مسك الختام
27 Mar 2010, 07:04 AM
تأملات قرآنية للمغامسي
من قوله تعالى : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ{59} الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ )) إلى قوله تعالى : ((فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ))
قال العلماء : " إن من أعظم علوم القرآن أن يعلم أن القرآن نزل لدفع شبه الظالمين وإبطال عناد المعاندين وإثبات البراهين العقلية الموافقة للأدلة النقلية . وقالوا أن هذا الفن لا يدركه إلا الجهابذة العلماء المستبصرون الذين من الله عليهم بإدراك مغازي كتابه " . جعلنا الله وإياكم منهم وألحقنا بهم وإن لم نكن لذلك بأهل .
مناسبة الآيات لما قبلها : أن الله جل وعلا ذكر قبلها قصة عيسى ابن مريم عبدالله ورسوله عليه الصلاة والسلام , فذكر جل وعلا قصة الصديقة مريم وكيف أنها حملت بعيسى عليه الصلاة والسلام وكيف وضعته و ما كان له من آيات وبراهين وكيف أنه دعا قومه وكيف أن الله جل وعلا آتاه المعجزات الظاهرة والبراهين التي تدل على نبوته حتى رفعه الله جل وعلا إليه وسينزل في آخر الزمان بعد أن ذكرها جل وعلا . ثم ذكر قوله تعالى : (( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ{58} إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ )) إذن هذه مناسبة الآيات لما قبلها .
أما سبب نزول الآيات : فالمشهور عند العلماء أن عام الوفود كان العام التاسع للهجرة وهو بعد أن فتح الله لنبينا صلى الله عليه وسلم مكة وأسلمت ثقيف وانتهت غزوة تبوك أتى الناس على هيئة وفود من كل شق إلى نبينا صلى الله عليه وسلم . من جملة الوفود التي حضرت وفد نجران وكانوا على الديانة المسيحية ومنهم السيد والعاقب وهم من رؤوسهم , هؤلاء النفر لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له مالك : " تشتم صاحبنا ". قال ( وما ذاك ) صلى الله عليه وسلم , قالوا : " تقول إن عيسى عبدالله ورسوله " قال : ( نعم هو عبدالله ورسوله ) فجادلته النصارى بأن عيسى عليه الصلاة والسلام لا أب له , قالوا : فقل لنا من أبو عيسى عليه الصلاة والسلام وأتنا بأحد له أب غير عيسى عليه الصلاة والسلام ؟ فأمهلهم حتى ينزل القرآن عليه في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام , فأنزل الله جل وعلا على نبينا عليه الصلاة والسلام قوله هذه الآيات التي نريد أن نشرحها : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) فهذا هو سبب النزول .
تفسير الآيات :
قال الله جل وعلا : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ )) ليس كلمة مثل هنا المقصود بها المثل المعروف الذي يضرب للأشياء , وإنما كلمة مثل هنا بمعنى حاله أو صفه . فيصبح معنى الكلام حالة و صفة عيسى عليه الصلاة والسلام عند الله كحال آدم عليه الصلاة والسلام .
ما حال ادم عليه الصلاة والسلام ؟ قال الله تعالى : (( خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) النصارى تقول : إن من أدلة أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله أنه لا أب له باتفاق أهل الأرض والرد عليهم , وقلنا هذا من علوم القرآن الرد على كشف شبه الظالمين , أن آدم عليه الصلاة والسلام لا أب له ولا أم زيادة على عيسى عليه الصلاة والسلام . أي إن كان عيسى لا أب له فآدم لا أب له ولا أم , وإن كان عيسى خلق بكلمة كن بعد أن نفخ جبرائيل في رحم الصديقة مريم وكان بأمر الله فإن آدم كذلك قال الله له كن فكان كما أخبر الله في كتابه . فإذن مقارنة عيسى بآدم عليهما الصلاة والسلام ضربها الله جل وعلا دليلاً على بطلان حجج النصارى . لأنه لو كان قولهم إن مجرد أن عيسى لا أب له دليلاً على أنه ابن الله فمن الذي أولى بالبنوة ؟ آدم لأنه لا أب له ولا أم . والنصارى وغير النصارى كل أهل الأرض لا يقولون إن آدم ابن الله . فلما اعترفتم أن آدم ليس ابن الله يجب أن تعترفوا أن عيسى ليس ابن لله . وان الله لم يلد ولم يولد فدمغت حجة النصارى .
( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ )) والهاء في خلقه عائدة على آدم خلقه من تراب ثم قال له أي قال لآدم كن فيكون , أي كن فكان . واختلف العلماء لماذا عبر الله بالمضارع بدلاً من الماضي يعني كان السياق أولى أن يقال : خلقه من تراب ثم قال له كن فكان وقال بعضهم ولعل هذا أظهر أن الله أراد أن يبين تمثل المعنى لمن يسمع , بمعنى أن عيسى عليه الصلاة والسلام حتى عندما نفخ جبرائيل عليه الصلاة والسلام في رحم مريم عليه السلام لم يخرج مباشرة يمشي على قدميه وإنما تكون لحماً وعظاماً حتى حملت به تسعة أشهر على الصحيح , ثم ولدته صبياً رضيعاً ثم كان عيسى ابن مريم . فلم يقل الله كن فكان مباشرة إنما قال كن فيكون ليبين التدرج الذي مر به خلق عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
(( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) هذا أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على الوجه الصحيح .
قال تعالى : (( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ )) يعنى هذا الحق الذي أتاك من ربك . وإضافة الرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً للنبي صلى عليه وسلم .
(( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ )) أي لا تكن من الشاكين . وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ممترنٍ أو شاك , فهذا منتفٍ أبداً . إنما المقصود من هذا الأسلوب إثارة الأريحية فيه صلى الله عليه وسلم لأن يقبل الحق من ربه ويعض عليها بالنواجذ هذا تخريج . وقال بعض العلماء تخريج آخر إنه وإن كان المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فإن المخاطب الحق هو أمته وكل من يسمع القرآن . لكن لا تعارض بين هذين التخريجين .
( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ {60} فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ )) الهاء عائدة على من ؟ عائدة على عيسى وخلقه .
(( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ )) العلم أي البيان الذي أظهره الله لك في شأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
يزعم النصارى أنهم مسلمون من قبل ويمنعهم من ذلك :
(( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَىالْكَاذِبِينَ )) لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وفد النصارى نصارى نجران بالأمر لم يقبلوا , قالوا : نحن مسلمون من قبل فقال صلى الله عليه وسلم :
( يمنعكم من الإسلام ثلاث :
1ـ أكلكم لحم الخنزير .
2ـ وسجودكم للصليب .
3ـ وزعمكم أن لله ولد . )
هذه الثلاث منعت ما يزعمونه من أنهم مسلمون . فلما طال الأمر بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم احتكم إلى المباهلة .
ما معنى المباهلة ؟
والمباهلة أصلها مأخوذ من الابتهال وهو الدعاء ويكون غالباً لإظهار الحجة . وقد ربما يخصص كما في الآية في نزول اللعنة وأصل المسألة أنه لما طال الجدال لا هم يقتنعون ولا هم قادرون على أن يقنعوا لأنهم على باطل , احتكم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال قائلاً لهم كما أمر الله : (( نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ )) أي ندعوا ونقول : اللهم العن الكاذب منا في شأن عيسى ابن مريم . فلما كان من الغد قدم صلى الله عليه وسلم ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم أجمعين , وقال : ( إذا أنا دعوت فأمنوا ) . قبل أن نكمل اعترض النصارى وخافوا من المباهلة . وخوفهم من المباهلة دليلٌ على أنهم يعلمون أنه رسول الله حقاً لأنهم لو كانوا على يقين لقبلوا المباهلة .
العلة من جلب علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين :
وكون النبي عليه الصلاة والسلام يأتي بابنته وعلي والحسن والحسين دليل على ثقته فيما يدعوا إليه , لأنه كان بالإمكان أن يباهلهم لوحده ويقول أنا وأنتم ندعوا على بعض أهلك أنا أو تهلكون أنتم , لكن لما أتى بابنته وهي أحب بناته إليه عليه الصلاة والسلام وزوجها علي والحسن والحسين ثم بعد ذلك يدعوا على الجميع دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان واثقاً من حفظ الله له وكان على برهان ويقين أن ما عند الله هو الحق .
(( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ))
َ فقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) أي نقول اللهم العن الكاذب منا في أمر عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام . الذي حصل أن النصارى خافوا من المباهلة تشاوروا ثم تراجعوا , قال قائلهم والله إنكم لتعلمون إنه نبي ولو باهلتموه لاضطرم عليكم الوادي ناراً , فقالوا ما الأمر بيننا وبينك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( واحدة من ثلاث : الإسلام ـ أي تدخلوا الإسلام ـ أو الحرب أو الجزية ) فاختاروا الجزية فصالحوا النبي عليه الصلاة والسلام على ألف حلة صفراء تقدم له في شهر صفر وألف حلة تقدم له في شهر رجب . فقالوا ابعث لنا رجلا أميناً من أصحابك فقال عليه الصلاة والسلام : ( لأبعثن معكم أميناً حق أمين ) فاستشرف لها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , فقال عليه الصلاة والسلام : ( قم يا أبا عبيدة ثم قال لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة رضي الله عنه وأرضاه ) .
ولذلك ورد أن عمر رضي الله عنه لما طعن وطلب منه أن يستخلف قال : " لو كان أبا عبيدة حياً لوليته هذا الأمر فإذا سألني الله عن ذلك قلت سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ) "نأتي للآية التي بعدها قال الله عز وجل بعدها : (( فَإِن تَوَلَّوْاْ )) أي فإن لم يقبلوا قوله وأعرضوا عن الدخول في الإسلام فإن الله عليم بالمفسدين . وقوله تعالى : (( فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ )) يجري مجرى التهديد لأنه إذا كان الله عليم بهم وهو قطعاً عليم بهم فإنه سيعاقبهم جل وعلا ,.
المصدر
تأتملات قرآنية للشيخ صالح المغامسي من سورة آل عمران ....
من قوله تعالى : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ{59} الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ )) إلى قوله تعالى : ((فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ))
قال العلماء : " إن من أعظم علوم القرآن أن يعلم أن القرآن نزل لدفع شبه الظالمين وإبطال عناد المعاندين وإثبات البراهين العقلية الموافقة للأدلة النقلية . وقالوا أن هذا الفن لا يدركه إلا الجهابذة العلماء المستبصرون الذين من الله عليهم بإدراك مغازي كتابه " . جعلنا الله وإياكم منهم وألحقنا بهم وإن لم نكن لذلك بأهل .
مناسبة الآيات لما قبلها : أن الله جل وعلا ذكر قبلها قصة عيسى ابن مريم عبدالله ورسوله عليه الصلاة والسلام , فذكر جل وعلا قصة الصديقة مريم وكيف أنها حملت بعيسى عليه الصلاة والسلام وكيف وضعته و ما كان له من آيات وبراهين وكيف أنه دعا قومه وكيف أن الله جل وعلا آتاه المعجزات الظاهرة والبراهين التي تدل على نبوته حتى رفعه الله جل وعلا إليه وسينزل في آخر الزمان بعد أن ذكرها جل وعلا . ثم ذكر قوله تعالى : (( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ{58} إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ )) إذن هذه مناسبة الآيات لما قبلها .
أما سبب نزول الآيات : فالمشهور عند العلماء أن عام الوفود كان العام التاسع للهجرة وهو بعد أن فتح الله لنبينا صلى الله عليه وسلم مكة وأسلمت ثقيف وانتهت غزوة تبوك أتى الناس على هيئة وفود من كل شق إلى نبينا صلى الله عليه وسلم . من جملة الوفود التي حضرت وفد نجران وكانوا على الديانة المسيحية ومنهم السيد والعاقب وهم من رؤوسهم , هؤلاء النفر لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له مالك : " تشتم صاحبنا ". قال ( وما ذاك ) صلى الله عليه وسلم , قالوا : " تقول إن عيسى عبدالله ورسوله " قال : ( نعم هو عبدالله ورسوله ) فجادلته النصارى بأن عيسى عليه الصلاة والسلام لا أب له , قالوا : فقل لنا من أبو عيسى عليه الصلاة والسلام وأتنا بأحد له أب غير عيسى عليه الصلاة والسلام ؟ فأمهلهم حتى ينزل القرآن عليه في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام , فأنزل الله جل وعلا على نبينا عليه الصلاة والسلام قوله هذه الآيات التي نريد أن نشرحها : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) فهذا هو سبب النزول .
