البطل المقدام
26 Dec 2009, 12:08 AM
خطبة الجمعة من المسجد الحرام 8-1-1431 هـ
القاهافضيله الشيخ سعود بن إبراهيم الشريم
عنوانهابالأمانة مكانتها وحقيقتها وأثرها في الأمة
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(102 سورة آل عمران) ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1 سورة النساء)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(70 سورة الأحزاب) .
أما بعد .. فياأيها الناس : ما مِنَّا مِن أحدٍ إلا وقلبه مشرئبٌّ إلى الفلاح وبلوغه ، وإنه ما غاب قلبٌ عن هذا الاستشراف إلا حُكِم عليه بالمرض إن لم يكن قُضِي عليه بموت القلب ..
فمن هو العاقل الذي يرى فلاحه يمنةً ثم هو يسلك ذات شمال ؟! ومن هو هذا الذي لم يفلح أو يحدِّث نفسه بالفلاح ؟! فإما أن يكون جاهلًا لم يفقه أو مريضًا لم ينْقه ، وكلا الأمرين .. أو وكلا الأمَّرين علقم .
إن مطلب الفلاح أمرٌ فطريٌّ غريزي جاءت به الشريعة الإسلامية الغرَّاء مؤيدةً له حاضَّةً عليه محرِّضةً على تحصيله تحصيلًا حثيثا ، وجعلت الفلاح مشارب ومراكب .. كلٌّ يورد ويُصدر على ما وهبه الله من الهمة والحرص والأمل .
بيد أن من أهم أنواع الفلاح ما كان سببه متعديًّا لا قاصرا شاملًا لا مبعِّضا مسهِبًا لا مطنِبا ، وإذا أردنا الوصول إلى أمْيز طُرق الفلاح وأعظمها وأوسعها نفعا فإنه طريق الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبيْن أن يحملْنَها وأشفقن منها وحملها الإنسان .. إنه كان ظلومًا جهولا .
إنها الأمانة العظمى عباد الله .. نعم الأمانة بمفهومها الواسع الذي أرادها الله لها وأرادها رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهي ضد الخيانة بمفهومها الواسع الذي نهى الله ورسوله عنها ؛ لتكون الأمانة في كل ما افترض الله على العباد في الدين والأعراض والأموال والعقول والأنفس والمعارف والعلوم والولاية والحكم والشهادة والقضاء والأسرار والحواس الخمس ونحو ذلك .. فهي كما قال القرطبي - رحمه الله - : " تعم جميع وظائف الدين " .
ثم إنه لا يمكن أن يكون الأمين أمينًا إلا إذا كان عافًّا عمَّا ليس له به حق .. مؤدِّيا ما يجب عليه من حقٍّ لغيره .. حريصًا على حفظ ما استُؤمِن عليه غير مفرِّطٍ به ..
فإن من اجتمعت فيه هذه الركائز فهو في دائرة المفلحين الذين قال الله - جل وعلا - عنهم : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1 سورة المؤمنون) .. إلى أن قال : وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(7 سورة المؤمنون) .
الأمانة - عباد الله - لم تكن بدْعًا من التشريع الإسلامي المحمدي فحسب ، بل هي من أبرز أخلاق الرسل والأنبياء - عليهم أفضل الصلاة والسلام - فهذا نوحٌ وهودٌ وصالح ولوطٌ وشعيب .. كل واحدٍ منهم قد قال لقومه : إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(162 سورة الشعراء) ، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - ما كان يُعْرَف في قومه إلا بالصادق الأمين ،وقد جعل الباري - جل شأنه - هذه الصفة للروح الأمين جبريل - عليه السلام - في قوله : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193 سورة الشعراء) .
لقد قصرت أفهام الكثيرين عن معنى الأمانة فحصروها في حفظ الودائع المالية والمادية فحسب ، وضيقوا بهذا الفهم واسعا .. في حين إنها ليست إلا لونًا من ألوان الأمانة التي تتعدد وتتجدد .. فالقيام بالواجب أمانة ، وترك المنهي أمانة ، والأمر بالمعروف أمانة ، والنهي عن المنكر أمانة ، والحكم أمانة ، ورعاية حقوق الأمة أمانة ، والعلم أمانة ، وحماية الدين والذب عن حياضه أمانه ، وصيانة أرض الوطن المسلم وحماية ممتلكات المجتمع أمانة ..
فكل أمانةٍ من هذه الأمانات تتحقق بإقامة مصلحتها ودرأ مفسدتها وعدم خذلان الأمة فيها :إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا(107 سورة النساء) .
وإذا نظرنا إلى كلمة الأمانة - عباد الله - فإننا سنجد فيها معنى الأمان والاطمئنان .. فكأن الأمن والطمأنينة والراحة والاستقرار مرهونةٌ كلها بتحقيق الأمانة على وجهها الصحيح .. فلا يمكن أن يأمن ظالمٌ ولا يهدأ عاص ولا يسعد خوَّان ولا يفلح منافق ولا يصل متلفت ..
وفي حين أن القرآن الكريم قد ذُكِرت فيه الأمانة في مواضع كثيرة فإنه في الوقت نفسه قد جاء التحذير من ضدها .. وهي (الخيانة) .. فقال الله - جل شأنه - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27 سورة الأنفال) ، وقال سبحانه : ... وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ(52 يوسف).
وكفى بالخيانة شرًّا وقبحًا ومقتًا أنها سببٌ في دخول جهنم وبئس المصير من خلال ما ضرب الله لنا مثلًا بامرأتين من نساء الأنبياء والرسل ، وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ(10 سورة التحريم) .. أي خانتاهما في الدين ، وكانتا تدلان أقوامهما بمن يؤمن مع أزواجهما .
إنها النار .. إنها النار يامَنْ خنُت الأمانة .. إنه العذاب الأليم يامَنْ خنت ربك وخنت ولي أمرك وخنت أمتك وخنت نفسك التي بين جنبيك ..
لقد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوظائف أمانات ، وطلب من ذوي القوى الإحسان فيها والتيقظ لها ، ونصح الضعفاء عن طلبها والتعرض لها .. فقد سأله أبو ذر - رضي الله عنه - أن يستعمله فضرب بيده على منكبه وقال : " يا أبا ذر إنك ضعيف .. وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها " رواه مسلم .
ومن هذا الحديث - عباد الله - نستطيع أن نبعث رسالةً إلى كل من تطلعت نفسه واشرأبت إلى أن تتولى مصلحة من مصالح المسلمين دون استحضار القدرة عليها والشعور بقيمتها وعظم المسئولية والتبعة فيها ..
والقوة - عباد الله - في هذا الحديث هي التي تعني حسن الإدارة الموصوفة بالحزم والحكمة والإجادة ؛ إذ لا أحد يشك في إيمان أبي ذر - رضي الله عنه - وتقواه .. ومع ذلك وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه ضعيف ..
والضعف عيبٌ في تحمل المسئولية ؛ ولذا فإننا نشاهد في كل عصرٍ ومصر من تُوكل إليه المسئولية وهو طيبٌ في نفسه ومؤمنٌ بربه وحسنٌ في عبادته ولكنه لا يفعل خيرًا في مسئوليته ولا يحجز شرّا .. هكذا سبهلالا ، وترى من تحت مسئوليته فوضى لا سراة لهم ..
فمثل هذا لم يدرك أن وظيفته عقدٌ بينه وبين ولي الأمر أو بين مؤسسةٍ للقيام بعمل محدودٍ مقابل عوضٍ مخصوص ، ومن فرَّط في أداء هذا الواجب فهو ممن لم ينفعه إيمانه في أداء واجبه ؛ إذ كيف يرضى المؤمن بالغش أو الخيانة أو التقصير فيما استأمنه عليه ولي الأمر من مصالح العباد وحاجاتهم ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا إيمانَ لِمَنْ لا أمانةَ له ولا دينَ لمن لا عهد له" رواه أحمد وابن حبان .
ولذا فإن الوظائف - كبيرها وصغيرها - ليست وسيلةً للترفع أو الترفه .. إنما هي كيان دولةٍ وضمان مجتمع وحاضر أمة ومستقبلها ..
فمن ولاه ولي أمر المسلمين عملًا فضيع فيه فهو خائن . فهو خائن . فهو خائنٌ للأمانة ، ولولي الأمر وللمجتمع بأسره : ...إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ )58 سورة الأنفال)،وما هذه حال المؤمن الصادق الناصح لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "والمؤمنُ من أمنه الناس على دمائِهم وأموالهم "رواه الترمذي والنسائي .
