قائد_الكتائب
29 Oct 2009, 12:42 AM
العُذْرُ بالجَهْل ِوقيامُ الحُجَّةِ
ـ مبدأ العذر بالجهل
:قبل أن نخوض في الحديث عن الجهل الذي يعذر والجهل الذي لا يعذر لا بد أولاً من أن نثبت مشروعية العذر بالجهل من حيث المبدأ، ونجيب على سؤال يقول : هل الجهل من الأعذار المعتبرة شرعاً؟
نقول: الحمد لله رب العالمين. فقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على اعتبار الجهل المعجز عذراً من الأعذار الشرعية التي يعذر بها المرء، وتقيل عثرته في حال وقوعه ـ بسببها ـ في الخطأ، سواء كان هذا الخطأ في المسائل الفرعية أو المسائل العملية أو كان في المسائل الأصولية العقدية .. لا فرق بين ذلك كله.
من هذه الأدلة:
1- أن التكليف الذي يحاسب عليه المرء ـ في الدنيا والآخرة ـ هو التكليف الموافق لحدود القدرة والاستطاعة، فما زاد عن حدود الاستطاعة والقدرة لا يُطالب بالإتيان به ولا يأثم على تركه، والعكس إذا حصل التقصير والإهمال فيما يستطيع المرء على إتيانه والقيام به، فهو حينئذٍ يأثم ويطاله الوعيد على تقصيره وتفريطه فيما يقدر عليه.
لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} البقرة:286. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن:16.
قال ابن كثير في تفسير قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} البقرة:286. أي لا يُكلَّف أحد فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ا- هـ .
وفي الحديث قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" متفق عليه.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: فإن الله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مه القدرة، وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه[1].
من هذه النصوص استخرجت القاعدة الفقيهة التي تقول:" الميسور لا يسقط بالمعسور ".
وقد صاغها العز بن عبد السلام بقوله: إن من كلف بشيء من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما قدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه[2].
وعليه نقول: حيثما توجد الاستطاعة والمقدرة على التعلم وطلب العلم ودفع الجهل، يُرفع العذر بالجهل. وحيثما تعدم الاستطاعة والمقدرة على التعلم وطلب العلم الذي يندفع به الجهل، يوجد العذر بالجهل.
قال ابن تيميه: إن العذر لا يكون عذراً إلا مع العجز عن إزالته، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق، فقصر فيه، لم يكن معذوراً [3].
وهذه قاعدة يدور عليها رحى مبدأ العذر بالجهل .. وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بجميع موانع التكفير الأخرى، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
2- قضت حكمة الله عز وجل، أن لا يعذب أحداً إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليه؛ فمن كان خطؤه ناتجاً عن عدم بلوغ العلم إليه؛ لا العلم يصله ولا هو يستطيع أن يصل العلم؛ كالذي يكون حديث عهد في الإسلام، أو كالذي يسكن في منطقة نائية لا تتوفر فيها العلوم الشرعية كالبادية وغيرها، فهذا لو أخطأ فإنه معذور بخطئه إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية وتبلغه نذارة الرسل، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}الإسراء:15.
وقال تعالى:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} النساء:165.
وقال: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ . قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} الملك:8-9.
وقال تعالى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}الأنعام:130.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} طـه:134.
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :" لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين ".
قال ابن كثير في التفسير: إخبار عن عدله تعالى وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه .. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله -عز وجل- لا يدخل النار أحداً إلا بعد إرسال الرسول إليه [4]ا- هـ.
وقال البغوي: وذلك أن الله تعالى أجرى السنة أن لا يأخذ أحداً إلا بعد وجود الذنب، وإنما يكون مذنباً إذا أمر فلم يأتمر أو نهي فلم ينته، وذلك بعد إنذار الرسل [5]. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسول[6]ا- هـ.
وفي تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} الأنعام:131. قال الشوكاني: المعنى أن الله أرسل الرسل إلى عباده لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى، والحال أنهم غافلون عن الإعذار والإنذار بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم ، وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم [7].
قلت: إذا كان الله -سبحانه وتعالى- لا يعذب عباده في الحياة الدنيا ـ وهو العذاب الأدنى ـ إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. فمن باب أولى ـ كما دلت على ذلك نصوص عدة ـ أن لا يعذبهم العذاب الأكبر يوم القيامة إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. فيقابلونها بالرد والإعراض.
قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان 2/336-338: والآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز في الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} فإنه قال فيها: حتى نبعث رسولاً، ولم يقل حتى نخلق عقولاً، وننصب أدلة، ونركز فطرة.
ومن ذلك قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم هو إنذار الرسل، لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة.
ومن ذلك أنه تعالى صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل ولم يكتف في ذلك بنصب الأدلة، كقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} الملك: من الآية9.
وقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} الزمر:71.
ومعلوم أن لفظة "كلما " في قوله:{كلما ألقي فيها فوج} صيغة عموم، وأن لفظة " الذين " في قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}صيغة عموم أيضاً، لأن الموصول يعم كل ما تشمله صلته ا- هـ.
وقال رحمه الله 3/473:{وسيق الذين كفروا} عام لجميع الكفار، وقد تقرر في الأصول: أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم في كل ما تشمله صلاتها .. إلى أن قال: وهو ظاهر في أن جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا؛ فعصوا أمر ربهم كما هو واضح ا- هـ.
وفي قوله تعالى:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} قال كذلك رحمه الله ـ أي الشنقيطي ـ: هذه الآية تدل على أن الله تعالى لا يعذب بالنار أحداً إلا بعد أن ينذره في الدنيا ..
ومعلوم أن قوله جل وعلا:{كلما ألقي فيها فوج} يعم جميع الأفواج الملقين في النار.
قال أبو حيان في " البحر المحيط " في تفسير هذه الآية التي نحن في صددها ما نصه: و" كلما " تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين ا- هـ.
قلت: والمراد بالعموم هنا؛ أي جميع من يدخلون النار ـ من أهل الكفر ـ ومن دون استثناء فإنهم يقرون ويعترفون أن نذارة الرسل قد بلغتهم فقابلوها بالرد والإعراض، والجحود .. وأنهم ما دخلوا النار إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. ومما يدل على ذلك قوله تعالى:{وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا} أي جميع وعموم الذين اتقوا ربهم من دون استثناء .. وهي نفس صيغة العموم الواردة في قوله تعالى:{وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا} فكما لا يجوز أن نقول أن المراد من قوله {وسيق الذين اتقوا ..} بعض أو غالب الذين اتقوا وليس كل الذين اتقوا، كذلك لا يجوز أن نقول أن المراد من قوله تعالى {وسيق الذين كفروا ..} بعض أو غالب الذين كفروا؛ لتطابق الآيتين واللفظين من حيث صيغة العموم العامة والشاملة لجميع الذين اتقوا وجميع الذين كفروا.
قال الألوسي في التفسير: واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل الشرع لأنهم وبخوهم بكفرهم بعد تبليغ الرسل للشرائع وإنذارهم .. وقيل وجه الاستدلال: إن الخطاب للداخلين عموماً يقتضي أنهم جميعاً أنذرهم الرسل، ولو تحقق تكليف قبل الشرع لم يكن الأمر كذلك ا- هـ.
وكذلك قوله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} قّ:28. أي قدمت إليكم بالوعيد والنذر عن طريق رسلي الذين أرسلتهم إليكم .. قبل أن تقفوا هذا الموقف العصيب الأليم، وتختصموا فيه .. وبالتالي فإن اختصامكم وتلاومكم الآن ـ وبعد أن فات الأوان ـ لا ينفعكم في شيء.
قال ابن جرير:{وقد قدمت إليكم} في الدنيا قبل اختصامكم هذا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني وخالف أمري ونهيي، في كتبي وعلى ألسن رسلي.
قال ابن عباس: إنهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجتهم، ورد عليهم قولهم [8].
وقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}غافر:49-50.
قوله تعالى:{وقال الذين في النار ..} هي أيضاً من صيغ العموم التي تفيد الاستغراق والعموم التي تعم جميع الذين في النار؛ أي قال جميع الذين في النار ومن دون استثناء {بلى} قد جاءتنا رسلنا بالبينات والنذر والآيات..!
