النمرالغامض
12 Nov 2009, 07:33 PM
في هذه الـليلة...!!
في هذه الليلة المباركة: حضرت جنازة - رحم الله صاحبها، ورزق أهله الصبر والثواب، وغفر لنا وتجاوز عنا -، فنطق قلمي فقال:
أخي! هل وقفت يوماً على قبر؟
إن لم تكن وقفت فقف لتعلم حقيقة الدنيا التي تحيا فيها.
إن منظر القبر يزرع فيك معنى أنت غافل عنه.
إنه يلفك بكفن أبيض هو كفن الموتى، ويخرجك من جميع آمالك الدنيوية، ويقطع بينك وبين ملذاتك.
وكلما تأملت حال القبر، وحال من فيه، وحالك إذا صرت إليه، ماتت فيك كل شهوة محرمة، وتلاشت من نفسك كل خواطر السوء، وفرغت من كل باطل كما يفرغ كل من أيقن أنه ليس بينه وبين الموت إلا ساعة.
إن اليوم الذي تقف فيه على القبر يوم يمتد فيه الموت ويكبر، وتنكمش الحياة فيه وتصغر، يوم تحتقر فيه كل شيء يكون سبباً في أكل الدود والتراب جسمك الطري، ووجهك الجميل، يوم ترى الدنيا فيه على قدر جيفة حيوان بالعراء، نجسة شوهاء، لا تطاق على النظر، ولا على الشم، ولا على اللمس.
أنت تسعى وتلهو، وتنام وتصحو، وتجري وتعصي، وتنسى أن القبر يستعد يوماً بعد يوم لاستقبالك، وجوانبه تتهيأ لضمك.
هذا اليوم يقترب سريعاً أو بطيئاً لا فرق لأنه آت، وكلما مر يوم صرت أقرب إليه من الأمس، قال - سبحانه -: {كل نفس ذائقة الموت}.
فبعض القبور تزدان لأصحابها بالروح والريحان، والحسن والجنان، وتكون أوسع ما تكون، وبعضها تتقبح لأصحابها بالحر والعذاب والنيران، وتكون أضيق ما تكون، فإن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، فأما المؤمن فإنه يفتح له باب إلى الجنة من قبره، ويرى مقعده فيها، ويفسح له في قبره مد البصر، وأما الكافر فيفتح له باب إلى النار من قبره، ويرى مقعده فيها، ويضيق عليه.
إن القبر ينقلك من الدنيا إلى الآخرة، يذكرك أن الدنيا دارُ ممر لا دارُ مقر، وأن البرزخ ما بينك وبين الآخرة هي هذه الحفرة الخالية من كل أسباب الزينة والمتاع، الموحش، المظلم، المخيف، المحزن، المبكي.. قال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولاتقولوا هجراً)[الحاكم، صحيح الجامع رقم 4584].
فبعده تأتي القيامة بما فيها من أهوال وكرب، ثم بعدها جنة أو نار.
فالقبر أول منازل الآخرة..
كان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إذا وقف على القبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: " تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟"، قال:" إن رسول الله قال: (إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجى منه أحد فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعد أشد منه)"[ابن ماجة، التذكرة ص98].
وكان عثمان - رضي الله عنه - يقول: فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة و إلا فإني لا أخالك ناجياً [التذكرة ص98].
وللقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجى منها سعد بن معاذ (الطبراني صحيح الجامع 5306).
وما من منظر قط إلا والقبر أفظع منه (الترمذي صحيح الجامع 5633)
قال أبو نعيم: " كان سفيان الثوري إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياماً، وكان إذا سئل عن شيء قال: لا أدري، لا أدري" (التذكرة للقرطبي ص10).