ثم إن الخائن للأمانة لَيُعد من المنافقين النفاق العملي بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : " آيةُ المنافق ثلاث : إذا حدَّث كذب وإذا وعد أخْلف وإذا اؤتمن خان " رواه البخاري ومسلم .
فالحذر الحذر - عباد الله - من انقلاب المفاهيم وعدم التمييز بين الخائن والأمين .. فما زمننا هذا إلا ميدانٌ ترامت فيه الأهواء وقُلِبت فيه الحقائق فسُتِر على الخائن وضُيِّق على الأمين بسبب مفاهيم مغلوطةٍ ومقدماتٍ مضللة ، ولقد صدق رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال : " والذي نفْسي بيدِه .. لا تقومُ الساعةُ حتى يُخوَّنُ الأمين ويؤتمن الخائن..." الحديث رواه البخاري وسلم .
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة ..
قد قلت ما قلت إن صوابًا فمن الله وإن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان ، وأستغفر الله إنه كان غفارا .
الخطبة الثانية :
الحمد لله وحده .. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد ..
فاعلموا - يارعاكم الله - أنه ما اتصف أحدٌ بصفة الأمانة إلا كان الفلاح حاديه والسكينة والطمأنينة مطيته ، ولم يتفق العقلاء - قديماً وحديثاً .. رجالاً ونساءً .. كباراً وصغاراً - على استحسان خلةٍ كخلةِ الأمانة يتحلى بها المرء المسلم .. ألا ترون إلى ابنة شعيب – عليه السلام – حينما خاطبت أبيها عن موسى – عليه السلام – قائلة : يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ( القصص 26 ) .
ومن هذا المنطلق فإن صفة الأمانة صفةٌ مطلقة لا تخضع للنسبية والتعددية للفرد الواحد فلا يمكن أن يكون المرء خائناً أميناً في الوقت ذاته ، ولا يمكن أن تتطرق الخيانة إليه بوجهٍ من الوجوه حتى في مقام تحصيل حقه ومبادلة المثل بالمثل لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " رواه أبو دواد والترمذي .
ذلك – عباد الله – أن الخيانة لا تحتمل المحمدة البتة .. نعم قد يكون المكر في مقابل المكر والكيد في مقابل الكيد والخديعة في مقابل الخديعة .. فقال الله – جل وعلا – : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ .. ( النساء 142 ) .
، وقال سبحانه : وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ .. ( الأنفال 30 ) ، وقال - جل وعلا - : إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً ( الطارق 15- 16 ) .
ولكنه في مقام الخيانة نزه نفسه العلية عنها فقال – جل وعلا - : وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ .. ( الأنفال 71 ) ، ولم يقل (فخانهم) .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا .
إن للأمانة – عباد الله – إن للأمانة من الدقة والأهمية ما يوضحها قوله – صلى الله عليه وسلم – : "إذا حدَّث الرجلُ الحديث ثم التفت فهي أمانة " رواه أبو داود والترمذي ..
ومما يؤكد دقتها وخطورتها دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – ربه مستعيذاً به من ضدها حيث قال : " اللهم إني أعوذُ بك من الجوعِ فإنه بئْس الضَّجِيع ، وأعُوذ بكَ من الخيانةِ فإنها بِئْستِ البِطانة " رواه النسائي .
وبعد - يا رعاكم الله – فإننا نعيش في أعقاب الزمن الذي تبدلت فيه أخلاق الفطرة وآداب الشريعة وتخلف الكثيرون عن اللحاق بركبهما والسير على منهاجهما ؛ فاندرست بعض المعالم وانطمست حتى لم يدر البعض ما الأمانة وما الخيانة ، ولقد صدق المصطفى – صلى الله عليه وسلم – حيث قال : " أولُ ما تفقِدُونَ من دينِكم الأمانة ، وآخرُ ما تفقدون الصَّلاة " رواه الحاكم والبيهقي ..
وفي الصحيحين من حديث حذيفة – رضي الله عنه – عما يكون من الفتن في الناس .. فكان مما قال : "ويصبحُ النَّاسُ يتبَايعُون فلا يكادُ أحدُهم يؤدِّي الأمانةَ فيُقال : إنَّ في بني فلان رجلاً أميناً " ..
فإذا كانت هذه الإرهاصات – عباد الله – هي ديدنَ الناس في بيعهم وشرائهم وعلمهم وحكمهم ودعوتهم وسائر شئونهم .. فإنهم بذلك يكبِّرون على الأمانة أربعاً لوفاتها في واقعهم وليهلُّوا عليها التراب بعد أن اغتالوها ، ليصدق فيهم قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : " إذا ضُيِّعتِ الأمانةُ فانتْظر الساعة " ، قيل : كيف إضاعتها ؟ قال : " إذا وُسِّد الأمرُ إلى غيرِ أهلِهِ فانْتظِرِ الساعة " رواه البخاري .
هذا ، وصلُّوا وسلِّمُوا – رحمكم الله – على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة .. فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه وثنَّى بملائكته المسبحة بقدسه وأيَّه بكُمْ أيها المؤمنون فقال – جل وعلا – : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ( الأحزاب 56 ) .
اللهم صلِّ وسلِّمْ وزِدْ وبارِكْ على عبدك ورسولك صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر ، وارْضَ اللهمَّ عن خلفائه الأربعة - أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي - وعن سائر صحابة نبيِّك محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم بعفوِك وجوْدك وكرَمِك ياأرحم الراحمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين واخذل الشرك والمشركين ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين .
اللهم فرِّجْ همَّ المهمومين من المسلمين ، ونفِّثْ كرْبَ المكروبين ، واقْضِ الدَّين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك ياأرحم الراحمين .
اللهم إنَّا نعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضَّجِيع ، ونعوذ بك من الخيانة فإنها بئْستِ البطانة . اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصْلِحْ أئمتنا وولاةَ أمورِنا ، واجعلْ ولايتَنا فيمَنْ خافك واتَّقاك واتَّبع رضَاك يارب العالمين .
اللهم وفِّقْ ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ياحيُّ ياقيوم ، اللهم أصْلِحْ له بطانته ياذا الجلال والإكرام .
ربنا آتِنا في الدُّنيا حسنة وفي الآخرةِ حسنة وقِنَا عذابَ النار . سبحان ربنا رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
للاستماع
http://gate.gph.gov.sa/index.cfm?do=...audfiletype=rm (http://gate.gph.gov.sa/index.cfm?do=...audfiletype=rm)
خطبة الجمعة من المسجد النبوي 8-1-1431 هـ
القاها فضيله الشيخ حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ
عنوانها الأمانة ووجوب حفظها وفضل صيام عاشوراء
الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، وشرع لنا أفضل الأحكام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل الأنام ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام.
أما بعد .. فيا أيها المسلمون أوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا – فلا خير لنا ولا صلاح إلا بتقواه - جل وعلا - وبطاعته في كل صغير وكبير .
إخوة الإسلام .. الحياة المثلى لا تتحقق إلا بالإحسان ، والحضارات لا تُبْنى إلا بالإتقان .. إحسان التخطيط والتقدير وإتقان العمل في التنفيذ .. قال - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله كتب الإحسان على كل شيء " رواه مسلم .
إخوة الإسلام .. ما أحوجنا حينما تمر بنا البأساء والضراء ، وتحل بنا الكوارث والمصائب ، ما أحوجنا إلى وقفات للمحاسبة ، ولحظات للمراجعة ؛ فمقياس حضارة الأمم ومعيار تقدمها ورقيها أن تكون صادقة مع ذاتها ، تعرف مواضع الخلل لتصلحها ، وتلحظ أماكن الزلل لتتلافاها .
وهنا نقف - إخوة الإسلام - وقفات مهمة تتضمن مضامين متى سرت في الأمة كانت سبب فلاحها ، وعاملا لصلاحها وازدهار حياتها ..
الوقفة الأولى : أن كل مصيبة تقع على المسلمين ، وكل كارثة تقع تحصل بالمؤمنين فيجب أن تقودهم إلى التوبة إلى الله - جل وعلا - والرجوع والإنابة إليه ..وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَالأنعام 42 -43 ، وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَالأعراف 94 .
الوقفة الثانية : عند حدوث الكوارث والمصائب نسمع بعض المسلمين يقول بأنها كارثة طبيعية ، وهذا الكلام لا يجوز في شرع الله - جل وعلا - بل كل شيء يقع في هذه الدنيا فهو بقضاء الله وقدره ، ومشيئته وحكمته مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌالحديد 22.
