الرحال99
20 Feb 2010, 12:15 AM
http://www.islamtoday.net/media_bank/image/2009/1/1/1_200911_1851.jpg
د. محمد بن إبراهيم الحمد
أما معاناةُ التأليف فمن وجوهٍ كثيرةٍ منها: كدُّ الذهن، ومعالجةُ العزو، والتأكد من صحة المعلومة، وكثرةُ المراجعة، والحذرُ من الزلل، والحرص على إبراز الأفكار في معرض حسن، وثوب مقبول.
ومنها ما يعتري المؤلف من الملل، والفتور، وصداع الرأس، وقلة النوم، وتعب الأعصاب، وآلام المفاصل والعينين، والانقطاع عن كثير من الملذات، والتقصير في بعض الحقوق؛ فهذه بعض معاناة التأليف.
أما لذته فَتَكْمُن بمناجاة الفكر، واصطياد الأوابد، ومعرفة أقدار المؤلفين السابقين واللاحقين، والتعوّد على طول النفس، والحرص على الوصول إلى الحقائق.
ومن أعظم لذات التأليف: استشعارُ نهايةِ البحث، والفرحُ بطبعه، ونشرِه، وإهدائه، وانتفاعِ الناسِ به؛ فإن نفع التصنيف - كما يقول ابن الجوزي - أكثر من نفع التعليم بالمشافهة؛ لأن الإنسان يشافه في عمره عدداً من المتعلمين، ويشافه بتصنيفه خلقاً لا يُحصون، وخلقاً لم يوجدوا بَعْدُ؛ فيكون التأليف من الباقيات الصالحات.
وإن لانتظار مجيء الكتاب من المطبعة فرحةً تشبه فرحة انتظار المولود الجديد.
وتكمن لذة التأليف -كذلك- باستجماع الخواطر، والخلوة عن الناس، وإلى هذا أشار بعضهم بقوله:
وأطيبُ أوقاتي من الدهرِ خلوةٌ
يقرّ بها قلبي ويصفو بها ذهني
ويأخذُ لي من سَورة الفكر نشوةً
فأخرجُ من فنِّ وأدخلُ في فنِّ
ويفهمُ ما قد قال عقلي تصوّري
فنقلي عن أذني وسمعي بها مني
وأسمعُ من نجوى الدفاترِ طُرفةً
أزيلُ بها همي وأجلو بها حزني
ينادمُني قومٌ لديّ حديثُهم
فما غابَ منهم غيرُ شخصهم عني
هذا وإن من أعظم نعم الله على المؤلف أن يرى عند عزمه على التأليف أنه سهلٌ ميسور، وأنه لا تَمُرُّ عليه مدة وجيزة إلاّ أنجزه وأتمه؛ فإذا ما ابتدأ فيه تفتَّق ذهنه عن مسائل لم يحلم بها، وطرأت عليه أبحاث لم يكن يتخيلها؛ وإذ هو في واد متشعب يرى أنه لا بد له من سلوكه.
ولو علم بادئ الأمر ما سيلقاه من المشقة والتعب لأبعد عن فكره خيال التأليف، ونأى بنفسه عن مسالك التكليف، مفضلاً منادمة الأحباب، ودعةَ التنعم بمغتسل بارد وشراب.
وقد وجدت كلاماً جميلاً حول هذا المعنى للشيخ محمد بن طاهر الكردي في كتابه (مقام إبراهيم) حيث ذكر في خاتمة كتابه كلمة تدور حول التأليف ومعاناته ولذته، ومما جاء في ذلك الكتاب قوله: هذا، ولما كنت مشتغلاً بالتصنيف، مخالطاً للعلماء أرباب التأليف يمكنني أن أقول: إنني لم أجد أصعب، ولا أتعب، ولا أشغل للإنسان من تأليف الكتب مهما تنوعت واختلفت.
ولئن كان شيء يُسْرع في ضعف الإنسان وهرمه فذلك الشيء إنما هو الاشتغال بالتأليف وحده، وفي الوقت نفسه تجد المؤلف - مع وهنه وضعفه - قوياً في معلوماته، راسخاً في دراساته ومراجعاته؛ فكل شيء ينقص إذا أنفقت منه إلاّ العلم؛ فكلما أنفقت منه لغيرك بالإفادة زادت معرفتك مهما تكررت منك الإعادة.
