سنا البرق
17 Sep 2004, 11:11 PM
<div align="center">
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد،،،
فإن الحاجة إلى التربية الإسلامية شديدة؛ لأن العقول البشرية لا تستطيع وحدها إدراك مصالحها الحقيقة التي تكفل لها سعادة الدارين الدنيا والآخرة، كما أنها لا تهدي وحدها إلى التمييز بين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، فالإنسان ليس كامل الحواس والعقل، ومن ثمَّ، فإن مداركه ومعارفه مهما وصلت إلى درجة عالية، فإنها تبقى قاصرة ومحدودة.
لذا ينبغي أن يكون الإسلام هو المصدر الأساسي الذي يستمد منه المجتمع فكره التربوي، وأهدافه التربوية، وأسس مناهجه، وأساليب تدريسه، وسائر عناصر العملية التعليمية، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [153]} [سورة الأنعام]. يتضح من الآية الكريمة أنه لا سبيل إلى تلافي هذا النقص وذلك القصور إلا بتفهم أصول التربية الإسلامية من مصادرها الأصلية، والرجوع إلى سير السلف الصالح للإقتداء بهم.
وفي هذه الدراسة نستخلص أصول التربية الإسلامية للإنسان المسلم من خلال وصايا لقمان كما وردت في سورة لقمان.
أولًا:وصايا لقمان لابنه: وقد بينها لنا القرآن الكريم بأسلوبه ومعانيه المعجزة الخالدة، فكانت وصاياه أنموذجا يتوافر فيه الإخلاص والصواب، وعلى الآباء أن يسلكوا مسلكه في تنشئة أبنائهم تنشئة إسلامية صحيحة، وفق ما تعرضه الآيات الكريمة من كتاب الله والتي ذكرت بها وصايا لقمان:
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ[12]وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[13]وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[14]وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[15]يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ[16]يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[17] وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[18]وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[19]}[سورة لقمان]. من خلال العرض السابق للآيات الكريمة يمكن توضيح الوصايا في النقاط التالية:
الوصية الأولى: توحيد الله وإفراده بالعبادة لله وحده لا شريك له في ذلك، فهو المستحق للعبادة وحده:{يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
الوصية الثانية: برَّ الأبناء لآبائهم:{وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْه...}.
الوصية الثالثة: أن يراقب العبد الله سبحانه في حركاته وسكناته وجميع أعماله، فالله عزوجل لا تخفى عليه خافية لا في الأرض، ولا في السماء: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ...} الآية.
الوصية الرابعة: الأمر بإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على تحمل المشاق في سبيل ذلك: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ...} الآية.
الوصية الخامسة: التواضع لعباد الله، والإقبال عليهم بوجه طليق، والابتعاد عن مظاهر الكبر والغرور، وخفض الصوت أثناء الحديث معهم، وعدم رفعه:{وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ….}الآية {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِك……} الآية. تلك هي وصايا لقمان الحكيم لابنه ذكرها لنا القرآن الكريم للتفكر والاعتبار.
ثانيًا: جوانب التربية الإسلامية المتضمنة لوصايا لقمان لابنه:
أولًا: الدعوة إلى غرس عقيدة التوحيد: والأسرة المسلمة هي المدرسة الأولى التي تقوم بتوجيه وتربية الأبناء تربية صالحة، فالأبناء أمانة في أعناقهم يسألون عنهم أمام الله، قال عز وجل:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[6]}[سورة التحريم].
فأول واجب يجب على الأبوين القيام به، والاهتمام بأمره دون كلل: هو غرس عقيدة التوحيد في نفس الطفل، وتوجيه عواطفه نحو حب الله ورسوله، وإخباره بأن الله يجب أن يكون أحب إليه من أمه وأبيه ونفسه، والإِيمان بالله الذي لا إله غيره، وبملائكته ورسله، وتوحيد الله في الألوهية، والربوبية، والقوامة، والسلطان، والحاكمية؛ لأن الإيمان بالله هو الموجه لسلوك الإنسان، والدافع له إلى اتجاه الخير، والنصير له، كما أنه الذي يصرفه عن طريق الشر، ويجعله متحلياً بالفضائل، وحسن الخلق.
والمقصود بالإيمان أي الإِيمان بما أوجب الله تعالى في قوله: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ...[285]}[سورة البقرة].
وأما السنة: فقد ذكرت أركان الإيمان مجتمعة في حديث جبريل عليه السلام- وهو مشهور-.
إن الإيمان بالله هو الموجه للسلوك والضابط له، والمتصل اتصالًا وثيقاً بالأعمال الصادرة من الإِنسان، فإن التربية الإِسلامية تربط دائمًا بين العمل والسلوك، ثم بين العمل الصادر من هذا الإيمان وبين الجزاء، قال تعالى:{ وَالْعَصْرِ[1]إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[2]إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[3]}[سورة العصر].
وهناك آيات كثيرة تقرن الإيمان بالعمل، فالإيمان الحق هو الإيمان الذي يصدر عنه السلوك، وينبع منه العمل الصالح، ويخرج منه الخلق الكريم، فحسن الخلق، والإخاء والمودة، واجتناب الكبائر، والتمسك بالفضائل يجب أن تصدر عن هذه العقيدة.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: [لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ]رواه أحمد.
ويقول صلى الله عليه وسلم في سلوك المؤمن نحو جاره، ونحو نفسه: [ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ] رواه البخاري ومسلم.
كما يتحدث عن أثر الإيمان في تجنب الرذائل، وارتباط الإيمان بالسلوك ساعة فعل العمل: كما جاء في الحديث الشريف: [لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ] رواه البخاري ومسلم.
وكما ورد في الحديث الآخر: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ أَوْ قَالَ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ] رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-.
فالعقيدة لابد أن تنعكس على الإنسان وسلوكه، فإذا آمن إيمانا يقينيًا بالله سبحانه وبعلمه ومراقبته الدائمة لعبده؛ كان هذا الإيمان محدداً لسلوك المسلم كفرد، وسلوك الجماعة كأمة مسلمة.
فالعقيدة لابد أن تترجم في حياة الفرد الذي يعلم بأن الله يطلع على سره ونجواه، وأن أفعاله مكتوبة وهو محاسب عليها، ولابد أن تترجم في حياة الجماعة، فتبني نظام حياتها وفق هذه العقيدة التي آمنت بها.
من كل ما سبق يتقرر أنه لا سعادة لهذه النفس الإِنسانية، ولا استقامة لها إلا إذا ارتبطت كافة جوانبها بعقيدة التوحيد، ومن هنا يجب على المربي المسلم أن يربط كل جوانب التربية بهذا الأصل الاعتقادي لما له من أهمية كبرى في حياة الإنسان النفسية، وتوحد نوازعه وتفكيره وأهدافه، وتجعل كل عواطفه وسلوكه وعاداته قوى متضافرة متعاونة ترمي كلها إلى تحقيق هدف واحد هو الخضوع لله وحده، والشعور بألوهيته وحاكميته، ورحمته وعلمه، لما في النفوس وقدرته، وسائر صفاته.
