قائد_الكتائب
10 Jul 2009, 10:36 PM
فرح المخلفون بمقعدهم
الحمد لله رب العالمين، رب السماوات والأرضين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه المنتجبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
لقد أراد الله تعالى أن يكون كتابه الكريم، كتاب تربية وتوجيه وتذكير لعباده المؤمنين {وَمَا يَذَكرُ إِلا أُولُوا الأْلبَابْ}، { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}، وقوله عز من قائل { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} ، فكتاب الله رحمة وذكرى وشفاء وعبرة للمؤمنين، وهو في الوقت ذاته نقمة وحجة وخسارة للكافرين، الذين جحدوا بآيات الله وكفروا بنعمه، حيث لا تزيدهم هذه الآيات إلا استحقاقاً لعذاب الله وبعداً عن رحمته { ولا تزيد الظالمين إلا خساراً }.
لقد تخلف ثلاثة من الصحابة فقط عن جيش قوامه أكثر من عشرة آلاف رجل، رغم ذلك جاء العتاب الرباني والأمر بنبذهم وعزلهم، لكيلا تأخذنا رأفة ولا رحمة في تعزير المخلفين ولا في التساهل معهم ومجالستهم ونسيان هذه الجريمة الكبيرة في حق دينهم وأمتهم.
{ لعن الذين كفروا على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يصنعون}.
تخلف ثلاثة من الجنود عن جيش عرمرم ولم يكن تخلفهم ليضر بالجيش المسلم كثير ضرر، ولكن الله تعالى أراد لهم التربية والتزكية من خلال هجرهم وعزلهم، لكي يعودوا إلى الصف أقوى مما كانوا وأزكى، ولكي يكون في قصتهم عبرة لمن يأتي من بعدهم، وهانحن نرى اليوم قلة في مواجهة الأعداء ومواجهة المخاطر والدفاع عن الدين، بينما الكثرة الغالبة متخلفة عن الركب، حتى أصبحت القاعدة هي الاستثناء والاستثناء هي القاعدة.
أمة بأكملها تلهو وتلعب، بل في سبات عميق وفي غي مستمر، وطائفة قليلة مباركة هي التي حملت أمانة هذا الدين، تتحدى جموع الباطل من حولها، تواجه وتصمد في وجه هجماته المتواصلة.
طائفة قائمة في مقابل أمة قاعدة، وطائفة متيقظة في مقابل أمة متخلفة، يا له من تناقض عجيب، ويا لها من عناية ربانية فريدة تحوط هذه الفئة المرابطة، ويا له من ذل وهوان وصغار يحيط بهذه الأمة البائسة التي آثرت متاع الحياة الدنيا القليل الملوث بالذل والهوان على الحياة الأخرى المرتبطة بحياة الجهد والعطاء.
إنها والله حياة واحدة، وإنها أيام معدودة يقضيها المرء في هذه الدنيا، فليقضها الإنسان فيما يعود عليه بالمصلحة لآخرته، ولكنه العمى، عمى البصيرة لا عمى البصر، للكثرة، وإنها للهداية والفوز للقلة، والفوز في الدنيا والآخرة {يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}[الصف ].
أنواع التخلف
التخلف يكون في ميادين عديدة، منها :
ميدان الدعوة
حيث أن القليل فقط من يتحمل مسؤولية نشر هذا الدين بين الناس، لا أقول في أوساط غير المسلمين، ولكن وسط المسلمين أنفسهم، حيث ينبغي تصحيح المفاهيم المغلوطة لدى المسلمين، وتنقية أفكارهم من الشوائب التي التصقت بها، وكذلك تحميلهم مسؤولية الالتزام الحقيقي، وتعليمهم كيفية مواجهة المشاكل المطروحة في طريق الدعوة من أجل تجاوزها، وترسيخ مفاهيم الثبات والاستقامة وعدم الركون إلى الذين ظلموا، مهما عرضوا عليهم من إغراءات فاتنة.
والدعوة المطلوبة هي الدعوة إلى الكفر بالطاغوت ابتداء ورفض كل المساومات المشبوهة، ثم ترسيخ مفهوم التوحيد في النفوس، توحيد الألوهية والربوبية سواء، {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها}، والسعي إلى تحكيم الشرع في كل صغيرة وكبيرة، رضي الناس أم سخطوا {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}.