قال الألوسي في التفسير:{وقال الذين في النار} من الضعفاء والمستكبرين جميعاً لما ضاقت بهم الحيل، وعيت بهم العلل .. ا- هـ.
وكذلك قوله تعالى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}الأنعام:130.
قوله تعالى:{وقالوا شهدنا على أنفسنا} أي شهدوا على أنفسهم أن حجة الرسل قد بلغتهم .. وهذا خطاب موجه لجميع الإنس والجن يفيد كذلك العموم لا الغالب؛ لأن الجمع المعرف بأل يفيد العموم والاستغراق؛ أي جميع الجن والإنس يعترفون ويقرون بأن نذارة الرسل قد بلغتهم.
قال ابن كثير في التفسير:{شهدنا على أنفسنا}أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة ا- هـ.
قال ابن تيميه: من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يُعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}.
ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية ..
والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية أ ن الخطاب لا يثبت في حق أحد قبل التمكن من سماعه، وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما بعث الله به رسوله ولا يكونه هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر ولهذا اتفق الأئمة على أنه من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره، حتى يعرف ما جاء به الرسول[9].
وقال ابن حزم في الأحكام 5/104-114: وأما شرائع الأبدان والاعتقاد فإنها تجب بوجهين: أحدهما البلوغ مبلغ الرجال والنساء، وهو البلوغ المخرج عن حد الصبا، والثاني بلوغ الشريعة إلى المرء.
وأما الحدود فإنها تلزم من عرف أن الذي فعل حرام، وسواء علم أن فيه حداً أم لا، وهذا لا خلاف فيه. وأما من لم يعرف أن ما عمل حرام فلا حد عليه فيه، وبرهان ذلك قوله تعالى:{ْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ}الأنعام:19.
فإنما جعل الله تعالى وجوب الحجة ببلوغ النذارة إلى المرء، وقال تعالى: {وأعرض عن الجاهلين}. فأمر أن يهدر فعل الجاهل، إلى أن قال: أما من لم يبلغه ذكره -صلى الله عليه وسلم-، فإن كان موحداً فهو مؤمن على الفطرة الأولى صحيح الإيمان لا عذاب عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنة، وإن كان غير موحد فهو من الذين جاء النص بأنه يوقد له يوم القيامة نار، فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دخلها نجا، ومن أبى هلك. قال الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}الإسراء:15. فصح أنه لا عذاب على كافر أصلاً حتى تبلغه نذارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ا- هـ.
3- ومن الأدلة الدالة على العذر بالجهل أيضاً، خطاً الحواريين – في أول عهدهم – وجهلهم بصفة ربهم أنه تعالىعلى كل شيء قدير، وكذلك شكهم بمصداقية نبوة عيسى عليه -عليه السلام-، كما أخبر الله تعالى عن قولهم : {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} المائدة:113.
قال ابن جرير: في قوله تعالى: {قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين}، قال عيسى للحوارين: راقبوا الله أيها القوم، وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شكهم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء كفر به، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته إن كنتم مؤمنين، يقول: إن كنتم مصدقي على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم {هل يستطيع ربك} .
وفي قوله : {ونعلم أن قد صدقتنا}، قال: فقد أنبأ هذا عن قولهم أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوته، فلا بيان أبين من هذا الكلام في أن القوم كانوا قد خالط قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختباراً [10].
وقال ابن حزم: فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله -عز وجل- عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى -عليه السلام- هل يستطيع ربك أن يُنزل علينا مائدة من السماء ؟!
ولم يبطل بذلك إيمانهم وهذا مالا مخلص منه وإنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة وتبيُّنهم لها [11] .
فرغم أن الشك في أن الله -عز وجل- على كل شيء قدير هو كفر، وكذلك الشك بمصداقية نبي الله، إلا أن الحوارين لم يكفروا وعذروا بالجهل لحداثة عهدهم بالإسلام وبنبيهم عيسى -عليه السلام-.
4- وكذلك الذين قالوا ـ من بني إسرائيل ـ لموسى -عليه السلام-: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}الأعراف:138. أي تجهلون عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل [12]. لأجل ذلك لم يكفروا ولم يأمر موسى -عليه السلام- بقتلهم أو استتابتهم من الردة، رغم أن قولهم وسؤالهم موسى أن يجعل لهم إلهاً مع الله كفر بواح لا شك فيه.
ونظير قولهم قول جهال المسلمين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط!! وتمام الحديث كما في صحيح سنن الترمذي وغيره، عن واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر، وكانوا أسلموا يوم فتح مكة، قال: فمررنا بشجرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال:" الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم ".
فرغم أن قولهم قول كفري وهو شبيه بقول بني إسرائيل {اجعل لنا إلهاً} إلا أنهم لم يكفروا بأعيانهم لجهلهم وحداثة عهدهم بالإسلام .
ومما يستفاد من الحديث أيضاً " أن من أراد أن يفعل الشرك جهلاً فنهي عن ذلك فانتهى لا يكفر "[13]، ومن نهي عنه فلم ينته رغم قيام الحجة عليه فإنه يكفر.
5- ومنها أيضاً، قصة الرجل الذي أسرف على نفسه، فأمر أهله عند الممات أن يسحقوه ويذروا نصفه في البر ونصفه في البحر،ظناً منه أن الله لن يقدر على جمعه وإعادته لو فعل به ذلك، وهذا كفر، لكن لجهله وخشيته من الله فقد عفى الله عنه.
قال ابن تيميه: والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره .. فغاية ما في هذا أنه كان رجلاً لم يكن عالماً بجميع ما يستحقه الله من صفات، وبتفصيل أنه القادر، وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك فلا يكون كافراً[14].
وقال ابن حزم: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله -عز وجل- يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله. وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى لئن قدر الله علي؛ إنما هو لئن ضيق الله علي، كما قال تعالى: {وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه}. وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن علي، وأيضاً فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله تعالى[15].
قلت هذا التأويل الباطل للحديث ـ الذي يشير إليه ابن حزم ـ يتبناه من لا يرى الجهل عذراً في الشريعة مطلقاً، ظناً منه أن ذلك يبطل الاستدلال بالحديث على مبدأ العذر بالجهل !
قال ابن القيم: وأما جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ عمله، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً[16].
فإن عرفت ـ من خلال ما تقدم من أقوال أهل العلم ـ أن المانع من كفر ذلك الرجل الذي أمر أبناءه بأن يحرّقوه .. كان الجهل والخشية .. فلك أن تعجب من كلام الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ عندما جعل المانع من كفر ذلك الرجل هو أنه لم يكن كفره الذي تلفظ به وأمر به أبناءه معقوداً أو مقصوداً في القلب، حيث قال كما في شريطه الكفر كفران:" هذا الرجل حينما ظهر منه أنه ينكر قدرة الله على جمعه، وعلى بعثه ثم على تعذيبه بناء على أنه لم يعمل خيراً قط، لما ظهر منه هذا، هذا كفر، إذاً ما جوابنا على قوله تعالى:{ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء}، وهذا كفره ومع ذلك قد غفره ؟ الجواب: أنه كفر لم يكن مقصوداً في القلب، لم يكن معقوداً في القلب .." ا- هـ.
قلت: ومرد هذا التفسير الخاطئ للشيخ هو فساد أصوله في الإيمان والوعد والوعيد .. كما بيناه ورددنا عليه في كتابنا " الانتصار لأهل التوحيد .."، وغيره من الأبحاث ذات العلاقة بالموضوع.
6- ومن الأدلة كذلك على العذر بالجهل، حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه- حيث قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي:" يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك "، فطرحته فلما انتهيت إليه وهو يقرأ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}، حتى فرغ منها، قلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال:" أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويُحلون ما حرم الله فتستحلونه "، قلت: بلى، قال:" فتلك عبادتهم "[17].
يُستفاد من الحديث الفوائد التالية:
1- أن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلماً مقراً بالشهادتين .. لأنه كان قبل ذلك مهدور الدم، وما عصم دمه إلا إسلامه.
2- أن عدياً كان قد تنصر، وكان حديث عهد بالكفر؛ أي أنه كان عاجزاً عن معرفة كل ما يدخل في التوحيد ومتطلباته من أيامه الأولى من لإسلامه؛ أي أنه كان معذوراً بالجهل ..