ولكن إذا وقعت مصيبة وحصلت كارثة فلا نقف عند هذا الحد عاجزين عن معرفة الأسباب والعلل للعلاج ودرء الخطر في المستقبل ؛ فمن المتقرر شرعاً أن القدر يحُْتَجُّ به في المصائب ، ولا يحتج به في المعايب ؛ بمعنى إذا وقعت بنا كارثة فلا نقول : إن هذا قدر على أن لا نغير من واقعنا وفي مستقبلنا شيئا .
الوقفة الثالثة : الواجب على من تسنم قمم المراتب وتبوأ أعالي المناصب من الوزراء والمدراء والأمناء أن يستشعروا مسئوليتهم أمام الله - جل وعلا - وأن يعلموا أنهم قد تحملوا أمانة عظيمة أمام الله - سبحانه - ثم أمام ولي الأمر ثم أمام المجتمع ككل .. " كلكم راعٍ ، وكلكم مسؤول عن رعيته " إن الأمر جِدُّ خطير ..
فيامن ولاه الله - جل وعلا - منصبا من المناصب تذكَّرْ موقفك أمام الله - جل وعلا - واتق الله في المسلمين ، واعلم أن حلاوة المنصب متضمنة غُرماً عظيماً يذكِّرنا به النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما قال أبو ذر - رضي الله عنه - له : " ألا تستعملني ؟ أي تجعلني والياً أو أميراً ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " يا أبا ذر إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خِزْي وندامة إلا من أخذها بحقها وعدَّ الذي عليه فيها " أخرجه مسلم ، وفيه أيضا : "إني أحب لك ما أحب لنفسي ؛ لا تأمَّرن على اثنين ، ولا تتولين مال يتيم " ..
فهل استشعرت - يامن قلدك الله منصباً من المناصب - خطورةَ هذا الأمر فأوليت الرعاية التامة ما استؤمنت عليه ، وبذلت الجهد العظيم للعمل بما يخدم المصالح العامة والمنافع الكبرى للمجتمع ؟ هل صدقتَ مع الله - جل وعلا - ثم مع ولي الأمر في تقديم الخدمة التي تتحقق بها المشاريع النافعة على أحسن وجه وأكمل حال ؟ وإلا فالويل ثم الويل لمن أولاه وليُّ الأمر القيامَ على مصالح المسلمين ثم فرط في ذلك ، أو أهمل الرعاية الواجبة .. صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه " ؛ بمعنى أن حرص الرجل على المال وعلى المناصب - إذا لم يتق الله في ذلك - كان مفسدا لدينه ، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله فيما أخرجه أحمد : " ويلٌ للأمراء ، ويل للعُرَفاء ، ويل للأمناء ليتمنين يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا ، ويتذبذبون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء " .
الوقفة الرابعة : أن القيام على تنفيذ المشاريع والمرافق التي تخدم المصالح العامة في البلاد والعباد هي أمانةٌ ..أمانةُ كل مسئول من أعلى سلطة إلى أدنى مستوى من المسئولية ؛ فعلى الجميع التزام الأمانة والتحلي بلباسها ، والتخلِّي عن الغدر والخيانة ..ربنا - جل وعلا - يأمرنا بأداء الأمانة فيقول : إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ..النساء 58 ، ويحذرنا من الخيانة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَالأنفال 27 ..
ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقول : " آية المنافق ثلاثٌ " ، وذكر منها : " إذا اؤتمن خان " متفق عليه ، وفي حديثٍ آخر .. حديث عظيم يحذر من تحلَّى بالخيانة والغدر : " لا إيمانَ لمَن لا أمانةَ له ، ولا دِينَ لمنْ لا عهْدَ له" سنده حسن .
فياأصحاب القيادات .. اعلموا أنكم مسئولون أمام الله - جل وعلا - عن العقود التي تجرونها ، والمناقصات التي تشرفون عليها ، والمشاريع التي أنتم مؤتمنون عليها ، فهل ترضون التفريط في مصالحكم الخاصة ؟ فما لكم بالتفريط في المصالح العامة ؟!
الوقفة الخامسة : واجبُ كل ولي أمر - بحسبه - أن يولي أهل القوة والأمانة ، وأهل الخير والصلاح والاستقامة ، وأهل الصدق والنزاهة والورع والديانة من المعروفين بحسن السيرة والإخلاص في العمل : .. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُالقصص 26 ..
فما أفسد على المسلمين حياتهم إلا حينما أخَلُّوا بهذا المبدأ ؛ فلْنحْذر المحسوبيات ولْنتجنب المحاباة .. فليست المسئوليات منحًا تُهدَى ولا حقوقًا تُعطَى ، بل الاختيار لكل وظيفة يجب أن يكون على أسسٍ موضوعية وعلمية .. وليس على أساس الوساطة والمحسوبية والقرابة ؛ فنبينا - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الحاكم - يقول : " من ولِيَ من أمْر المسلمين شيئاً فأمَّر عليهم أحداً محاباةً فعليه لعنةُ الله .. لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم" ..
وفي حديث آخر : " أيما رجل استعمل رجلًا على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل ، فقد غشَّ الله ورسوله ، وغشَّ جماعة المسلمين " ..
الله أكبر ! فكيف بمنصبٍ أو وظيفةٍ تتعلق بها مصالح عظيمة للمسلمين ، ويترتب على الإهمال فيها مفاسد عظيمة لا تخفى على عاقل ..
رضي الله عن عمر حينما قال : " من قلَّد رجلًا على عصابةٍ وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه ، فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين " .
ألا وإن أعظم الضياع لمصالح الأمة والخيانة في الأمانة أن يُولَّى على المسلمين من ليس أهلًا لذلك .. فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة ، قال السائل : وكيف إضاعتها ؟ قال : إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة " رواه البخاري ..
وقال - عليه الصلاة والسلام - : " ما مِنْ أميرٍ يلِي أمور المسلمين ثم لم يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل الجنة معهم " أخرجه مسلم ..
الأمر جد خطير يامن ولاه الله الأمانة .
الوقفة السادسة : ياأصحاب الشركات التي تبوأت مقاليد العمل في المشاريع العامة في بلاد المسلمين .. أنتم مسئولون أمام الله - جل وعلا – عن كل ما تأخذون من المشاريع والأعمال ، وسيأتي يومٌ تندمون فيه على التفريط .. فمن أشد المحرمات : المبالغةُ في تقديم الأسعار الباهظة التي تقدمها الشركات حال المناقصة لأخذ مشروع يصرف عليه من مال بيت المسلمين .. فيحصل حينئذٍ التنافس على أسعار مُغَالى فيها وأقياممُبالَغٍ بها لا لشيء إلا لأجل أن المشروع يعود للمصلحة العامة ..
فهذا ظلمٌ عظيمٌ لجميع المسلمين ، الحق فيه للمسلمين يوم القيامة .. هذا العمل تحرمه النصوص الشرعية وتأباه المقاصد المرعية ، بل والأدهى من ذلك وأَمَرّ تنفيذ المشاريع بغشٍّ وخداع ، وزيفٍ وكذب .. قال - صلى الله عليه وسلم - : " من غشَّنا فليسَ منَّا " رواه مسلم ..
وتذكَّرُوا ياأصحاب المشاريع .. ياأصحاب الشركات قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنَّ أوَّل ما يُنْتِنُ من الإنسان بطنُه .. فمن اسْتطاع ألَّا يأكلَ إلا طيِّبا فليفعل " رواه البخاري ..
كما أن من أعظم الظلم : التأخيرَ في تنفيذ المشاريع العامة ، والمماطلةَ على المسلمين في التسليم .. قال - صلى الله عليه وسلم - : " مطْلُ الغني ظُلم " ..
وكم رأينا وشاهدنا من الأضرار التي نجمت بسبب ذلك ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : " لا ضرر ولا ضِرار " .. من ضار المسلمين ضاره الله .
واعلموا أن التفريط في أموال المسلمين ومشاريعهم من أعظم الموبقات عند الله - جل وعلا - قال صلى الله عليه وسلم : " إن أقوامًا يتخوَّضُون في مال الله بغير حقٍّ فلهم النار يوم القيامة " رواه البخاري ..
فهل ترضون بهذه العقوبة عن هذه الدنيا الفانية ؟!