ثم الدعوة إلى توحيد الصف المؤمن، {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}[الصف]، ونبذ الخلافات الهامشية أو تأجيلها إلى حين، حتى لا تتحول إلى عقبة في طريق التغيير، لأن العدو يعتمد عليها كسلاح أساسي لإضعاف الصف المسلم، { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحِْي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }[القصص4].
فما كان له أن يعلو في الأرض إلا بتشتيت الشعب وتحويله إلى فرق وأحزاب، وبالتالي ينشأ الخصام والخلافات فيما بينها، فتكون النتيجة كما أخبر رب العزة {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين}[الأنفال]، الفشل وذهاب الريح، وتمكين العدو في الأرض.
إن الدعوة إلى الله عز وجل بحاجة إلى رجال وهبوا أنفسهم لله، لا يرجون أجراً ولا ثواباً من أحد، سوى تبليغ رسالات الله ناصعة وقوية، لا يدهنون الكفار والمرتدين ولا يركنون إلى الذين ظلموا، مهما لاقوا من تكذيب وعنت وحرب، لأن الدعوة ينبغي أن تتقدم ولا تتوقف، حتى ولو فقد الدعاة حرياتهم وحياتهم في سبيل ذلك.
فدين الله قائم بالدعوة، ولا مجال للمساومات والحلول الوسط مع المدعوين، كلمة الحق ينبغي أن تكون فوق كل اعتبار، والكل ينبغي أن يخضع للحق ويدور معه، وليس العكس.
ميدان الحسبة
ميدان الحسبة من بين أهم الميادين المهجورة، ومن أخطر الفروض المنسية، مما سمح لأعداء الله وعبيد الهوى والشهوات وأتباع الشيطان أن ينشروا فسادهم ورذائلهم على مرأى ومسمع من الجميع، بعد أن بدلوا المسميات وغيروا العناوين، فانقلبت الموازين، فصار الناس يرون المنكر معروفاً والمعروف منكراً، والصالح فاسداً والفاسد صالحاً، بل صاروا هم أنفسهم يدعون إلى المنكر وينهون عن المعروف وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، هذا في الوقت الذي انزوى فيه معظم أهل الحق جانباً يؤثرون السلامة والعافية، يكتفون بجهود ضئيلة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تكاد تحافظ على أضعف الإيمان الذي بقي لديهم.
بل ربما تراهم يتحركون في ميادين غير ميدان الحسبة يضيعون جهودهم وأوقاتهم في أعمال هامشية تضر أكثر مما تنفع، وتساهم في ترسيخ الباطل وتنفير الناس من الحق، وترك الساحة الحقيقية لهؤلاء المفسدين، يعيثون فيها فساداً، يفتنون العباد ويفسدون عليهم دينهم. وقد نتج عن ذلك جيل منهزم مستسلم، يعبد الشهوة، خنوع لا يعرف معنى للكرامة والإباء، بل تراه منقاداً وراء الهوى، غارقاً فيه حتى النخاع.
والحسبة تكون باليد أولاً، وهو إزالة المنكرات والقضاء عليها من جذورها، ومحاولة صد الناس عنها، ولاشك أن لها فقه خاص ينبغي اتباعه، وذلك لكي تؤتي عملية الحسبة ثمارها المرجوة، ولا يكون ضررها أكثر من نفعها.
ثم بعد ذلك تكون الحسبة باللسان وهي المرتبة الثانية، وهي لا تقل أهمية عن الحسبة باليد، لأنها في حقيقة الأمر تمهد للتغيير باليد، ولا ينبغي حصر مفهومها في إطار ضيق، كما هو شائع اليوم في أوساط الذين يُحسبون على الدعوة.
ميدان الإعداد
إن ميدان القول غير ميدان العمل، وكل من يحسن القول لا يحسن بالضرورة لغة العمل، لأن من شروط العمل الإعداد، {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة}، فالواجبات كثيرة، والتحديات أهم وأخطر من أن نبقى مكتوفي الأيدي في انتظار الفرج.