ثانيًا:بر الوالدين: إن عطف الآباء على الأبناء من أبرز صور الرحمة، وهو يفرض على الأبناء أن يقابلوا رحمة والديهم لهم بأن يرعوهم كباراً، فيخفضوا لهم جناح الذل من الرحمة، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة بهم.
إن عطف الوالدين على أولادهم عطاء لا يقدر بثمن ولا ينتظر منه العوض، إنه فطرة فطر الله الوالدين عليها، ولذلك كان برهما من أعظم الواجبات، وفي مقدمة الصلات الاجتماعية، كما كان عقوقهما من الكبائر المقاربة للشرك بالله، ولهذا ورد الأمر بالإحسان إليهما في مواضع كثيرة من كتاب الله عز وجل عقب الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن الإشراك به:
فمن ذلك قوله تعالى:{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ...[36]}[سورة النساء].
ففي الآية الكريمة يأمر الله تعالى بعبادته، وينهى عن الشرك به، ثم يتبعه الأمر بالإحسان للوالدين وبرهما لما لهما من الفضل على الابن منذ أن كان نطفة في رحم أمه حتى صار كبيراً يعتمد على نفسه.
ويعرض لقمان الحكيم في وصيته لابنه العلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق، وفي صورة موحية بالعطف والرقة، ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة؛ ولهذا كان شكر الوالدين بعد شكر الله؛ لأنه المنعم الأول.
ووصية الإنسان بوالديه تتمثل في: طاعتهما، وطاعة الوالدين لا تكون في ركوب كبيرة، ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات..مما سبق يمكن القول أن علاقة الأبناء بالوالدين يجب أن تكون علاقة قوية مبنية على التقدير والاحترام؛ ذلك أن فضلهم على أبنائهم لا يدرك مداه، ولا يستطيع أحد أن يقدره. ومن هنا كان توصية الأبناء بآبائهم تتكرر في القرآن الكريم، والسنة المطهرة؛ لما في ذلك من حاجة لتذكيرهم بواجب الجيل الذي نفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف، ومما لاشك فيه أن الإنسان لا يفي والديه حقهما عليه مهما أحسن إليهما، لأنهما كانا يحسنان إليه حينما كان صغيراً وهما يتمنيان له كل خير، ويخشيان عليه من كل سوء، ويسألان الله له السلامة وطول العمر، ويهون عليهما من أجله كل بذل مهما عظم ويسهران على راحته دون أن يشعر بأي تضجر من مطالبه، ويحزنان عليه إذا آلمه أي شيء، أما الولد فإذا قام بما يجب عليه من الإحسان لوالديه، فإن مشاعره النفسية نحوهما لا تصل إلى مثل مشاعر أنفسهما التي كانت نحوه ولا تصل إلى مثل مشاعره هو نحو أولاده إلا في حالات نادرة جداً.
من البيان السابق للوصية الثانية- والتي تتعلق ببر الوالدين- يتقرر أن من أول الواجبات التي يجب على الطفل المسلم أن يتعلمها: الشكر للوالدين، ويكون هذا بعد الإِيمان بالله سبحانه وحده، والشكر له، ولهذا جعل لقمان شكر الوالدين بعد شكر الله عز وجل، والإيمان به اعترافاً بحقوقهما، ووفاء بمعروفهما.
ثالثًا: التربية على الإِيمان بقدرة الله عز وجل: قال تعالى:{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ[16]}[سورة لقمان].
في الآية الكريمة يعلم لقمان ابنه مدى قدرة الله تعالى، حيث قيل: إن الحس لا يدرك للخردلة ثقلًا، إذ لا ترجح ميزانًا. أي لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في هذه المواضع جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه، أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن إتباع سبيل من أناب إليّ.
والآية الكريمة السابقة توجه الإنسان إلى قدرة الله الواسعة، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، فسبحانه لا شريك له. وهناك آيات بينات من كتاب الله تدل على سعة علم الله، وقدرته العظيمة، فمن ذلك قوله تعالى:{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[59]}[سورة الأنعام].
وفي قوله تعالى:{حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَل}، إشارة إلى دقة الحساب، وعدالة الميزان، ما يبلغه هذا التعبير المصور حبة من خردل، صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة {فَتَكُنْ فِي صَخْرَة} أي صلبة محشورة فيها لا تظهر، ولا يتوصل إليها {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ...} في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة، أو ذرة تائهة {أَو ْفِي الأَرْض} ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} فعلمه يلاحقها وقدرته لا تفلتها [في ظلال القرآن 5/2789].
ويراد من ذلك: الأعمال: المعاصي و الطاعات، أي إنْ تك الحسنة أو الخطيئة مثقال حبة؛ يأت بها الله، أي لا تفوت الإنسان المقدر وقوعها منه، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة التوجية والتخويف.
ويدرك الإنسان من معرفته لقدرة: مراقبة الله الدائمة له في كل تصرف، مراقبة الله له في الصغيرة والكبيرة، وفي الجهر والخفاء؛ ولذا فهو يراقب الله وهم يعمل... فلا يعمل شيئاً بغير إخلاص، لا يعمل شيئاً يقصد الشر... لا يعمل مستهتراً ولا مستهينًا بالعواقب، ولا يعمل شيئا لغير الله، فالله سبحانه وتعالى يحاسبه على النية بعد العمل، وعلى الإخلاص فيه. هذا والله لا يقبل أن يكون شيء من العمل لغير وجهه.
فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَالَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا شَيْءَ لَه]ُ فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا شَيْءَ لَهُ] ثُمَّ قَالَ: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ] رواه النسائي.
وكذلك يراقبه وهو يفكر ويحس... فالله يعلم السر، وأخفى من السر الهاجسة في باطن النفس لم يطلع عليها أحد؛ لأنها مطمورة في الأعماق يراقبه فلا يحس بإحساس غير نظيف، يراقبه فينظف مشاعره أولًا بأول: لا يحسد ولا يحقد، ولا يكره للناس الخير، ولا يتمنى أن يحرمهما منه، ويستحوذ هو عليه، ولا يشتهى الشهوات الباطلة، والمتاع الدنس.
وحين توجد في القلب هذه الحساسية المرهفة تجاه الله، لتستقيم النفس، ويستقيم المجتمع، وتستقيم جميع الأمور، ويعيش المجتمع نظيفاً من الجريمة، نظيفاً من الدنس، نظيفاً من الأحقاد؛ لأنه لا يتعامل في الحقيقة بعضه مع بعض وإنما يتعامل أولا مع الله .
