يُعجِّل بالعقوبة متى فُعِل الذنب؛ يشاهد العابدين، ويرى العاصين، ولكنه يسامحهم، ويتجاوز عن أفعالهم، يمنحهم الفرصة تلو الفرصة؛ لعلهم يتوبون أو يرجعون ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ (آل عمران: من الآية 155).
تخيل:
تخيل معي شخصًا أحسنت إليه، وأعطيته من نُصحك وتوجيهك، وأقرضته من مالك، ومنحته من خبراتك، حتى إذا اشتد عوده وقويَ ساعده تمرد عليك، وخرج عن طوعك، ولم يَرْعَ لك فضلاً، ولم يعترف لك بنعمة، بل جاهر بعداوتك، وأظهر عصيانه، وأنكر فضلك.
كيف ستكون حالتك؟! وكيف سيكون غضبك؟! ولله المثل الأعلى؛ فالله قد أنعم على الإنسان بأجهزةٍ في جسمه تعمل دون توقف لو شاء لأوقفها، ومنحه يدَيْن ورجلين يقضي بهما حوائجه لو شاء لشلَّ حركتهما، ومنحه عينًا ولسانًا وأذنًا ينظر ويسمع ويتعامل بها مع الآخرين، ولو شاء لأوقف عملها، ومع ذلك يتجرَّأ العبد ويعصي ربه، ويُنكر فضله بسلوكه وفعله، وحلم الله يسعه ويستوعبه؛ فلم يغضب- سبحانه- فيمنع عنه فضله، وصدق الله حين يقول: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ (النحل: من الآية 61).
القرآن يوجه:
الكبار متى خُيِّروا بين الحلم وكظم الغيظ وغيره اختاروا الحلم بنفس راضية، وقلب راضٍ مطمئن، وهذا لا ينفي وقوع الكبار أحيانًا- في لحظات الضعف البشري- في حالةٍ من الضيق والغيظ، وأحيانًا ما يتخذون قرارات متسرعة في تلك اللحظات، ولكنهم سرعان ما ينتبهون فيعودون إلى رشدهم، ويلتزمون الحق متى ظهر لهم، ويُبادرون إلى الحلم والعفو متى لاح في الأفق.
وسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم قد انتابه بعضٌ من الغضب عندما بلغه ما فعلته هند بنت عتبة بحمزة بن عبد المطلب من تمثيل بجثته، عن أبي هريرة قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة فرآه صريعًا، فلم ير شيئًا كان أوجع لقلبه منه، وقال: "والله.. لأقتِّلنَّ بك سبعين منهم"، فنزلت ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ (النحل: 126)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نصبر يا رب".
مقياس الرجولة:
صغار النفوس هم الذين يعتبرون الغضب والانتقام والتشفي ممن أخطأ في حقهم هو مقياس الرجولة، ودليل الفحولة، فيُبالغون في ردة فعلهم، حتى كأنهم يتباهون بذلك، ويدعون أنهم يحفظون هيبتهم وكرامتهم.
أما الكبار فيعتبرون من الحلم وكظم الغيظ دليلاً على سمو أخلاقهم، ورُقي فهمهم؛ فهم يتزينون بخلق الإسلام، ويتقيدون بتعاليمه، والقوي في الإسلام ليس ذلك الرجل المفتول العضلات، الشديد الشكيمة، إنما القوي هو ذلك الرجل الذي يتحكم في نفسه، ويضبطها بضابط الشرع عند الغضب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" (رواه البخاري).
بالحلم نصل إلى الهدف:
الغضب يُعمي الإنسان عن الحقيقة، ويُضخم له الأشياء فلا يراها على حقيقتها، وصغار النفوس تستجيب نفوسهم لنوازع الشر بداخلهم، فتطيش عقولهم، ويختل توازنهم، فتُرتكب الحماقات، وتخرج الأمور من بين أيديهم.
أما الكبار فقد استجابوا لوصية النبي صلى الله عليه وسلم بترك الغضب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، قَالَ: "لا تَغْضَبْ"، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: "لا تَغْضَبْ" (رواه البخاري).