3- بسبب ما تقدم فقد وقع عدي -رضي الله عنه- بنوعين من الشرك الأكبر، كل واحد منهما يُخرج صاحبه من الملة لو اقتُرف من غير جهل بالنص الشرعي الذي يفيد التحريم، لكن عدياً لم يكفر بعينه لمانع الجهل المعتبر بالخطاب الشرعي:
أولهما: ارتداؤه الصليب .. وهذا شرك أكبر، لذا سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالوثن الذي يُعبد من دون الله -عز وجل- .. ومع ذلك فقد اكتفى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن قال لعدي:" اطرح هذا الوثن من عنقك "، من دون أن يحكم عليه بعينه أنه كافر أو قد كفر وارتد، وعليه أن يدخل الإسلام من جديد بتلفظ الشهادتين ..
ثانياً: أن عدياً كان يجهل أن طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم من دون سلطان من الله .. يدخل في معنى العبادة التي لا يجوز أن يُصرف منها شيء لغير الله تعالى، وأنه من الشرك الأكبر .. إلى أن بين له النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وعلمه أن طاعة الأحبار والرهبان، والتحاكم إليهم من دون الله تعالى في التحليل والتحريم هو عبادة لهم وشرك بالله تعالى .. ومن دون أن يحكم عليه بالكفر والارتداد، أو يُلزمه بضرورة تجديد إسلامه وإيمانه ..!
ونحو ذلك سجود الصحابي للنبي -صلى الله عليه وسلم- ظناً منه أن ذلك يجوز أن يُصرف للنبي -صلى الله عليه وسلم- .. لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاه عن ذلك واكتفى بتعليمه بأن السجود عبادة وهو لا يجوز أن يُصرف إلا لله -عز وجل- وحده .. ومن دون أن يحكم عليه بالكفر والارتداد!
وأيضاً عندما حلف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بأبيه، فنهاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وبين له أن من كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت[18].
فرغم أن الحلف بغير الله شرك، كما في الحديث:" من حلف بغير الله فقد أشرك "، إلا أن عمر -رضي الله عنه- لم يكن يعلم وقتها أن الحلف بغير الله تعالى من الشرك .. لأجل ذلك فقد عُذر.
وكذلك قول الصحابي للرسول -صلى الله عليه وسلم-: ما شاء الله وشئت ! فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده ".
فرغم أن المقولة كفر وشرك إلا أن الصحابي لجهله وعدم علمه أن هذه هذه المقولة تندرج تحت الشرك، كان بذلك معذوراً ولم يكفر بعينه.
وكذلك النفر من الصحابة – وعلى رأسهم قدامة بن مظعون – الذين تأولوا قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}المائدة:93.[19] فقالوا ليس علينا جناح لو شربنا الخمر؛ لأننا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات .. فشربوها واستحلوا شربها، وهذا كفر لاستحلالهم ما حرم الله تعالى، إلا أنهم لم يكفروا بأعيانهم قبل القيام الحجة عليهم، لوجود التأويل والجهل بسبب نزول الآية، وظنهم أن الآية يستفاد منها إباحة الخمر لمطلق من آمن وعمل الصالحات[20].
فهذه القصة ـ وجميع ما تقدم من أدلة ـ تصلح كدليل على العذر بالجهل المعجز الذي لا يمكن دفعه إلا ببلوغ الخطاب الشرعي.
قال ابن تيميه رحمه الله في الفتاوى 7/605: وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواترة تحريمها كالفواحش، والظلم، والكذب، والخمر، ونحو ذلك.
وأما من لم تقم عليه الحجة، مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك فإنهم يُستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ ٍٍِ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيه من التأويل ا- هـ.
وكذلك الصحابي الذي أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- خمراً، فهذا قطعاً كان يعتقد حلها ـ وهذا كفر ـ إلا أنه كان يجهل أن الله قد حرمها، لذلك عذره الرسول -صلى الله عليه وسلم- لجهله بالتحريم، وبين له حرمتها من دون يوبخه أو يكفره، بل اكتفى بتعليمه فقال له:" هل علمت أن الله -عز وجل- حرمها؟"[21].
7- ومن الأدلة أيضاً، قوله -صلى الله عليه وسلم- :" يَدْرِسُ الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله -عز وجل- في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها.
قال صلة بن زفر لحذيفة – وهو راوي الحديث – ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة تنجيهم من النار، ثلاثاً[22].
من فقه الحديث: الإعذار بالجهل، فلا إله إلا الله تنجيهم لأنهم جهال لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة، وهم يقولون لا إله إلا الله تقليداً وتبعاً لآبائهم .. لأنهم يعيشون في زمان رُفعت فيه الشريعة، واندرست فيه جميع تعاليم الإسلام، حتى شهادة أن محمداً رسول الله![23].
ومعلوم أن من كان هذا هو حاله، لو كان يعيش في مجتمع استفاضت فيه تعاليم الإسلام وسهل فيه طلب العلم لمن يريد، ومن اليسير عليه أن يعبد الله تعالى بما فرض عليه، وبالصورة الصحيحة المشروعة .. ثم هو مع ذلك لا يأتي بشهادة أن " لا إله إلا الله" إلا لفظاً وتقليداً للآباء، من دون أن يعي متطلباتها أو يأتي بشيء من فرائض الإسلام وواجباته .. فإن من كان هذا هو حاله ووصفه لا تنفعه لا إله إلا الله ولا تنجيه، لانعدام العذر؛ وهو الجهل المعجز وعدم التمكن من العلم.
لذا من الخطأ الشنيع الاستدلال بالحديث على الأزمنة والأمكنة التي استفاضت فيها العلوم الشرعية وسهل فيها طلب العلم لمن نشده وأراده .. كما هو حال أهل التجهم والإرجاء، ومن تأثر بمنهجهم الفاسد، ويُقال: من أتى بلا إله إلا الله لفظاً وتقليداً للآباء، فإنها تنفعه وتنجيه من النار، وإن لم يأت بشيء من أركان وواجبات الإسلام، ولا حتى بشيء من متطلبات التوحيد وشروطه ..!
ومن الاستدلالات الفاسدة للشيخ ناصر بهذا الحديث انتصاراً لمذهبه الفاسد في الإيمان، قوله في السلسلة 1/130: هذا وفي الحديث فائدة فقهية هامة، وهي أن شهادة أن لا إله إلا الله تنجي قائلها من الخلود من النار يوم القيامة ولو كان لا يقوم بشيءٍ من أركان الإسلام الخمسة الأخرى كالصلاة وغيرها .. فهذا نص من حذيفة -رضي الله عنه- على أن تارك الصلاة، ومثلها بقية الأركان ليس بكافر، بل هو مسلم ناج من الخلود في النار يوم القيامة، فاحفظ هذا فإنه قد لا تجده في غير هذا المكان!"ا- هـ.
قلت: تعميم العذر على كل زمان ومكان خطأ ظاهر وهو بخلاف ما يدل الحديث عليه من حصر العذر لأناس معينين لهم صفات معينة، وفي زمان معين اندرست فيه تعاليم الإسلام ..!
كما أن هذا التعميم في العذر ـ لكل أحد وفي كل زمان ومكان ـ لم يقل به سلف معتبر .. وقد صدق الشيخ لما قال:" احفظ هذا فإنه قد لا تجده في غير هذا المكان " لأنه قول محدث غريب لم يقل به السلف ولا عالم معتبر .. وهو بخلاف ما تدل عليه ألفاظ الحديث، ومهما قلبت صفحات كتب السلف الصالح وأقوالهم فإنك لن تجد هذا القول الذي قاله الشيخ ناصر .. لشذوذه وغرابته، وبعده عن دلالات نصوص وروح الشريعة!
وردنا على الشيخ هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ". وقوله -صلى الله عليه وسلم-:" وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ".
8- ومنها ـ أي من جملة الأدلة على العذر بالجهل ـ الحديث الذي يرويه الأسود بن سريع، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال:" أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة. فأما الأصم فيقول ربِّ لقد جاء الإسلام ولم أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، والصبيان يحذفونني بالبعر. وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام ولم أعقل شيئاً. وأما الذي مات في الفترة. فيقول: رب ما أتاني لك رسول.
فيأخذ مواثيقهم ليطيعنَّه، فيرسل إليهم: أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سحب إليها" [24].