الوقفة السابعة : أن من أسباب الخراب العظيم والفساد الوخيم الرشوةَ والتهاونَ في التصدي لها .. تلك الجريمة النكراء التي تجعل من الحق باطلاً ومن الباطل حقا ، وتحمل المسئول على تحقيق ما يريده الراشي من مقاصدَ سيئةٍ ومآربَ فاسدةٍ على حساب المصالح العامة .. إنها السحت الذي ذم الله - جل وعلا - بني إسرائيل على أخذه والتعاطي فيه ..
وهي سبب لحصول اللعن على العبد ، فعن عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لعن الله الراشي والمرتشي " وهو حديث صحيح ، وفي حديث رواه ابن جرير : " كلُّ لحم ٍأنبته السحت فالنار أولى به ، قيل : وما السحت ؟ قال : الرشوة في الحكم " .. وكل رشوة في وظيفة ما فهي بهذا المعنى .
الواجب على كل ذي مسئولية وعلى المجتمع ككل ، وعلى الإعلام أن يتصدى لهذه الجريمة البشعة ؛ بفضح صاحبها والتشهير به ، ومعاقبته بالعقاب الرادع الزاجر .. فربنا - جل وعلا - يقول :لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَالمائدة 63 ، وإلا فالويلُ ثم الويل لمجتمع لا يتناهى عن الرشوة ، ولا يتعاون على محاربتها واجتثاثها من أصلها .. روى الإمام أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أُخذوا بالسنة ، وما من قوم يظهر فيهم الرشاء إلا أخذوا بالرعب " .. إنها معجزة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
الوقفة الثامنة : من الجرم العظيم والإثم المبين : استغلالُ المناصب للمصالح الشخصية ، والاختلاس من الأموال العامة .. ربنا - جل وعلا - يقول :.. وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ..آل عمران 161 ، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة ، فقام إليه رجل أسود من الأنصار فقال : يا رسول الله اقبل عني عملك قال : ومالك ؟ قال : سمعتك تقول كذا وكذا ، قال : وأنا أقول كذا وكذا من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه انتهى " أخرجه مسلم ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - : "مَنِ استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً ، فما أخذَ بعد ذلك فهو غُلول " إسناده صحيح .. فهل ترك محمد - صلى الله عليه وسلم - من البلاغ والبيان أفصح وأعظم من ذلك ؟!
كيف تغدر - أيها المسلم - بالأمانة التي استرعاك الله عليها ، وخَوَّلك وليُّ الأمر إياها ، وقد حذرك رسوله -صلى الله عليه وسلم - من ذلك ، ومن ذلك قوله : " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرْفع لكل غادرٍ لواءٌ يعرف به فيقال : هذه غدرة فلان " متفق عليه .. أفتبتغي - أيها العبد - أن يقال لك هذا الأمر يوم القيامة ؟ تب في هذه الدنيا قبل أن لا يأتي يومٌ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا مَنْ أتى الله بقلب سليم .
اعلم - أيها العبد - أنك ستوقف للحساب ، فليتق الله كلٌّ منا ، وليطب مطعمه ومكسبه ؛ فإنه لن يربو لحمٌ نبت من سحت إلا كانت النار أولى به ، كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولنحذر ولنحذر من تهافت الناس على الحرام فذلك لا يجدي علينا شيئا .. لقد حذرنا - صلى الله عليه وسلم - من زمان كزماننا هذا ، فقال :" ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن الحلال أم من الحرام ؟ " رواه البخاري .. جاء عن عياض - وهو أمير لعمر على حمص - أنه قال لبعض أقاربه - في قصة طويلة ذكرها ابن الجوزي - قال :" فو الله لأَنْ أُشقَّ بالمنشار أحبُّ إليَّ من أن أخون فلساً أو أتعدى " .. إنها مدرسة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي تلقاها عمر فجعلها واقعاً ملموساً في عهده - رضي الله عنه - وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
الوقفة الأخيرة : الواجب المتحتم والفرض اللازم على أجهزة الرقابة التي ولاها الله - جل وعلا - مسئولية الرقابة ، والتي أولاها ولي الأمر هذه المسئولية أن تتقي الله - جل وعلا - وأن تبذل جهدها في مراقبة كل صغير وكبير ، وأن تحاسب كل جهة مسئولة عن كل مشروع محاسبةً متناهيةَ الدقة في الجليل والحقير ، باذلةً أوجه التنقيب والمساءلة في كشف الحقائق وإظهار مواطن الزلل والخلل والفساد ..حاسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن اللتبية لما قدم وقال : هذا لكم وهذا لي ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فحمد الله ثم قال : " ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول : هذا لكم وهذا لي ، فهلَّا جلس في بيت أبيه وأمه ينتظر أَيهْدى إليه أم لا ؟ " ، وجاء في بعض الروايات بلفظ فحاسبه - صلى الله عليه وسلم - ..
إنها سنة نبوية في مبدأ :" من أين لك هذا ؟ " ، وهذه سنة الخلفاء الراشدين من بعده ..
جاء في الإصابة في تراجم الصحابة أن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان عاملاً لعمر على البحرين ، فقدم بعشرة آلاف فقال له عمر :" استأثرت بهذه الأموال ؟ مع أنه - رضي الله عنه - لم يجعل هذا المال في الخفى وإنما أعلم به عمر ، فقال عمر : " استأثرت بهذه الأموال ؟ فمن أين لك ؟ فقال أبو هريرة : " خيل نتجت ، وأعطية تتابعت ، وإخراج رقيق لي " ، فنظر عمر ثم حاسب محاسبة دقيقة فوجدها كما قال ، ثم دعا أبا هريرة ليستعمله مرة أخرى فأبى - رضي الله عنهم - .
بارك الله لي ولكم في القرآن ، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان .. أقول هذا القول ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه وعلى آلهِ وأصحابه .
أما بعد .. فأوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا – فهي سبب كل فوزٍ ونجاة في الدنيا والآخرة .
أيها المسلمون .. شهر الله المحرم شهرٌ عظيم وموسمٌ كريم .. قال عنه - صلى الله عليه وسلم - : " أفضل الصيام بعْد رمضان شهرُ الله المحرم ، وأفضل الصلاةِ بعد الفريضة صلاةُ الليل " ..
ويتأكد مشروعية صيام اليوم العاشر من هذا الشهر .. ففي الصحيحين : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه ، وفي صحيح مسلم سئل عن صيام يوم عاشورا فقال : " يكفر السنة الماضية " ، والأفضل صوم التاسع مع العاشر كما قال - عليه الصلاة والسلام - : " لئن بقيت إلى قابل لَأصُومنَّ التاسع " رواه مسلم ..
فمن لم يتمكن من التاسع فالحادي عشر كما هي السنة ، وصوم يومٍ بعده ويومٍ قبله أفضل وأزكى أجرا .
ثم إن الله أمرنا بأمرٍ عظيم .. ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم .. اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين . اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين . اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين .
اللهم فرج هموم المسلمين ونفِّس كرباتهم واشفِ مرضاهم وأغنِ فقراءهم واهدِ ضالهم يارب العالمين .
اللهم اكْبِت عدوهم . اللهم اكبتْ عدوهم ، اللهم من أراد بالمسلمين سوءًا فأشغله في نفسه .
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، اللهم آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
اللهم وفّق ولي أمرنا لما تحب وترضى ، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه ياذا الجلال والإكرام ، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم . اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم . اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم ..
اللهم من أراد مصالحهم بسوءٍ فأشغله في نفسه ، اللهم من نواهم بسوءٍ فأشغله في نفسه . اللهم من نواهم بمشقةٍ فأشغله في نفسه ياذا الجلال والإكرام .
اللهم أنت الغني ونحن الفقراء .. أنزل علينا الغيث ، اللهم أنزل علينا الغيث . اللهم أنزل علينا الغيث ، اللهم اسقنا . اللهم اسقنا . اللهم اسقنا ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا غرق يارب العالمين ..
اللهم من أراد بلادنا بسوءٍ فأشغله في نفسه ، اللهم رد كيده في نحره ، اللهم احفظ جنودنا في كل مكان . اللهم احفظ جنودنا في كل مكان ، اللهم رد كل مفقود ، اللهم رد كل مفقود واغفر لكل ميت ياذا الجلال والإكرام ، اللهم رد كل مفقود ياذا الجلال والإكرام .
اللهم آمِنْ بلاد الحرمين .. اللهم آمِنْ بلاد الحرمين وسائر بلاد المسلمين ياحي ياقيوم .
اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على سيدنا ونبينا محمد .