فهم لا يستجيبون لغضب أهوج، ولا انفعال طائش، وبهذا التحكم في النفس والضبط للأعصاب عند الثورة والانفعال تتم السيطرة على الموقف، ودرء الفتن، ولهذا امتدح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الخلق في الصحابي الجليل أشج بن قيس؛ فعن بن عباس رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأَشَجِّ بن عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ" (رواه مسلم).
متى تغضب؟
صغار النفوس هم أسرع الناس غضبًا، وليتهم حين يغضبون يكون الغضب لله، لكن غضبهم في غالبه يكون لأنفسهم ولعصبيتهم؛ فهذا يغضب لأن أحدًا سبَّه أو شتمه، وذاك يغضب لأنه اعتُديَ على قبيلته أو عشيرته، وهذا يثأر لأجل كرامته وهيبته.
أما الكبار فلا يغضبون إلا لله؛ فعندما تُنتهك حرمة من حرمات الله، أو يُعتدَى على شعيرة من شعائره، أو يُعطَّل حكمٌ من إحكامه، فحينئذ تكون الهَبَّةُ، وتكون الغيرة كما كان القدوة صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ حَتَّى يُنْتَهَكَ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ للهِ" (رواه البخاري).
قلوبهم كبيرة:
الكبار قلوبهم كبيرة؛ يصبرون على الأذى، ويتحملون المشاقّ؛ لعل الله يهدي من أساء إليهم، ويفتح على مَن بغى عليهم، فيعودون إلى رشدهم ويكونون رفقاء الطريق وأصدقاء المستقبل.
الكبار لا يدَّعون على من ظلمهم أو يتمنون سوء الخاتمة لهم، بل يتعالون على كل ذلك فيدعون لهم بالهداية وصلاح الحال، ويلتمسون لهم العذر، فعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ" (رواه البخاري).
الأقربون أولى بالحلم:
الكبار هم أقرب الناس إلى قلوب ذوي الرحم، وهم أرفق الناس بهم، وأحلم الناس عليهم، حتى وإن آذوهم أو ظلموهم، وبحلمهم هذا يرفعهم الله ويُعلي قدرهم، وينصرهم ويقف معهم أمام من يعاديهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ.. إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ: فَقَالَ: "لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ" (رواه مسلم).
به تُبوّء المراكز المهمة:
الحلم وكظم الغيظ خُلُقان يؤهلان صاحبيهما إلى تبوء أعلى المراكز وأفضلها؛ ذلك أن الحليم يستطيع التفكير بطريقة سليمة، ولا يخضع للاستفزاز، ولا يفقد تركيزه بسهولة، وبالتأكيد فإن شخصًا بهذه الإمكانات هو أولى من غيره بتولي المراكز القيادية؛ إذ إنه بحلمه سيستطيع استيعاب السواد الأعظم ممن تولى عليهم، وكانت العرب تقول في أمثالها: "من حلم ساد".
ومن هؤلاء الذين تزعموا أقوامهم بسبب حلمهم عرابة بن أوس، والأحنف بن قيس، رُويَّ أن معاوية بن أبي سفيان قال لعرابة بن أوس: بِمَ سدتُ قومك يا عرابة؟ فقال عرابة: "يا أمير المؤمنين.. كنت أحلم عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم؛ فمن فعل منهم فِعْلي فهو مثلي، ومن جاوزني فهو أفضل مني، ومن قصر عني فأنا خير منه".
تنفيس الكبار:
الكبار يعتريهم ما يعتري الناس من لحظات الغضب والضيق، ولكنهم يكونون أقدر من غيرهم على التحكم في أنفسهم؛ فلا يبدو على قسمات وجوههم وتعبيرات ألسنتهم إلا ما ينم عن أصالة معدنهم ونبل أخلاقهم؛ فلا تجريح، ولا إهانة، ولا سبَّ ولا شتم.
وهم لا يُنفسُّون عن أنفسهم إذا احتدم الأمر إلا بطريقة مهذبة وغير مؤذية؛ فتراهم لا يتلفظون إلا بألفاظ لا يؤاخذون عليها شرعًا، وتساعدهم على امتصاص التوتر المسيطر على الموقف، كأن يرددون مثلاً "سامحك الله "، "غفر الله لك"، "لا حول ولا قوة إلا بالله".