فالاشتغال بالتأليف، هو الشغل الذي لا شغل بعده، والعمل الذي ينقطع إليه المرء وحده، تجده يبحث عن مسألة إذا هو يعثر على أخرى ولما يكمل الأولى بعد، تراه يحقق في بحث فإذا هو يصل إلى غيره؛ لتشعّب الكلام، وارتباط بعضه ببعض.
وإنه كثيراً ما تطرأ عليه المسائل، وتنكشف له الدقائق وهو يأكل أو يمشي، أو يريد النوم؛ لذلك يكون المؤلف الخبير بالأحوال لا يخلو عن القلم والورق أنّى سار، وحيثما كان؛ ليقيد رؤوس المسائل التي تطرأ على فكره بغتة، حتى إذا ما رجع إلى حالة الاشتغال قَتَلها بحثاً، وأشبعها درساً.
تجده يبتعد عن الأهل والولد؛ خوفاً من أن يقطع أحد عليه أفكاره، ينفرد عن الناس بنفسه، وقد يصطفي شخصاً من شكله وجنسه، يساعده في البحث والتنقيب، ويبيّض له مسوّداته بنظام وترتيب.
ولست مبالغاً إن قلت: إنه يقضي الساعات الطوال، ويسهر غالب الليالي بالاشتغال في المطالعة والكتابة، لا يسأل عن أكل ولا شرب، ولا يصغي لحديث أو خبر، ولا تجد الراحةُ إلى جسمه سبيلاً، قد يعتريه الملل، وتتعب أعصابه، وهو مع ذلك يتطلب برهاناً، ويستنبط دليلاً، وقد يريد النوم؛ فيمتنع عليه؛ لشدة تعبه المتواصل؛ لإتمام ما لديه؛ فهو لذلك قد يكون مقصراً عن زيارات إخوانه وأحبائه؛ فإنه من لا يؤدي حقوق نفسه كيف يؤدي حقوق غيره؟
وهو في ذلك معذور مأجور، وفي عمله مغبوط مشكور.
مسكين المؤلف، يشغل حواسه الخمس، ويصل يومه بالأمس؛ ليريح طلاب العلم والفنون، ولأن يصل في بحثه إلى نتيجة مرضية، وخلاصة شافية، وأجوبة سديدة أحبُّ إليه من الدنيا وما فيها، وأشدُّ ما يكون فرحاً إذا ما اهتدى إلى حلّ مسألة عويصة كانت مستعصية عليه، أو أتى ببحث لم يسبقه إليه أحد.
أما ثوابه على عمله وجزاؤه فهذا موكول إلى الله -عز شأنه- فهو الذي لا يَضيع عنده عَمَلُ عاملٍ من ذكر أو أنثى، على أنه -سبحانه وتعالى- قد رفع ذكر العلماء، وأعلى شأنهم في الدارين، وحفظهم من التخريف مهما عمروا، وتقدموا في سن الشيخوخة.
وأما تقديره ومكافأته في المجتمع الإنساني فهذا راجع إلى الوسط الذي يعيش فيه، وإلى القوم الذين ينتمي إليهم؛ فعلى قدر مكانتهم في العلم والأدب، وثقافتهم في مختلف الفنون، وخلوّهم من المكر والحسد يكون تقديرهم لمنزلته، ومعرفتهم لمكانته، وأكثر المؤلفين لا يظهر فضلهم إلاّ بعد الممات.
هذه بعض حالات المشتغلين بالتأليف "ولا ينبئك مثل خبير".
لا يعرفُ الشوقَ إلاّ من يكابدُه
ولا الصبابةَ إلاّ من يعانيها".
وبعد: فهذه معاناة التأليف، وتلك لذته، وستنقضي المعاناة واللذة بانقضاء عمر المؤلف، وبعد ذلك يكون له الغُنْم، أو عليه الغُرْم؛ فنسأل الله أن يجعل ما نكتب حجة لنا لا علينا، وأن ينفع به، ويجعله خالصاً لوجهه.