للاستماع
http://gate.gph.gov.sa/index.cfm?do=...audfiletype=rm (http://gate.gph.gov.sa/index.cfm?do=cms.AudioListen&simplelayout=1&audioid=38814&audfiletype=rm)
القاهافضيله الشيخ سعود بن إبراهيم الشريم
عنوانهابالأمانة مكانتها وحقيقتها وأثرها في الأمة
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(102 سورة آل عمران) ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1 سورة النساء)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(70 سورة الأحزاب) .
أما بعد .. فياأيها الناس : ما مِنَّا مِن أحدٍ إلا وقلبه مشرئبٌّ إلى الفلاح وبلوغه ، وإنه ما غاب قلبٌ عن هذا الاستشراف إلا حُكِم عليه بالمرض إن لم يكن قُضِي عليه بموت القلب ..
فمن هو العاقل الذي يرى فلاحه يمنةً ثم هو يسلك ذات شمال ؟! ومن هو هذا الذي لم يفلح أو يحدِّث نفسه بالفلاح ؟! فإما أن يكون جاهلًا لم يفقه أو مريضًا لم ينْقه ، وكلا الأمرين .. أو وكلا الأمَّرين علقم .
إن مطلب الفلاح أمرٌ فطريٌّ غريزي جاءت به الشريعة الإسلامية الغرَّاء مؤيدةً له حاضَّةً عليه محرِّضةً على تحصيله تحصيلًا حثيثا ، وجعلت الفلاح مشارب ومراكب .. كلٌّ يورد ويُصدر على ما وهبه الله من الهمة والحرص والأمل .
بيد أن من أهم أنواع الفلاح ما كان سببه متعديًّا لا قاصرا شاملًا لا مبعِّضا مسهِبًا لا مطنِبا ، وإذا أردنا الوصول إلى أمْيز طُرق الفلاح وأعظمها وأوسعها نفعا فإنه طريق الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبيْن أن يحملْنَها وأشفقن منها وحملها الإنسان .. إنه كان ظلومًا جهولا .
إنها الأمانة العظمى عباد الله .. نعم الأمانة بمفهومها الواسع الذي أرادها الله لها وأرادها رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهي ضد الخيانة بمفهومها الواسع الذي نهى الله ورسوله عنها ؛ لتكون الأمانة في كل ما افترض الله على العباد في الدين والأعراض والأموال والعقول والأنفس والمعارف والعلوم والولاية والحكم والشهادة والقضاء والأسرار والحواس الخمس ونحو ذلك .. فهي كما قال القرطبي - رحمه الله - : " تعم جميع وظائف الدين " .
ثم إنه لا يمكن أن يكون الأمين أمينًا إلا إذا كان عافًّا عمَّا ليس له به حق .. مؤدِّيا ما يجب عليه من حقٍّ لغيره .. حريصًا على حفظ ما استُؤمِن عليه غير مفرِّطٍ به ..
فإن من اجتمعت فيه هذه الركائز فهو في دائرة المفلحين الذين قال الله - جل وعلا - عنهم : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1 سورة المؤمنون) .. إلى أن قال : وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(7 سورة المؤمنون) .
الأمانة - عباد الله - لم تكن بدْعًا من التشريع الإسلامي المحمدي فحسب ، بل هي من أبرز أخلاق الرسل والأنبياء - عليهم أفضل الصلاة والسلام - فهذا نوحٌ وهودٌ وصالح ولوطٌ وشعيب .. كل واحدٍ منهم قد قال لقومه : إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(162 سورة الشعراء) ، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - ما كان يُعْرَف في قومه إلا بالصادق الأمين ،وقد جعل الباري - جل شأنه - هذه الصفة للروح الأمين جبريل - عليه السلام - في قوله : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193 سورة الشعراء) .
لقد قصرت أفهام الكثيرين عن معنى الأمانة فحصروها في حفظ الودائع المالية والمادية فحسب ، وضيقوا بهذا الفهم واسعا .. في حين إنها ليست إلا لونًا من ألوان الأمانة التي تتعدد وتتجدد .. فالقيام بالواجب أمانة ، وترك المنهي أمانة ، والأمر بالمعروف أمانة ، والنهي عن المنكر أمانة ، والحكم أمانة ، ورعاية حقوق الأمة أمانة ، والعلم أمانة ، وحماية الدين والذب عن حياضه أمانه ، وصيانة أرض الوطن المسلم وحماية ممتلكات المجتمع أمانة ..
فكل أمانةٍ من هذه الأمانات تتحقق بإقامة مصلحتها ودرأ مفسدتها وعدم خذلان الأمة فيها :إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا(107 سورة النساء) .
وإذا نظرنا إلى كلمة الأمانة - عباد الله - فإننا سنجد فيها معنى الأمان والاطمئنان .. فكأن الأمن والطمأنينة والراحة والاستقرار مرهونةٌ كلها بتحقيق الأمانة على وجهها الصحيح .. فلا يمكن أن يأمن ظالمٌ ولا يهدأ عاص ولا يسعد خوَّان ولا يفلح منافق ولا يصل متلفت ..
وفي حين أن القرآن الكريم قد ذُكِرت فيه الأمانة في مواضع كثيرة فإنه في الوقت نفسه قد جاء التحذير من ضدها .. وهي (الخيانة) .. فقال الله - جل شأنه - : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27 سورة الأنفال) ، وقال سبحانه : ... وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ(52 يوسف).
وكفى بالخيانة شرًّا وقبحًا ومقتًا أنها سببٌ في دخول جهنم وبئس المصير من خلال ما ضرب الله لنا مثلًا بامرأتين من نساء الأنبياء والرسل ، وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ(10 سورة التحريم) .. أي خانتاهما في الدين ، وكانتا تدلان أقوامهما بمن يؤمن مع أزواجهما .
إنها النار .. إنها النار يامَنْ خنُت الأمانة .. إنه العذاب الأليم يامَنْ خنت ربك وخنت ولي أمرك وخنت أمتك وخنت نفسك التي بين جنبيك ..
لقد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوظائف أمانات ، وطلب من ذوي القوى الإحسان فيها والتيقظ لها ، ونصح الضعفاء عن طلبها والتعرض لها .. فقد سأله أبو ذر - رضي الله عنه - أن يستعمله فضرب بيده على منكبه وقال : " يا أبا ذر إنك ضعيف .. وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها " رواه مسلم .
ومن هذا الحديث - عباد الله - نستطيع أن نبعث رسالةً إلى كل من تطلعت نفسه واشرأبت إلى أن تتولى مصلحة من مصالح المسلمين دون استحضار القدرة عليها والشعور بقيمتها وعظم المسئولية والتبعة فيها ..
والقوة - عباد الله - في هذا الحديث هي التي تعني حسن الإدارة الموصوفة بالحزم والحكمة والإجادة ؛ إذ لا أحد يشك في إيمان أبي ذر - رضي الله عنه - وتقواه .. ومع ذلك وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه ضعيف ..
والضعف عيبٌ في تحمل المسئولية ؛ ولذا فإننا نشاهد في كل عصرٍ ومصر من تُوكل إليه المسئولية وهو طيبٌ في نفسه ومؤمنٌ بربه وحسنٌ في عبادته ولكنه لا يفعل خيرًا في مسئوليته ولا يحجز شرّا .. هكذا سبهلالا ، وترى من تحت مسئوليته فوضى لا سراة لهم ..
فمثل هذا لم يدرك أن وظيفته عقدٌ بينه وبين ولي الأمر أو بين مؤسسةٍ للقيام بعمل محدودٍ مقابل عوضٍ مخصوص ، ومن فرَّط في أداء هذا الواجب فهو ممن لم ينفعه إيمانه في أداء واجبه ؛ إذ كيف يرضى المؤمن بالغش أو الخيانة أو التقصير فيما استأمنه عليه ولي الأمر من مصالح العباد وحاجاتهم ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا إيمانَ لِمَنْ لا أمانةَ له ولا دينَ لمن لا عهد له" رواه أحمد وابن حبان .
ولذا فإن الوظائف - كبيرها وصغيرها - ليست وسيلةً للترفع أو الترفه .. إنما هي كيان دولةٍ وضمان مجتمع وحاضر أمة ومستقبلها ..
فمن ولاه ولي أمر المسلمين عملًا فضيع فيه فهو خائن . فهو خائن . فهو خائنٌ للأمانة ، ولولي الأمر وللمجتمع بأسره : ...إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ )58 سورة الأنفال)،وما هذه حال المؤمن الصادق الناصح لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "والمؤمنُ من أمنه الناس على دمائِهم وأموالهم "رواه الترمذي والنسائي .