قد يُفسد عملك:
الكبار لا يستجيبون للطرف الآخر الذي يحاول جرَّهم إلى معارك الغضب غير المحسوبة العواقب، ويحذرون من الانسياق إلى منزلق لا يليق بمستواهم، ولا يُناسب قدرهم؛ ذلك أنهم اتخذوا من صبرهم على الأذى طريقًا لدخول الجنة، كما أنهم يحذرون من تحول نواياهم، أو أن يكون الغضب سببًا في إفساد أعمالهم.
روي أن عليًّا بن أبي طالب كان يقاتل عمرو بن عبد ود العامري في أحد المعارك، فلما تمكن منه وارتقاه بصق في وجهه وهو يوشك أن يرديَه قتيلاً، فلم يُعَجِل عليّ بالانقضاض عليه، بل استدار قليلاً، ولما قيل له في ذلك، قال: أردت أن أقتله غضبًا لله لا غضبًا لنفسي؛ ولذا لم يعاجله على الفور، وإنّما تركه برهة ثمّ صرعه.
مهر الحور الحين:
الكبار يسعون إلى نيل الجائزة الكبرى التي دلهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الاختيار من أي حور العين شاء؛ لذا فهم يكظمون غيظهم، ويحلمون على من أساء إليهم ابتغاء الرفعة والمكانة العالية عند الله، عنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ" (رواه البخاري).
يغيظون الشيطان:
الكبار يعلمون أن الشيطان يجري مجرى الدم من ابن آدم، ويوقنون أن الشيطان أحرص الناس على إحداث الفتنة بين الناس، وعرفوا أن أعظم لحظات الشيطان سعادةً هي تلك التي يوقع فيها بين متحابين؛ لذا فالكبار أحرص من غيرهم على إغاظة الشيطان؛ فهم يكظمون غيظهم ويغيظون شياطينهم.
عن أنس رضي الله عنه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقومٍ يصطرعون؛ فقال: "ما هذا؟" قالوا: فلانٌ ما يُصارع أحدًا إلا صرعه، قال: "أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟! رجلٌ كلمه رجلٌ فكظم غيظه فغلبه، وغلبَ شيطانه، وغلب شيطان صاحِبِهِ".
وجاء غلام لأبي ذر رضي الله عنه وقد كسر رجل شاةٍ له فقال له: من كسر رِجل هذه؟ قال: أنا فعلتُهُ عمدًا لأغيظك فتضربني فتأثم، فقال: لأغيظنَّ من حرَّضك على غيظي، فأعتقه.
نماذج من الكبار:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من اتقى الله لم يشفِ غيظهُ، ومن خاف الله لم يفعل ما يُريدُ، ولولا يومُ القيامة لكان غير ما ترون".
عمر بن الخطاب:
عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قال: قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر ابن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كُهولاً أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: ألك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟، قال: سأستأذن لك عليه، فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب! فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل!، فغضب عمر حتى همَّ أن يوقع به، فقال له الحر: "يا أمير المؤمنين.. إن الله تعالى قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199)، وإن هذا من الجاهلين"، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله.
عدي بن حاتم:
شتم رجلٌ عديَّ بن حاتم وهو ساكتٌ، فلما فرغ من مقالته قال: إن كان بقي عندك شيءٌ فقل قبل أن يأتي شباب الحي، فإنهم إن سمعوك تقول هذا لسيدهم لم يرضوا.
محمد بن كعب:
قال محمد بن كعب رحمه الله تعالى: ثلاثٌ من كُنَّ فيه استكمل الإيمان بالله: إذا رضي لم يُدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يُخرجه غضبُهُ عن الحق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له.
وهب بن منبه:
قال رجلٌ لوهب بن منبه رحمه الله تعالى: إن فلانًا شتمك. فقال: ما وجد الشيطان بريدًا غيرك؟!.
عمر بن عبد العزيز:
ذكر ابن كثير في سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أن رجلاً كلمه يومًا حتى أغضبه، فهم به عمر، ثم أمسك نفسه، ثم قال للرجل: أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدًا؟ قم عافاك الله، لا حاجة لنا في مقاولتك.
الاخوان المسلمون
http://www.3rbe.com/vb/upload/2008/3/17775_11208775074.gif (http://www.3rbe.com/vb)