د. محمد بن إبراهيم الحمد
أما معاناةُ التأليف فمن وجوهٍ كثيرةٍ منها: كدُّ الذهن، ومعالجةُ العزو، والتأكد من صحة المعلومة، وكثرةُ المراجعة، والحذرُ من الزلل، والحرص على إبراز الأفكار في معرض حسن، وثوب مقبول.
ومنها ما يعتري المؤلف من الملل، والفتور، وصداع الرأس، وقلة النوم، وتعب الأعصاب، وآلام المفاصل والعينين، والانقطاع عن كثير من الملذات، والتقصير في بعض الحقوق؛ فهذه بعض معاناة التأليف.
أما لذته فَتَكْمُن بمناجاة الفكر، واصطياد الأوابد، ومعرفة أقدار المؤلفين السابقين واللاحقين، والتعوّد على طول النفس، والحرص على الوصول إلى الحقائق.
ومن أعظم لذات التأليف: استشعارُ نهايةِ البحث، والفرحُ بطبعه، ونشرِه، وإهدائه، وانتفاعِ الناسِ به؛ فإن نفع التصنيف - كما يقول ابن الجوزي - أكثر من نفع التعليم بالمشافهة؛ لأن الإنسان يشافه في عمره عدداً من المتعلمين، ويشافه بتصنيفه خلقاً لا يُحصون، وخلقاً لم يوجدوا بَعْدُ؛ فيكون التأليف من الباقيات الصالحات.
وإن لانتظار مجيء الكتاب من المطبعة فرحةً تشبه فرحة انتظار المولود الجديد.
وتكمن لذة التأليف -كذلك- باستجماع الخواطر، والخلوة عن الناس، وإلى هذا أشار بعضهم بقوله:
وأطيبُ أوقاتي من الدهرِ خلوةٌ
يقرّ بها قلبي ويصفو بها ذهني
ويأخذُ لي من سَورة الفكر نشوةً
فأخرجُ من فنِّ وأدخلُ في فنِّ
ويفهمُ ما قد قال عقلي تصوّري
فنقلي عن أذني وسمعي بها مني
وأسمعُ من نجوى الدفاترِ طُرفةً
أزيلُ بها همي وأجلو بها حزني
ينادمُني قومٌ لديّ حديثُهم
فما غابَ منهم غيرُ شخصهم عني
هذا وإن من أعظم نعم الله على المؤلف أن يرى عند عزمه على التأليف أنه سهلٌ ميسور، وأنه لا تَمُرُّ عليه مدة وجيزة إلاّ أنجزه وأتمه؛ فإذا ما ابتدأ فيه تفتَّق ذهنه عن مسائل لم يحلم بها، وطرأت عليه أبحاث لم يكن يتخيلها؛ وإذ هو في واد متشعب يرى أنه لا بد له من سلوكه.
ولو علم بادئ الأمر ما سيلقاه من المشقة والتعب لأبعد عن فكره خيال التأليف، ونأى بنفسه عن مسالك التكليف، مفضلاً منادمة الأحباب، ودعةَ التنعم بمغتسل بارد وشراب.
وقد وجدت كلاماً جميلاً حول هذا المعنى للشيخ محمد بن طاهر الكردي في كتابه (مقام إبراهيم) حيث ذكر في خاتمة كتابه كلمة تدور حول التأليف ومعاناته ولذته، ومما جاء في ذلك الكتاب قوله: هذا، ولما كنت مشتغلاً بالتصنيف، مخالطاً للعلماء أرباب التأليف يمكنني أن أقول: إنني لم أجد أصعب، ولا أتعب، ولا أشغل للإنسان من تأليف الكتب مهما تنوعت واختلفت.
ولئن كان شيء يُسْرع في ضعف الإنسان وهرمه فذلك الشيء إنما هو الاشتغال بالتأليف وحده، وفي الوقت نفسه تجد المؤلف - مع وهنه وضعفه - قوياً في معلوماته، راسخاً في دراساته ومراجعاته؛ فكل شيء ينقص إذا أنفقت منه إلاّ العلم؛ فكلما أنفقت منه لغيرك بالإفادة زادت معرفتك مهما تكررت منك الإعادة.