ثم إن الخائن للأمانة لَيُعد من المنافقين النفاق العملي بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : " آيةُ المنافق ثلاث : إذا حدَّث كذب وإذا وعد أخْلف وإذا اؤتمن خان " رواه البخاري ومسلم .
فالحذر الحذر - عباد الله - من انقلاب المفاهيم وعدم التمييز بين الخائن والأمين .. فما زمننا هذا إلا ميدانٌ ترامت فيه الأهواء وقُلِبت فيه الحقائق فسُتِر على الخائن وضُيِّق على الأمين بسبب مفاهيم مغلوطةٍ ومقدماتٍ مضللة ، ولقد صدق رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال : " والذي نفْسي بيدِه .. لا تقومُ الساعةُ حتى يُخوَّنُ الأمين ويؤتمن الخائن..." الحديث رواه البخاري وسلم .
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة ..
قد قلت ما قلت إن صوابًا فمن الله وإن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان ، وأستغفر الله إنه كان غفارا .
الخطبة الثانية :
الحمد لله وحده .. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد ..
فاعلموا - يارعاكم الله - أنه ما اتصف أحدٌ بصفة الأمانة إلا كان الفلاح حاديه والسكينة والطمأنينة مطيته ، ولم يتفق العقلاء - قديماً وحديثاً .. رجالاً ونساءً .. كباراً وصغاراً - على استحسان خلةٍ كخلةِ الأمانة يتحلى بها المرء المسلم .. ألا ترون إلى ابنة شعيب – عليه السلام – حينما خاطبت أبيها عن موسى – عليه السلام – قائلة : يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ( القصص 26 ) .
ومن هذا المنطلق فإن صفة الأمانة صفةٌ مطلقة لا تخضع للنسبية والتعددية للفرد الواحد فلا يمكن أن يكون المرء خائناً أميناً في الوقت ذاته ، ولا يمكن أن تتطرق الخيانة إليه بوجهٍ من الوجوه حتى في مقام تحصيل حقه ومبادلة المثل بالمثل لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " رواه أبو دواد والترمذي .
ذلك – عباد الله – أن الخيانة لا تحتمل المحمدة البتة .. نعم قد يكون المكر في مقابل المكر والكيد في مقابل الكيد والخديعة في مقابل الخديعة .. فقال الله – جل وعلا – : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ .. ( النساء 142 ) .
، وقال سبحانه : وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ .. ( الأنفال 30 ) ، وقال - جل وعلا - : إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً ( الطارق 15- 16 ) .
ولكنه في مقام الخيانة نزه نفسه العلية عنها فقال – جل وعلا - : وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ .. ( الأنفال 71 ) ، ولم يقل (فخانهم) .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا .
إن للأمانة – عباد الله – إن للأمانة من الدقة والأهمية ما يوضحها قوله – صلى الله عليه وسلم – : "إذا حدَّث الرجلُ الحديث ثم التفت فهي أمانة " رواه أبو داود والترمذي ..
ومما يؤكد دقتها وخطورتها دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – ربه مستعيذاً به من ضدها حيث قال : " اللهم إني أعوذُ بك من الجوعِ فإنه بئْس الضَّجِيع ، وأعُوذ بكَ من الخيانةِ فإنها بِئْستِ البِطانة " رواه النسائي .
وبعد - يا رعاكم الله – فإننا نعيش في أعقاب الزمن الذي تبدلت فيه أخلاق الفطرة وآداب الشريعة وتخلف الكثيرون عن اللحاق بركبهما والسير على منهاجهما ؛ فاندرست بعض المعالم وانطمست حتى لم يدر البعض ما الأمانة وما الخيانة ، ولقد صدق المصطفى – صلى الله عليه وسلم – حيث قال : " أولُ ما تفقِدُونَ من دينِكم الأمانة ، وآخرُ ما تفقدون الصَّلاة " رواه الحاكم والبيهقي ..
وفي الصحيحين من حديث حذيفة – رضي الله عنه – عما يكون من الفتن في الناس .. فكان مما قال : "ويصبحُ النَّاسُ يتبَايعُون فلا يكادُ أحدُهم يؤدِّي الأمانةَ فيُقال : إنَّ في بني فلان رجلاً أميناً " ..
فإذا كانت هذه الإرهاصات – عباد الله – هي ديدنَ الناس في بيعهم وشرائهم وعلمهم وحكمهم ودعوتهم وسائر شئونهم .. فإنهم بذلك يكبِّرون على الأمانة أربعاً لوفاتها في واقعهم وليهلُّوا عليها التراب بعد أن اغتالوها ، ليصدق فيهم قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : " إذا ضُيِّعتِ الأمانةُ فانتْظر الساعة " ، قيل : كيف إضاعتها ؟ قال : " إذا وُسِّد الأمرُ إلى غيرِ أهلِهِ فانْتظِرِ الساعة " رواه البخاري .
هذا ، وصلُّوا وسلِّمُوا – رحمكم الله – على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة .. فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه وثنَّى بملائكته المسبحة بقدسه وأيَّه بكُمْ أيها المؤمنون فقال – جل وعلا – : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ( الأحزاب 56 ) .
اللهم صلِّ وسلِّمْ وزِدْ وبارِكْ على عبدك ورسولك صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر ، وارْضَ اللهمَّ عن خلفائه الأربعة - أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي - وعن سائر صحابة نبيِّك محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم بعفوِك وجوْدك وكرَمِك ياأرحم الراحمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين واخذل الشرك والمشركين ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين .
اللهم فرِّجْ همَّ المهمومين من المسلمين ، ونفِّثْ كرْبَ المكروبين ، واقْضِ الدَّين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك ياأرحم الراحمين .
اللهم إنَّا نعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضَّجِيع ، ونعوذ بك من الخيانة فإنها بئْستِ البطانة . اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصْلِحْ أئمتنا وولاةَ أمورِنا ، واجعلْ ولايتَنا فيمَنْ خافك واتَّقاك واتَّبع رضَاك يارب العالمين .
اللهم وفِّقْ ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ياحيُّ ياقيوم ، اللهم أصْلِحْ له بطانته ياذا الجلال والإكرام .
ربنا آتِنا في الدُّنيا حسنة وفي الآخرةِ حسنة وقِنَا عذابَ النار . سبحان ربنا رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
للاستماع
http://gate.gph.gov.sa/index.cfm?do=...audfiletype=rm (http://gate.gph.gov.sa/index.cfm?do=...audfiletype=rm)
خطبة الجمعة من المسجد النبوي 8-1-1431 هـ
القاها فضيله الشيخ حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ
عنوانها الأمانة ووجوب حفظها وفضل صيام عاشوراء
الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، وشرع لنا أفضل الأحكام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل الأنام ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام.
أما بعد .. فيا أيها المسلمون أوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا – فلا خير لنا ولا صلاح إلا بتقواه - جل وعلا - وبطاعته في كل صغير وكبير .
إخوة الإسلام .. الحياة المثلى لا تتحقق إلا بالإحسان ، والحضارات لا تُبْنى إلا بالإتقان .. إحسان التخطيط والتقدير وإتقان العمل في التنفيذ .. قال - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله كتب الإحسان على كل شيء " رواه مسلم .
إخوة الإسلام .. ما أحوجنا حينما تمر بنا البأساء والضراء ، وتحل بنا الكوارث والمصائب ، ما أحوجنا إلى وقفات للمحاسبة ، ولحظات للمراجعة ؛ فمقياس حضارة الأمم ومعيار تقدمها ورقيها أن تكون صادقة مع ذاتها ، تعرف مواضع الخلل لتصلحها ، وتلحظ أماكن الزلل لتتلافاها .
وهنا نقف - إخوة الإسلام - وقفات مهمة تتضمن مضامين متى سرت في الأمة كانت سبب فلاحها ، وعاملا لصلاحها وازدهار حياتها ..
الوقفة الأولى : أن كل مصيبة تقع على المسلمين ، وكل كارثة تقع تحصل بالمؤمنين فيجب أن تقودهم إلى التوبة إلى الله - جل وعلا - والرجوع والإنابة إليه ..وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَالأنعام 42 -43 ، وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَالأعراف 94 .
الوقفة الثانية : عند حدوث الكوارث والمصائب نسمع بعض المسلمين يقول بأنها كارثة طبيعية ، وهذا الكلام لا يجوز في شرع الله - جل وعلا - بل كل شيء يقع في هذه الدنيا فهو بقضاء الله وقدره ، ومشيئته وحكمته مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌالحديد 22.