فلا بد من الاستعداد للدخول في المعركة إلى جانب الفئة التي بدأتها بالفعل منذ عقود. ولا عذر لنا على تقاعسنا وجلوسنا على الهامش، نتفرج ونترقب نتائج المعركة.
ولا ينبغي الاستهانة بهذا الجانب الهام والحساس من رحلة التغيير، فالإعداد ميدان متشعب، ولا يمكن أن يحوطه الفرد لوحده مهما بذل من جهد، ولكنه يحتاج إلى عون، كما أنه ميدان متعدد الاختصاصات، لابد من جنود أكفاء يملؤون كل الثغرات.
فالخروج يلزمه إعداد، وكل خطوة أو مرحلة من مراحل الجهاد تحتاج إلى إعداد خاص بها لا يتم إلا بها، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وعليه فإننا مطالبون بالتقرب إلى الله تعالى بعبادة الإعداد كما نتقرب إليه بعبادة الجهاد سواء.[يُراجع في هذا الباب مقالتنا: "ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة" – مجلة الأنصار].
ميدان الجهاد
وهو الميدان الأخير الذي يجسد وعي الأمة اتجاه فهمها لدينها، ويجسد صدق الانتماء لهذا الدين، ومدى حبنا لله عز وجل وحب نبيه الكريم، إذ لابد من ترجمة عملية لهذا الحب عبر فريضة الجهاد المتواصل، الذي لا يتوقف إلا ببلوغ إحدى الحسنيين {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا}.
كما أن العهد الذي بيننا وبين الله عز وجل هو الوفاء بشروط البيعة التي بايعناها {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم}. بيعة لا يتركها المؤمن إلا بسقوط إيمانه.
وطبعاً من يتخلف عن الدعوة لابد بالضرورة أن يتخلف عن بقية الواجبات وعن بقية المراحل.
كيف يحلو للمتخلفين أن ينعموا بلذة الحياة وهم بعيدون عن هموم الأمة، وبعيدون عن قول الله تعالى{ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة..}الآية، وقوله تعالى {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية..} الآية.
شعوب تُضطهد وتُكفر، أعراض تُنتهك، خيرات تُسرق وتُسلب، ومع ذلك فالضمائر ميتة، والعزائم خائرة، وكأن القوم سكارى وما هم بسكارى.
المخلفون القاعدون
هناك مخلفون قاعدون وهذا الصنف معروف ومعلوم، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف واستحبوا الحياة الدنيا ومتاعها على الآخرة ونعيمها، فانشغلوا بالركض وراء هذه الدنيا لتحصيل هذا المتاع، وعدم التفكير فيما ينفع دينهم وأمتهم، أو المساهمة في رفع هذا الظلم والقهر المسلطان على الأمة منذ عقود عديدة، يهتمون بسفاسف الأمور ويتلذذون بالفتات ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.
هؤلاء ينبغي التعامل معهم باللين والرفق، وأن نتدرج معهم في الدعوة عسى أن يكونوا من المهتدين، فحالهم تحتاج إلى تعامل خاص، وصبر طويل، وإذا استطعنا أن نجعلهم محايدين فسيكون أفضل من أن يكونوا أنصاراً للباطل.
وكلنا أمل في الله عز وجل بأن يكونوا يوماً ما من جنود الحق، يذودون عنه ويضحون بالغالي والنفيس كما كانوا يضحون في سبيل نصرة الباطل أو خذلان الحق.
المخلفون القائمون
هذا النوع من المخلفين ينطبق عليهم قوله تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }[الكهف 103-104].
فرغم العمل المتواصل والدائب والتضحيات والمشقات التي يقدمونها، فإنها تظل خارج دائرة القبول، لأنها غير موافقة لشرع الله وعلى غير هدي رسول الله، هذا بالإضافة إلى بعدها عن متطلبات الواقع الذي تعيشه الأمة.
إنهم يسبحون في واد والأمة غارقة في واد آخر، أعمالهم تسير في اتجاه تقوية الباطل والتنفيس عنه، { أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاَ حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب}، إنهم يحسبون أنهم في الاتجاه الذي يضر الباطل ويضيق عليه، لعمري إنهم لفي ضلالهم يعمهون.
