همي الدعوه
24 Nov 2009, 02:34 PM
البرقعة والإسلام: خوف بلا مبرر
د أحمد محمود عجاج
عجيب أمر كتابنا وعجيب اكبر حال مفكرينا، يولون الأقل أهمية ويتجاهلون الأعظم، ويظنون أنهم بذلك يسدون لشعوبهم ومجتمعاتهم جلَّ الخدمات، وليس ثمة دليل على ذلك سوى ظاهرة البرقعة، وبروز نخب للنيل منها بحجة أنها ليست من الدين، وأنها إذا ما استمرت دليل تأخر وانحياز عن جادة الصواب. فقد كتب الأستاذ محمد السماك مؤخرا ( في صحيفة المستقبل يوم الجمعة 30 أكتوبر 2009) مقالا بكى فيه عودة البرقع لكونه دلالة على التراجع في السلم الحضاري، وأفتى بأنه ليس من الإسلام بل يندرج في باب التقليد، وقبله أفتى بذلك إمام الأزهر محمد سيد طنطاوي.
هل تحول البرقع، يا ترى، إلى مشكلة حضارية؟ وهل أصبح سببا أصيلا في تأخرنا!!
هذه المسألة مهما دار الحديث حولها شئنا أم أبينا لها أصل ثابت في الدين، وقد أيدها نفر كبير من العلماء، وكتبت فيها كتب ومباحث، لكن ما هو مجمع عليه، شرعا وفقها وعقلا، أن من أرادت من النساء لبس البرقعة لها الحق بذلك، ومن أرادت منهن أن تستبدله بالحجاب، لها الحق بذلك؛ كلاهما يطبقان الشرع، وكلاهما ينصاعان لحكم الله؛ كان يجب أن تنتهي المسألة عند هذا الحد، وكان مفترضا أن لا تخاض فيها حروب دونوكشوتية. لكن بعض النخب لا تزال تعتقد أن شكل الفرد ولبسه لهما صلة بالتقدم والحضارة، ولا تزال ترى أن الموروث يعتبر عائقا أمام التقدم واللحاق بالمجتمعات المتحضرة، دونما أية اعتبارات لمعايير التحضر، ولا لأسس الحضارة.
الغريب العجيب أن تلك النخب لا تمانع أن يلبس البرقع على أسس الحرية الشخصية، لكنها تعارضه على أسس الدين؛ هذا الموقف ينطوي على لبس ظاهر لكون النتيجة واحدة: فالحرية الشخصية تنبع من رؤية ذاتية خاصة، قد تكون مزاجية وقد تكون دينية، لكن كليهما حرية شخصية بالمعنى الدقيق للكلمة. والحرية الشخصية مقدسة في المفهوم الغربي وقد رأى ستيورات ميل في كتابه عن النفعية انه " لو أن البشر جميعا كانوا على رأي واحد، ليس لهم الحق في إسكات شخص ما، تماما كما لو أن هذا الشخص أراد إسكات البشر كلهم". فالبرقعة هي جزء من تلك الحرية الشخصية ولا يمكن النيل منها إلا بحجة حماية المجتمع، ولعمري لم يخرج احد علينا ويبين لنا الأضرار، ما عدا ما قاله مفتى الأزهر بأنه يعرف الدين أكثر من أهل الفتاة التي نزع برقعها، وما قاله السماك بأن وجود هذه الظاهرة " مؤشر مقلق على أن ثمة مشكلة ما في البنية المجتمعية العربية وفي المقومات والأسس التي تقوم عليها الثقافة العامة".
الغريب أن الأستاذ السماك رأى أنه لم توجد من بين آلاف النساء في مسارح القاهرة ايام الناصرية، وذلك محل إعجاب له، " سيدة واحدة في الصالة ترتدي البرقع أو حتى الحجاب"، بينما النساء اللواتي يرتدين الحجاب في مسارح اليوم أصبح منظرهن " امرأ مألوفا". بالطبع، لم يفسر لنا الأستاذ السماك أسباب هذه الظاهرة؟ ربما لا يريد، لأنه يعرف أن الناصرية كانت تقود المجتمع بيد من حديد وتعتبر الحجاب رجعية، وكانت تزج في السجون الآلاف من الناس بحجة التقدم والحرية واستعادة الأرض؛ لم يقل لنا أن الحرية الشخصية كانت غائبة تماما ولم يكن في المجتمع إلا ثمة صوت واحد هو صوت الاستبداد. ولنعد مرة أخرى إلى ستيوارت ميل وقوله " في المجتمع الاستبدادي لا يوجد إلا صوت وطني واحد وهو صوت المستبد". ولذلك لم ننل آنذاك الحرية ولا التقدم ولا استعدنا الأرض!!