أخي! ألا تعجب من غفلة من حولك؟
الناس يمرون على القبور ولا يلتفتون إلى عظاتها، ويرون كل يوم محمولاً صلوا عليه ثم واروه في قبره، يدخلون معه إلى قبره، يذرفون الدمع لفراقه، يخلعون شهواتهم وآمالهم عند باب القبر كما يخلعون نعالهم، ثم إذا خرجوا من ساحته بعد دفن ميتهم والترحم عليه عادوا فلبسوا نعالهم، ولبسوا معها شهواتهم وآمالهم ومعاصيهم ناسين تلك الذكرى العظيمة الكبرى!، فما أن تخطوا أقدامهم خارج سور المقبرة حتى تعض نفوسهم على دنياهم كما تعض أقدامهم على نعالهم!.
إن الناس يزينون أنفسهم في الدنيا بشتى الزينة، فإذا أخذوا إلى القبور تقللوا من المظاهر، ورضوا بالمعاني، وقليل من الملابس، وزهدوا في جميله وثمينه، لا فرق بين ملك ولا مملوك، ولسانهم: الحي أولى من الميت.
أخي! هل تدري متى ستوارى في قبرك، وتسكن جنبات منزلك الذي لم تتكلف في شرائه أو تزيينه؟.
تعلّم أنه ليس لذلك زمن معلوم، ولا سن معلوم، ولا مرض معلوم، فأنت بين الحين والآخر في انتظار أن يُرسَل إليك الداعي ليقلبك إلى برزخك، ويخرجك من بيتك ومخدعك.
قيل إن أول من قَبَر هو قابيل لما دفن أخاه هابيل بعدما قتله، وقعد عند رأسه يبكي، إذ أقبل غرابان يقتتلان، فقتل أحدهما الآخر، ثم حفر له حفرة فدفنه فيها، ففعل مثله، وقيل إن الغراب هو الذي بحث التراب على هابيل ليدفنه، فندم حيث رأى إكرام الله لأخيه، ولم يكن ندم توبة (التذكرة ص99)، ومنذ ذلك اليوم وإلى اليوم والقبور في زيادة.
القبر يُبكي عيون الأحرار، القبر يفرق الجماعات، ويقطع الأمنيات، ويقرّح القلوب، ومن مات انتقل إليه، فيومه يوم مصرع الفتى، ينتقل من سعة بيته إلى ضيق لحده، بعد أن يتخلى عنه الصديق والأخ والوالدين والأبناء، وكربات الموت عسيرة صعبة على المحتضر، وإنما لا يفر ولا يصيح لأن الكرب قد بالغ فيه، فإذا بدأ الملك ينزع روحه تبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ثم بطنه، ثم صدره، ثم تبلغ به الحلقوم.. فحينذاك ينقطع نظره إلى الدنيا وأهله، ويغلق دونه باب التوبة.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)[أحمد صحيح الجامع 1903].
كان بعض الصالحين قد حفر في بيته قبراً، كلما نازعته نفسه إلى الدنيا من شهوة أو معصية، نزل فيها وأغلق على نفسه، يريها حقيقة الموت، والحال في القبر، لترجع عن غيها، فكم ذا نحن بحاجة إلى قبور نعظ ونزجر بها أنفسنا عن السفاهة.
إن القبر عظة تزلزل القلوب، وتوقظ النفوس من رقدتها، لكن بعض النفوس أصابها العمى فما تحس بهول القبر، فتدخل إلى القبور وتخرج منه كما دخلت، ملطخة بنجاسات الدنيا، دون أن تتطهر أو تتزكى.
كان رسولنا الكريم إذا دخل القبر يخشع ويبكي، ويجلس والصحابة حوله، ينكت بالعود في الأرض من هول الفاجعة، فيعظهم ويأمرهم بالدعاء للميت وسؤال المغفرة له والرحمة والتثبيت، ليخفف الله عنه ما هو فيه من سؤال منكر ونكير، وما هو فيه من الهلع والفزع لشيء لم يمر به قبل يومه ذاك.
إن الوحشة والجزع تأخذ الميت حتى يتمنى على دافنيه أن لو لم يبرحوا مكانهم لعل ذلك يخفف عنه لحظات الشدة والغربة، قال عمرو بن العاص: " إذا دفنتموني فأقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي"[رواه مسلم].