وبناء على ما سبق ذكره: ينبغي على الآباء والأمهات، وكذلك العاملين في مجال التربية والتعليم أن يغرسوا في قلوب أبنائهم وتلاميذهم مراقبة الله تعالى في أعمالهم وسائر أحوالهم، لتصبح هذه المراقبة الإلهية سلوكًا لازمًا لهم في كل تصرفاتهم، ويتم ذلك بترويض الولد على مراقبة الله وهو يعمل، فيتعلم الإخلاص لله في كل أقواله، وأعماله، وسائر تصرفاته، ويكون ممن شملهم القرآن بقوله تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...[5]}[سورة البينة].
وكذلك ترويضه على مراقبة الله وهو يفكر: ليتعلم الأفكار التي تقربه من خالقه العظيم، والتي بها ينفع نفسه، ومجتمعه، والناس أجمعين.
وأيضاً ترويضه على مراقبة الله وهو يحس: فيتعلم كل إحساس نظيف وليتربى على كل شعور طاهر.. وهذا النمط من التربية والمراقبة قد وجه إليه المربي الأول عليه الصلاة والسلام في إجابته السائل عن الإحسان: [أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ] رواه البخاري ومسلم.
وحينما ينهج المربون في تربية الأولاد هذا النهج، ويسير الآباء والأمهات في تأديب الأبناء على هذه القواعد؛ يستطيعون بإذن الله في فترة يسيرة من الزمن أن يكوّنوا جيلاً مسلمًا مؤمنًا بالله، معتزًا بدينه، مفتخرًا بتاريخه وأمجاده، ويستطيعون كذلك أن يكوّنوا مجتمعًا نظيفًا من الإلحاد والميوعة والحقد، ونظيفاً من الجريمة.
رابعًا: التوجه إلى الله تعالى بالصلاة، والتوجه إلى الناس بالدعوة إليه تعالى، والصبر في سبيل الدعوة ومتاعبها:
أ- الأمر بإقامة الصلاة: يقول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ}. فرض الله على عباده عبادات لها أثرها في تهذيب سلوك الإنسان، وإصلاح القلوب ومن هذه العبادات: الصلاة، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام وعموده الذي لا يقوم إلا به، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وقد بلغ من عناية الإسلام بالصلاة أن أمر بالمحافظة عليها في الحضر والسفر، والأمن والخوف قال تعالى: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ[238]فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ[239]}[سورة البقرة].
إن المتمعن بالعبادات التي فرضها الله عموماً، والصلاة خصوصاً؛ يدرك أثرها التربوي في إشراقة النفوس، وطمأنينة القلوب، وإصلاح الفرد والجماعة، ومن هذه الآثار التربوية ما يلي:
1- إقامة الصلاة دليل على صدق الإيمان، وعلى تقوى الله، وعلى ما يتمتع به صاحبها من بره بعهده، وقيامه على الحق، وإخلاصه لله، قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[1]الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]}[سورة المؤمنون].
2- الصلاة منهج متناسق لتربية الفرد والمجتمع يصل بهما إلى قمة السمو الأخلاقي، قال تعالى:{ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ...[45]}[سورة العنكبوت].
3- الصلاة تمد المؤمن بقوة روحية تعينه على مواجهة المشقات في الحياة الدنيا، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[153]}[سورة البقرة].
4- الصلاة غذاء روحي للمؤمن يعينه على مقاومة الجزع والهلع عند مسه الضر، والمنع عند الخير والتغلب على جوانب الضعف الإنساني، قال تعالى:{ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا[19]إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا[20]وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا[21]إِلَّا الْمُصَلِّينَ[22]الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ[23]}[سورة المعارج].
5- إن الصلاة سبب لمحو الخطايا وغفران الذنوب فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ] قَالُوا لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ قَالَ: [فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا] رواه البخاري ومسلم.
6- إن في الصلاة غذاء للروح لا يغني عنه علم، ولا أدب، فالصلوات الخمس هي وجبات الغذاء اليومي للروح كما أن للمعدة وجباتها اليومية يناجي المصلي فيها ربَّه فتكاد تشف روحه، وتصفوا نفسه.
7- في الصلاة تدريب للمسلم على النظام، وتعويد له على الطاعة، ويظهر هذا واضحًا في صلاة الجماعة.
8- في صلاة الجماعة دعم لعاطفة الأخوة وتقوية لروابط المحبة وإظهار للقوة فبالاجتماع تذهب الضغائن وتزول الأحقاد و تتآلف القلوب وتتحد الكلمة، قال تعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ...[11]}[سورة التوبة].
ب- بعد ما أمر لقمان ابنه بالإِيمان بالله ، وعدم الإشراك به، والقيام ببر الوالدين، والثقة بعدالة الجزاء، والتوجه إلى الله بالصلاة، أمره بالقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لما في ذلك من آثار حب الفضيلة، وأساس من أسس صلاح المجتمع، وإذا تضامن الناس في ذلك - كما هو الواجب شرعاً - ووجد تضامن الناس على الفضيلة فلا تضيع بينهم، ووجد تضامنهم على استنكار الرذيلة فلا توجد بينهم.
لا شك أن الله عز وجل جعل هذه الأمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس، كما جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مناط هذه الخيرية مع الإِيمان بالله، قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...[110]}[سورة آل عمران].
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاولة تغيير المنكر بالنصيحة، وبالطرق العملية المثمرة؛ مساهمة جليلة في صيانة المجتمع وتقويمه و إصلاحه، وكل مساهمة في إصلاح المجتمعات، وتقويمها، وصيانتها أعمال أخلاقية فاضلة.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنكاره ومحاولة تغييره من مكارم الأخلاق الإيمانية؛ لما فيها من خدمة اجتماعية، وصيانة للمجتمعات عن الانزلاق في مزالق الانحراف، ولذلك حرص الإسلام حرصا شديداً على جعل كل المسلمين والمسلمات حرّاساً لأسوار الفضائل وتعاليم الدين الحنيف، فمن جاهد منهم المنحرفين بيده، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه، فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. فوظيفة حراسة المجتمع لحمايته من الانحراف وظيفة اجتماعية لا يجوز التخلي عنها في أي حال من الأحوال فإذا حدث ذلك تعرضت الأمة كلها للعقوبة العامة.
جـ- تتطلب الدعوة إلى الله تعالى الصبر من الداعي في سبيل ما يلقاه من أعداء دعوته: ذلك لأن الناس أعداء لما جهلوا، وتحويلهم من عقيدة اعتنقوها فترة من الزمن- ولو كانت باطلة- إلى عقيدة أخرى لم يألفوها- وإن كانت هي الحق- أمر صعب على النفوس، ولهذا أوصى لقمان ابنه بالصبر يقول الحق تبارك وتعالى على لسان لقمان: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، لأن الإنسان عندما يتعرض لدعوة الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لابد أن يتصدى له أهل الشر، ويناله منهم أذى ولو كان قليلا، فأمر لقمان ابنه بالصبر عليه.