إن العمل الذي يثبت أركان الباطل، المتمثل اليوم في هذه الحكومات المرتدة الغاشمة، والمسلطة على شعوبنا بقوة الحديد والنار، إن هذا العمل مهما بدا لهؤلاء المخلفين القائمين، الراكضين وراء المناصب أو الطامعين في المشاركة في أمور الحكم تحت مظلة القانون الوضعي، على أنه مقبول ومجدي، فإنه مرفوض شرعاً حتى وإن استحسنه الناس جميعاً، بل حتى وإن حقق الكثير من المصالح الدنيوية التي يسميها أصحاب هذا المذهب بالمصالح المرسلة، ما دام أن ذلك يتناقض مع شرع الله، ويهدم ركناً ركيناً من أركان هذا الدين، ألا وهو الحاكمية والتشريع لله وحده.
ثم الولاء والبراء، الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين حتى ولو كانوا ضعفاء ولا يملكون السلطة الفعلية، والبراءة من الظالمين والمرتدين حتى وإن ملكوا الدنيا بحذافيرها ما داموا يحكمون بغير ما أنزل الله.
حينما تخرج فئة مؤمنة بالله تعالى، كافرة بالنظم الجاهلية ومعلنة عداءها وحربها على هذه الأنظمة المرتدة، فإنها تجد العداء والحرب من قبل هؤلاء جميعاً، مقابل التنازل عن هذه العقيدة والانغماس في النظام الجاهلي الكفري، ومن ثم القبول بقوانين اللعبة السياسية، طرفاً فاعلاً ومشاركاً في النسيج السياسي العام.
حينذاك تكون في مفترق الطرق مع أعدائها، وليس هناك ثمة التقاء ، لأن العلاقة بينهم علاقة عداء في المبادئ والوسائل على حد سواء.
حينما تعلن براءتها من هذه النظم والقوانين الكفرية وتقول كما قال الذين من قبلهم {إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده}[الممتحنة 4]، وتصيح بأعلى صوتها كما صاح فتية الكهف من قبلها {ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططاً}[الكهف 14]، حينما تفعل ذلك فإنها تجد وتلقى العداء والحصار من قبل هؤلاء الأعداء، وتدخل في حرب طاحنة لا أول لها ولا آخر، يسخر فيها أهل الباطل كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة لتحقيق هدف واحد فقط وهو { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}، وهم يسلكون في سبيل ذلك أسلوب {لا يرقبون فيكم إلا ولا ذمة}.
هذا في الوقت الذي نجد فيه طائفة من الذين يُحسبون على العلم والعلماء، يتصدرون المجالس، ويصعدون المنابر، وتسمع لهم ضجيجاً في ساحات الدعوة، يتسابقون إلى إصدار الفتاوى، وتوجيه الناس وتأطيرهم، ولكنهم قد سلكوا طرقاً ملتوية، ظاهرها هدي وسنة، وباطنه انحراف وبدعة، لا يعلمهم كثير من الناس، بل إن الغالبية العظمى من الناس ينخدعون بالمظاهر والكلمات المنمقة، فيتبعون هؤلاء الأئمة المضلين، لما في دعوتهم من سلامة وأمان، وبعد عن الصدام والتضحية والفداء.
ذلك أن طبيعة النفس تؤثر السلامة والراحة والدعة، وتكره الابتلاء والتضحية، وتركن إلى السهل والميسور، وتنفر من سنة التدافع، رغم أن سنة التدافع فيها الخير الكثير لهذه النفس بالذات وللخلق أجمعين، {ولولا تدافع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}[البقرة]،
{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}[الحج 40].
هذا والله نسأل أن يوفق عباده المؤمنين للنهوض بهذا الدين، ويطرحوا عنهم قيود الركون إلى الدنيا وملذاتها، أو الركون إلى الذين ظلموا لكي يكون لنا نصيب في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، سنستحق بذلك مدده ونصره ، ونكون من الذين أنعم الله عليهم ومعهم.
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً}.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه إيماناً واحتساباً: أبو سعد العاملي – محرم الحرام من عام 1428 - أرشيف مجلة صدى الجهاد.
