Albayaan
05 Sep 2004, 08:43 PM
منذ ظهوره في المقهى اختلس النظر اليه، أدقق ملامحه، لم اتعجل الجلوس الى جواره، لم يكن نادل المقهى يخاطبه بالاسم الشائع لكل من يتولى مهمته ويشغل تلك المهنة، كانوا يخاطبونه «حاج ابراهيم» احيل الى التقاعد لذلك بدأ يتردد بانتظام مرة في الصباح واخرى في المساء، يجلس وحيدا، يكتفي بشرب الشاي خالي السكر والنرجيلة. المقهى لا يقدم الا التنباك، يقصده محامون وقضاة وضباط متقاعدون وتجار كبار، بيني وبين نفسي اسميهم حزب التنباك، بعضهم يجيء من مصر الجديدة وآخرون من المعادي، آخر من توقعت انضمامه، عشماوي، المقترن اسمه بالموت، بالقتل القانوني، عندما يكون المقهى مزدحما فإن الفرادي مثلي ومثله يمكن ان يتجاورا، ترتيب يعرفه العاملون القدامى الذين يعرفون عادات ومزاج الزبائن، يكفي ان يتعاملوا مرة أو مرتين مع الشخص، من تجاورنا بدأ حوار مقتضب احيانا، مسهب احيانا أخرى.
«تصدق وتؤمن بالله؟»
«لا اله الا الله يا حاج ابراهيم»
قال انه كان يتمنى انتهاء الخدمة حتى يعود الى المقهى، الى تدخين التنباك، لم يكن ذلك ممكنا اثناء عمله، من الصعب جلوسه بالزي الرسمي، والاوقات المتاحة للراحة كانت قليلة، محدودة، التفت الي بنظرة جانبية، كنت اتأمل اصابعه الغليظة، الطويلة الممسكة بحافة المنضدة، عندما قال فجأة.
«أوعى تكون فاكر انه الشغل اللي بالك فيه كان واخد وقتي كله»
قال إن مهامه كانت متعددة، احدها فقط هذا النوع من العمل، اعدام المحكوم عليهم، تنفيذ قضاء الله وقصاصه، انتقل فجأة الى الحديث عن تنباك زمان، انواعه الفاخرة من عجمي، وأميولي ولاذقاني، وعدني، بعض المقاهي كانت تقصدها السيدات، خاصة اللبنانيات، والسوريات، «الشوام يعني»، لم يكن يجرؤ على دخولها، يكتفي بالمرور امامها والفرجة، آخر حده كان في مقهى الفيشاوي، تنباك زمان اختفى، رائحته كانت تعبق المكان، تعطر الشارع امام المقهى الذي يقدمه، لم يعد الا هذا المقهى الملتزم بالاصول، المحافظ على مستوى الدخان والمشروب، اصحابه صنايعية بحق وحقيق، صمت فجأة، اعتدت سكوته، عندما يلزم الصمت يصعب استئناف الحوار معه، بل كدت اثق انه يتحدث من طرف واحد، لكنه يوهم جليسه انه يتبادل الحوار، لا ينطق الا بما يريد قوله، خلال ايام عدة علمت منه أمورا عن عشماوي الاول، لم يخلفه من يحمل اسمه، لكن اول من شغل المهمة منح اسمه الى كل من خلفه، عشماوي الاول يبدو لكل من جاء بعده كأسطورة، كان متزوجا من اربع، انجب ذرية كثيفة، حتى انه كان يقابل بعض احفاده في الحارة فلا يعرفهم إلا اذا اخبروه.
كان شفيقا على المحكوم عليهم، يتمتم في آذانهم بأدعية، اما يده فيضرب بها المثل في الخفة والمهارة، خفة في الباس المحكوم عليه الطاقية، مساعدته على طلوع الدرجات ثم شد الذراع بالطبلية، يقولون ان نبض من قضى في زمنه لم يستمر عند أي منهم الا ثوان معدودات، قال ان نبض البعض يستمر لاكثر من خمس دقائق، بمجرد هموده تماما يقرر الطبيب الملازم التمام، لكن مع عشماوي الاول لم يطل الامر الا لثوان، كيف، هذا ما لم يفصح عنه لأحد، هو سر الصنعة.