فالاشتغال بالتأليف، هو الشغل الذي لا شغل بعده، والعمل الذي ينقطع إليه المرء وحده، تجده يبحث عن مسألة إذا هو يعثر على أخرى ولما يكمل الأولى بعد، تراه يحقق في بحث فإذا هو يصل إلى غيره؛ لتشعّب الكلام، وارتباط بعضه ببعض.
وإنه كثيراً ما تطرأ عليه المسائل، وتنكشف له الدقائق وهو يأكل أو يمشي، أو يريد النوم؛ لذلك يكون المؤلف الخبير بالأحوال لا يخلو عن القلم والورق أنّى سار، وحيثما كان؛ ليقيد رؤوس المسائل التي تطرأ على فكره بغتة، حتى إذا ما رجع إلى حالة الاشتغال قَتَلها بحثاً، وأشبعها درساً.
تجده يبتعد عن الأهل والولد؛ خوفاً من أن يقطع أحد عليه أفكاره، ينفرد عن الناس بنفسه، وقد يصطفي شخصاً من شكله وجنسه، يساعده في البحث والتنقيب، ويبيّض له مسوّداته بنظام وترتيب.
ولست مبالغاً إن قلت: إنه يقضي الساعات الطوال، ويسهر غالب الليالي بالاشتغال في المطالعة والكتابة، لا يسأل عن أكل ولا شرب، ولا يصغي لحديث أو خبر، ولا تجد الراحةُ إلى جسمه سبيلاً، قد يعتريه الملل، وتتعب أعصابه، وهو مع ذلك يتطلب برهاناً، ويستنبط دليلاً، وقد يريد النوم؛ فيمتنع عليه؛ لشدة تعبه المتواصل؛ لإتمام ما لديه؛ فهو لذلك قد يكون مقصراً عن زيارات إخوانه وأحبائه؛ فإنه من لا يؤدي حقوق نفسه كيف يؤدي حقوق غيره؟
وهو في ذلك معذور مأجور، وفي عمله مغبوط مشكور.
مسكين المؤلف، يشغل حواسه الخمس، ويصل يومه بالأمس؛ ليريح طلاب العلم والفنون، ولأن يصل في بحثه إلى نتيجة مرضية، وخلاصة شافية، وأجوبة سديدة أحبُّ إليه من الدنيا وما فيها، وأشدُّ ما يكون فرحاً إذا ما اهتدى إلى حلّ مسألة عويصة كانت مستعصية عليه، أو أتى ببحث لم يسبقه إليه أحد.
أما ثوابه على عمله وجزاؤه فهذا موكول إلى الله -عز شأنه- فهو الذي لا يَضيع عنده عَمَلُ عاملٍ من ذكر أو أنثى، على أنه -سبحانه وتعالى- قد رفع ذكر العلماء، وأعلى شأنهم في الدارين، وحفظهم من التخريف مهما عمروا، وتقدموا في سن الشيخوخة.
وأما تقديره ومكافأته في المجتمع الإنساني فهذا راجع إلى الوسط الذي يعيش فيه، وإلى القوم الذين ينتمي إليهم؛ فعلى قدر مكانتهم في العلم والأدب، وثقافتهم في مختلف الفنون، وخلوّهم من المكر والحسد يكون تقديرهم لمنزلته، ومعرفتهم لمكانته، وأكثر المؤلفين لا يظهر فضلهم إلاّ بعد الممات.
هذه بعض حالات المشتغلين بالتأليف "ولا ينبئك مثل خبير".
لا يعرفُ الشوقَ إلاّ من يكابدُه
ولا الصبابةَ إلاّ من يعانيها".
وبعد: فهذه معاناة التأليف، وتلك لذته، وستنقضي المعاناة واللذة بانقضاء عمر المؤلف، وبعد ذلك يكون له الغُنْم، أو عليه الغُرْم؛ فنسأل الله أن يجعل ما نكتب حجة لنا لا علينا، وأن ينفع به، ويجعله خالصاً لوجهه.