وبالصبر يتمكن الإنسان بطمأنينة وثبات أن يضع الأشياء في مواضعها، ويتصرف في الأمور بعقل واتزان، وينفذ ما يريد من تصرف في الزمن المناسب، بالطريقة المناسبة الحكيمة، وعلى الوجه المناسب الحكيم، بخلاف عدم الصبر الذي يدفع إلى التسرع والعجلة، فيضع الإِنسان الأشياء في غير مواضعها، ويتصرف برعونة فيخطئ في تحديد الزمان، ويسيء في طريقة التنفيذ، وربما يكون صاحب حق، أو يريد الخير، فيغدو جانياً، أو مفسداً، ولو أنه اعتصم بالصبر لَسلِم من كل ذلك.
لهذا أوصى لقمان ابنه بالصبر؛ لأن الصبر على المصائب يبقى للفعل نوره، ويبقى للشخص وقاره، ولذا كان الصبر من الآداب الرفيعة والأخلاق القويمة، و صفة من صفات المؤمن، وسمة من سمات المبشرين بالأجر العظيم من الله عز وجل قال تعالى: {...إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [10]} [سورة الزمر].
نخلص مما سبق أن لقمان وصيته هذه رتب الأمور بحسب أهميتها للداعية: حيث بدأها بتربية النفس على طاعة الله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاة} ثم ثنى بدعوة الآخرين: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ثم أمر بالصبر على ما يصيبه وتحمل ما يتعرض له من الأذى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك}.
وهكذا يربَّي لقمان ابنه على منهج العبادة، حيث أن العبادة في الإسلامِ تربي الإنسان المسلم على الوعي الفكري الدائم، وهذا ما يجعله إنسانًا منطقياً واعياً في كل أمور حياته، ومنهجياً لا يقوم بعمل إلا ضمن خطة ووعي وتفكير، إلى جانب ذلك فهو في يقظة دائمة يراقب الله في كل أعماله.
وإضافة إلى ما سبق فإن العبادة تربي في الإِنسان المسلم الشعور بالعزة والكرامة، قال تعالى }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ[8]}[سورة المنافقون].
خامسًا: الآداب الاجتماعية: يستطرد لقمان في وصيته التي يحكيها القرآن هنا إلى آداب الداعية إلى الله، فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس والتطاول عليهم باسم قيادتهم إِلى الخير، ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل.
يقول لقمان وهو يعظ ابنه:{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[18]وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[19] } [سورة لقمان]. فمن الآيتين الكريمتين السابقتين يتضح أن الآداب المتضمنة في تلك الموعظة هي كالتالي:
1] {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاس} ينهى ابنه عن الكبر، والمعنى أن لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم، أو كلموك احتقاراً منك لهم، واستكباراً عليهم، ولكن ألن جانبك، وابسط وجهك إليهم. والصعر داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها، والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصعر: حركة الكبر والازورار، وإمالة الخد للناس في تعال واستكبار. والتكبر ليس من أخلاق المؤمن، والإِنسان كلما تواضع لله رفعه الله، وكلما تكبر عليه وضعه وقصمه، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: [وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ] رواه مسلم.
فظهر بهذا أن أولى الأخلاق التي يرغب لقمان في غرسها في ابنه: عدم التكبر على الناس، والتواضع لهم.
2] {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً...} يعني: ولا تمش في الأرض مشية تبختر واختيال، ولذلك ختم الله الآية بما يناسب هذا المعنى فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي لا يحب كل مختالٍ على الناس، مستكبر عليهم بمشيته بينهم، أو بإعراضه عنهم، ولا يحب كل فخور على الناس بنفسه، أو بما أتاه الله من قوة، أو مالٍ، أو نسبٍ، أو جاهٍ، أو ذكاء قلب، أو جمال وجه، وحسن طلعة.
3] {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ...} بعدما نهى لقمان ابنه عن مشيه المرح وصعر الخد أمره بالمشية المعتدلة القاصدة، فقال:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} والقصد هنا من الاقتصاد، وعدم الإِسراف، وعدم إضاعة الطاقة في التبختر، والتثني والاختيال، ومن القصد كذلك؛ لأن المشية القاصدة إلى هدف لا تتلكأ، ولا تتخايل، ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق. ولقد نهى الله تعالى المسلم أن يسير مسرع الخطى وهو يلهث، كما نهاه أن يبطئ في مشيه وهو خامل كسول، إنما عليه أن يتوسط في مشيه.
فإذا وضعت أسس التربية على أساس من التوازن والاعتدال- كما أوضحتها النظرة الإسلامية- لاعتدل الأمر، وما تحولت الوسائل إلى غايات، وما انحرفت بنا الطريق بين غلو وتقصير، وإفراط وتفريط. والتربية الإِسلامية تهتم بالتركيز على التوازن بين إشباعات النفس، ومطالبها، وبين عفتها وقناعتها، وهذا وارد في قوله تعالى: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ … [29]}[سورة الإسراء].
فالوسط الإسلامي هو التوازن في الفكر والسلوك والتطبيق، من أجل ذلك طلب لقمان ابنه أن يتوسط في مشيته، والمراد من ذلك أن تكون مشيته ما بين الإسراع والبطء أي لا تدب دبيب المتماوتين ولاتثب وثب الشطار.
4] {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أي: لا تتكلف رفع صوتك، وخذ منه ما تحتاج إليه، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي، والمراد بذلك التواضع. وغض الصوت فيه أدب، وثقة بالنفس، واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته.. والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة، بشعة حين يعقب عليه بقوله:{إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.
قال سفيان الثوري: صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير. وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاوناً بهم، أو بترك الصياح جملة.
يتضح من الوصايا التي وصى بها لقمان ابنه أنها تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمراً، وإلى مرتكبها إن كانت نهياً: فأمره بأصل الدين وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك، وبين له الموجبة لتركه.
وأمره ببر الوالدين وبين له السبب الموجب لبرهما، وأمره بشكره وشكرهما، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما مالم يأمرا بمعصية ومع ذلك فلا يعقهما بل يحسن إليهما، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك.
وأمر بمراقبة الله، وخوّفه القدوم عليه، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر إلا أتى بها. وأمره بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر كما قال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ...[45]}[سورة البقرة].
ونهاه عن التكبر وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر والمرح، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك.. فحقيق من أوصى بهذه الوصايا أن يكون مخصوصًا بالحكمة، مشهورًا بها، ولهذا من منّة الله على عباده أن قصر عليهم من حكمته ما يكون لهم به أسوة حسنة.
فالوصايا السابقة هي منهج الآداب السامية التي يؤدب الله عباده ذلك؛ لأن في امتثالها فلاحهم دنيا وآخرة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم يرون آثارها التربوية في توجيه وتهذيب سلوكهم، وتعمل على زيادة الألفة و المحبة بينهم كما يؤدي هذا إلى تماسك مجتمعهم.