ولكن إذا وقعت مصيبة وحصلت كارثة فلا نقف عند هذا الحد عاجزين عن معرفة الأسباب والعلل للعلاج ودرء الخطر في المستقبل ؛ فمن المتقرر شرعاً أن القدر يحُْتَجُّ به في المصائب ، ولا يحتج به في المعايب ؛ بمعنى إذا وقعت بنا كارثة فلا نقول : إن هذا قدر على أن لا نغير من واقعنا وفي مستقبلنا شيئا .
الوقفة الثالثة : الواجب على من تسنم قمم المراتب وتبوأ أعالي المناصب من الوزراء والمدراء والأمناء أن يستشعروا مسئوليتهم أمام الله - جل وعلا - وأن يعلموا أنهم قد تحملوا أمانة عظيمة أمام الله - سبحانه - ثم أمام ولي الأمر ثم أمام المجتمع ككل .. " كلكم راعٍ ، وكلكم مسؤول عن رعيته " إن الأمر جِدُّ خطير ..
فيامن ولاه الله - جل وعلا - منصبا من المناصب تذكَّرْ موقفك أمام الله - جل وعلا - واتق الله في المسلمين ، واعلم أن حلاوة المنصب متضمنة غُرماً عظيماً يذكِّرنا به النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما قال أبو ذر - رضي الله عنه - له : " ألا تستعملني ؟ أي تجعلني والياً أو أميراً ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " يا أبا ذر إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خِزْي وندامة إلا من أخذها بحقها وعدَّ الذي عليه فيها " أخرجه مسلم ، وفيه أيضا : "إني أحب لك ما أحب لنفسي ؛ لا تأمَّرن على اثنين ، ولا تتولين مال يتيم " ..
فهل استشعرت - يامن قلدك الله منصباً من المناصب - خطورةَ هذا الأمر فأوليت الرعاية التامة ما استؤمنت عليه ، وبذلت الجهد العظيم للعمل بما يخدم المصالح العامة والمنافع الكبرى للمجتمع ؟ هل صدقتَ مع الله - جل وعلا - ثم مع ولي الأمر في تقديم الخدمة التي تتحقق بها المشاريع النافعة على أحسن وجه وأكمل حال ؟ وإلا فالويل ثم الويل لمن أولاه وليُّ الأمر القيامَ على مصالح المسلمين ثم فرط في ذلك ، أو أهمل الرعاية الواجبة .. صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه " ؛ بمعنى أن حرص الرجل على المال وعلى المناصب - إذا لم يتق الله في ذلك - كان مفسدا لدينه ، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله فيما أخرجه أحمد : " ويلٌ للأمراء ، ويل للعُرَفاء ، ويل للأمناء ليتمنين يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا ، ويتذبذبون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء " .
الوقفة الرابعة : أن القيام على تنفيذ المشاريع والمرافق التي تخدم المصالح العامة في البلاد والعباد هي أمانةٌ ..أمانةُ كل مسئول من أعلى سلطة إلى أدنى مستوى من المسئولية ؛ فعلى الجميع التزام الأمانة والتحلي بلباسها ، والتخلِّي عن الغدر والخيانة ..ربنا - جل وعلا - يأمرنا بأداء الأمانة فيقول : إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ..النساء 58 ، ويحذرنا من الخيانة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَالأنفال 27 ..
ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقول : " آية المنافق ثلاثٌ " ، وذكر منها : " إذا اؤتمن خان " متفق عليه ، وفي حديثٍ آخر .. حديث عظيم يحذر من تحلَّى بالخيانة والغدر : " لا إيمانَ لمَن لا أمانةَ له ، ولا دِينَ لمنْ لا عهْدَ له" سنده حسن .
فياأصحاب القيادات .. اعلموا أنكم مسئولون أمام الله - جل وعلا - عن العقود التي تجرونها ، والمناقصات التي تشرفون عليها ، والمشاريع التي أنتم مؤتمنون عليها ، فهل ترضون التفريط في مصالحكم الخاصة ؟ فما لكم بالتفريط في المصالح العامة ؟!
الوقفة الخامسة : واجبُ كل ولي أمر - بحسبه - أن يولي أهل القوة والأمانة ، وأهل الخير والصلاح والاستقامة ، وأهل الصدق والنزاهة والورع والديانة من المعروفين بحسن السيرة والإخلاص في العمل : .. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُالقصص 26 ..
فما أفسد على المسلمين حياتهم إلا حينما أخَلُّوا بهذا المبدأ ؛ فلْنحْذر المحسوبيات ولْنتجنب المحاباة .. فليست المسئوليات منحًا تُهدَى ولا حقوقًا تُعطَى ، بل الاختيار لكل وظيفة يجب أن يكون على أسسٍ موضوعية وعلمية .. وليس على أساس الوساطة والمحسوبية والقرابة ؛ فنبينا - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الحاكم - يقول : " من ولِيَ من أمْر المسلمين شيئاً فأمَّر عليهم أحداً محاباةً فعليه لعنةُ الله .. لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم" ..
وفي حديث آخر : " أيما رجل استعمل رجلًا على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل ، فقد غشَّ الله ورسوله ، وغشَّ جماعة المسلمين " ..
الله أكبر ! فكيف بمنصبٍ أو وظيفةٍ تتعلق بها مصالح عظيمة للمسلمين ، ويترتب على الإهمال فيها مفاسد عظيمة لا تخفى على عاقل ..
رضي الله عن عمر حينما قال : " من قلَّد رجلًا على عصابةٍ وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه ، فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين " .
ألا وإن أعظم الضياع لمصالح الأمة والخيانة في الأمانة أن يُولَّى على المسلمين من ليس أهلًا لذلك .. فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة ، قال السائل : وكيف إضاعتها ؟ قال : إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة " رواه البخاري ..
وقال - عليه الصلاة والسلام - : " ما مِنْ أميرٍ يلِي أمور المسلمين ثم لم يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل الجنة معهم " أخرجه مسلم ..
الأمر جد خطير يامن ولاه الله الأمانة .
الوقفة السادسة : ياأصحاب الشركات التي تبوأت مقاليد العمل في المشاريع العامة في بلاد المسلمين .. أنتم مسئولون أمام الله - جل وعلا – عن كل ما تأخذون من المشاريع والأعمال ، وسيأتي يومٌ تندمون فيه على التفريط .. فمن أشد المحرمات : المبالغةُ في تقديم الأسعار الباهظة التي تقدمها الشركات حال المناقصة لأخذ مشروع يصرف عليه من مال بيت المسلمين .. فيحصل حينئذٍ التنافس على أسعار مُغَالى فيها وأقياممُبالَغٍ بها لا لشيء إلا لأجل أن المشروع يعود للمصلحة العامة ..
فهذا ظلمٌ عظيمٌ لجميع المسلمين ، الحق فيه للمسلمين يوم القيامة .. هذا العمل تحرمه النصوص الشرعية وتأباه المقاصد المرعية ، بل والأدهى من ذلك وأَمَرّ تنفيذ المشاريع بغشٍّ وخداع ، وزيفٍ وكذب .. قال - صلى الله عليه وسلم - : " من غشَّنا فليسَ منَّا " رواه مسلم ..
وتذكَّرُوا ياأصحاب المشاريع .. ياأصحاب الشركات قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنَّ أوَّل ما يُنْتِنُ من الإنسان بطنُه .. فمن اسْتطاع ألَّا يأكلَ إلا طيِّبا فليفعل " رواه البخاري ..
كما أن من أعظم الظلم : التأخيرَ في تنفيذ المشاريع العامة ، والمماطلةَ على المسلمين في التسليم .. قال - صلى الله عليه وسلم - : " مطْلُ الغني ظُلم " ..
وكم رأينا وشاهدنا من الأضرار التي نجمت بسبب ذلك ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : " لا ضرر ولا ضِرار " .. من ضار المسلمين ضاره الله .
واعلموا أن التفريط في أموال المسلمين ومشاريعهم من أعظم الموبقات عند الله - جل وعلا - قال صلى الله عليه وسلم : " إن أقوامًا يتخوَّضُون في مال الله بغير حقٍّ فلهم النار يوم القيامة " رواه البخاري ..
فهل ترضون بهذه العقوبة عن هذه الدنيا الفانية ؟!
الوقفة السابعة : أن من أسباب الخراب العظيم والفساد الوخيم الرشوةَ والتهاونَ في التصدي لها .. تلك الجريمة النكراء التي تجعل من الحق باطلاً ومن الباطل حقا ، وتحمل المسئول على تحقيق ما يريده الراشي من مقاصدَ سيئةٍ ومآربَ فاسدةٍ على حساب المصالح العامة .. إنها السحت الذي ذم الله - جل وعلا - بني إسرائيل على أخذه والتعاطي فيه ..