الحمد لله رب العالمين، رب السماوات والأرضين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه المنتجبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
لقد أراد الله تعالى أن يكون كتابه الكريم، كتاب تربية وتوجيه وتذكير لعباده المؤمنين {وَمَا يَذَكرُ إِلا أُولُوا الأْلبَابْ}، { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}، وقوله عز من قائل { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} ، فكتاب الله رحمة وذكرى وشفاء وعبرة للمؤمنين، وهو في الوقت ذاته نقمة وحجة وخسارة للكافرين، الذين جحدوا بآيات الله وكفروا بنعمه، حيث لا تزيدهم هذه الآيات إلا استحقاقاً لعذاب الله وبعداً عن رحمته { ولا تزيد الظالمين إلا خساراً }.
لقد تخلف ثلاثة من الصحابة فقط عن جيش قوامه أكثر من عشرة آلاف رجل، رغم ذلك جاء العتاب الرباني والأمر بنبذهم وعزلهم، لكيلا تأخذنا رأفة ولا رحمة في تعزير المخلفين ولا في التساهل معهم ومجالستهم ونسيان هذه الجريمة الكبيرة في حق دينهم وأمتهم.
{ لعن الذين كفروا على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يصنعون}.
تخلف ثلاثة من الجنود عن جيش عرمرم ولم يكن تخلفهم ليضر بالجيش المسلم كثير ضرر، ولكن الله تعالى أراد لهم التربية والتزكية من خلال هجرهم وعزلهم، لكي يعودوا إلى الصف أقوى مما كانوا وأزكى، ولكي يكون في قصتهم عبرة لمن يأتي من بعدهم، وهانحن نرى اليوم قلة في مواجهة الأعداء ومواجهة المخاطر والدفاع عن الدين، بينما الكثرة الغالبة متخلفة عن الركب، حتى أصبحت القاعدة هي الاستثناء والاستثناء هي القاعدة.
أمة بأكملها تلهو وتلعب، بل في سبات عميق وفي غي مستمر، وطائفة قليلة مباركة هي التي حملت أمانة هذا الدين، تتحدى جموع الباطل من حولها، تواجه وتصمد في وجه هجماته المتواصلة.
طائفة قائمة في مقابل أمة قاعدة، وطائفة متيقظة في مقابل أمة متخلفة، يا له من تناقض عجيب، ويا لها من عناية ربانية فريدة تحوط هذه الفئة المرابطة، ويا له من ذل وهوان وصغار يحيط بهذه الأمة البائسة التي آثرت متاع الحياة الدنيا القليل الملوث بالذل والهوان على الحياة الأخرى المرتبطة بحياة الجهد والعطاء.
إنها والله حياة واحدة، وإنها أيام معدودة يقضيها المرء في هذه الدنيا، فليقضها الإنسان فيما يعود عليه بالمصلحة لآخرته، ولكنه العمى، عمى البصيرة لا عمى البصر، للكثرة، وإنها للهداية والفوز للقلة، والفوز في الدنيا والآخرة {يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}[الصف ].
أنواع التخلف
التخلف يكون في ميادين عديدة، منها :
ميدان الدعوة
حيث أن القليل فقط من يتحمل مسؤولية نشر هذا الدين بين الناس، لا أقول في أوساط غير المسلمين، ولكن وسط المسلمين أنفسهم، حيث ينبغي تصحيح المفاهيم المغلوطة لدى المسلمين، وتنقية أفكارهم من الشوائب التي التصقت بها، وكذلك تحميلهم مسؤولية الالتزام الحقيقي، وتعليمهم كيفية مواجهة المشاكل المطروحة في طريق الدعوة من أجل تجاوزها، وترسيخ مفاهيم الثبات والاستقامة وعدم الركون إلى الذين ظلموا، مهما عرضوا عليهم من إغراءات فاتنة.
والدعوة المطلوبة هي الدعوة إلى الكفر بالطاغوت ابتداء ورفض كل المساومات المشبوهة، ثم ترسيخ مفهوم التوحيد في النفوس، توحيد الألوهية والربوبية سواء، {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها}، والسعي إلى تحكيم الشرع في كل صغيرة وكبيرة، رضي الناس أم سخطوا {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}.