إن المجتمع الإسلامي والعربي لا تمكن مشكلته في البرقع ولا في الحجاب بل في عجزه عن امتلاك سنن التقدم وفقدانه الرؤية وخوفه من الاستبداد ورفع الصوت بوجهه. فالبرقع كان موجودا وكانت الأمة في أوج تقدمها وعزها، وكان كذلك حتى العصر القريب أبان العهد العثماني، حيث السلطان مهيبا ومحترما وتحسب له القوى الكبرى كل حساب؛ لم يحل البرقع دون التقدم، ولم يمنع الصناعة، ولم يهدد امن المجتمع، ولا البنية الثقافية أو الحضارية. بل أن البرقع كان ينظر له بإعجاب من قبل الغرب، وقد أثنى غربيون كثر على البرقع واعتبره البعض من النساء حرية للمرأة المسلمة تجعلها تشعر بالأمان، وتمكنها من رؤية الآخرين وحجب الآخرين عن رؤيتها. هذا ليس بمستغرب لأن الأمة عندما تكون متقدمة وفي موقع العزة تقلدها، كما قال ابن خلدون، الأمم الأخرى اعتقادا بأنها تمثل الحضارة والقيم العلي؛ لذلك لا نرى اليوم من الأمم الأخرى سوى النقد والتهجم على البرقع وحتى الحجاب لكونه في تلك الأعين تخلفا وانتهاكا للحرية الفردية. فالرئيس الفرنسي اليميني، ساركوزي، لا يعرف للبرقع كما يقول: "مكانا في فرنسا وأعتبره: رمزا يدل على"خضوع النساء وعلى سجنهن وحرمانهن من الهوية". وتطالب ايطاليا أيضا بمعاقبة من يرتدي البرقع، وعلى ذلك قس؛ جميع تلك الدول لم تسأل نفسها لماذا هذا العداء للحرية الشخصية؟ لم تسأل تلك الدول لماذا يسمح بالابتذال في الملبس، ولا يسمح بالبرقع؟
لنكن واقعيين ونعترف أن الاهتمام بقضايا من هذا النوع لا يحملنا إلى ركب الحضارة بل يجعلنا نجلد ذاتنا، ويبعدنا أكثر عن المبتغى، فلتلبس النساء ما يشأن من أنواع الحجاب والبراقع، ولنركز نحن النخب على علو الأمة ومكانتها، وعلى حق الأفراد في الحرية، وعلى مبادئ العدل، والتمثيل الصحيح، ورعاية الصناعة وتشجيع الإنتاج، وخلق مجتمع من الأفراد فاعل ومتناغم يؤمن بمستقبله وبقدرته على الوصول إلى أعلى المراتب. إن فعلنا ذلك ننجح، وإن لم نفعل، سنبقى نمضغ القشور ويأكل غيرنا اللباب.
المصدر / المسلم
د أحمد محمود عجاج
عجيب أمر كتابنا وعجيب اكبر حال مفكرينا، يولون الأقل أهمية ويتجاهلون الأعظم، ويظنون أنهم بذلك يسدون لشعوبهم ومجتمعاتهم جلَّ الخدمات، وليس ثمة دليل على ذلك سوى ظاهرة البرقعة، وبروز نخب للنيل منها بحجة أنها ليست من الدين، وأنها إذا ما استمرت دليل تأخر وانحياز عن جادة الصواب. فقد كتب الأستاذ محمد السماك مؤخرا ( في صحيفة المستقبل يوم الجمعة 30 أكتوبر 2009) مقالا بكى فيه عودة البرقع لكونه دلالة على التراجع في السلم الحضاري، وأفتى بأنه ليس من الإسلام بل يندرج في باب التقليد، وقبله أفتى بذلك إمام الأزهر محمد سيد طنطاوي.
هل تحول البرقع، يا ترى، إلى مشكلة حضارية؟ وهل أصبح سببا أصيلا في تأخرنا!!
هذه المسألة مهما دار الحديث حولها شئنا أم أبينا لها أصل ثابت في الدين، وقد أيدها نفر كبير من العلماء، وكتبت فيها كتب ومباحث، لكن ما هو مجمع عليه، شرعا وفقها وعقلا، أن من أرادت من النساء لبس البرقعة لها الحق بذلك، ومن أرادت منهن أن تستبدله بالحجاب، لها الحق بذلك؛ كلاهما يطبقان الشرع، وكلاهما ينصاعان لحكم الله؛ كان يجب أن تنتهي المسألة عند هذا الحد، وكان مفترضا أن لا تخاض فيها حروب دونوكشوتية. لكن بعض النخب لا تزال تعتقد أن شكل الفرد ولبسه لهما صلة بالتقدم والحضارة، ولا تزال ترى أن الموروث يعتبر عائقا أمام التقدم واللحاق بالمجتمعات المتحضرة، دونما أية اعتبارات لمعايير التحضر، ولا لأسس الحضارة.