من بحث:' معالم أصول التربية الإسلامية من خلال وصايا لقمان لابنه' د./ عبد الرحمن بن محمد عبد المحسن الأنصاري
</div>
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد،،،
فإن الحاجة إلى التربية الإسلامية شديدة؛ لأن العقول البشرية لا تستطيع وحدها إدراك مصالحها الحقيقة التي تكفل لها سعادة الدارين الدنيا والآخرة، كما أنها لا تهدي وحدها إلى التمييز بين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، فالإنسان ليس كامل الحواس والعقل، ومن ثمَّ، فإن مداركه ومعارفه مهما وصلت إلى درجة عالية، فإنها تبقى قاصرة ومحدودة.
لذا ينبغي أن يكون الإسلام هو المصدر الأساسي الذي يستمد منه المجتمع فكره التربوي، وأهدافه التربوية، وأسس مناهجه، وأساليب تدريسه، وسائر عناصر العملية التعليمية، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [153]} [سورة الأنعام]. يتضح من الآية الكريمة أنه لا سبيل إلى تلافي هذا النقص وذلك القصور إلا بتفهم أصول التربية الإسلامية من مصادرها الأصلية، والرجوع إلى سير السلف الصالح للإقتداء بهم.
وفي هذه الدراسة نستخلص أصول التربية الإسلامية للإنسان المسلم من خلال وصايا لقمان كما وردت في سورة لقمان.
أولًا:وصايا لقمان لابنه: وقد بينها لنا القرآن الكريم بأسلوبه ومعانيه المعجزة الخالدة، فكانت وصاياه أنموذجا يتوافر فيه الإخلاص والصواب، وعلى الآباء أن يسلكوا مسلكه في تنشئة أبنائهم تنشئة إسلامية صحيحة، وفق ما تعرضه الآيات الكريمة من كتاب الله والتي ذكرت بها وصايا لقمان:
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ[12]وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[13]وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[14]وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[15]يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ[16]يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[17] وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[18]وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[19]}[سورة لقمان]. من خلال العرض السابق للآيات الكريمة يمكن توضيح الوصايا في النقاط التالية:
الوصية الأولى: توحيد الله وإفراده بالعبادة لله وحده لا شريك له في ذلك، فهو المستحق للعبادة وحده:{يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
الوصية الثانية: برَّ الأبناء لآبائهم:{وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْه...}.
الوصية الثالثة: أن يراقب العبد الله سبحانه في حركاته وسكناته وجميع أعماله، فالله عزوجل لا تخفى عليه خافية لا في الأرض، ولا في السماء: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ...} الآية.
الوصية الرابعة: الأمر بإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على تحمل المشاق في سبيل ذلك: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ...} الآية.
الوصية الخامسة: التواضع لعباد الله، والإقبال عليهم بوجه طليق، والابتعاد عن مظاهر الكبر والغرور، وخفض الصوت أثناء الحديث معهم، وعدم رفعه:{وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ….}الآية {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِك……} الآية. تلك هي وصايا لقمان الحكيم لابنه ذكرها لنا القرآن الكريم للتفكر والاعتبار.
ثانيًا: جوانب التربية الإسلامية المتضمنة لوصايا لقمان لابنه:
أولًا: الدعوة إلى غرس عقيدة التوحيد: والأسرة المسلمة هي المدرسة الأولى التي تقوم بتوجيه وتربية الأبناء تربية صالحة، فالأبناء أمانة في أعناقهم يسألون عنهم أمام الله، قال عز وجل:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[6]}[سورة التحريم].
فأول واجب يجب على الأبوين القيام به، والاهتمام بأمره دون كلل: هو غرس عقيدة التوحيد في نفس الطفل، وتوجيه عواطفه نحو حب الله ورسوله، وإخباره بأن الله يجب أن يكون أحب إليه من أمه وأبيه ونفسه، والإِيمان بالله الذي لا إله غيره، وبملائكته ورسله، وتوحيد الله في الألوهية، والربوبية، والقوامة، والسلطان، والحاكمية؛ لأن الإيمان بالله هو الموجه لسلوك الإنسان، والدافع له إلى اتجاه الخير، والنصير له، كما أنه الذي يصرفه عن طريق الشر، ويجعله متحلياً بالفضائل، وحسن الخلق.
والمقصود بالإيمان أي الإِيمان بما أوجب الله تعالى في قوله: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ...[285]}[سورة البقرة].
وأما السنة: فقد ذكرت أركان الإيمان مجتمعة في حديث جبريل عليه السلام- وهو مشهور-.
إن الإيمان بالله هو الموجه للسلوك والضابط له، والمتصل اتصالًا وثيقاً بالأعمال الصادرة من الإِنسان، فإن التربية الإِسلامية تربط دائمًا بين العمل والسلوك، ثم بين العمل الصادر من هذا الإيمان وبين الجزاء، قال تعالى:{ وَالْعَصْرِ[1]إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[2]إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[3]}[سورة العصر].
وهناك آيات كثيرة تقرن الإيمان بالعمل، فالإيمان الحق هو الإيمان الذي يصدر عنه السلوك، وينبع منه العمل الصالح، ويخرج منه الخلق الكريم، فحسن الخلق، والإخاء والمودة، واجتناب الكبائر، والتمسك بالفضائل يجب أن تصدر عن هذه العقيدة.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: [لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ]رواه أحمد.
ويقول صلى الله عليه وسلم في سلوك المؤمن نحو جاره، ونحو نفسه: [ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ] رواه البخاري ومسلم.
كما يتحدث عن أثر الإيمان في تجنب الرذائل، وارتباط الإيمان بالسلوك ساعة فعل العمل: كما جاء في الحديث الشريف: [لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ] رواه البخاري ومسلم.
وكما ورد في الحديث الآخر: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ أَوْ قَالَ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ] رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-.
فالعقيدة لابد أن تنعكس على الإنسان وسلوكه، فإذا آمن إيمانا يقينيًا بالله سبحانه وبعلمه ومراقبته الدائمة لعبده؛ كان هذا الإيمان محدداً لسلوك المسلم كفرد، وسلوك الجماعة كأمة مسلمة.
فالعقيدة لابد أن تترجم في حياة الفرد الذي يعلم بأن الله يطلع على سره ونجواه، وأن أفعاله مكتوبة وهو محاسب عليها، ولابد أن تترجم في حياة الجماعة، فتبني نظام حياتها وفق هذه العقيدة التي آمنت بها.
من كل ما سبق يتقرر أنه لا سعادة لهذه النفس الإِنسانية، ولا استقامة لها إلا إذا ارتبطت كافة جوانبها بعقيدة التوحيد، ومن هنا يجب على المربي المسلم أن يربط كل جوانب التربية بهذا الأصل الاعتقادي لما له من أهمية كبرى في حياة الإنسان النفسية، وتوحد نوازعه وتفكيره وأهدافه، وتجعل كل عواطفه وسلوكه وعاداته قوى متضافرة متعاونة ترمي كلها إلى تحقيق هدف واحد هو الخضوع لله وحده، والشعور بألوهيته وحاكميته، ورحمته وعلمه، لما في النفوس وقدرته، وسائر صفاته.