فأما الصالح فيجلس في قبره غير فزع، وأما السيء فإنه يجلس في قبره فزعاً غير مستجمع عقله، فإذا جاءه الملكان فسألاه ذهل فلم يدر ما يقول.
أخي! إذا دخلت القبور فسلم على أهلها، وقل: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) مسلم، وتذكر أنك لاحق بهم، فإذا كنت اليوم حاملاً فغداً أنت محمول، وإذا دخلت القبور فلا تدخل إلا وأنت عازم على تزيين قبرك بالعمل الصالح، ولا تكثر من حجج الله عليك، إذ يريك آياته الباهرة فلا تزداد يقيناً، ولا تنزجر عن معصية، وإذا ظننت أنك ستدعى للنزول إلى قبر ميت، فاحرص على التطهر من الخطايا قبل ذلك، فإنا سمعنا أن رسول الله ماتت له بنت، فقال: (هل منكم رجل لم يقارف الليلة)؟ فقال أبو طلحة: أنا، قال: (فانزل في قبرها)، فنزل في قبرها فقبرها.
قال ابن المبارك: فليح: " أراه يعني الذنب" البخاري، الجنائز، باب من يدخل قبر المرأة.
واعلم أن رسول الله قد:
- نهى عن رفع القبور وتشييدها، وتزيينها والبناء عليها، لأن فيها تمييز بعضها على بعض، وذلك يمنع الاتعاظ والاعتبار بها، ويدخل في الغلو والرياء والشرك.
- وكذا نهى عن الجلوس عليها أو الوقوف لأن فيه امتهاناً لها، وتضييعاً لهيبتها.
- ثم إن القبر منه لحد ومنه شق، فاحرص على أن يكون قبرك لحداً فهي السنة، وقبره - عليه السلام - كان لحداً، فاللحد لنا، والشق لغيرنا.
وبعد:
فإن القبر حقيقة مرة لا مفر منها، ومنزل آت لابد منه، فيا أخي! كما وقفت على القبر فقف على حقيقته، ولا تلقي حقائق الدنيا وراء ظهرك، وتقبل على أكاذيبها وزخارفها الزائلة الخادعة، قال - تعالى
( يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ).
في هذه الليلة المباركة: حضرت جنازة - رحم الله صاحبها، ورزق أهله الصبر والثواب، وغفر لنا وتجاوز عنا -، فنطق قلمي فقال:
أخي! هل وقفت يوماً على قبر؟
إن لم تكن وقفت فقف لتعلم حقيقة الدنيا التي تحيا فيها.
إن منظر القبر يزرع فيك معنى أنت غافل عنه.
إنه يلفك بكفن أبيض هو كفن الموتى، ويخرجك من جميع آمالك الدنيوية، ويقطع بينك وبين ملذاتك.
وكلما تأملت حال القبر، وحال من فيه، وحالك إذا صرت إليه، ماتت فيك كل شهوة محرمة، وتلاشت من نفسك كل خواطر السوء، وفرغت من كل باطل كما يفرغ كل من أيقن أنه ليس بينه وبين الموت إلا ساعة.
إن اليوم الذي تقف فيه على القبر يوم يمتد فيه الموت ويكبر، وتنكمش الحياة فيه وتصغر، يوم تحتقر فيه كل شيء يكون سبباً في أكل الدود والتراب جسمك الطري، ووجهك الجميل، يوم ترى الدنيا فيه على قدر جيفة حيوان بالعراء، نجسة شوهاء، لا تطاق على النظر، ولا على الشم، ولا على اللمس.
أنت تسعى وتلهو، وتنام وتصحو، وتجري وتعصي، وتنسى أن القبر يستعد يوماً بعد يوم لاستقبالك، وجوانبه تتهيأ لضمك.
هذا اليوم يقترب سريعاً أو بطيئاً لا فرق لأنه آت، وكلما مر يوم صرت أقرب إليه من الأمس، قال - سبحانه -: {كل نفس ذائقة الموت}.