فهؤلاء الأربعة جميعهم يحتجون بالجهل، وأنهم كانوا عاجزين عن تحصيل العلم أو الوقوف عليه .. وإن كان جهل كل واحد منهم له سببه المختلف عن الآخر، إلا أن صفة الجهل مشتركة فيما بينهم لعدم تمكنهم من طلب العلم وفهمه أو إدراكه.
لذلك فالله تعالى يقبل ـ كرماً وتفضلاً منه -سبحانه وتعالى- ـ عذرهم ـ وكيف لا وهو -سبحانه وتعالى- لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى ـ ويجري لهم اختباراً في عرصات يوم القيامة .. فمن كان في علم الله -عز وجل- أنه لو بلغته نذارة الرسل كان سيؤمن ويُتابع الرسل، ويعمل صالحاً، ييسر له أمره إلى النجاة، ومن ثم إلى الجنة. ومن كان في علم الله تعالى أنه لو بلغته نذارة الرسل كان سيقابلها بالرد والإعراض والجحود، ييسر له أمره إلى الهلاك والعذاب في نار جهنم .. وكل ميسر لما خلق له.
واعتراض البعض على صحة الحديث، لاعتبار أن دار الآخرة دار جزاء وحساب لا دار تكليف واختبار .. لا حجة لهم في ذلك.
وقد كفانا ابن القيم ـ رحمه الله ـ مؤنة الجواب، بعد أن ذكر الحديث وطرقه، فقال: فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً وتشهد لها أصول الشريعة وقواعدها، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة، نقله عنهم الأشعري رحمه الله في المقالات وغيرها. فإن قيل: قد أنكر ابن عبد البر هذه الأحاديث وقال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة ليست دار عمل ولا دار ابتلاء، وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها؟
فالجواب من وجوه: أحدها: أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها بل ولا أكثرهم وإن أنكرها بعضهم فقد صحح غيره بعضها كما تقدم.
والثاني: أن أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدل على أنهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث.
الثالث: أن إسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التي يحتج بها في الأحكام.
الرابع: أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف.
الخامس: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا إليها، أن الله -سبحانه وتعالى- يأخذ عهوده ومواثيقه أ ن لا يسأله غير الذي يعطيه، وأنه يخالفه ويسأله غيره، فيقول الله تعالى: " ما أغدرك ".
السادس: قوله: وليس ذلك في وسع المخلوقين. جوابه من وجهين: أحدهما، أن ذلك ليس تكليفاً بما ليس في الوسع، وإنما هو تكليف بما فيه مشقة شديدة وهو كتكليف بني إسرائيل قتل أولادهم وأزواجهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا الدجال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا في الذي يرونه ناراً. الثاني: إنهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرهم، وكانت برداً وسلاماً، فلم يكلفوا بممتنع ولا بما لم يُستطع.
السابع: إنه قد ثبت أنه -سبحانه وتعالى- يأمرهم في القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعاً .. كما جعل قطع الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف سبباً، كما قال: أبو سعيد الخدري: " بلغني أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف" رواه مسلم.
فركوب هذا الصراط الذي هو في غاية المشقة كالنار، ولهذا كلاهما يفضى منه إلى النجاة والله أعلم.
الثامن: إن هذا استبعاد مجرد لا ترد بمثله الأحاديث .. فإن قيل: فالآخرة دار جزاء وليست دار تكليف، يمتحنون في غير دار التكليف؟ فالجواب: إن التكليف إنما ينقطع بعد دخول القرار، وأما في البرزخ وعرصات يوم القيامة فلا ينقطع، وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ وهي تكليف، وأما في عرصة القيامة فقال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} . فهذا صريح في أن الله -عز وجل- يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف بما لا يطاق حينئذ حساً عقوبة لهم، لأنهم كلفوا به في الدنيا وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم كلفوا به وهم لا يقدرون عليه حسرة عليهم وعقوبة لهم [25] ا- هـ.
ثم إن الاختبار الذي يجرى للأربعة الذين جاء ذكرهم في الحديث الآنف الذكر، مناسب من حيث صعوبة التكليف لما يحصل لهم من الإيمان واليقين القوي ـ الذي لا يلامسه أدنى شك ـ نتيجة رؤيتهم عين اليقين للآيات الباهرات يوم القيامة.
ومن كان بهذا اليقين ليس من الصعب أو المستحيل عليه أن يختبر في دخول النار طاعة وامتثالاً لأمر الله.
بل في الدنيا حصل أن بعض الصحابة ـ وهم لم يروا شيئاً من أهوال وآيات يوم القيامة ـ هموا بأن يلقوا بأنفسهم في النار طاعة لأميرهم، لولا أن تداركتهم رحمة الله تعالى فامتنعوا، وعلموا أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن قصوا له ما حدث لهم:" لو دخلتموها لما خرجتم منها ".
فإذا كان مثل هذا يحصل في الدنيا .. وكاد الوقوع في النار أن يقع طاعة لأمر الأمير الذي هو عبد من عباد الله، فإنه لا يصح أن يُعتبر الاختبار ـ الذي يُجرى لذوي الأعذار الوارد ذكرهم في الحديث ـ يوم القيامة تكليفاً مستحيلاً، وغير ممكناً وهو فوق الطاقة .. مع العلم أن الآمر يومئذ هو الله -سبحانه وتعالى- المطاع لذاته -تبارك وتعالى-.
ـ خلاصة القول: بعد ذكر النصوص والأدلة الصحيحة الآنفة الذكر، ذات العلاقة بموضوع العذر بالجهل .. فقد ثبت لدينا بما لا يدع مجالاً للشك أو التساؤل، أن الجهل إذا توفرت دواعيه وأسبابه المعتبرة التي لا يمكن دفعها، فإنه يُعتبر في الشريعة الإسلامية عذراً يعذر صاحبه، ويُقيل عثرته، ويمنع عنه نزول العذاب والوعيد إلى أن تقوم عليه حجة الرسل، وتصله نذارتهم.
كما أن في الأدلة والشواهد الآنفة الذكر .. القدر الكافي لحسم شبهات المخالفين الذين لا يرون الجهل عذراً .. والحمد لله الذي تتم بفضله الطيببات الصالحات.
..........................................
[1] شرح العقيدة الطحاوية، ط المكتب الإسلامي، ص 271.
[2] قواعد الأحكام: 2/5.
[3] رفع الملام: ص114.
[4] 3/31.
[5] تفسير البغوي: 2/132.
[6] تفسير البغوي: 1/500.
[7] فتح القدير: 2/163.
[8] جامع البيان: 26/168.
[9] الفتاوى :11/406.
[10] جامع البيان:7/ 130-131.
[11] الفصل في الملل والهواء والنحل:3/253.
[12] تفسير ابن كثير: 2/ 253.
[13] تيسير العزيز الحميد، ص 185.
[14] الفتاوى:11/309-411.
[15] الفصل في الملل والأهواء والنحل: 3/252.
[16] مدارج السالكين: 1/339.
[17] عن تفسير البغوي: 3/285.
[18] تمام الحديث كما في الصحيحين: عن ابن عمر أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت".
[19] قال ابن تيمية في الفتاوى 11/403، في سبب نزول الآية: نزلت في سبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر – وكان تحريمها بعد وقعة أحد – قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر، فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم تحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين الصالحين ا- هـ.
[20] تمام القصة: عن علي -رضي الله عنه- قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر، وعليهم يومئذ يزيد بن أبي سفيان، وقالوا: هي حلال، وتأولوا {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} فكتب فيهم إلى عمر، فكتب عمر -رضي الله عنه- أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك، فلما قدموا على عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نرى أنهم كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، فاضرب أعناقهم، وعلي -رضي الله عنه- ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن فيهم؟ قال: أرى أن تستيبهم، فإن تابوا ضربتهم ثمانين لشربهم الخمر، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم، قد كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله. فاستتابهم فتابوا فضربهم ثمانين ثمانين.( إكفار الملحدين في ضروريات الدين – ص 95).
[21] تقدم تخريج الحديث.
[22] صحيح سنن ابن ماجة :3273.
[23] هذا ما يقتضيه ظاهر الحديث.
[24] رواه أحمد، وابن حبان، صحيح الجامع الصغير: 881 .
[25] طريق الهجرتين، ص 397-401.