ثانيًا:بر الوالدين: إن عطف الآباء على الأبناء من أبرز صور الرحمة، وهو يفرض على الأبناء أن يقابلوا رحمة والديهم لهم بأن يرعوهم كباراً، فيخفضوا لهم جناح الذل من الرحمة، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة بهم.
إن عطف الوالدين على أولادهم عطاء لا يقدر بثمن ولا ينتظر منه العوض، إنه فطرة فطر الله الوالدين عليها، ولذلك كان برهما من أعظم الواجبات، وفي مقدمة الصلات الاجتماعية، كما كان عقوقهما من الكبائر المقاربة للشرك بالله، ولهذا ورد الأمر بالإحسان إليهما في مواضع كثيرة من كتاب الله عز وجل عقب الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن الإشراك به:
فمن ذلك قوله تعالى:{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ...[36]}[سورة النساء].
ففي الآية الكريمة يأمر الله تعالى بعبادته، وينهى عن الشرك به، ثم يتبعه الأمر بالإحسان للوالدين وبرهما لما لهما من الفضل على الابن منذ أن كان نطفة في رحم أمه حتى صار كبيراً يعتمد على نفسه.
ويعرض لقمان الحكيم في وصيته لابنه العلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق، وفي صورة موحية بالعطف والرقة، ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة؛ ولهذا كان شكر الوالدين بعد شكر الله؛ لأنه المنعم الأول.
ووصية الإنسان بوالديه تتمثل في: طاعتهما، وطاعة الوالدين لا تكون في ركوب كبيرة، ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات..مما سبق يمكن القول أن علاقة الأبناء بالوالدين يجب أن تكون علاقة قوية مبنية على التقدير والاحترام؛ ذلك أن فضلهم على أبنائهم لا يدرك مداه، ولا يستطيع أحد أن يقدره. ومن هنا كان توصية الأبناء بآبائهم تتكرر في القرآن الكريم، والسنة المطهرة؛ لما في ذلك من حاجة لتذكيرهم بواجب الجيل الذي نفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف، ومما لاشك فيه أن الإنسان لا يفي والديه حقهما عليه مهما أحسن إليهما، لأنهما كانا يحسنان إليه حينما كان صغيراً وهما يتمنيان له كل خير، ويخشيان عليه من كل سوء، ويسألان الله له السلامة وطول العمر، ويهون عليهما من أجله كل بذل مهما عظم ويسهران على راحته دون أن يشعر بأي تضجر من مطالبه، ويحزنان عليه إذا آلمه أي شيء، أما الولد فإذا قام بما يجب عليه من الإحسان لوالديه، فإن مشاعره النفسية نحوهما لا تصل إلى مثل مشاعر أنفسهما التي كانت نحوه ولا تصل إلى مثل مشاعره هو نحو أولاده إلا في حالات نادرة جداً.
من البيان السابق للوصية الثانية- والتي تتعلق ببر الوالدين- يتقرر أن من أول الواجبات التي يجب على الطفل المسلم أن يتعلمها: الشكر للوالدين، ويكون هذا بعد الإِيمان بالله سبحانه وحده، والشكر له، ولهذا جعل لقمان شكر الوالدين بعد شكر الله عز وجل، والإيمان به اعترافاً بحقوقهما، ووفاء بمعروفهما.
ثالثًا: التربية على الإِيمان بقدرة الله عز وجل: قال تعالى:{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ[16]}[سورة لقمان].
في الآية الكريمة يعلم لقمان ابنه مدى قدرة الله تعالى، حيث قيل: إن الحس لا يدرك للخردلة ثقلًا، إذ لا ترجح ميزانًا. أي لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في هذه المواضع جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه، أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن إتباع سبيل من أناب إليّ.
والآية الكريمة السابقة توجه الإنسان إلى قدرة الله الواسعة، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، فسبحانه لا شريك له. وهناك آيات بينات من كتاب الله تدل على سعة علم الله، وقدرته العظيمة، فمن ذلك قوله تعالى:{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[59]}[سورة الأنعام].
وفي قوله تعالى:{حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَل}، إشارة إلى دقة الحساب، وعدالة الميزان، ما يبلغه هذا التعبير المصور حبة من خردل، صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة {فَتَكُنْ فِي صَخْرَة} أي صلبة محشورة فيها لا تظهر، ولا يتوصل إليها {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ...} في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة، أو ذرة تائهة {أَو ْفِي الأَرْض} ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} فعلمه يلاحقها وقدرته لا تفلتها [في ظلال القرآن 5/2789].
ويراد من ذلك: الأعمال: المعاصي و الطاعات، أي إنْ تك الحسنة أو الخطيئة مثقال حبة؛ يأت بها الله، أي لا تفوت الإنسان المقدر وقوعها منه، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة التوجية والتخويف.
ويدرك الإنسان من معرفته لقدرة: مراقبة الله الدائمة له في كل تصرف، مراقبة الله له في الصغيرة والكبيرة، وفي الجهر والخفاء؛ ولذا فهو يراقب الله وهم يعمل... فلا يعمل شيئاً بغير إخلاص، لا يعمل شيئاً يقصد الشر... لا يعمل مستهتراً ولا مستهينًا بالعواقب، ولا يعمل شيئا لغير الله، فالله سبحانه وتعالى يحاسبه على النية بعد العمل، وعلى الإخلاص فيه. هذا والله لا يقبل أن يكون شيء من العمل لغير وجهه.
فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَالَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا شَيْءَ لَه]ُ فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا شَيْءَ لَهُ] ثُمَّ قَالَ: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ] رواه النسائي.
وكذلك يراقبه وهو يفكر ويحس... فالله يعلم السر، وأخفى من السر الهاجسة في باطن النفس لم يطلع عليها أحد؛ لأنها مطمورة في الأعماق يراقبه فلا يحس بإحساس غير نظيف، يراقبه فينظف مشاعره أولًا بأول: لا يحسد ولا يحقد، ولا يكره للناس الخير، ولا يتمنى أن يحرمهما منه، ويستحوذ هو عليه، ولا يشتهى الشهوات الباطلة، والمتاع الدنس.
وحين توجد في القلب هذه الحساسية المرهفة تجاه الله، لتستقيم النفس، ويستقيم المجتمع، وتستقيم جميع الأمور، ويعيش المجتمع نظيفاً من الجريمة، نظيفاً من الدنس، نظيفاً من الأحقاد؛ لأنه لا يتعامل في الحقيقة بعضه مع بعض وإنما يتعامل أولا مع الله .