إذ يبتسم يبدو مكان الناب الايسر المخلوع، هكذا تبدو ابتسامته فجأة، وقد تغيب بدون ان ينطق، وأحيانا يفسر، مرة، قال اثناء نظرة الى الامام، كأنه يخاطب خفيا لا يبدو لي:
غريب أمر هذه السيدة، شابة جميلة، ارق من قماش رمش العين، محررة حوادث في جريدة مشهورة، كانت حريصة على حضور العمليات كلها، تسأل قبلها وتتأكد من المواعيد التي تبقى سرية دائما، لها صلات قوية مع إدارة تنفيذ الأحكام، وجميع ضباط السجن، لو التنفيذ في الثالثة فجرا تجدها في كامل الابهة، حاضرة، كانت تحرص على شيئين، الاول: مصاحبتها للجنة عند ذهابها مكتملة الى زنزانة المحكوم عليه، لا يمكن اخباره بالموعد، هذا من الاصول المرعية المستوفية، لا يمكن الاخلال بها أبدا، تحرص على حضور فتح الزنزانة، ورؤية المحكوم عليه عند ادراكه حلول الوقت، اما حرصها الثاني فكان على النزول الى البئر تحت المنصة وقياس النبض، سبحان الله، ما أغرب خلقه.
سمعت من يشنع بها ويقول إنها لم تتزوج، تربي القطط لتخنقهم، لكن علم ذلك عند ربي!
أصغيت صامتا متطلعا الى نفس الجهة التي يسدد اليها البصر، نطقت باستفساري المؤجل بدون أن اتطلع إليه، أي الحالات التي لا يمكنه ان ينساها؟
لم يبدل وضعه، بنفس درجة الصوت أجاب: الاولى لشاب لم يكمل الثلاثين، صحة، طول بعرض، قتل أمه، سمعت كلاماً كثيراً لكن استغفر الله العظيم، بعدما سمع السؤال: نفسك في ايه؟ طلب سيجارة، المأمور جاب له واحدة بلمونت، ولعها له بنفسه، شد نفسا واحدا، نفس واحد خلص به على السيجارة، طلع من مناخيره ومن فمه، وبعد ما خلص بص ناحيتي وقال لي:
«شوف شغلك، انا اخذت نصيبي من الدنيا خلاص»
الثانية: مأمور ضرائب، هادئ، محترم، وباين عليه ابن ناس، بهدوء املى وصيته، أوصى ببيع الكليتين والكبد والقلب وقرنية العينين، طبعا كتب رسالة قبل ذلك لان الاطباء كانوا جاهزين لنقل الجثمان الى مستشفى السجن للحصول على الأعضاء، المهم انه كرر الوصية ليسمع أعضاء اللجنة، الحقيقة كان اغرب ما سمعته خاصة السبب.
ما هو السبب يا ترى؟
قال: ليكمل مشوار ابنته، كانت تستعد للزواج، ماسابش أي حاجة وراه
بعد لحظات قال: اما الثالثة فكانت شابة انما ايه، مفتخرة، شعرها ناعم طويل نازل على ظهرها سيسبان، مخروطة خرط. قامة.. وخصر، سبحان من صور، أهي دي اللي ينطبق عليها بحق، تحل من على حبل المشنقة، لبستها الطاقية وانا أتحسر، ولولا الملامة كنت بكيت وانا ألف رقبتها بالحبل، يا سلام سلم، لما نزلت اشوف النبض كانت بتنفض زي الحمامة.
تطلعت إليه، يعض شفـته السفلى مغمضا عينيه، متوحدا تمـامـا بتلك التي غـابت هناك.
جمال الغيطاني
«تصدق وتؤمن بالله؟»
«لا اله الا الله يا حاج ابراهيم»
قال انه كان يتمنى انتهاء الخدمة حتى يعود الى المقهى، الى تدخين التنباك، لم يكن ذلك ممكنا اثناء عمله، من الصعب جلوسه بالزي الرسمي، والاوقات المتاحة للراحة كانت قليلة، محدودة، التفت الي بنظرة جانبية، كنت اتأمل اصابعه الغليظة، الطويلة الممسكة بحافة المنضدة، عندما قال فجأة.
«أوعى تكون فاكر انه الشغل اللي بالك فيه كان واخد وقتي كله»
قال إن مهامه كانت متعددة، احدها فقط هذا النوع من العمل، اعدام المحكوم عليهم، تنفيذ قضاء الله وقصاصه، انتقل فجأة الى الحديث عن تنباك زمان، انواعه الفاخرة من عجمي، وأميولي ولاذقاني، وعدني، بعض المقاهي كانت تقصدها السيدات، خاصة اللبنانيات، والسوريات، «الشوام يعني»، لم يكن يجرؤ على دخولها، يكتفي بالمرور امامها والفرجة، آخر حده كان في مقهى الفيشاوي، تنباك زمان اختفى، رائحته كانت تعبق المكان، تعطر الشارع امام المقهى الذي يقدمه، لم يعد الا هذا المقهى الملتزم بالاصول، المحافظ على مستوى الدخان والمشروب، اصحابه صنايعية بحق وحقيق، صمت فجأة، اعتدت سكوته، عندما يلزم الصمت يصعب استئناف الحوار معه، بل كدت اثق انه يتحدث من طرف واحد، لكنه يوهم جليسه انه يتبادل الحوار، لا ينطق الا بما يريد قوله، خلال ايام عدة علمت منه أمورا عن عشماوي الاول، لم يخلفه من يحمل اسمه، لكن اول من شغل المهمة منح اسمه الى كل من خلفه، عشماوي الاول يبدو لكل من جاء بعده كأسطورة، كان متزوجا من اربع، انجب ذرية كثيفة، حتى انه كان يقابل بعض احفاده في الحارة فلا يعرفهم إلا اذا اخبروه.