يتبعّ بإذن الله
ـ مبدأ العذر بالجهل
:قبل أن نخوض في الحديث عن الجهل الذي يعذر والجهل الذي لا يعذر لا بد أولاً من أن نثبت مشروعية العذر بالجهل من حيث المبدأ، ونجيب على سؤال يقول : هل الجهل من الأعذار المعتبرة شرعاً؟
نقول: الحمد لله رب العالمين. فقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على اعتبار الجهل المعجز عذراً من الأعذار الشرعية التي يعذر بها المرء، وتقيل عثرته في حال وقوعه ـ بسببها ـ في الخطأ، سواء كان هذا الخطأ في المسائل الفرعية أو المسائل العملية أو كان في المسائل الأصولية العقدية .. لا فرق بين ذلك كله.
من هذه الأدلة:
1- أن التكليف الذي يحاسب عليه المرء ـ في الدنيا والآخرة ـ هو التكليف الموافق لحدود القدرة والاستطاعة، فما زاد عن حدود الاستطاعة والقدرة لا يُطالب بالإتيان به ولا يأثم على تركه، والعكس إذا حصل التقصير والإهمال فيما يستطيع المرء على إتيانه والقيام به، فهو حينئذٍ يأثم ويطاله الوعيد على تقصيره وتفريطه فيما يقدر عليه.
لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} البقرة:286. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن:16.
قال ابن كثير في تفسير قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} البقرة:286. أي لا يُكلَّف أحد فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ا- هـ .
وفي الحديث قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" متفق عليه.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: فإن الله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مه القدرة، وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه[1].
من هذه النصوص استخرجت القاعدة الفقيهة التي تقول:" الميسور لا يسقط بالمعسور ".
وقد صاغها العز بن عبد السلام بقوله: إن من كلف بشيء من الطاعات فقدر على بعضه وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما قدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه[2].
وعليه نقول: حيثما توجد الاستطاعة والمقدرة على التعلم وطلب العلم ودفع الجهل، يُرفع العذر بالجهل. وحيثما تعدم الاستطاعة والمقدرة على التعلم وطلب العلم الذي يندفع به الجهل، يوجد العذر بالجهل.
قال ابن تيميه: إن العذر لا يكون عذراً إلا مع العجز عن إزالته، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق، فقصر فيه، لم يكن معذوراً [3].
وهذه قاعدة يدور عليها رحى مبدأ العذر بالجهل .. وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بجميع موانع التكفير الأخرى، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
2- قضت حكمة الله عز وجل، أن لا يعذب أحداً إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليه؛ فمن كان خطؤه ناتجاً عن عدم بلوغ العلم إليه؛ لا العلم يصله ولا هو يستطيع أن يصل العلم؛ كالذي يكون حديث عهد في الإسلام، أو كالذي يسكن في منطقة نائية لا تتوفر فيها العلوم الشرعية كالبادية وغيرها، فهذا لو أخطأ فإنه معذور بخطئه إلى أن تقوم عليه الحجة الشرعية وتبلغه نذارة الرسل، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}الإسراء:15.
وقال تعالى:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} النساء:165.
وقال: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ . قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} الملك:8-9.
وقال تعالى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}الأنعام:130.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} طـه:134.
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :" لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين ".
قال ابن كثير في التفسير: إخبار عن عدله تعالى وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه .. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله -عز وجل- لا يدخل النار أحداً إلا بعد إرسال الرسول إليه [4]ا- هـ.
وقال البغوي: وذلك أن الله تعالى أجرى السنة أن لا يأخذ أحداً إلا بعد وجود الذنب، وإنما يكون مذنباً إذا أمر فلم يأتمر أو نهي فلم ينته، وذلك بعد إنذار الرسل [5]. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسول[6]ا- هـ.
وفي تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} الأنعام:131. قال الشوكاني: المعنى أن الله أرسل الرسل إلى عباده لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى، والحال أنهم غافلون عن الإعذار والإنذار بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم ، وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم [7].
قلت: إذا كان الله -سبحانه وتعالى- لا يعذب عباده في الحياة الدنيا ـ وهو العذاب الأدنى ـ إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. فمن باب أولى ـ كما دلت على ذلك نصوص عدة ـ أن لا يعذبهم العذاب الأكبر يوم القيامة إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. فيقابلونها بالرد والإعراض.
قال الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان 2/336-338: والآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز في الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} فإنه قال فيها: حتى نبعث رسولاً، ولم يقل حتى نخلق عقولاً، وننصب أدلة، ونركز فطرة.
ومن ذلك قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم هو إنذار الرسل، لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة.
ومن ذلك أنه تعالى صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل ولم يكتف في ذلك بنصب الأدلة، كقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} الملك: من الآية9.
وقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} الزمر:71.
ومعلوم أن لفظة "كلما " في قوله:{كلما ألقي فيها فوج} صيغة عموم، وأن لفظة " الذين " في قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}صيغة عموم أيضاً، لأن الموصول يعم كل ما تشمله صلته ا- هـ.
وقال رحمه الله 3/473:{وسيق الذين كفروا} عام لجميع الكفار، وقد تقرر في الأصول: أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم في كل ما تشمله صلاتها .. إلى أن قال: وهو ظاهر في أن جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا؛ فعصوا أمر ربهم كما هو واضح ا- هـ.
وفي قوله تعالى:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} قال كذلك رحمه الله ـ أي الشنقيطي ـ: هذه الآية تدل على أن الله تعالى لا يعذب بالنار أحداً إلا بعد أن ينذره في الدنيا ..
ومعلوم أن قوله جل وعلا:{كلما ألقي فيها فوج} يعم جميع الأفواج الملقين في النار.
قال أبو حيان في " البحر المحيط " في تفسير هذه الآية التي نحن في صددها ما نصه: و" كلما " تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين ا- هـ.
قلت: والمراد بالعموم هنا؛ أي جميع من يدخلون النار ـ من أهل الكفر ـ ومن دون استثناء فإنهم يقرون ويعترفون أن نذارة الرسل قد بلغتهم فقابلوها بالرد والإعراض، والجحود .. وأنهم ما دخلوا النار إلا بعد بلوغ نذارة الرسل إليهم .. ومما يدل على ذلك قوله تعالى:{وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا} أي جميع وعموم الذين اتقوا ربهم من دون استثناء .. وهي نفس صيغة العموم الواردة في قوله تعالى:{وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا} فكما لا يجوز أن نقول أن المراد من قوله {وسيق الذين اتقوا ..} بعض أو غالب الذين اتقوا وليس كل الذين اتقوا، كذلك لا يجوز أن نقول أن المراد من قوله تعالى {وسيق الذين كفروا ..} بعض أو غالب الذين كفروا؛ لتطابق الآيتين واللفظين من حيث صيغة العموم العامة والشاملة لجميع الذين اتقوا وجميع الذين كفروا.
قال الألوسي في التفسير: واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل الشرع لأنهم وبخوهم بكفرهم بعد تبليغ الرسل للشرائع وإنذارهم .. وقيل وجه الاستدلال: إن الخطاب للداخلين عموماً يقتضي أنهم جميعاً أنذرهم الرسل، ولو تحقق تكليف قبل الشرع لم يكن الأمر كذلك ا- هـ.
وكذلك قوله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} قّ:28. أي قدمت إليكم بالوعيد والنذر عن طريق رسلي الذين أرسلتهم إليكم .. قبل أن تقفوا هذا الموقف العصيب الأليم، وتختصموا فيه .. وبالتالي فإن اختصامكم وتلاومكم الآن ـ وبعد أن فات الأوان ـ لا ينفعكم في شيء.
قال ابن جرير:{وقد قدمت إليكم} في الدنيا قبل اختصامكم هذا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني وخالف أمري ونهيي، في كتبي وعلى ألسن رسلي.
قال ابن عباس: إنهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجتهم، ورد عليهم قولهم [8].
وقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}غافر:49-50.
قوله تعالى:{وقال الذين في النار ..} هي أيضاً من صيغ العموم التي تفيد الاستغراق والعموم التي تعم جميع الذين في النار؛ أي قال جميع الذين في النار ومن دون استثناء {بلى} قد جاءتنا رسلنا بالبينات والنذر والآيات..!