ثم الدعوة إلى توحيد الصف المؤمن، {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}[الصف]، ونبذ الخلافات الهامشية أو تأجيلها إلى حين، حتى لا تتحول إلى عقبة في طريق التغيير، لأن العدو يعتمد عليها كسلاح أساسي لإضعاف الصف المسلم، { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحِْي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }[القصص4].
فما كان له أن يعلو في الأرض إلا بتشتيت الشعب وتحويله إلى فرق وأحزاب، وبالتالي ينشأ الخصام والخلافات فيما بينها، فتكون النتيجة كما أخبر رب العزة {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين}[الأنفال]، الفشل وذهاب الريح، وتمكين العدو في الأرض.
إن الدعوة إلى الله عز وجل بحاجة إلى رجال وهبوا أنفسهم لله، لا يرجون أجراً ولا ثواباً من أحد، سوى تبليغ رسالات الله ناصعة وقوية، لا يدهنون الكفار والمرتدين ولا يركنون إلى الذين ظلموا، مهما لاقوا من تكذيب وعنت وحرب، لأن الدعوة ينبغي أن تتقدم ولا تتوقف، حتى ولو فقد الدعاة حرياتهم وحياتهم في سبيل ذلك.
فدين الله قائم بالدعوة، ولا مجال للمساومات والحلول الوسط مع المدعوين، كلمة الحق ينبغي أن تكون فوق كل اعتبار، والكل ينبغي أن يخضع للحق ويدور معه، وليس العكس.
ميدان الحسبة
ميدان الحسبة من بين أهم الميادين المهجورة، ومن أخطر الفروض المنسية، مما سمح لأعداء الله وعبيد الهوى والشهوات وأتباع الشيطان أن ينشروا فسادهم ورذائلهم على مرأى ومسمع من الجميع، بعد أن بدلوا المسميات وغيروا العناوين، فانقلبت الموازين، فصار الناس يرون المنكر معروفاً والمعروف منكراً، والصالح فاسداً والفاسد صالحاً، بل صاروا هم أنفسهم يدعون إلى المنكر وينهون عن المعروف وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، هذا في الوقت الذي انزوى فيه معظم أهل الحق جانباً يؤثرون السلامة والعافية، يكتفون بجهود ضئيلة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تكاد تحافظ على أضعف الإيمان الذي بقي لديهم.
بل ربما تراهم يتحركون في ميادين غير ميدان الحسبة يضيعون جهودهم وأوقاتهم في أعمال هامشية تضر أكثر مما تنفع، وتساهم في ترسيخ الباطل وتنفير الناس من الحق، وترك الساحة الحقيقية لهؤلاء المفسدين، يعيثون فيها فساداً، يفتنون العباد ويفسدون عليهم دينهم. وقد نتج عن ذلك جيل منهزم مستسلم، يعبد الشهوة، خنوع لا يعرف معنى للكرامة والإباء، بل تراه منقاداً وراء الهوى، غارقاً فيه حتى النخاع.
والحسبة تكون باليد أولاً، وهو إزالة المنكرات والقضاء عليها من جذورها، ومحاولة صد الناس عنها، ولاشك أن لها فقه خاص ينبغي اتباعه، وذلك لكي تؤتي عملية الحسبة ثمارها المرجوة، ولا يكون ضررها أكثر من نفعها.
ثم بعد ذلك تكون الحسبة باللسان وهي المرتبة الثانية، وهي لا تقل أهمية عن الحسبة باليد، لأنها في حقيقة الأمر تمهد للتغيير باليد، ولا ينبغي حصر مفهومها في إطار ضيق، كما هو شائع اليوم في أوساط الذين يُحسبون على الدعوة.
ميدان الإعداد
إن ميدان القول غير ميدان العمل، وكل من يحسن القول لا يحسن بالضرورة لغة العمل، لأن من شروط العمل الإعداد، {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة}، فالواجبات كثيرة، والتحديات أهم وأخطر من أن نبقى مكتوفي الأيدي في انتظار الفرج.
