انا بنت الاسلام
26 Jul 2009, 06:29 PM
اللؤلؤ والجوهر المستخرج من سورة الكوثر (1-4)
د. نايف بن أحمد الحمد 20/7/1430
http://www.almoslim.net/files/images/thumb/alkawthar-thumb2.jpg
الكوثر وأصله في القرآن
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد فقد منَّ الله تعالى على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعل ذمَّ المشركين له رفعةً وعلواً فكلما ذمه ذام منهم وانتقصه أكرمه الله ببشارة هي خير من الدنيا وما فيها(1) ومن ذلك أن العاص بن وائل السهمي كان إذا ذُكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله تعالى في ذلك (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) إلى آخر السورة(2).
ومما قيل في سبب نزولها ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم كعب بن الأشرف(3) مكة فقالت له قريش: أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا المُصَنْبر المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة وأهل السقاية؟ فقال: أنتم خير منه. قال: فنزلت: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) (4).وهذا هو ديدن اليهود والمنافقين في كل زمان ومكان يزينون للمشركين ما هم عليه من كفر وضلال تصريحا تارة وتلميحا أخرى بل تعدى الأمر هذا عند كثير من أبناء المسلمين فقد قاموا بتعداد محاسن المشركين –زعموا- وتزيينها في نفوس الشباب والفتيات عبر وسائل الإعلام المتنوعة المقروء منها والمرئي والمسموع وانتقاص المسلمين والتقليل من شأن العلماء الربانيين في التحذير من ذلك بل ووصموهم بما هم منه براء ناسين أو متناسين قول الله تعالى (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) (الروم).
وعَودا إلى سورة الكوثر فهي ثلاث آيات قصار وهي أقصر سورة في القرآن(5).
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى: "سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها وفي جميع التفاسير أيضاً سورة الكوثر وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه(6)، وعنونها البخاري في (صحيحه)(7) سورة: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) ولم يعدَّها في (الإِتقان(8)) مع السور التي لها أكثر من اسم، ونقل سعد الله الشهير بسعْدِي في (حاشيته على تفسير البيضاوي) عن البِقاعي(9) أنها تسمى (سورة النحر)(10).
وهل هي مكية أو مدنية؟ تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضاً شديداً، فهي مكية عند الجمهور(11) واقتصر عليه أكثر المفسرين "ا.هـ(12) وسورة الكوثر مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد وصوَّبه السيوطي في الاتقان(13) ورجحه النووي(14) رحمهم الله تعالى جميعا.
قال تعالى (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) هذه الآية تدل على عطية كثيرة صادرة من معط كبير غني واسع، وصدَّر الآية (بإنَّ) الدالة على التأكيد وتحقيق الخبر وجاء الفعل بلفظ الماضي الدال على التحقيق وأنه أمر ثابت واقع ولا يدفعه ما فيه من الإيذان بأن إعطاء الكوثر سابق في القدر الأول حين قدرت مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة(15) وحذف موصوف الكوثر ليكون أبلغ في العموم؛ لما فيه من عدم التعيين(16).
ما هو الكوثر؟
والكوثر فسره النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال (أُنزلت على آنفاً سورة). فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ). ثم قال: (أتدرون ما الكوثر)؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال: (فإنه نهر وعدنيه ربى عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتى يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيُختلج(17) العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتى. فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك)(18) وهذا الحديث استدل به مَن يرى السورة مدنية لرواية أنس له ولم يُسلم رضي الله عنه إلا في المدينة (19).
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد إن أناسا يزعمون أنه نهر في الجنة؟ فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه (20). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقا على قول سعيد: وحاصل ما قاله سعيد بن جبير أن قول ابن عباس إنه الخير الكثير لا يخالف قول غيره إن المراد به نهر في الجنة لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير ولعل سعيدا أومأ إلى أن تأويل ابن عباس أولى لعمومه لكن ثبت تخصيصه بالنهر مِن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فلا معدل عنه. ا.هـ(21)
وقد نقل المفسرون في الكوثر أقوالا أخرى غير هذين تزيد على العشرة منها: قول عكرمة الكوثر النبوة، وقول الحسن الكوثر القرآن، وقيل تفسيره، وقيل الإسلام, وقيل إنه التوحيد، وقيل كثرة الأتباع، وقيل الإيثار، وقيل رفعة الذكر، وقيل نور القلب، وقيل الشفاعة، وقيل المعجزات، وقيل إجابة الدعاء، وقيل الفقه في الدين، وقيل الصلوات الخمس(22). والصحيح هو ما فسره به النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
...........