قال الألوسي في التفسير:{وقال الذين في النار} من الضعفاء والمستكبرين جميعاً لما ضاقت بهم الحيل، وعيت بهم العلل .. ا- هـ.
وكذلك قوله تعالى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}الأنعام:130.
قوله تعالى:{وقالوا شهدنا على أنفسنا} أي شهدوا على أنفسهم أن حجة الرسل قد بلغتهم .. وهذا خطاب موجه لجميع الإنس والجن يفيد كذلك العموم لا الغالب؛ لأن الجمع المعرف بأل يفيد العموم والاستغراق؛ أي جميع الجن والإنس يعترفون ويقرون بأن نذارة الرسل قد بلغتهم.
قال ابن كثير في التفسير:{شهدنا على أنفسنا}أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة ا- هـ.
قال ابن تيميه: من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يُعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}.
ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية ..
والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية أ ن الخطاب لا يثبت في حق أحد قبل التمكن من سماعه، وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما بعث الله به رسوله ولا يكونه هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر ولهذا اتفق الأئمة على أنه من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره، حتى يعرف ما جاء به الرسول[9].
وقال ابن حزم في الأحكام 5/104-114: وأما شرائع الأبدان والاعتقاد فإنها تجب بوجهين: أحدهما البلوغ مبلغ الرجال والنساء، وهو البلوغ المخرج عن حد الصبا، والثاني بلوغ الشريعة إلى المرء.
وأما الحدود فإنها تلزم من عرف أن الذي فعل حرام، وسواء علم أن فيه حداً أم لا، وهذا لا خلاف فيه. وأما من لم يعرف أن ما عمل حرام فلا حد عليه فيه، وبرهان ذلك قوله تعالى:{ْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ}الأنعام:19.
فإنما جعل الله تعالى وجوب الحجة ببلوغ النذارة إلى المرء، وقال تعالى: {وأعرض عن الجاهلين}. فأمر أن يهدر فعل الجاهل، إلى أن قال: أما من لم يبلغه ذكره -صلى الله عليه وسلم-، فإن كان موحداً فهو مؤمن على الفطرة الأولى صحيح الإيمان لا عذاب عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنة، وإن كان غير موحد فهو من الذين جاء النص بأنه يوقد له يوم القيامة نار، فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دخلها نجا، ومن أبى هلك. قال الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}الإسراء:15. فصح أنه لا عذاب على كافر أصلاً حتى تبلغه نذارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ا- هـ.
3- ومن الأدلة الدالة على العذر بالجهل أيضاً، خطاً الحواريين – في أول عهدهم – وجهلهم بصفة ربهم أنه تعالىعلى كل شيء قدير، وكذلك شكهم بمصداقية نبوة عيسى عليه -عليه السلام-، كما أخبر الله تعالى عن قولهم : {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} المائدة:113.
قال ابن جرير: في قوله تعالى: {قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين}، قال عيسى للحوارين: راقبوا الله أيها القوم، وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شكهم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء كفر به، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته إن كنتم مؤمنين، يقول: إن كنتم مصدقي على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم {هل يستطيع ربك} .
وفي قوله : {ونعلم أن قد صدقتنا}، قال: فقد أنبأ هذا عن قولهم أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوته، فلا بيان أبين من هذا الكلام في أن القوم كانوا قد خالط قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختباراً [10].
وقال ابن حزم: فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله -عز وجل- عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى -عليه السلام- هل يستطيع ربك أن يُنزل علينا مائدة من السماء ؟!
ولم يبطل بذلك إيمانهم وهذا مالا مخلص منه وإنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة وتبيُّنهم لها [11] .
فرغم أن الشك في أن الله -عز وجل- على كل شيء قدير هو كفر، وكذلك الشك بمصداقية نبي الله، إلا أن الحوارين لم يكفروا وعذروا بالجهل لحداثة عهدهم بالإسلام وبنبيهم عيسى -عليه السلام-.
4- وكذلك الذين قالوا ـ من بني إسرائيل ـ لموسى -عليه السلام-: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}الأعراف:138. أي تجهلون عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل [12]. لأجل ذلك لم يكفروا ولم يأمر موسى -عليه السلام- بقتلهم أو استتابتهم من الردة، رغم أن قولهم وسؤالهم موسى أن يجعل لهم إلهاً مع الله كفر بواح لا شك فيه.
ونظير قولهم قول جهال المسلمين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط!! وتمام الحديث كما في صحيح سنن الترمذي وغيره، عن واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر، وكانوا أسلموا يوم فتح مكة، قال: فمررنا بشجرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال:" الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم ".
فرغم أن قولهم قول كفري وهو شبيه بقول بني إسرائيل {اجعل لنا إلهاً} إلا أنهم لم يكفروا بأعيانهم لجهلهم وحداثة عهدهم بالإسلام .
ومما يستفاد من الحديث أيضاً " أن من أراد أن يفعل الشرك جهلاً فنهي عن ذلك فانتهى لا يكفر "[13]، ومن نهي عنه فلم ينته رغم قيام الحجة عليه فإنه يكفر.
5- ومنها أيضاً، قصة الرجل الذي أسرف على نفسه، فأمر أهله عند الممات أن يسحقوه ويذروا نصفه في البر ونصفه في البحر،ظناً منه أن الله لن يقدر على جمعه وإعادته لو فعل به ذلك، وهذا كفر، لكن لجهله وخشيته من الله فقد عفى الله عنه.
قال ابن تيميه: والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره .. فغاية ما في هذا أنه كان رجلاً لم يكن عالماً بجميع ما يستحقه الله من صفات، وبتفصيل أنه القادر، وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك فلا يكون كافراً[14].
وقال ابن حزم: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله -عز وجل- يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله. وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى لئن قدر الله علي؛ إنما هو لئن ضيق الله علي، كما قال تعالى: {وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه}. وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن علي، وأيضاً فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى، ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله تعالى[15].
قلت هذا التأويل الباطل للحديث ـ الذي يشير إليه ابن حزم ـ يتبناه من لا يرى الجهل عذراً في الشريعة مطلقاً، ظناً منه أن ذلك يبطل الاستدلال بالحديث على مبدأ العذر بالجهل !
قال ابن القيم: وأما جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ عمله، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً[16].
فإن عرفت ـ من خلال ما تقدم من أقوال أهل العلم ـ أن المانع من كفر ذلك الرجل الذي أمر أبناءه بأن يحرّقوه .. كان الجهل والخشية .. فلك أن تعجب من كلام الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ عندما جعل المانع من كفر ذلك الرجل هو أنه لم يكن كفره الذي تلفظ به وأمر به أبناءه معقوداً أو مقصوداً في القلب، حيث قال كما في شريطه الكفر كفران:" هذا الرجل حينما ظهر منه أنه ينكر قدرة الله على جمعه، وعلى بعثه ثم على تعذيبه بناء على أنه لم يعمل خيراً قط، لما ظهر منه هذا، هذا كفر، إذاً ما جوابنا على قوله تعالى:{ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء}، وهذا كفره ومع ذلك قد غفره ؟ الجواب: أنه كفر لم يكن مقصوداً في القلب، لم يكن معقوداً في القلب .." ا- هـ.
قلت: ومرد هذا التفسير الخاطئ للشيخ هو فساد أصوله في الإيمان والوعد والوعيد .. كما بيناه ورددنا عليه في كتابنا " الانتصار لأهل التوحيد .."، وغيره من الأبحاث ذات العلاقة بالموضوع.
6- ومن الأدلة كذلك على العذر بالجهل، حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه- حيث قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي:" يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك "، فطرحته فلما انتهيت إليه وهو يقرأ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}، حتى فرغ منها، قلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال:" أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويُحلون ما حرم الله فتستحلونه "، قلت: بلى، قال:" فتلك عبادتهم "[17].
يُستفاد من الحديث الفوائد التالية:
1- أن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلماً مقراً بالشهادتين .. لأنه كان قبل ذلك مهدور الدم، وما عصم دمه إلا إسلامه.
2- أن عدياً كان قد تنصر، وكان حديث عهد بالكفر؛ أي أنه كان عاجزاً عن معرفة كل ما يدخل في التوحيد ومتطلباته من أيامه الأولى من لإسلامه؛ أي أنه كان معذوراً بالجهل ..