تفسير الآيات :
قال الله جل وعلا : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ )) ليس كلمة مثل هنا المقصود بها المثل المعروف الذي يضرب للأشياء , وإنما كلمة مثل هنا بمعنى حاله أو صفه . فيصبح معنى الكلام حالة و صفة عيسى عليه الصلاة والسلام عند الله كحال آدم عليه الصلاة والسلام .
ما حال ادم عليه الصلاة والسلام ؟ قال الله تعالى : (( خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) النصارى تقول : إن من أدلة أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله أنه لا أب له باتفاق أهل الأرض والرد عليهم , وقلنا هذا من علوم القرآن الرد على كشف شبه الظالمين , أن آدم عليه الصلاة والسلام لا أب له ولا أم زيادة على عيسى عليه الصلاة والسلام . أي إن كان عيسى لا أب له فآدم لا أب له ولا أم , وإن كان عيسى خلق بكلمة كن بعد أن نفخ جبرائيل في رحم الصديقة مريم وكان بأمر الله فإن آدم كذلك قال الله له كن فكان كما أخبر الله في كتابه . فإذن مقارنة عيسى بآدم عليهما الصلاة والسلام ضربها الله جل وعلا دليلاً على بطلان حجج النصارى . لأنه لو كان قولهم إن مجرد أن عيسى لا أب له دليلاً على أنه ابن الله فمن الذي أولى بالبنوة ؟ آدم لأنه لا أب له ولا أم . والنصارى وغير النصارى كل أهل الأرض لا يقولون إن آدم ابن الله . فلما اعترفتم أن آدم ليس ابن الله يجب أن تعترفوا أن عيسى ليس ابن لله . وان الله لم يلد ولم يولد فدمغت حجة النصارى .
( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ )) والهاء في خلقه عائدة على آدم خلقه من تراب ثم قال له أي قال لآدم كن فيكون , أي كن فكان . واختلف العلماء لماذا عبر الله بالمضارع بدلاً من الماضي يعني كان السياق أولى أن يقال : خلقه من تراب ثم قال له كن فكان وقال بعضهم ولعل هذا أظهر أن الله أراد أن يبين تمثل المعنى لمن يسمع , بمعنى أن عيسى عليه الصلاة والسلام حتى عندما نفخ جبرائيل عليه الصلاة والسلام في رحم مريم عليه السلام لم يخرج مباشرة يمشي على قدميه وإنما تكون لحماً وعظاماً حتى حملت به تسعة أشهر على الصحيح , ثم ولدته صبياً رضيعاً ثم كان عيسى ابن مريم . فلم يقل الله كن فكان مباشرة إنما قال كن فيكون ليبين التدرج الذي مر به خلق عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
(( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) هذا أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على الوجه الصحيح .
قال تعالى : (( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ )) يعنى هذا الحق الذي أتاك من ربك . وإضافة الرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً للنبي صلى عليه وسلم .
(( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ )) أي لا تكن من الشاكين . وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ممترنٍ أو شاك , فهذا منتفٍ أبداً . إنما المقصود من هذا الأسلوب إثارة الأريحية فيه صلى الله عليه وسلم لأن يقبل الحق من ربه ويعض عليها بالنواجذ هذا تخريج . وقال بعض العلماء تخريج آخر إنه وإن كان المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فإن المخاطب الحق هو أمته وكل من يسمع القرآن . لكن لا تعارض بين هذين التخريجين .
( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ {60} فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ )) الهاء عائدة على من ؟ عائدة على عيسى وخلقه .
(( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ )) العلم أي البيان الذي أظهره الله لك في شأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
يزعم النصارى أنهم مسلمون من قبل ويمنعهم من ذلك :
(( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَىالْكَاذِبِينَ )) لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وفد النصارى نصارى نجران بالأمر لم يقبلوا , قالوا : نحن مسلمون من قبل فقال صلى الله عليه وسلم :
( يمنعكم من الإسلام ثلاث :
1ـ أكلكم لحم الخنزير .
2ـ وسجودكم للصليب .
3ـ وزعمكم أن لله ولد . )
هذه الثلاث منعت ما يزعمونه من أنهم مسلمون . فلما طال الأمر بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم احتكم إلى المباهلة .
ما معنى المباهلة ؟
والمباهلة أصلها مأخوذ من الابتهال وهو الدعاء ويكون غالباً لإظهار الحجة . وقد ربما يخصص كما في الآية في نزول اللعنة وأصل المسألة أنه لما طال الجدال لا هم يقتنعون ولا هم قادرون على أن يقنعوا لأنهم على باطل , احتكم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال قائلاً لهم كما أمر الله : (( نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ )) أي ندعوا ونقول : اللهم العن الكاذب منا في شأن عيسى ابن مريم . فلما كان من الغد قدم صلى الله عليه وسلم ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم أجمعين , وقال : ( إذا أنا دعوت فأمنوا ) . قبل أن نكمل اعترض النصارى وخافوا من المباهلة . وخوفهم من المباهلة دليلٌ على أنهم يعلمون أنه رسول الله حقاً لأنهم لو كانوا على يقين لقبلوا المباهلة .
العلة من جلب علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين :
وكون النبي عليه الصلاة والسلام يأتي بابنته وعلي والحسن والحسين دليل على ثقته فيما يدعوا إليه , لأنه كان بالإمكان أن يباهلهم لوحده ويقول أنا وأنتم ندعوا على بعض أهلك أنا أو تهلكون أنتم , لكن لما أتى بابنته وهي أحب بناته إليه عليه الصلاة والسلام وزوجها علي والحسن والحسين ثم بعد ذلك يدعوا على الجميع دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان واثقاً من حفظ الله له وكان على برهان ويقين أن ما عند الله هو الحق .
(( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ))
َ فقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) أي نقول اللهم العن الكاذب منا في أمر عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام . الذي حصل أن النصارى خافوا من المباهلة تشاوروا ثم تراجعوا , قال قائلهم والله إنكم لتعلمون إنه نبي ولو باهلتموه لاضطرم عليكم الوادي ناراً , فقالوا ما الأمر بيننا وبينك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( واحدة من ثلاث : الإسلام ـ أي تدخلوا الإسلام ـ أو الحرب أو الجزية ) فاختاروا الجزية فصالحوا النبي عليه الصلاة والسلام على ألف حلة صفراء تقدم له في شهر صفر وألف حلة تقدم له في شهر رجب . فقالوا ابعث لنا رجلا أميناً من أصحابك فقال عليه الصلاة والسلام : ( لأبعثن معكم أميناً حق أمين ) فاستشرف لها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , فقال عليه الصلاة والسلام : ( قم يا أبا عبيدة ثم قال لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة رضي الله عنه وأرضاه ) .
ولذلك ورد أن عمر رضي الله عنه لما طعن وطلب منه أن يستخلف قال : " لو كان أبا عبيدة حياً لوليته هذا الأمر فإذا سألني الله عن ذلك قلت سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ) "نأتي للآية التي بعدها قال الله عز وجل بعدها : (( فَإِن تَوَلَّوْاْ )) أي فإن لم يقبلوا قوله وأعرضوا عن الدخول في الإسلام فإن الله عليم بالمفسدين . وقوله تعالى : (( فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ )) يجري مجرى التهديد لأنه إذا كان الله عليم بهم وهو قطعاً عليم بهم فإنه سيعاقبهم جل وعلا ,.
المصدر
تأتملات قرآنية للشيخ صالح المغامسي من سورة آل عمران ....