الغريب العجيب أن تلك النخب لا تمانع أن يلبس البرقع على أسس الحرية الشخصية، لكنها تعارضه على أسس الدين؛ هذا الموقف ينطوي على لبس ظاهر لكون النتيجة واحدة: فالحرية الشخصية تنبع من رؤية ذاتية خاصة، قد تكون مزاجية وقد تكون دينية، لكن كليهما حرية شخصية بالمعنى الدقيق للكلمة. والحرية الشخصية مقدسة في المفهوم الغربي وقد رأى ستيورات ميل في كتابه عن النفعية انه " لو أن البشر جميعا كانوا على رأي واحد، ليس لهم الحق في إسكات شخص ما، تماما كما لو أن هذا الشخص أراد إسكات البشر كلهم". فالبرقعة هي جزء من تلك الحرية الشخصية ولا يمكن النيل منها إلا بحجة حماية المجتمع، ولعمري لم يخرج احد علينا ويبين لنا الأضرار، ما عدا ما قاله مفتى الأزهر بأنه يعرف الدين أكثر من أهل الفتاة التي نزع برقعها، وما قاله السماك بأن وجود هذه الظاهرة " مؤشر مقلق على أن ثمة مشكلة ما في البنية المجتمعية العربية وفي المقومات والأسس التي تقوم عليها الثقافة العامة".
الغريب أن الأستاذ السماك رأى أنه لم توجد من بين آلاف النساء في مسارح القاهرة ايام الناصرية، وذلك محل إعجاب له، " سيدة واحدة في الصالة ترتدي البرقع أو حتى الحجاب"، بينما النساء اللواتي يرتدين الحجاب في مسارح اليوم أصبح منظرهن " امرأ مألوفا". بالطبع، لم يفسر لنا الأستاذ السماك أسباب هذه الظاهرة؟ ربما لا يريد، لأنه يعرف أن الناصرية كانت تقود المجتمع بيد من حديد وتعتبر الحجاب رجعية، وكانت تزج في السجون الآلاف من الناس بحجة التقدم والحرية واستعادة الأرض؛ لم يقل لنا أن الحرية الشخصية كانت غائبة تماما ولم يكن في المجتمع إلا ثمة صوت واحد هو صوت الاستبداد. ولنعد مرة أخرى إلى ستيوارت ميل وقوله " في المجتمع الاستبدادي لا يوجد إلا صوت وطني واحد وهو صوت المستبد". ولذلك لم ننل آنذاك الحرية ولا التقدم ولا استعدنا الأرض!!
إن المجتمع الإسلامي والعربي لا تمكن مشكلته في البرقع ولا في الحجاب بل في عجزه عن امتلاك سنن التقدم وفقدانه الرؤية وخوفه من الاستبداد ورفع الصوت بوجهه. فالبرقع كان موجودا وكانت الأمة في أوج تقدمها وعزها، وكان كذلك حتى العصر القريب أبان العهد العثماني، حيث السلطان مهيبا ومحترما وتحسب له القوى الكبرى كل حساب؛ لم يحل البرقع دون التقدم، ولم يمنع الصناعة، ولم يهدد امن المجتمع، ولا البنية الثقافية أو الحضارية. بل أن البرقع كان ينظر له بإعجاب من قبل الغرب، وقد أثنى غربيون كثر على البرقع واعتبره البعض من النساء حرية للمرأة المسلمة تجعلها تشعر بالأمان، وتمكنها من رؤية الآخرين وحجب الآخرين عن رؤيتها. هذا ليس بمستغرب لأن الأمة عندما تكون متقدمة وفي موقع العزة تقلدها، كما قال ابن خلدون، الأمم الأخرى اعتقادا بأنها تمثل الحضارة والقيم العلي؛ لذلك لا نرى اليوم من الأمم الأخرى سوى النقد والتهجم على البرقع وحتى الحجاب لكونه في تلك الأعين تخلفا وانتهاكا للحرية الفردية. فالرئيس الفرنسي اليميني، ساركوزي، لا يعرف للبرقع كما يقول: "مكانا في فرنسا وأعتبره: رمزا يدل على"خضوع النساء وعلى سجنهن وحرمانهن من الهوية". وتطالب ايطاليا أيضا بمعاقبة من يرتدي البرقع، وعلى ذلك قس؛ جميع تلك الدول لم تسأل نفسها لماذا هذا العداء للحرية الشخصية؟ لم تسأل تلك الدول لماذا يسمح بالابتذال في الملبس، ولا يسمح بالبرقع؟
لنكن واقعيين ونعترف أن الاهتمام بقضايا من هذا النوع لا يحملنا إلى ركب الحضارة بل يجعلنا نجلد ذاتنا، ويبعدنا أكثر عن المبتغى، فلتلبس النساء ما يشأن من أنواع الحجاب والبراقع، ولنركز نحن النخب على علو الأمة ومكانتها، وعلى حق الأفراد في الحرية، وعلى مبادئ العدل، والتمثيل الصحيح، ورعاية الصناعة وتشجيع الإنتاج، وخلق مجتمع من الأفراد فاعل ومتناغم يؤمن بمستقبله وبقدرته على الوصول إلى أعلى المراتب. إن فعلنا ذلك ننجح، وإن لم نفعل، سنبقى نمضغ القشور ويأكل غيرنا اللباب.
المصدر / المسلم