وبناء على ما سبق ذكره: ينبغي على الآباء والأمهات، وكذلك العاملين في مجال التربية والتعليم أن يغرسوا في قلوب أبنائهم وتلاميذهم مراقبة الله تعالى في أعمالهم وسائر أحوالهم، لتصبح هذه المراقبة الإلهية سلوكًا لازمًا لهم في كل تصرفاتهم، ويتم ذلك بترويض الولد على مراقبة الله وهو يعمل، فيتعلم الإخلاص لله في كل أقواله، وأعماله، وسائر تصرفاته، ويكون ممن شملهم القرآن بقوله تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...[5]}[سورة البينة].
وكذلك ترويضه على مراقبة الله وهو يفكر: ليتعلم الأفكار التي تقربه من خالقه العظيم، والتي بها ينفع نفسه، ومجتمعه، والناس أجمعين.
وأيضاً ترويضه على مراقبة الله وهو يحس: فيتعلم كل إحساس نظيف وليتربى على كل شعور طاهر.. وهذا النمط من التربية والمراقبة قد وجه إليه المربي الأول عليه الصلاة والسلام في إجابته السائل عن الإحسان: [أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ] رواه البخاري ومسلم.
وحينما ينهج المربون في تربية الأولاد هذا النهج، ويسير الآباء والأمهات في تأديب الأبناء على هذه القواعد؛ يستطيعون بإذن الله في فترة يسيرة من الزمن أن يكوّنوا جيلاً مسلمًا مؤمنًا بالله، معتزًا بدينه، مفتخرًا بتاريخه وأمجاده، ويستطيعون كذلك أن يكوّنوا مجتمعًا نظيفًا من الإلحاد والميوعة والحقد، ونظيفاً من الجريمة.
رابعًا: التوجه إلى الله تعالى بالصلاة، والتوجه إلى الناس بالدعوة إليه تعالى، والصبر في سبيل الدعوة ومتاعبها:
أ- الأمر بإقامة الصلاة: يقول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ}. فرض الله على عباده عبادات لها أثرها في تهذيب سلوك الإنسان، وإصلاح القلوب ومن هذه العبادات: الصلاة، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام وعموده الذي لا يقوم إلا به، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وقد بلغ من عناية الإسلام بالصلاة أن أمر بالمحافظة عليها في الحضر والسفر، والأمن والخوف قال تعالى: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ[238]فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ[239]}[سورة البقرة].
إن المتمعن بالعبادات التي فرضها الله عموماً، والصلاة خصوصاً؛ يدرك أثرها التربوي في إشراقة النفوس، وطمأنينة القلوب، وإصلاح الفرد والجماعة، ومن هذه الآثار التربوية ما يلي:
1- إقامة الصلاة دليل على صدق الإيمان، وعلى تقوى الله، وعلى ما يتمتع به صاحبها من بره بعهده، وقيامه على الحق، وإخلاصه لله، قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[1]الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]}[سورة المؤمنون].
2- الصلاة منهج متناسق لتربية الفرد والمجتمع يصل بهما إلى قمة السمو الأخلاقي، قال تعالى:{ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ...[45]}[سورة العنكبوت].
3- الصلاة تمد المؤمن بقوة روحية تعينه على مواجهة المشقات في الحياة الدنيا، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[153]}[سورة البقرة].
4- الصلاة غذاء روحي للمؤمن يعينه على مقاومة الجزع والهلع عند مسه الضر، والمنع عند الخير والتغلب على جوانب الضعف الإنساني، قال تعالى:{ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا[19]إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا[20]وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا[21]إِلَّا الْمُصَلِّينَ[22]الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ[23]}[سورة المعارج].
5- إن الصلاة سبب لمحو الخطايا وغفران الذنوب فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ] قَالُوا لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ قَالَ: [فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا] رواه البخاري ومسلم.
6- إن في الصلاة غذاء للروح لا يغني عنه علم، ولا أدب، فالصلوات الخمس هي وجبات الغذاء اليومي للروح كما أن للمعدة وجباتها اليومية يناجي المصلي فيها ربَّه فتكاد تشف روحه، وتصفوا نفسه.
7- في الصلاة تدريب للمسلم على النظام، وتعويد له على الطاعة، ويظهر هذا واضحًا في صلاة الجماعة.
8- في صلاة الجماعة دعم لعاطفة الأخوة وتقوية لروابط المحبة وإظهار للقوة فبالاجتماع تذهب الضغائن وتزول الأحقاد و تتآلف القلوب وتتحد الكلمة، قال تعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ...[11]}[سورة التوبة].
ب- بعد ما أمر لقمان ابنه بالإِيمان بالله ، وعدم الإشراك به، والقيام ببر الوالدين، والثقة بعدالة الجزاء، والتوجه إلى الله بالصلاة، أمره بالقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لما في ذلك من آثار حب الفضيلة، وأساس من أسس صلاح المجتمع، وإذا تضامن الناس في ذلك - كما هو الواجب شرعاً - ووجد تضامن الناس على الفضيلة فلا تضيع بينهم، ووجد تضامنهم على استنكار الرذيلة فلا توجد بينهم.
لا شك أن الله عز وجل جعل هذه الأمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس، كما جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مناط هذه الخيرية مع الإِيمان بالله، قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...[110]}[سورة آل عمران].
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاولة تغيير المنكر بالنصيحة، وبالطرق العملية المثمرة؛ مساهمة جليلة في صيانة المجتمع وتقويمه و إصلاحه، وكل مساهمة في إصلاح المجتمعات، وتقويمها، وصيانتها أعمال أخلاقية فاضلة.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنكاره ومحاولة تغييره من مكارم الأخلاق الإيمانية؛ لما فيها من خدمة اجتماعية، وصيانة للمجتمعات عن الانزلاق في مزالق الانحراف، ولذلك حرص الإسلام حرصا شديداً على جعل كل المسلمين والمسلمات حرّاساً لأسوار الفضائل وتعاليم الدين الحنيف، فمن جاهد منهم المنحرفين بيده، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه، فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. فوظيفة حراسة المجتمع لحمايته من الانحراف وظيفة اجتماعية لا يجوز التخلي عنها في أي حال من الأحوال فإذا حدث ذلك تعرضت الأمة كلها للعقوبة العامة.
جـ- تتطلب الدعوة إلى الله تعالى الصبر من الداعي في سبيل ما يلقاه من أعداء دعوته: ذلك لأن الناس أعداء لما جهلوا، وتحويلهم من عقيدة اعتنقوها فترة من الزمن- ولو كانت باطلة- إلى عقيدة أخرى لم يألفوها- وإن كانت هي الحق- أمر صعب على النفوس، ولهذا أوصى لقمان ابنه بالصبر يقول الحق تبارك وتعالى على لسان لقمان: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، لأن الإنسان عندما يتعرض لدعوة الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لابد أن يتصدى له أهل الشر، ويناله منهم أذى ولو كان قليلا، فأمر لقمان ابنه بالصبر عليه.