فلا بد من الاستعداد للدخول في المعركة إلى جانب الفئة التي بدأتها بالفعل منذ عقود. ولا عذر لنا على تقاعسنا وجلوسنا على الهامش، نتفرج ونترقب نتائج المعركة.
ولا ينبغي الاستهانة بهذا الجانب الهام والحساس من رحلة التغيير، فالإعداد ميدان متشعب، ولا يمكن أن يحوطه الفرد لوحده مهما بذل من جهد، ولكنه يحتاج إلى عون، كما أنه ميدان متعدد الاختصاصات، لابد من جنود أكفاء يملؤون كل الثغرات.
فالخروج يلزمه إعداد، وكل خطوة أو مرحلة من مراحل الجهاد تحتاج إلى إعداد خاص بها لا يتم إلا بها، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وعليه فإننا مطالبون بالتقرب إلى الله تعالى بعبادة الإعداد كما نتقرب إليه بعبادة الجهاد سواء.[يُراجع في هذا الباب مقالتنا: "ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة" – مجلة الأنصار].
ميدان الجهاد
وهو الميدان الأخير الذي يجسد وعي الأمة اتجاه فهمها لدينها، ويجسد صدق الانتماء لهذا الدين، ومدى حبنا لله عز وجل وحب نبيه الكريم، إذ لابد من ترجمة عملية لهذا الحب عبر فريضة الجهاد المتواصل، الذي لا يتوقف إلا ببلوغ إحدى الحسنيين {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا}.
كما أن العهد الذي بيننا وبين الله عز وجل هو الوفاء بشروط البيعة التي بايعناها {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم}. بيعة لا يتركها المؤمن إلا بسقوط إيمانه.
وطبعاً من يتخلف عن الدعوة لابد بالضرورة أن يتخلف عن بقية الواجبات وعن بقية المراحل.
كيف يحلو للمتخلفين أن ينعموا بلذة الحياة وهم بعيدون عن هموم الأمة، وبعيدون عن قول الله تعالى{ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة..}الآية، وقوله تعالى {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية..} الآية.
شعوب تُضطهد وتُكفر، أعراض تُنتهك، خيرات تُسرق وتُسلب، ومع ذلك فالضمائر ميتة، والعزائم خائرة، وكأن القوم سكارى وما هم بسكارى.
المخلفون القاعدون
هناك مخلفون قاعدون وهذا الصنف معروف ومعلوم، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف واستحبوا الحياة الدنيا ومتاعها على الآخرة ونعيمها، فانشغلوا بالركض وراء هذه الدنيا لتحصيل هذا المتاع، وعدم التفكير فيما ينفع دينهم وأمتهم، أو المساهمة في رفع هذا الظلم والقهر المسلطان على الأمة منذ عقود عديدة، يهتمون بسفاسف الأمور ويتلذذون بالفتات ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.
هؤلاء ينبغي التعامل معهم باللين والرفق، وأن نتدرج معهم في الدعوة عسى أن يكونوا من المهتدين، فحالهم تحتاج إلى تعامل خاص، وصبر طويل، وإذا استطعنا أن نجعلهم محايدين فسيكون أفضل من أن يكونوا أنصاراً للباطل.
وكلنا أمل في الله عز وجل بأن يكونوا يوماً ما من جنود الحق، يذودون عنه ويضحون بالغالي والنفيس كما كانوا يضحون في سبيل نصرة الباطل أو خذلان الحق.
المخلفون القائمون
هذا النوع من المخلفين ينطبق عليهم قوله تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }[الكهف 103-104].
فرغم العمل المتواصل والدائب والتضحيات والمشقات التي يقدمونها، فإنها تظل خارج دائرة القبول، لأنها غير موافقة لشرع الله وعلى غير هدي رسول الله، هذا بالإضافة إلى بعدها عن متطلبات الواقع الذي تعيشه الأمة.
إنهم يسبحون في واد والأمة غارقة في واد آخر، أعمالهم تسير في اتجاه تقوية الباطل والتنفيس عنه، { أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاَ حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب}، إنهم يحسبون أنهم في الاتجاه الذي يضر الباطل ويضيق عليه، لعمري إنهم لفي ضلالهم يعمهون.