كان شفيقا على المحكوم عليهم، يتمتم في آذانهم بأدعية، اما يده فيضرب بها المثل في الخفة والمهارة، خفة في الباس المحكوم عليه الطاقية، مساعدته على طلوع الدرجات ثم شد الذراع بالطبلية، يقولون ان نبض من قضى في زمنه لم يستمر عند أي منهم الا ثوان معدودات، قال ان نبض البعض يستمر لاكثر من خمس دقائق، بمجرد هموده تماما يقرر الطبيب الملازم التمام، لكن مع عشماوي الاول لم يطل الامر الا لثوان، كيف، هذا ما لم يفصح عنه لأحد، هو سر الصنعة.
إذ يبتسم يبدو مكان الناب الايسر المخلوع، هكذا تبدو ابتسامته فجأة، وقد تغيب بدون ان ينطق، وأحيانا يفسر، مرة، قال اثناء نظرة الى الامام، كأنه يخاطب خفيا لا يبدو لي:
غريب أمر هذه السيدة، شابة جميلة، ارق من قماش رمش العين، محررة حوادث في جريدة مشهورة، كانت حريصة على حضور العمليات كلها، تسأل قبلها وتتأكد من المواعيد التي تبقى سرية دائما، لها صلات قوية مع إدارة تنفيذ الأحكام، وجميع ضباط السجن، لو التنفيذ في الثالثة فجرا تجدها في كامل الابهة، حاضرة، كانت تحرص على شيئين، الاول: مصاحبتها للجنة عند ذهابها مكتملة الى زنزانة المحكوم عليه، لا يمكن اخباره بالموعد، هذا من الاصول المرعية المستوفية، لا يمكن الاخلال بها أبدا، تحرص على حضور فتح الزنزانة، ورؤية المحكوم عليه عند ادراكه حلول الوقت، اما حرصها الثاني فكان على النزول الى البئر تحت المنصة وقياس النبض، سبحان الله، ما أغرب خلقه.
سمعت من يشنع بها ويقول إنها لم تتزوج، تربي القطط لتخنقهم، لكن علم ذلك عند ربي!
أصغيت صامتا متطلعا الى نفس الجهة التي يسدد اليها البصر، نطقت باستفساري المؤجل بدون أن اتطلع إليه، أي الحالات التي لا يمكنه ان ينساها؟
لم يبدل وضعه، بنفس درجة الصوت أجاب: الاولى لشاب لم يكمل الثلاثين، صحة، طول بعرض، قتل أمه، سمعت كلاماً كثيراً لكن استغفر الله العظيم، بعدما سمع السؤال: نفسك في ايه؟ طلب سيجارة، المأمور جاب له واحدة بلمونت، ولعها له بنفسه، شد نفسا واحدا، نفس واحد خلص به على السيجارة، طلع من مناخيره ومن فمه، وبعد ما خلص بص ناحيتي وقال لي:
«شوف شغلك، انا اخذت نصيبي من الدنيا خلاص»
الثانية: مأمور ضرائب، هادئ، محترم، وباين عليه ابن ناس، بهدوء املى وصيته، أوصى ببيع الكليتين والكبد والقلب وقرنية العينين، طبعا كتب رسالة قبل ذلك لان الاطباء كانوا جاهزين لنقل الجثمان الى مستشفى السجن للحصول على الأعضاء، المهم انه كرر الوصية ليسمع أعضاء اللجنة، الحقيقة كان اغرب ما سمعته خاصة السبب.
ما هو السبب يا ترى؟
قال: ليكمل مشوار ابنته، كانت تستعد للزواج، ماسابش أي حاجة وراه
بعد لحظات قال: اما الثالثة فكانت شابة انما ايه، مفتخرة، شعرها ناعم طويل نازل على ظهرها سيسبان، مخروطة خرط. قامة.. وخصر، سبحان من صور، أهي دي اللي ينطبق عليها بحق، تحل من على حبل المشنقة، لبستها الطاقية وانا أتحسر، ولولا الملامة كنت بكيت وانا ألف رقبتها بالحبل، يا سلام سلم، لما نزلت اشوف النبض كانت بتنفض زي الحمامة.
تطلعت إليه، يعض شفـته السفلى مغمضا عينيه، متوحدا تمـامـا بتلك التي غـابت هناك.
جمال الغيطاني