3- بسبب ما تقدم فقد وقع عدي -رضي الله عنه- بنوعين من الشرك الأكبر، كل واحد منهما يُخرج صاحبه من الملة لو اقتُرف من غير جهل بالنص الشرعي الذي يفيد التحريم، لكن عدياً لم يكفر بعينه لمانع الجهل المعتبر بالخطاب الشرعي:
أولهما: ارتداؤه الصليب .. وهذا شرك أكبر، لذا سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالوثن الذي يُعبد من دون الله -عز وجل- .. ومع ذلك فقد اكتفى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن قال لعدي:" اطرح هذا الوثن من عنقك "، من دون أن يحكم عليه بعينه أنه كافر أو قد كفر وارتد، وعليه أن يدخل الإسلام من جديد بتلفظ الشهادتين ..
ثانياً: أن عدياً كان يجهل أن طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم من دون سلطان من الله .. يدخل في معنى العبادة التي لا يجوز أن يُصرف منها شيء لغير الله تعالى، وأنه من الشرك الأكبر .. إلى أن بين له النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وعلمه أن طاعة الأحبار والرهبان، والتحاكم إليهم من دون الله تعالى في التحليل والتحريم هو عبادة لهم وشرك بالله تعالى .. ومن دون أن يحكم عليه بالكفر والارتداد، أو يُلزمه بضرورة تجديد إسلامه وإيمانه ..!
ونحو ذلك سجود الصحابي للنبي -صلى الله عليه وسلم- ظناً منه أن ذلك يجوز أن يُصرف للنبي -صلى الله عليه وسلم- .. لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاه عن ذلك واكتفى بتعليمه بأن السجود عبادة وهو لا يجوز أن يُصرف إلا لله -عز وجل- وحده .. ومن دون أن يحكم عليه بالكفر والارتداد!
وأيضاً عندما حلف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بأبيه، فنهاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وبين له أن من كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت[18].
فرغم أن الحلف بغير الله شرك، كما في الحديث:" من حلف بغير الله فقد أشرك "، إلا أن عمر -رضي الله عنه- لم يكن يعلم وقتها أن الحلف بغير الله تعالى من الشرك .. لأجل ذلك فقد عُذر.
وكذلك قول الصحابي للرسول -صلى الله عليه وسلم-: ما شاء الله وشئت ! فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده ".
فرغم أن المقولة كفر وشرك إلا أن الصحابي لجهله وعدم علمه أن هذه هذه المقولة تندرج تحت الشرك، كان بذلك معذوراً ولم يكفر بعينه.
وكذلك النفر من الصحابة – وعلى رأسهم قدامة بن مظعون – الذين تأولوا قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}المائدة:93.[19] فقالوا ليس علينا جناح لو شربنا الخمر؛ لأننا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات .. فشربوها واستحلوا شربها، وهذا كفر لاستحلالهم ما حرم الله تعالى، إلا أنهم لم يكفروا بأعيانهم قبل القيام الحجة عليهم، لوجود التأويل والجهل بسبب نزول الآية، وظنهم أن الآية يستفاد منها إباحة الخمر لمطلق من آمن وعمل الصالحات[20].
فهذه القصة ـ وجميع ما تقدم من أدلة ـ تصلح كدليل على العذر بالجهل المعجز الذي لا يمكن دفعه إلا ببلوغ الخطاب الشرعي.
قال ابن تيميه رحمه الله في الفتاوى 7/605: وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواترة تحريمها كالفواحش، والظلم، والكذب، والخمر، ونحو ذلك.
وأما من لم تقم عليه الحجة، مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك فإنهم يُستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ ٍٍِ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيه من التأويل ا- هـ.
وكذلك الصحابي الذي أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- خمراً، فهذا قطعاً كان يعتقد حلها ـ وهذا كفر ـ إلا أنه كان يجهل أن الله قد حرمها، لذلك عذره الرسول -صلى الله عليه وسلم- لجهله بالتحريم، وبين له حرمتها من دون يوبخه أو يكفره، بل اكتفى بتعليمه فقال له:" هل علمت أن الله -عز وجل- حرمها؟"[21].
7- ومن الأدلة أيضاً، قوله -صلى الله عليه وسلم- :" يَدْرِسُ الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله -عز وجل- في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها.
قال صلة بن زفر لحذيفة – وهو راوي الحديث – ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة تنجيهم من النار، ثلاثاً[22].
من فقه الحديث: الإعذار بالجهل، فلا إله إلا الله تنجيهم لأنهم جهال لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة، وهم يقولون لا إله إلا الله تقليداً وتبعاً لآبائهم .. لأنهم يعيشون في زمان رُفعت فيه الشريعة، واندرست فيه جميع تعاليم الإسلام، حتى شهادة أن محمداً رسول الله![23].
ومعلوم أن من كان هذا هو حاله، لو كان يعيش في مجتمع استفاضت فيه تعاليم الإسلام وسهل فيه طلب العلم لمن يريد، ومن اليسير عليه أن يعبد الله تعالى بما فرض عليه، وبالصورة الصحيحة المشروعة .. ثم هو مع ذلك لا يأتي بشهادة أن " لا إله إلا الله" إلا لفظاً وتقليداً للآباء، من دون أن يعي متطلباتها أو يأتي بشيء من فرائض الإسلام وواجباته .. فإن من كان هذا هو حاله ووصفه لا تنفعه لا إله إلا الله ولا تنجيه، لانعدام العذر؛ وهو الجهل المعجز وعدم التمكن من العلم.
لذا من الخطأ الشنيع الاستدلال بالحديث على الأزمنة والأمكنة التي استفاضت فيها العلوم الشرعية وسهل فيها طلب العلم لمن نشده وأراده .. كما هو حال أهل التجهم والإرجاء، ومن تأثر بمنهجهم الفاسد، ويُقال: من أتى بلا إله إلا الله لفظاً وتقليداً للآباء، فإنها تنفعه وتنجيه من النار، وإن لم يأت بشيء من أركان وواجبات الإسلام، ولا حتى بشيء من متطلبات التوحيد وشروطه ..!
ومن الاستدلالات الفاسدة للشيخ ناصر بهذا الحديث انتصاراً لمذهبه الفاسد في الإيمان، قوله في السلسلة 1/130: هذا وفي الحديث فائدة فقهية هامة، وهي أن شهادة أن لا إله إلا الله تنجي قائلها من الخلود من النار يوم القيامة ولو كان لا يقوم بشيءٍ من أركان الإسلام الخمسة الأخرى كالصلاة وغيرها .. فهذا نص من حذيفة -رضي الله عنه- على أن تارك الصلاة، ومثلها بقية الأركان ليس بكافر، بل هو مسلم ناج من الخلود في النار يوم القيامة، فاحفظ هذا فإنه قد لا تجده في غير هذا المكان!"ا- هـ.
قلت: تعميم العذر على كل زمان ومكان خطأ ظاهر وهو بخلاف ما يدل الحديث عليه من حصر العذر لأناس معينين لهم صفات معينة، وفي زمان معين اندرست فيه تعاليم الإسلام ..!
كما أن هذا التعميم في العذر ـ لكل أحد وفي كل زمان ومكان ـ لم يقل به سلف معتبر .. وقد صدق الشيخ لما قال:" احفظ هذا فإنه قد لا تجده في غير هذا المكان " لأنه قول محدث غريب لم يقل به السلف ولا عالم معتبر .. وهو بخلاف ما تدل عليه ألفاظ الحديث، ومهما قلبت صفحات كتب السلف الصالح وأقوالهم فإنك لن تجد هذا القول الذي قاله الشيخ ناصر .. لشذوذه وغرابته، وبعده عن دلالات نصوص وروح الشريعة!
وردنا على الشيخ هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ". وقوله -صلى الله عليه وسلم-:" وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ".
8- ومنها ـ أي من جملة الأدلة على العذر بالجهل ـ الحديث الذي يرويه الأسود بن سريع، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال:" أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة. فأما الأصم فيقول ربِّ لقد جاء الإسلام ولم أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، والصبيان يحذفونني بالبعر. وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام ولم أعقل شيئاً. وأما الذي مات في الفترة. فيقول: رب ما أتاني لك رسول.
فيأخذ مواثيقهم ليطيعنَّه، فيرسل إليهم: أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سحب إليها" [24].