(1) ومن ذلك ما رواه جندب رضي الله عنه قال: أبطأ جبريل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال المشركون قد ودع محمد فأنزل الله عز وجل (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) رواه مسلم (4757) ورواه البخاري (4698) بلفظ: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقل ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فأنزل الله عز وجل (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى).
(2) رواه الواحدي في أسباب النزول /307 والبيهقي في البعث والنشور (117) وانظر: تفسير البغوي 8/560 تفسير الخازن 7/305 البداية والنهاية 5/328.
(3) كان كعب بن الأشرف موادعا للنبي صلى الله عليه وسلم في جملة مَن وادعه من يهود المدينة وكان عربيا من بني طيء وكانت أمه من بني النضير فلما قُتل أهل بدر شق ذلك عليه وذهب إلى مكة ورثاهم لقريش وفضل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى أنزل الله فيه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً (51) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)) ثم لما رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار يهجو بها النبي صلى الله عليه وسلم ويشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم (مَن لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله).أحكام أهل الذمة 3/1419 زاد المعاد 3/191 وقد قتله محمد بن مسلمة وآخرون رضي الله عنهم في قصة رواها البخاري (3811) ومسلم (4765).
(4) رواه النسائي في الكبرى (11707) وابن جرير (9786) وابن المنذر (1882) وصححه ابن حبان (6572) والبزار في مسنده (2293) واللفظ له قال ابن كثير عن إسناد البزار: صحيح. التفسير 8/504.
(5) تفسير القرطبي 1/74.
(6) باب رقم (89).
(7) باب رقم (462).
(8) الإتقان في علوم القرآن 1/148.
(9) في تفسيره نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 8/547.
(10) انظر تفسير روح المعاني 30/244.
(11) وقال أبو حيان: هذه السورة مكية في المشهور، وقول الجمهور. البحر المحيط 8/520.
(12) التحرير والتنوير 30/517.
(13) الاتقان في علوم القرآن 1/46.
(14) روح المعاني 30/244.
(15) كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة - قال - وعرشه على الماء) رواه مسلم (6919).
(16) مجموع الفتاوى 16/529.
(17) أي يقتطع وينتزع. الديباج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 2/132.
(18) رواه مسلم (607).
(19) انظر: تفسير ابن كثير 8/498.
(20) رواه البخاري (6207).
(21) فتح الباري 8/732 تحفة الأحوذي 9/205.
(22) فتح الباري 8/732 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 20/217 الدر المنثور 8/650المحرر الوجيز 5/497.
د. نايف بن أحمد الحمد 20/7/1430
http://www.almoslim.net/files/images/thumb/alkawthar-thumb2.jpg
الكوثر وأصله في القرآن
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد فقد منَّ الله تعالى على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعل ذمَّ المشركين له رفعةً وعلواً فكلما ذمه ذام منهم وانتقصه أكرمه الله ببشارة هي خير من الدنيا وما فيها(1) ومن ذلك أن العاص بن وائل السهمي كان إذا ذُكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له، لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله تعالى في ذلك (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) إلى آخر السورة(2).
ومما قيل في سبب نزولها ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم كعب بن الأشرف(3) مكة فقالت له قريش: أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا المُصَنْبر المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة وأهل السقاية؟ فقال: أنتم خير منه. قال: فنزلت: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) (4).وهذا هو ديدن اليهود والمنافقين في كل زمان ومكان يزينون للمشركين ما هم عليه من كفر وضلال تصريحا تارة وتلميحا أخرى بل تعدى الأمر هذا عند كثير من أبناء المسلمين فقد قاموا بتعداد محاسن المشركين –زعموا- وتزيينها في نفوس الشباب والفتيات عبر وسائل الإعلام المتنوعة المقروء منها والمرئي والمسموع وانتقاص المسلمين والتقليل من شأن العلماء الربانيين في التحذير من ذلك بل ووصموهم بما هم منه براء ناسين أو متناسين قول الله تعالى (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) (الروم).
وعَودا إلى سورة الكوثر فهي ثلاث آيات قصار وهي أقصر سورة في القرآن(5).
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى: "سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها وفي جميع التفاسير أيضاً سورة الكوثر وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه(6)، وعنونها البخاري في (صحيحه)(7) سورة: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) ولم يعدَّها في (الإِتقان(8)) مع السور التي لها أكثر من اسم، ونقل سعد الله الشهير بسعْدِي في (حاشيته على تفسير البيضاوي) عن البِقاعي(9) أنها تسمى (سورة النحر)(10).
وهل هي مكية أو مدنية؟ تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضاً شديداً، فهي مكية عند الجمهور(11) واقتصر عليه أكثر المفسرين "ا.هـ(12) وسورة الكوثر مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد وصوَّبه السيوطي في الاتقان(13) ورجحه النووي(14) رحمهم الله تعالى جميعا.