إن العمل الذي يثبت أركان الباطل، المتمثل اليوم في هذه الحكومات المرتدة الغاشمة، والمسلطة على شعوبنا بقوة الحديد والنار، إن هذا العمل مهما بدا لهؤلاء المخلفين القائمين، الراكضين وراء المناصب أو الطامعين في المشاركة في أمور الحكم تحت مظلة القانون الوضعي، على أنه مقبول ومجدي، فإنه مرفوض شرعاً حتى وإن استحسنه الناس جميعاً، بل حتى وإن حقق الكثير من المصالح الدنيوية التي يسميها أصحاب هذا المذهب بالمصالح المرسلة، ما دام أن ذلك يتناقض مع شرع الله، ويهدم ركناً ركيناً من أركان هذا الدين، ألا وهو الحاكمية والتشريع لله وحده.
ثم الولاء والبراء، الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين حتى ولو كانوا ضعفاء ولا يملكون السلطة الفعلية، والبراءة من الظالمين والمرتدين حتى وإن ملكوا الدنيا بحذافيرها ما داموا يحكمون بغير ما أنزل الله.
حينما تخرج فئة مؤمنة بالله تعالى، كافرة بالنظم الجاهلية ومعلنة عداءها وحربها على هذه الأنظمة المرتدة، فإنها تجد العداء والحرب من قبل هؤلاء جميعاً، مقابل التنازل عن هذه العقيدة والانغماس في النظام الجاهلي الكفري، ومن ثم القبول بقوانين اللعبة السياسية، طرفاً فاعلاً ومشاركاً في النسيج السياسي العام.
حينذاك تكون في مفترق الطرق مع أعدائها، وليس هناك ثمة التقاء ، لأن العلاقة بينهم علاقة عداء في المبادئ والوسائل على حد سواء.
حينما تعلن براءتها من هذه النظم والقوانين الكفرية وتقول كما قال الذين من قبلهم {إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده}[الممتحنة 4]، وتصيح بأعلى صوتها كما صاح فتية الكهف من قبلها {ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططاً}[الكهف 14]، حينما تفعل ذلك فإنها تجد وتلقى العداء والحصار من قبل هؤلاء الأعداء، وتدخل في حرب طاحنة لا أول لها ولا آخر، يسخر فيها أهل الباطل كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة لتحقيق هدف واحد فقط وهو { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}، وهم يسلكون في سبيل ذلك أسلوب {لا يرقبون فيكم إلا ولا ذمة}.
هذا في الوقت الذي نجد فيه طائفة من الذين يُحسبون على العلم والعلماء، يتصدرون المجالس، ويصعدون المنابر، وتسمع لهم ضجيجاً في ساحات الدعوة، يتسابقون إلى إصدار الفتاوى، وتوجيه الناس وتأطيرهم، ولكنهم قد سلكوا طرقاً ملتوية، ظاهرها هدي وسنة، وباطنه انحراف وبدعة، لا يعلمهم كثير من الناس، بل إن الغالبية العظمى من الناس ينخدعون بالمظاهر والكلمات المنمقة، فيتبعون هؤلاء الأئمة المضلين، لما في دعوتهم من سلامة وأمان، وبعد عن الصدام والتضحية والفداء.
ذلك أن طبيعة النفس تؤثر السلامة والراحة والدعة، وتكره الابتلاء والتضحية، وتركن إلى السهل والميسور، وتنفر من سنة التدافع، رغم أن سنة التدافع فيها الخير الكثير لهذه النفس بالذات وللخلق أجمعين، {ولولا تدافع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}[البقرة]،
{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}[الحج 40].
هذا والله نسأل أن يوفق عباده المؤمنين للنهوض بهذا الدين، ويطرحوا عنهم قيود الركون إلى الدنيا وملذاتها، أو الركون إلى الذين ظلموا لكي يكون لنا نصيب في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، سنستحق بذلك مدده ونصره ، ونكون من الذين أنعم الله عليهم ومعهم.
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً}.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه إيماناً واحتساباً: أبو سعد العاملي – محرم الحرام من عام 1428 - أرشيف مجلة صدى الجهاد.