وهي سبب لحصول اللعن على العبد ، فعن عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لعن الله الراشي والمرتشي " وهو حديث صحيح ، وفي حديث رواه ابن جرير : " كلُّ لحم ٍأنبته السحت فالنار أولى به ، قيل : وما السحت ؟ قال : الرشوة في الحكم " .. وكل رشوة في وظيفة ما فهي بهذا المعنى .
الواجب على كل ذي مسئولية وعلى المجتمع ككل ، وعلى الإعلام أن يتصدى لهذه الجريمة البشعة ؛ بفضح صاحبها والتشهير به ، ومعاقبته بالعقاب الرادع الزاجر .. فربنا - جل وعلا - يقول :لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَالمائدة 63 ، وإلا فالويلُ ثم الويل لمجتمع لا يتناهى عن الرشوة ، ولا يتعاون على محاربتها واجتثاثها من أصلها .. روى الإمام أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أُخذوا بالسنة ، وما من قوم يظهر فيهم الرشاء إلا أخذوا بالرعب " .. إنها معجزة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
الوقفة الثامنة : من الجرم العظيم والإثم المبين : استغلالُ المناصب للمصالح الشخصية ، والاختلاس من الأموال العامة .. ربنا - جل وعلا - يقول :.. وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ..آل عمران 161 ، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة ، فقام إليه رجل أسود من الأنصار فقال : يا رسول الله اقبل عني عملك قال : ومالك ؟ قال : سمعتك تقول كذا وكذا ، قال : وأنا أقول كذا وكذا من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه انتهى " أخرجه مسلم ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - : "مَنِ استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً ، فما أخذَ بعد ذلك فهو غُلول " إسناده صحيح .. فهل ترك محمد - صلى الله عليه وسلم - من البلاغ والبيان أفصح وأعظم من ذلك ؟!
كيف تغدر - أيها المسلم - بالأمانة التي استرعاك الله عليها ، وخَوَّلك وليُّ الأمر إياها ، وقد حذرك رسوله -صلى الله عليه وسلم - من ذلك ، ومن ذلك قوله : " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرْفع لكل غادرٍ لواءٌ يعرف به فيقال : هذه غدرة فلان " متفق عليه .. أفتبتغي - أيها العبد - أن يقال لك هذا الأمر يوم القيامة ؟ تب في هذه الدنيا قبل أن لا يأتي يومٌ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا مَنْ أتى الله بقلب سليم .
اعلم - أيها العبد - أنك ستوقف للحساب ، فليتق الله كلٌّ منا ، وليطب مطعمه ومكسبه ؛ فإنه لن يربو لحمٌ نبت من سحت إلا كانت النار أولى به ، كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولنحذر ولنحذر من تهافت الناس على الحرام فذلك لا يجدي علينا شيئا .. لقد حذرنا - صلى الله عليه وسلم - من زمان كزماننا هذا ، فقال :" ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن الحلال أم من الحرام ؟ " رواه البخاري .. جاء عن عياض - وهو أمير لعمر على حمص - أنه قال لبعض أقاربه - في قصة طويلة ذكرها ابن الجوزي - قال :" فو الله لأَنْ أُشقَّ بالمنشار أحبُّ إليَّ من أن أخون فلساً أو أتعدى " .. إنها مدرسة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي تلقاها عمر فجعلها واقعاً ملموساً في عهده - رضي الله عنه - وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
الوقفة الأخيرة : الواجب المتحتم والفرض اللازم على أجهزة الرقابة التي ولاها الله - جل وعلا - مسئولية الرقابة ، والتي أولاها ولي الأمر هذه المسئولية أن تتقي الله - جل وعلا - وأن تبذل جهدها في مراقبة كل صغير وكبير ، وأن تحاسب كل جهة مسئولة عن كل مشروع محاسبةً متناهيةَ الدقة في الجليل والحقير ، باذلةً أوجه التنقيب والمساءلة في كشف الحقائق وإظهار مواطن الزلل والخلل والفساد ..حاسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن اللتبية لما قدم وقال : هذا لكم وهذا لي ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فحمد الله ثم قال : " ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول : هذا لكم وهذا لي ، فهلَّا جلس في بيت أبيه وأمه ينتظر أَيهْدى إليه أم لا ؟ " ، وجاء في بعض الروايات بلفظ فحاسبه - صلى الله عليه وسلم - ..
إنها سنة نبوية في مبدأ :" من أين لك هذا ؟ " ، وهذه سنة الخلفاء الراشدين من بعده ..
جاء في الإصابة في تراجم الصحابة أن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان عاملاً لعمر على البحرين ، فقدم بعشرة آلاف فقال له عمر :" استأثرت بهذه الأموال ؟ مع أنه - رضي الله عنه - لم يجعل هذا المال في الخفى وإنما أعلم به عمر ، فقال عمر : " استأثرت بهذه الأموال ؟ فمن أين لك ؟ فقال أبو هريرة : " خيل نتجت ، وأعطية تتابعت ، وإخراج رقيق لي " ، فنظر عمر ثم حاسب محاسبة دقيقة فوجدها كما قال ، ثم دعا أبا هريرة ليستعمله مرة أخرى فأبى - رضي الله عنهم - .
بارك الله لي ولكم في القرآن ، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان .. أقول هذا القول ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه وعلى آلهِ وأصحابه .
أما بعد .. فأوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا – فهي سبب كل فوزٍ ونجاة في الدنيا والآخرة .
أيها المسلمون .. شهر الله المحرم شهرٌ عظيم وموسمٌ كريم .. قال عنه - صلى الله عليه وسلم - : " أفضل الصيام بعْد رمضان شهرُ الله المحرم ، وأفضل الصلاةِ بعد الفريضة صلاةُ الليل " ..
ويتأكد مشروعية صيام اليوم العاشر من هذا الشهر .. ففي الصحيحين : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه ، وفي صحيح مسلم سئل عن صيام يوم عاشورا فقال : " يكفر السنة الماضية " ، والأفضل صوم التاسع مع العاشر كما قال - عليه الصلاة والسلام - : " لئن بقيت إلى قابل لَأصُومنَّ التاسع " رواه مسلم ..
فمن لم يتمكن من التاسع فالحادي عشر كما هي السنة ، وصوم يومٍ بعده ويومٍ قبله أفضل وأزكى أجرا .
ثم إن الله أمرنا بأمرٍ عظيم .. ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم .. اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين . اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين . اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين .
اللهم فرج هموم المسلمين ونفِّس كرباتهم واشفِ مرضاهم وأغنِ فقراءهم واهدِ ضالهم يارب العالمين .
اللهم اكْبِت عدوهم . اللهم اكبتْ عدوهم ، اللهم من أراد بالمسلمين سوءًا فأشغله في نفسه .
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، اللهم آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
اللهم وفّق ولي أمرنا لما تحب وترضى ، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه ياذا الجلال والإكرام ، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم . اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم . اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم ..
اللهم من أراد مصالحهم بسوءٍ فأشغله في نفسه ، اللهم من نواهم بسوءٍ فأشغله في نفسه . اللهم من نواهم بمشقةٍ فأشغله في نفسه ياذا الجلال والإكرام .
اللهم أنت الغني ونحن الفقراء .. أنزل علينا الغيث ، اللهم أنزل علينا الغيث . اللهم أنزل علينا الغيث ، اللهم اسقنا . اللهم اسقنا . اللهم اسقنا ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا غرق يارب العالمين ..
اللهم من أراد بلادنا بسوءٍ فأشغله في نفسه ، اللهم رد كيده في نحره ، اللهم احفظ جنودنا في كل مكان . اللهم احفظ جنودنا في كل مكان ، اللهم رد كل مفقود ، اللهم رد كل مفقود واغفر لكل ميت ياذا الجلال والإكرام ، اللهم رد كل مفقود ياذا الجلال والإكرام .
اللهم آمِنْ بلاد الحرمين .. اللهم آمِنْ بلاد الحرمين وسائر بلاد المسلمين ياحي ياقيوم .
اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على سيدنا ونبينا محمد .
للاستماع
http://gate.gph.gov.sa/index.cfm?do=...audfiletype=rm (http://gate.gph.gov.sa/index.cfm?do=cms.AudioListen&simplelayout=1&audioid=38814&audfiletype=rm)