قال تعالى (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) هذه الآية تدل على عطية كثيرة صادرة من معط كبير غني واسع، وصدَّر الآية (بإنَّ) الدالة على التأكيد وتحقيق الخبر وجاء الفعل بلفظ الماضي الدال على التحقيق وأنه أمر ثابت واقع ولا يدفعه ما فيه من الإيذان بأن إعطاء الكوثر سابق في القدر الأول حين قدرت مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة(15) وحذف موصوف الكوثر ليكون أبلغ في العموم؛ لما فيه من عدم التعيين(16).
ما هو الكوثر؟
والكوثر فسره النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال (أُنزلت على آنفاً سورة). فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ). ثم قال: (أتدرون ما الكوثر)؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال: (فإنه نهر وعدنيه ربى عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتى يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيُختلج(17) العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتى. فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك)(18) وهذا الحديث استدل به مَن يرى السورة مدنية لرواية أنس له ولم يُسلم رضي الله عنه إلا في المدينة (19).
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد إن أناسا يزعمون أنه نهر في الجنة؟ فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه (20). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقا على قول سعيد: وحاصل ما قاله سعيد بن جبير أن قول ابن عباس إنه الخير الكثير لا يخالف قول غيره إن المراد به نهر في الجنة لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير ولعل سعيدا أومأ إلى أن تأويل ابن عباس أولى لعمومه لكن ثبت تخصيصه بالنهر مِن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فلا معدل عنه. ا.هـ(21)
وقد نقل المفسرون في الكوثر أقوالا أخرى غير هذين تزيد على العشرة منها: قول عكرمة الكوثر النبوة، وقول الحسن الكوثر القرآن، وقيل تفسيره، وقيل الإسلام, وقيل إنه التوحيد، وقيل كثرة الأتباع، وقيل الإيثار، وقيل رفعة الذكر، وقيل نور القلب، وقيل الشفاعة، وقيل المعجزات، وقيل إجابة الدعاء، وقيل الفقه في الدين، وقيل الصلوات الخمس(22). والصحيح هو ما فسره به النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
...........
(1) ومن ذلك ما رواه جندب رضي الله عنه قال: أبطأ جبريل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال المشركون قد ودع محمد فأنزل الله عز وجل (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) رواه مسلم (4757) ورواه البخاري (4698) بلفظ: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقل ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فأنزل الله عز وجل (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى).
(2) رواه الواحدي في أسباب النزول /307 والبيهقي في البعث والنشور (117) وانظر: تفسير البغوي 8/560 تفسير الخازن 7/305 البداية والنهاية 5/328.
(3) كان كعب بن الأشرف موادعا للنبي صلى الله عليه وسلم في جملة مَن وادعه من يهود المدينة وكان عربيا من بني طيء وكانت أمه من بني النضير فلما قُتل أهل بدر شق ذلك عليه وذهب إلى مكة ورثاهم لقريش وفضل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى أنزل الله فيه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً (51) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)) ثم لما رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار يهجو بها النبي صلى الله عليه وسلم ويشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم (مَن لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله).أحكام أهل الذمة 3/1419 زاد المعاد 3/191 وقد قتله محمد بن مسلمة وآخرون رضي الله عنهم في قصة رواها البخاري (3811) ومسلم (4765).
(4) رواه النسائي في الكبرى (11707) وابن جرير (9786) وابن المنذر (1882) وصححه ابن حبان (6572) والبزار في مسنده (2293) واللفظ له قال ابن كثير عن إسناد البزار: صحيح. التفسير 8/504.
(5) تفسير القرطبي 1/74.
(6) باب رقم (89).
(7) باب رقم (462).
(8) الإتقان في علوم القرآن 1/148.
(9) في تفسيره نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 8/547.
(10) انظر تفسير روح المعاني 30/244.
(11) وقال أبو حيان: هذه السورة مكية في المشهور، وقول الجمهور. البحر المحيط 8/520.
(12) التحرير والتنوير 30/517.
(13) الاتقان في علوم القرآن 1/46.
(14) روح المعاني 30/244.
(15) كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة - قال - وعرشه على الماء) رواه مسلم (6919).
(16) مجموع الفتاوى 16/529.
(17) أي يقتطع وينتزع. الديباج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 2/132.
(18) رواه مسلم (607).
(19) انظر: تفسير ابن كثير 8/498.
(20) رواه البخاري (6207).
(21) فتح الباري 8/732 تحفة الأحوذي 9/205.
(22) فتح الباري 8/732 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 20/217 الدر المنثور 8/650المحرر الوجيز 5/497.