فبعض القبور تزدان لأصحابها بالروح والريحان، والحسن والجنان، وتكون أوسع ما تكون، وبعضها تتقبح لأصحابها بالحر والعذاب والنيران، وتكون أضيق ما تكون، فإن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، فأما المؤمن فإنه يفتح له باب إلى الجنة من قبره، ويرى مقعده فيها، ويفسح له في قبره مد البصر، وأما الكافر فيفتح له باب إلى النار من قبره، ويرى مقعده فيها، ويضيق عليه.
إن القبر ينقلك من الدنيا إلى الآخرة، يذكرك أن الدنيا دارُ ممر لا دارُ مقر، وأن البرزخ ما بينك وبين الآخرة هي هذه الحفرة الخالية من كل أسباب الزينة والمتاع، الموحش، المظلم، المخيف، المحزن، المبكي.. قال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولاتقولوا هجراً)[الحاكم، صحيح الجامع رقم 4584].
فبعده تأتي القيامة بما فيها من أهوال وكرب، ثم بعدها جنة أو نار.
فالقبر أول منازل الآخرة..
كان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إذا وقف على القبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: " تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟"، قال:" إن رسول الله قال: (إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجى منه أحد فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعد أشد منه)"[ابن ماجة، التذكرة ص98].
وكان عثمان - رضي الله عنه - يقول: فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة و إلا فإني لا أخالك ناجياً [التذكرة ص98].
وللقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجى منها سعد بن معاذ (الطبراني صحيح الجامع 5306).
وما من منظر قط إلا والقبر أفظع منه (الترمذي صحيح الجامع 5633)
قال أبو نعيم: " كان سفيان الثوري إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياماً، وكان إذا سئل عن شيء قال: لا أدري، لا أدري" (التذكرة للقرطبي ص10).
أخي! ألا تعجب من غفلة من حولك؟
الناس يمرون على القبور ولا يلتفتون إلى عظاتها، ويرون كل يوم محمولاً صلوا عليه ثم واروه في قبره، يدخلون معه إلى قبره، يذرفون الدمع لفراقه، يخلعون شهواتهم وآمالهم عند باب القبر كما يخلعون نعالهم، ثم إذا خرجوا من ساحته بعد دفن ميتهم والترحم عليه عادوا فلبسوا نعالهم، ولبسوا معها شهواتهم وآمالهم ومعاصيهم ناسين تلك الذكرى العظيمة الكبرى!، فما أن تخطوا أقدامهم خارج سور المقبرة حتى تعض نفوسهم على دنياهم كما تعض أقدامهم على نعالهم!.
إن الناس يزينون أنفسهم في الدنيا بشتى الزينة، فإذا أخذوا إلى القبور تقللوا من المظاهر، ورضوا بالمعاني، وقليل من الملابس، وزهدوا في جميله وثمينه، لا فرق بين ملك ولا مملوك، ولسانهم: الحي أولى من الميت.
أخي! هل تدري متى ستوارى في قبرك، وتسكن جنبات منزلك الذي لم تتكلف في شرائه أو تزيينه؟.
تعلّم أنه ليس لذلك زمن معلوم، ولا سن معلوم، ولا مرض معلوم، فأنت بين الحين والآخر في انتظار أن يُرسَل إليك الداعي ليقلبك إلى برزخك، ويخرجك من بيتك ومخدعك.
قيل إن أول من قَبَر هو قابيل لما دفن أخاه هابيل بعدما قتله، وقعد عند رأسه يبكي، إذ أقبل غرابان يقتتلان، فقتل أحدهما الآخر، ثم حفر له حفرة فدفنه فيها، ففعل مثله، وقيل إن الغراب هو الذي بحث التراب على هابيل ليدفنه، فندم حيث رأى إكرام الله لأخيه، ولم يكن ندم توبة (التذكرة ص99)، ومنذ ذلك اليوم وإلى اليوم والقبور في زيادة.