وبالصبر يتمكن الإنسان بطمأنينة وثبات أن يضع الأشياء في مواضعها، ويتصرف في الأمور بعقل واتزان، وينفذ ما يريد من تصرف في الزمن المناسب، بالطريقة المناسبة الحكيمة، وعلى الوجه المناسب الحكيم، بخلاف عدم الصبر الذي يدفع إلى التسرع والعجلة، فيضع الإِنسان الأشياء في غير مواضعها، ويتصرف برعونة فيخطئ في تحديد الزمان، ويسيء في طريقة التنفيذ، وربما يكون صاحب حق، أو يريد الخير، فيغدو جانياً، أو مفسداً، ولو أنه اعتصم بالصبر لَسلِم من كل ذلك.
لهذا أوصى لقمان ابنه بالصبر؛ لأن الصبر على المصائب يبقى للفعل نوره، ويبقى للشخص وقاره، ولذا كان الصبر من الآداب الرفيعة والأخلاق القويمة، و صفة من صفات المؤمن، وسمة من سمات المبشرين بالأجر العظيم من الله عز وجل قال تعالى: {...إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [10]} [سورة الزمر].
نخلص مما سبق أن لقمان وصيته هذه رتب الأمور بحسب أهميتها للداعية: حيث بدأها بتربية النفس على طاعة الله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاة} ثم ثنى بدعوة الآخرين: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ثم أمر بالصبر على ما يصيبه وتحمل ما يتعرض له من الأذى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك}.
وهكذا يربَّي لقمان ابنه على منهج العبادة، حيث أن العبادة في الإسلامِ تربي الإنسان المسلم على الوعي الفكري الدائم، وهذا ما يجعله إنسانًا منطقياً واعياً في كل أمور حياته، ومنهجياً لا يقوم بعمل إلا ضمن خطة ووعي وتفكير، إلى جانب ذلك فهو في يقظة دائمة يراقب الله في كل أعماله.
وإضافة إلى ما سبق فإن العبادة تربي في الإِنسان المسلم الشعور بالعزة والكرامة، قال تعالى }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ[8]}[سورة المنافقون].
خامسًا: الآداب الاجتماعية: يستطرد لقمان في وصيته التي يحكيها القرآن هنا إلى آداب الداعية إلى الله، فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس والتطاول عليهم باسم قيادتهم إِلى الخير، ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل.
يقول لقمان وهو يعظ ابنه:{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[18]وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[19] } [سورة لقمان]. فمن الآيتين الكريمتين السابقتين يتضح أن الآداب المتضمنة في تلك الموعظة هي كالتالي:
1] {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاس} ينهى ابنه عن الكبر، والمعنى أن لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم، أو كلموك احتقاراً منك لهم، واستكباراً عليهم، ولكن ألن جانبك، وابسط وجهك إليهم. والصعر داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها، والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصعر: حركة الكبر والازورار، وإمالة الخد للناس في تعال واستكبار. والتكبر ليس من أخلاق المؤمن، والإِنسان كلما تواضع لله رفعه الله، وكلما تكبر عليه وضعه وقصمه، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: [وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ] رواه مسلم.
فظهر بهذا أن أولى الأخلاق التي يرغب لقمان في غرسها في ابنه: عدم التكبر على الناس، والتواضع لهم.
2] {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً...} يعني: ولا تمش في الأرض مشية تبختر واختيال، ولذلك ختم الله الآية بما يناسب هذا المعنى فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي لا يحب كل مختالٍ على الناس، مستكبر عليهم بمشيته بينهم، أو بإعراضه عنهم، ولا يحب كل فخور على الناس بنفسه، أو بما أتاه الله من قوة، أو مالٍ، أو نسبٍ، أو جاهٍ، أو ذكاء قلب، أو جمال وجه، وحسن طلعة.
3] {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ...} بعدما نهى لقمان ابنه عن مشيه المرح وصعر الخد أمره بالمشية المعتدلة القاصدة، فقال:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} والقصد هنا من الاقتصاد، وعدم الإِسراف، وعدم إضاعة الطاقة في التبختر، والتثني والاختيال، ومن القصد كذلك؛ لأن المشية القاصدة إلى هدف لا تتلكأ، ولا تتخايل، ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق. ولقد نهى الله تعالى المسلم أن يسير مسرع الخطى وهو يلهث، كما نهاه أن يبطئ في مشيه وهو خامل كسول، إنما عليه أن يتوسط في مشيه.
فإذا وضعت أسس التربية على أساس من التوازن والاعتدال- كما أوضحتها النظرة الإسلامية- لاعتدل الأمر، وما تحولت الوسائل إلى غايات، وما انحرفت بنا الطريق بين غلو وتقصير، وإفراط وتفريط. والتربية الإِسلامية تهتم بالتركيز على التوازن بين إشباعات النفس، ومطالبها، وبين عفتها وقناعتها، وهذا وارد في قوله تعالى: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ … [29]}[سورة الإسراء].
فالوسط الإسلامي هو التوازن في الفكر والسلوك والتطبيق، من أجل ذلك طلب لقمان ابنه أن يتوسط في مشيته، والمراد من ذلك أن تكون مشيته ما بين الإسراع والبطء أي لا تدب دبيب المتماوتين ولاتثب وثب الشطار.
4] {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أي: لا تتكلف رفع صوتك، وخذ منه ما تحتاج إليه، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي، والمراد بذلك التواضع. وغض الصوت فيه أدب، وثقة بالنفس، واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته.. والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة، بشعة حين يعقب عليه بقوله:{إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.
قال سفيان الثوري: صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير. وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاوناً بهم، أو بترك الصياح جملة.
يتضح من الوصايا التي وصى بها لقمان ابنه أنها تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمراً، وإلى مرتكبها إن كانت نهياً: فأمره بأصل الدين وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك، وبين له الموجبة لتركه.
وأمره ببر الوالدين وبين له السبب الموجب لبرهما، وأمره بشكره وشكرهما، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما مالم يأمرا بمعصية ومع ذلك فلا يعقهما بل يحسن إليهما، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك.
وأمر بمراقبة الله، وخوّفه القدوم عليه، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر إلا أتى بها. وأمره بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر كما قال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ...[45]}[سورة البقرة].
ونهاه عن التكبر وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر والمرح، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك.. فحقيق من أوصى بهذه الوصايا أن يكون مخصوصًا بالحكمة، مشهورًا بها، ولهذا من منّة الله على عباده أن قصر عليهم من حكمته ما يكون لهم به أسوة حسنة.
فالوصايا السابقة هي منهج الآداب السامية التي يؤدب الله عباده ذلك؛ لأن في امتثالها فلاحهم دنيا وآخرة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم يرون آثارها التربوية في توجيه وتهذيب سلوكهم، وتعمل على زيادة الألفة و المحبة بينهم كما يؤدي هذا إلى تماسك مجتمعهم.
من بحث:' معالم أصول التربية الإسلامية من خلال وصايا لقمان لابنه' د./ عبد الرحمن بن محمد عبد المحسن الأنصاري
</div>