فهؤلاء الأربعة جميعهم يحتجون بالجهل، وأنهم كانوا عاجزين عن تحصيل العلم أو الوقوف عليه .. وإن كان جهل كل واحد منهم له سببه المختلف عن الآخر، إلا أن صفة الجهل مشتركة فيما بينهم لعدم تمكنهم من طلب العلم وفهمه أو إدراكه.
لذلك فالله تعالى يقبل ـ كرماً وتفضلاً منه -سبحانه وتعالى- ـ عذرهم ـ وكيف لا وهو -سبحانه وتعالى- لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى ـ ويجري لهم اختباراً في عرصات يوم القيامة .. فمن كان في علم الله -عز وجل- أنه لو بلغته نذارة الرسل كان سيؤمن ويُتابع الرسل، ويعمل صالحاً، ييسر له أمره إلى النجاة، ومن ثم إلى الجنة. ومن كان في علم الله تعالى أنه لو بلغته نذارة الرسل كان سيقابلها بالرد والإعراض والجحود، ييسر له أمره إلى الهلاك والعذاب في نار جهنم .. وكل ميسر لما خلق له.
واعتراض البعض على صحة الحديث، لاعتبار أن دار الآخرة دار جزاء وحساب لا دار تكليف واختبار .. لا حجة لهم في ذلك.
وقد كفانا ابن القيم ـ رحمه الله ـ مؤنة الجواب، بعد أن ذكر الحديث وطرقه، فقال: فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً وتشهد لها أصول الشريعة وقواعدها، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة، نقله عنهم الأشعري رحمه الله في المقالات وغيرها. فإن قيل: قد أنكر ابن عبد البر هذه الأحاديث وقال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة ليست دار عمل ولا دار ابتلاء، وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها؟
فالجواب من وجوه: أحدها: أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها بل ولا أكثرهم وإن أنكرها بعضهم فقد صحح غيره بعضها كما تقدم.
والثاني: أن أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدل على أنهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث.
الثالث: أن إسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التي يحتج بها في الأحكام.
الرابع: أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف.
الخامس: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا إليها، أن الله -سبحانه وتعالى- يأخذ عهوده ومواثيقه أ ن لا يسأله غير الذي يعطيه، وأنه يخالفه ويسأله غيره، فيقول الله تعالى: " ما أغدرك ".
السادس: قوله: وليس ذلك في وسع المخلوقين. جوابه من وجهين: أحدهما، أن ذلك ليس تكليفاً بما ليس في الوسع، وإنما هو تكليف بما فيه مشقة شديدة وهو كتكليف بني إسرائيل قتل أولادهم وأزواجهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا الدجال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا في الذي يرونه ناراً. الثاني: إنهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرهم، وكانت برداً وسلاماً، فلم يكلفوا بممتنع ولا بما لم يُستطع.
السابع: إنه قد ثبت أنه -سبحانه وتعالى- يأمرهم في القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعاً .. كما جعل قطع الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف سبباً، كما قال: أبو سعيد الخدري: " بلغني أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف" رواه مسلم.
فركوب هذا الصراط الذي هو في غاية المشقة كالنار، ولهذا كلاهما يفضى منه إلى النجاة والله أعلم.
الثامن: إن هذا استبعاد مجرد لا ترد بمثله الأحاديث .. فإن قيل: فالآخرة دار جزاء وليست دار تكليف، يمتحنون في غير دار التكليف؟ فالجواب: إن التكليف إنما ينقطع بعد دخول القرار، وأما في البرزخ وعرصات يوم القيامة فلا ينقطع، وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ وهي تكليف، وأما في عرصة القيامة فقال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} . فهذا صريح في أن الله -عز وجل- يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف بما لا يطاق حينئذ حساً عقوبة لهم، لأنهم كلفوا به في الدنيا وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم كلفوا به وهم لا يقدرون عليه حسرة عليهم وعقوبة لهم [25] ا- هـ.
ثم إن الاختبار الذي يجرى للأربعة الذين جاء ذكرهم في الحديث الآنف الذكر، مناسب من حيث صعوبة التكليف لما يحصل لهم من الإيمان واليقين القوي ـ الذي لا يلامسه أدنى شك ـ نتيجة رؤيتهم عين اليقين للآيات الباهرات يوم القيامة.
ومن كان بهذا اليقين ليس من الصعب أو المستحيل عليه أن يختبر في دخول النار طاعة وامتثالاً لأمر الله.
بل في الدنيا حصل أن بعض الصحابة ـ وهم لم يروا شيئاً من أهوال وآيات يوم القيامة ـ هموا بأن يلقوا بأنفسهم في النار طاعة لأميرهم، لولا أن تداركتهم رحمة الله تعالى فامتنعوا، وعلموا أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن قصوا له ما حدث لهم:" لو دخلتموها لما خرجتم منها ".
فإذا كان مثل هذا يحصل في الدنيا .. وكاد الوقوع في النار أن يقع طاعة لأمر الأمير الذي هو عبد من عباد الله، فإنه لا يصح أن يُعتبر الاختبار ـ الذي يُجرى لذوي الأعذار الوارد ذكرهم في الحديث ـ يوم القيامة تكليفاً مستحيلاً، وغير ممكناً وهو فوق الطاقة .. مع العلم أن الآمر يومئذ هو الله -سبحانه وتعالى- المطاع لذاته -تبارك وتعالى-.
ـ خلاصة القول: بعد ذكر النصوص والأدلة الصحيحة الآنفة الذكر، ذات العلاقة بموضوع العذر بالجهل .. فقد ثبت لدينا بما لا يدع مجالاً للشك أو التساؤل، أن الجهل إذا توفرت دواعيه وأسبابه المعتبرة التي لا يمكن دفعها، فإنه يُعتبر في الشريعة الإسلامية عذراً يعذر صاحبه، ويُقيل عثرته، ويمنع عنه نزول العذاب والوعيد إلى أن تقوم عليه حجة الرسل، وتصله نذارتهم.
كما أن في الأدلة والشواهد الآنفة الذكر .. القدر الكافي لحسم شبهات المخالفين الذين لا يرون الجهل عذراً .. والحمد لله الذي تتم بفضله الطيببات الصالحات.
..........................................
[1] شرح العقيدة الطحاوية، ط المكتب الإسلامي، ص 271.
[2] قواعد الأحكام: 2/5.
[3] رفع الملام: ص114.
[4] 3/31.
[5] تفسير البغوي: 2/132.
[6] تفسير البغوي: 1/500.
[7] فتح القدير: 2/163.
[8] جامع البيان: 26/168.
[9] الفتاوى :11/406.
[10] جامع البيان:7/ 130-131.
[11] الفصل في الملل والهواء والنحل:3/253.
[12] تفسير ابن كثير: 2/ 253.
[13] تيسير العزيز الحميد، ص 185.
[14] الفتاوى:11/309-411.
[15] الفصل في الملل والأهواء والنحل: 3/252.
[16] مدارج السالكين: 1/339.
[17] عن تفسير البغوي: 3/285.
[18] تمام الحديث كما في الصحيحين: عن ابن عمر أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت".
[19] قال ابن تيمية في الفتاوى 11/403، في سبب نزول الآية: نزلت في سبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر – وكان تحريمها بعد وقعة أحد – قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر، فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم تحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين الصالحين ا- هـ.
[20] تمام القصة: عن علي -رضي الله عنه- قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر، وعليهم يومئذ يزيد بن أبي سفيان، وقالوا: هي حلال، وتأولوا {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} فكتب فيهم إلى عمر، فكتب عمر -رضي الله عنه- أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك، فلما قدموا على عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نرى أنهم كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، فاضرب أعناقهم، وعلي -رضي الله عنه- ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن فيهم؟ قال: أرى أن تستيبهم، فإن تابوا ضربتهم ثمانين لشربهم الخمر، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم، قد كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله. فاستتابهم فتابوا فضربهم ثمانين ثمانين.( إكفار الملحدين في ضروريات الدين – ص 95).
[21] تقدم تخريج الحديث.
[22] صحيح سنن ابن ماجة :3273.
[23] هذا ما يقتضيه ظاهر الحديث.
[24] رواه أحمد، وابن حبان، صحيح الجامع الصغير: 881 .
[25] طريق الهجرتين، ص 397-401.
يتبعّ بإذن الله