القبر يُبكي عيون الأحرار، القبر يفرق الجماعات، ويقطع الأمنيات، ويقرّح القلوب، ومن مات انتقل إليه، فيومه يوم مصرع الفتى، ينتقل من سعة بيته إلى ضيق لحده، بعد أن يتخلى عنه الصديق والأخ والوالدين والأبناء، وكربات الموت عسيرة صعبة على المحتضر، وإنما لا يفر ولا يصيح لأن الكرب قد بالغ فيه، فإذا بدأ الملك ينزع روحه تبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ثم بطنه، ثم صدره، ثم تبلغ به الحلقوم.. فحينذاك ينقطع نظره إلى الدنيا وأهله، ويغلق دونه باب التوبة.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)[أحمد صحيح الجامع 1903].
كان بعض الصالحين قد حفر في بيته قبراً، كلما نازعته نفسه إلى الدنيا من شهوة أو معصية، نزل فيها وأغلق على نفسه، يريها حقيقة الموت، والحال في القبر، لترجع عن غيها، فكم ذا نحن بحاجة إلى قبور نعظ ونزجر بها أنفسنا عن السفاهة.
إن القبر عظة تزلزل القلوب، وتوقظ النفوس من رقدتها، لكن بعض النفوس أصابها العمى فما تحس بهول القبر، فتدخل إلى القبور وتخرج منه كما دخلت، ملطخة بنجاسات الدنيا، دون أن تتطهر أو تتزكى.
كان رسولنا الكريم إذا دخل القبر يخشع ويبكي، ويجلس والصحابة حوله، ينكت بالعود في الأرض من هول الفاجعة، فيعظهم ويأمرهم بالدعاء للميت وسؤال المغفرة له والرحمة والتثبيت، ليخفف الله عنه ما هو فيه من سؤال منكر ونكير، وما هو فيه من الهلع والفزع لشيء لم يمر به قبل يومه ذاك.
إن الوحشة والجزع تأخذ الميت حتى يتمنى على دافنيه أن لو لم يبرحوا مكانهم لعل ذلك يخفف عنه لحظات الشدة والغربة، قال عمرو بن العاص: " إذا دفنتموني فأقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي"[رواه مسلم].
فأما الصالح فيجلس في قبره غير فزع، وأما السيء فإنه يجلس في قبره فزعاً غير مستجمع عقله، فإذا جاءه الملكان فسألاه ذهل فلم يدر ما يقول.
أخي! إذا دخلت القبور فسلم على أهلها، وقل: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) مسلم، وتذكر أنك لاحق بهم، فإذا كنت اليوم حاملاً فغداً أنت محمول، وإذا دخلت القبور فلا تدخل إلا وأنت عازم على تزيين قبرك بالعمل الصالح، ولا تكثر من حجج الله عليك، إذ يريك آياته الباهرة فلا تزداد يقيناً، ولا تنزجر عن معصية، وإذا ظننت أنك ستدعى للنزول إلى قبر ميت، فاحرص على التطهر من الخطايا قبل ذلك، فإنا سمعنا أن رسول الله ماتت له بنت، فقال: (هل منكم رجل لم يقارف الليلة)؟ فقال أبو طلحة: أنا، قال: (فانزل في قبرها)، فنزل في قبرها فقبرها.
قال ابن المبارك: فليح: " أراه يعني الذنب" البخاري، الجنائز، باب من يدخل قبر المرأة.
واعلم أن رسول الله قد:
- نهى عن رفع القبور وتشييدها، وتزيينها والبناء عليها، لأن فيها تمييز بعضها على بعض، وذلك يمنع الاتعاظ والاعتبار بها، ويدخل في الغلو والرياء والشرك.
- وكذا نهى عن الجلوس عليها أو الوقوف لأن فيه امتهاناً لها، وتضييعاً لهيبتها.
- ثم إن القبر منه لحد ومنه شق، فاحرص على أن يكون قبرك لحداً فهي السنة، وقبره - عليه السلام - كان لحداً، فاللحد لنا، والشق لغيرنا.
وبعد:
فإن القبر حقيقة مرة لا مفر منها، ومنزل آت لابد منه، فيا أخي! كما وقفت على القبر فقف على حقيقته، ولا تلقي حقائق الدنيا وراء ظهرك، وتقبل على أكاذيبها وزخارفها الزائلة الخادعة، قال - تعالى
( يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ).