صقر 55
20 Sep 2004, 01:12 AM
تأملات في تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة
<div align="center">بسم الله الرحمن الرحيم</div>
الحمد لله رب العالمين ، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد:
- فما الفرق بين فهمنا لآيات القرآن الكريم ، وفهم الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لها ؟
- وهل فسّر الرسول صلى الله عليه وسلم - آيات القرآن الكريم كاملة ؟
- وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم - هل ثبت عنهم تفسير كامل لآيات القرآن الكريم ؟
- ولماذا كان لآيات القرآن الكريم تأثير عليهم أدّى إلى وصولهم إلى ما وصلوا إليه في تحقيق الهدف الذي أنزل القرآن من أجله -وهو الهداية للتي هي أقوم- ، ولم يحصل ذلك لمن أتى بعدهم مع أن القرآن هو القرآن لم يتغير منه شيء ؟!
هذه أسئلة كنت أقف عندها كثيراً ، وأبحث عن إجابة لها . وبعد أن اطلعت على ما أُثر عنهم في تفسير آيات القرآن الكريم من خلال ما جاء في بعض كتب السنة ، وبعد طول تأمل في سيرهم العملية لاحت لي بعض الخواطر والتأملات التي حاولت أن أصيدها وأقيدها في هذه الصفحات . وسأجعل هذه الخواطر والتأملات في ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : نظرة عامة لتفسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة .
المبحث الثاني : من روائع تفسير النبي صلى الله عليه وسلم – لبعض الآيات .
المبحث الثالث : من روائع تفسير الصحابة – رضي الله عنهم – لبعض الآيات .
وما هذه التأملات إلا محاولة جادة مني في خدمة هذا النوع من التفسير – وهو التفسير العملي لآيات القرآن الكريم – والتي بذلت فيها ما سمح به الوقت من الجهد سائلاً المولى القدير أن يوفقني للصواب ، وأن يؤتيني من الحكمة ما يلحقني بأولى الألباب الذين يتدبرون آيات الكتاب فيتذكرون ويتعظون ويعملون ، ثم يقولون : ( وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(آل عمران:8).
المبحث الأول : نظرة عامة في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم – والصحابة لآيات القرآن
كثيراً ما كنت أقف عندما يذكره العلماء والباحثون في علوم القرآن أثناء بحثهم لتفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة للقرآن الكريم ، وما يذكرونه من خلافٍ حول القدر الذي فسّره النبي صلى الله عليه وسلم – هل فسر القرآن كاملاً ؟ أو لم يفسر إلا بعضه ؟
وهل ثبت عن الصحابة – رضي الله عنهم – تفسير كامل للقرآن ؟ أو لم يثبت عنهم إلا تفسيرٌ لبعض آياته ؟ وما مقدار ذلك التفسير الذي أثر عنهم ؟
ولست هنا بصدد ذكر الخلاف في هذه المسائل ، وأقوال العلماء فيها ، وإنما الذي أريد أن أقرره هنا هو أن العلماء عندما بحثوا فيما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة من تفسير للقرآن اقتصروا على جانب واحد من جوانب التفسير ألا وهو التفسير القولي ، أي ما ثبت عنهم من أقوال في تفسير الآيات ، وبيان مدلولها ومعناها ، وسبب نزولها وما شابه ذلك مما يتعلق بالتفسير من علوم ومباحث .
وهناك جوانب أخرى للتفسير المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة تتمثل في السلوك والأعمال التي أثرت عنهم . وهذا يعرف من خلال دراسة سيرتهم العملية ، وكيف كانوا يطبقون القرآن في واقعهم ؟ وماذا كان موقفهم من آياته على اختلاف أنواعها من آيات في الأحكام ، وآيات في العقائد وآيات في الوعد والوعيد ، وآيات في القصص ، وآيات في الترغيب والترهيب .
وهذا هو المقصود من قول عائشة – رضي الله عنها – عندما سئلت عن خلق الرسول – صلى الله عليه وسلم – فقالت : كان خلقه القرآن (1).
( فالقرآن الكريم كتاب هداية أنزله الله ليعمل الناس بأحكامه ، فيحلوا حلاله ويحرموا حرامه ، ولما كان الناس بحاجة إلى قدوة حسنة في تطبيق ذلك ، فقد قام رسول الله بذلك خير قيام ، فكان القرآن الكريم مطبقاً في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يراه الناس فيقتدون به ) (2). أي أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يفسر القرآن بأقواله وأعماله وتصرفاته ، حتى صار القرآن خلقاً له لا ينفك عنه بحال . فآيات الأحكام فسرها - صلى الله عليه وسلم – لصحابته ولأمته بما ثبت عنه من أقوال وأفعال وتقريرات في بيانها .
وآيات العقائد – ويدخل فيها الأمور الغيبية والمتشابه من القرآن – بينها لأمته وفسرها من خلال بيانه – صلى الله عليه وسلم – للموقف الصحيح الذي يجب عليهم أن يقفوه تجاهها من الإيمان بها على ظاهرها ، وعدم الخوض في تفصيلات لم يكفلوا بها ، وأن يكون موقفهم موقف الراسخين في العلم الذين وصف الله حالهم بقوله عنهم : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)(آل عمران: 7).
وآيات الوعد والوعيد كان تفسير النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام لها بتأثرهم بها خوفاً ورهبة عند الوعيد ، ورجاءً ورغبة عند الوعد مع العمل الذي يؤدى إلى الحذر من الوقوع في أسباب الوعيد ، والسعي فيما يوصل إلى الاتصاف بصفات أهل الوعد والتصديق .
وأما آيات القصص ، فتفسيرهم لها حصل بتصديقهم بما جاء فيها ، واتعاظهم بما فيها من عبر وعظات . وآيات الترغيب والترهيب فسروها بأن بادروا وسارعوا إلى فعل كل ما رغب
الله فيه ، وفروا من كل ما جاء فيه أدنى ترهيب ، واجتنبوا الوقوع فيه وفي الأسباب الموصلة إليه . وبذلك جمعوا بين العلم والعمل ، فكانوا بحق كما وصفهم وأخبر عنهم أبو
عبد الرحمن السُّلمي(3) بقوله : ( حدثنا من كان يُقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – أنهم كانوا يقترئون من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عشر آيات ، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل ، قالوا : فعلمنا العلم والعمل ) (4).
وبهذه النظرة المتكاملة إلى واقع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ، وبهذا الشمول في معنى التفسير نستطيع أن نقرر باطمئنان ، وبدون ارتياب أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام فسروا القرآن الكريم كاملاً . وهذا ما يوافق الأدلة التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين للناس ما نزل إليهم مثل قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )(النحل: 44) . وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تدل على ذلك . فما كان غير واضح من الآيات ويحتاج إلى بيان بينه – صلى الله عليه وسلم – لأمته بأقواله وأفعاله ، وما كان من المتشابه بين لأمته الموقف الصحيح منه ، وما كان غير ذلك فتفسيره – صلى الله عليه وسلم – لـه يُعرف من خلال معرفة سيرته العملية التي هي عبارة عن تفسير عملي للقرآن الكريم (5). وقل مثل هذا في الصحابة – رضي الله عنهم – أيضاً .
ونظراً لكون العلماء والمفسرين قد اهتموا بما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته من أقوال في تفسير آيات القرآن الكريم ، فلن أذكر في هذا البحث شيئاً منها ، وإنما اكتفي بذكر بعض المواقف الرائعة التي كانوا يقفونها أمام آيات القرآن الكريم ، والتي تعتبر تفسيراً عملياً لهذه الآيات .
وهذه المواقف تبين بوضوح مدى تأثير القرآن الكريم على ذلك الجيل ، ومدى اهتمامهم بالعمل بما فيه ، وتطبيق أوامره ، واجتناب نواهيه . ويتبين من خلال تأملها وأخذ العبر والعظات منها الفرق بين تلقي ذلك الجيل لآيات القرآن الكريم وتلقي غيرهم لها ، حيث كانوا يهتمون بالتطبيق وبالعمل أكثر من اهتمامهم بالأقوال التي لا فائدة منها ، ويتبين أيضاً أنهم كانوا يتركون الخوض في تفصيلات لا حاجة إليها ولا صلة لها بالواقع العملي الذي كانوا يهتمون به وهذا هو ما يميز علم السلف – أهل الجهاد والعمل – عن علم والخلف – أهل القيل والقال – إلا من رحم ربك وقليلٌ ما هم (6).
المبحث الثاني : من روائع تفسير النبي – صلى الله عليه وسلم – لبعض الآيات.
سبقت الإشارة إلى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد بيّن لأمته أتم البيان ، وفسّر لهم القرآن أحسن تفسير ، سواء كان ذلك بأقواله أم بأفعاله ومواقفه من آياته ، فكان كما قالت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها - : " كان خلقه القرآن " . وفي هذا المبحث أذكر بعضاً من المواقف التي تبين لنا كيف كان يتأثر بالقرآن ؟ وكيف كان يفسر القرآن بالعمل بما فيه ؟
الموقف الأول : سرعة الاستجابة لأمر الله – تعالى:
أخرج البخاري في صحيحه (7) عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : لما نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)(الشعراء:214) . صعد النبي – صلى الله عليه وسلم – على الصفا فجعل ينادي : يا بني فهر ، يا بني عدى ، - لبطون من قريش – حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو . فجاء أبو لهب وقريش فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقاً . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم . ألهذا جمعتنا ؟ فنـزلت : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ...) السورة( المسد:1-2) .
فمن هذا الموقف يتبين لنا كيف كان – صلى الله عليه وآله وسلم – يبادر بالاستجابة لأوامر الله في القرآن ، ويأتمر بما أمره الله به فوراً من غير تردد ، ومهما كانت الظروف ، ومهما واجه من الصعوبات والأذى . وما أحوجنا إلى تدبر هذا الموقف الرائع من النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أمام هذه الآية الكريمة ، وما أحوجنا إلى الوقوف عندها ، ومن ثم تطبيق هذا الأمر الإلهي الذي ورد فيها ، وإنذار الأقربين من عشائرنا ؛ فكم من داعية في هذا الزمان ، وكم من طالب علم يقرأ القرآن ولكن لا يقف عند هذه الآية ، ولا يهتم بأقاربه ، ولا يدعوهم إلى الله – عز وجل – ولا يحذرهم من معصية الله ؛ وهذا بلا شك دليل على البعد عن تعاليم القرآن وعدم الوقوف عندها .
الموقف الثاني : التأثر والبكاء عند الاستماع لآيات القرآن الكريم :
أخرج الترمذي (8)– رحمه الله تعالى – عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " اقرأ علي " فقلت : يارسول الله ، أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : " إني أحب أن أسمعه من غيري ". فقرأت سورة النساء حتى بلغت : ( وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) (النساء:41) قال : فرأيت عيني النبي – صلى الله عليه وسلم – تهملان .
قال ابن بطال : إنما بكى – صلى الله عليه وسلم – عند تلاوته هذه الآية لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بالتصديق وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف وهو أمر يحق له طول البكاء . انتهى
قال الحافظ : والذي يظهر أنه بكى رحمة لأمته لأنه علم أنه لابد أن يشهد عليهم بعملهم ، وعملهم قد لا يكون مستقيماً فقد يفضى إلى تعذيبهم .
قال الغزالي : يستحب البكاء مع قراءة القرآن وعندها ، وطريق تحصيله أن يحضر قلبه الحزن والخوف بتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والوثائق والعهود ثم ينظر تقصيره في ذلك ؛ فإن لم يحضره حزن فليبك على فَقْد ذلك وأنه من أعظم المصائب ) (9).
وأياً ما كان سبب بكائه – صلى الله عليه وسلم – فـإن هذا يدل على
تأثره بالقرآن الكريم ، ووقوفه عند آياته ، لأن هذا القرآن كما أخبر الله عنه بقوله : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ )(الزمر: 23) .
ومما يدل على شدة تأثر النبي – صلى الله عليه وسلم – بآيات القرآن وبكائه منها ما رواه ابن مردويه بسنده ، عن عطاء قال : انطلقت أنا ، وابن عمر ، وعبيد بن عمير إلى عائشة – رضي الله عنها – فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب . فقالت : يا عبيد ، ما يمنعك من زيارتنا ؟ قال : قول الشاعر : زر غباً تزدد حباً (10).
فقال ابن عمر : ذرينا ، أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبكت وقالت : كل أمره كان عجباً . أتاني في ليلتي حتى مسّ جلده جلدي . ثم قال : " ذريني أتعبد ربي " . قالت : فقلت : والله إني لأحب قربك ، وإني أحب أن تتعبد لربك . فقام وتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلي فبكى حتى بلَّ لحيته ، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ، ثم اضطجع على جنبه فبكى ، حتى إذا أتى بلال يؤذنه لصلاة الصبح . قالت : فقال : يا رسول الله ، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " وفي رواية فقال : " ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ) (آل عمران:190) ثم قال : " ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها " (11).
الموقف الثالث : خوفه من آيات الوعيد .
أخرج البخاري (12)– رحمه الله تعالى – عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ضاحكاً حتى أرى منه لهواته ، إنما كان يتبسم . قالت : وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف في وجهه ، قالت : يارسول الله ، إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ؟ فقال : " يا عائشة ، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ؟ عُذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: هذا عارض ممطرنا ".
وفي رواية للترمذي(13) : فقال : " وما أدري لعله كما قال الله تعالى: ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)(الاحقاف: 24).
فهذا الحديث يدل على خوفه – صلى الله عليه وسلم – من نزول العذاب ؛ مع أن الله – عز وجل – قد أخبر أنه لن يعذب أمته وهو فيهم كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(الأنفال: 33) ولكنه – صلى الله عليه وسلم – يخشى على أمته أن تقع فيما وقعت فيه غيرها من الأمم من الأمن من مكر الله ، فكان يخاف ويقبل ويدبر حين يرى السحاب ، ويقول إذا عصفت الريح : " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به " وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأدبر فإذا أمطرت سُري عنه " الحديث أخرجه مسلم بطوله .
وقريبٌ من هذا ما أخرجه البخاري(14) والترمذي(15) وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ)(الأنعام: 65) قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " أعوذ بوجهك " قال : ( أو من تحت أرجلكم). قال : " أعوذ بوجهك" . ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) . قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا أهون ، أو هذا أيسر " .
وهكذا كان حاله – صلى الله عليه وسلم – مع آيات الوعيد ؛ كان يستعيذ بالله من وقوع العذاب ، ويستعيذ بالله من كل شر ، ويخاف على أمته من أن ينـزل بهم ما نزل بالأمم قبلهم ، ويخاف عليهم من أهوال يوم القيامة .
الموقف الرابع : حرصه على العمل بتعاليم القرآن ، وتطبيقه العملي لها ، ومداومته على ذلك :
أخرجه البخاري(16) من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت : ماصلى النبي – صلى الله عليه وسلم – صلاة بعد أن نزلت عليه :" إذا جاء نصر الله والفتح" إلا وقال فيها : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم أغفر لي " ، وفي رواية قالت : كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي " بتأويل القرآن . فهذا الحديث يدل على اهتمامه – صلى الله عليه وسلم – بتنفيذ ما جاء في القرآن الكريم من أوامر وإرشادات ، وحرصه على المداومة على ذلك .
فهذه بعض المواقف العملية للنبي – صلى الله عليه وسلم - التي لها أهمية كبيرة في فهم آيات القرآن الكريم وتفسيرها ، وإن كانت كل حياته وكل أعماله – صلى الله عليه وسلم – تعتبر تفسيراً لما جاء في القرآن ، والسنة كلها تعتبر شارحة ومفسرة للقرآن كما ذكر ذلك العلماء ؛ إلا أن هذه المواقف توضح بجلاء كيف كان – صلى الله عليه وسلم – يتعامل مع آيات القرآن ، وكيف كان يعيش مع القرآن عملاً بأوامره واجتناباً لنواهيه ووقوفاً عند الآيات المتعلقة بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب .
فحري بنا أن نقتدي به – صلى الله عليه وسلم - ، وأن يكون حالنا مع القرآن كحاله معه ؛ وبذلك لا نكون من الذين شكى النبي – صلى الله عليه وسلم – حالهم إلى الله بسبب هجرهم للقرآن فقال : ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)(الفرقان: 30) .
المبحث الثالث : من روائع تفسير الصحابة – رضي الله عنهم – لبعض الآيات
الصحابة هم ذلك الجيل القرآني الفريد الذي لم يوجد له مثيل ، وهم الذين كانوا يتلقون آيات القرآن الكريم من نبيهم الكريم -صلى الله عليه وسلم- ليعملوا بها . وقد جاء في كتب السير والمناقب والسنن الكثير من المواقف الرائعة التي تبين لنا مدى اهتمامهم بآيات القرآن ، وسرعة استجابتهم للتعاليم الربانية الواردة فيها . وأذكر في هذا الفصل بعضاً من هذه المواقف :
الموقف الأول : الحرص على الاتصاف بالصفات التي أثنى الله على أهلها في القرآن :
يدل على ذلك موقف رائع قلّ أن تجد من يفعل مثله ؛ ألا وهو موقف أبي طلحة الأنصاري – رضي الله عنه – من قوله تعالى : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(آل عمران: 92) . فعن أنس – رضي الله عنه – قال : كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيب ، فلما أنزلت : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " قام أبو طلحة فقال : " يا رسول الله ، إن الله يقول : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " وإن أحب أموالي إلي بيرُحاء ، وإنها صدقة لله ، أرجو برّها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بَخْ ، ذلك مالٌ رايح ، ذلك مال رايح ، وقد سمعت ما قلت ، وأني أرى أن تجعلها في الأقربين " قال
أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمَّه " (17).
فهذا الموقف ذكره يكفي ويغني عن التعليق عليه ، ولكن إذا أردنا أن نكون على بينة من روعة هذا الموقف ، فلننظر إلى حالنا مع هذه الآية ، وما موقفنا منها عندما تتلى علينا ؟! هل فكر أحد منا أن ينفق أحب ما يملك فضلاً على أن يفعل ذلك ؟! . ولكنه الإيمان واليقين بما عند الله ، وإيثار ما يبقى على ما يفنى ، وهذا ما دفعهم إلى اتخاذ مثل هذه المواقف الرائعة . فنسأل الله أن يلحقنا بهم بحبنا لهم لا بأعمالنا فلن نصل إلى ما وصلوا إليه وهم أصحاب مثل هذه المواقف .
الموقف الثاني : ترك ما نهى الله عنه في كتابه مهما كان حبهم له :
نزلت آيات في القرآن الكريم تحرم أموراً كان الصحابة قد اعتادوا عليها حتى كانت جزءاً من حياتهم من الصعب أن يتركوه ومع ذلك فقد كانوا بمجرد علمهم بأن الله قد حرمها ونهى عنها في كتابه يتركونها فوراً وبلا أدنى تردد . وهذا موقف رائع يدل على مدى تأثرهم بآيات القرآن الكريم التي تنهاهم عن بعض الأمور التي ألفوها وتعودوا عليها :
أخرج البخاري(18) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : ما كان لنا خمرٌ غير فضيحكم هذا الذي تسمونه الفضيح ، فإني لقائم أسقى أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال : هل بلغكم الخبر ؟ فقالوا : وماذاك ؟ قال : حرمت الخمر ، قالوا : أهرق هذه القلال يا أنس ، قال : فما سألوا عنها ولا أرجعوها بعد خبر الرجل .
وفي رواية لـه(19) ، قال أنس : كنت ساقي القوم في منـزل أبي طلحة ، فنـزل تحريم الخمر، فأمر منادياً فنادى، فقال أبو طلحة : أخرج فأنظر ما هذا الصوت ؟ قال : فخرجت فقلت : هذا منادي ينادي : الا إن الخمر قد حرّمت ، فقال لي : أذهب فأهرقها ، قال : فجرت في سكك المدينة .
فأنظر – رعاك الله – كيف كف الصحابة – رضي الله عنهم – عن شرب الخمر بمجرد وصول خبر تحريمه ، ولم يكتفوا بذلك ، بل أضافوا على ترك شربه إراقته في سكك المدينة زيادة في البعد عنه وحذراً من الوقوع في شربه مرة أخرى ولم يراجعوا الرسول في ذلك ، ولم يتأخروا حتى يتحققوا من خبر التحريم . فكيف بحالنا اليوم ، وحال كثير من المسلمين الذين يدّعون أنهم مستجيبون لأوامر الله ؛ وكثير من الأمور يفعلونها مع أنها محرمة في كتاب الله ، وفي سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وآيات تحريمها تتلى عليهم ليلاً ونهاراً ، وهم لا يستجيبون ولا ينتهون ، ويقولون : إن ترك هذه الأمور يشق علينا ، لأننا قد تعودنا عليها فيصعب علينا تركها والبعد عنها ، والله غفور رحيم . ونسى هؤلاء أو تناسوا أن الله شديد العقاب وعذابه عذاب أليم ، ولم يكونوا مثل أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – الذين قالوا عندما نزلت عليهم آيات تحريم الخمر وفي آخرها : ] فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [ (المائدة: 91) . قالوا : انتهينا انتهينا (20).
وهكذا ينبغي أن يكون موقف كل مسلم من آيات الله عندما تتلى عليه وتنهاه عن فعل أمر من الأمور ، ينبغي أن يبادر بالاستجابة ويكون حاله كحال المؤمنين الصادقين الذين قال الله عنهم : ] إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ (النور:51) .
الموقف الثالث : الوقوف عند آداب القرآن الكريم والتخلق بأخلاقه :
كان الصحابة - رضي الله عنهم - شديدي الحرص على التأدب بآداب القرآن ، والتخلق بأخلاقه ، والوقوف عند آياته ، وهذا موقف يدل على ذلك : عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنـزل على ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته ، كهولاً كانوا أوشباناً ، فقال عيينة بن حصن لابن أخيه : يا ابن أخي ، لك وجه عند هذا الأمير ، فاستأذن لي عليه ، قال : سأستأذن لك عليه ، قال ابن عباس : فاستأذن الحر لعيينة ، فأذن له عمر ، فلمّا دخل عليه قال : هي يا ابن الخطاب ، فو الله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم بيننا بالعدل . فغضب عمر حتى همّ به ، فقال له الحر : يا أمير المؤمنين ، إن الله - تعالى – قال لنبيه – صلى الله عليه وسلم - : " خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين " وإن هذا من الجاهلين . والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقافاً عند كتاب الله (21).
فهذا الموقف من عمر – رضي الله عنه – يبين لنا كيف كان الصحابة – رضي الله عنهم – يتأثرون بآيات القرآن الكريم إذا تليت عليهم ، ويقفون عند حدودها ويتأدبون بآدابها . فما أحوجنا إلى التأسي بهم في مثل هذه المواقف ، وما أحوجنا إلى الوقوف عند آيات القرآن الكريم ، والعمل فما فيه من آداب ، فهذا هو الغرض والهدف الذي أنزل من أجله القرآن ، ليعمل بما فيه لا ليقرأ وتبحث آياته بحوثاً نظرية مجردة عن العمل والتطبيق كما هو حال أكثر المهتمين بدراسة القرآن اليوم ، تجد الواحد منهم يحلل الآيات ، ويبحث في مدلولات ألفاظها ومعانيها ويسوّد الورق في ذلك دون أن ترى لآيات القرآن أدنى تأثير في سلوكه وفي هديه وسمته ، وما هكذا ينبغي أن يكون أهل القرآن ، وما لهذا أنزل القرآن !!.
الموقف الرابع : سرعة الاستجابة لأمر الله ، وشدة التصديق لكلام الله :-
كانت المواقف السابقة متعلقة بالرجال من الصحابة ، وهذا الموقف الذي أختم به يتعلق بنساء الصحابة ، وهو موقف رائع يدل على قوة الإيمان وشدة التصديق لكتاب الله . فعن صفية بنت شيبة ؛ قالت : بينما نحن عند عائشة ؛ قالت : فذكرنا نساء قريش وفضلهن . فقالت عائشة – رضي الله عنها - : " إن لنساء قريش لفضلاً ، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ، أشد تصديقاً لكتاب الله ، ولا إيماناً بالتنـزيل ، لقد أنزلت سورة النور: ] وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [(النور: 31) ، انقلب رجالهن عليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابة ، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل ، فاعتجرت به ؛ تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه ، فأصبحن وراء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – معتجرات ، كأن على رؤوسهن الغربان " (22).
فهذه الآية نزلت بالليل ، فلم ينتظرن حتى الصباح ، بل شققن الثياب وصنعن الخمر وصلين خلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مختمرات ، فرضي الله عنهن . وسبحان الله ... ما أطهرها من قلوب وما أنقاها من نفوس ! .
قارن بين هذا الموقف وبين من تقول لها : تحجبي ، والزمي أمر ربك ، فتقول لك : نعم ، الحجاب حق ، ولكن بعد الزواج سأتحجب ! أو لا تلتزم بالحجاب ، ولا تمتثل أمر الله (23).
فرحم الله نساء الأنصار ، ورحم الله الصحابة جميعاً ، ورضي الله عنهم . ( لقد جعلوا القرآن العظيم ربيع قلوبهم ، وتعاملوا معه معاملة صحيحة ، فخلعوا الراحات ، وأعطوا المجهود في الطاعات ، فكانوا كما عناهم القائل :
منع القرآن بوعده ووعيده * مِقلَ العيون فليلها لا تهجع
فَهِموا عن الملك الكريم كلامه * فَهْماً تذل لـه الرقاب وتخضع
لقد خالط القرآن الكريم لحومهم ودمائهم ، فوضعوه على افئدتهم فانفرجت ، وضمّوه إلى صدورهم فانشرحت ، فجعلوه لظلمتهم سراجاً ، ولنومهم مهاداً ، ولسبيلهم منهاجاً ) (24).
والمواقف في مثل هذا عن الصحابة كثيرة ؛ ولكن اكتفيت بما سبق خوفاً من الإطالة . ولعلّ الله أن يعين على جمعها ودراستها في بحوث أخرى موسعة ومحررة ومجوّدة .
وأخيراً ؛ أختم هذه التأملات بالنتائج التالية :
أولاً : أهمية البحث في هذا الموضوع المهم – وهو التفسير العملي لآيات القرآن الكريم - ؛ وذلك لحاجتنا إليه ، ولقلة من أفراده بالبحث والتأليف .
ثانياً : لا غنى للمفسر عن الرجوع إلى كتب السيرة وكتب السنة حتى يستطيع أن يعرف كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام يفهمون آيات القرآن الكريم ، ويطبقونه في واقعهم حسب فهمهم لها وتأثرهم بها .
ثالثاً : ( إن أي ناظر في كتب أسباب النـزول وفي سيرة رسول الله عليه السلام وفي مغازيه وجهاده ، وفي الكتب التي تحدثت عن حياة الصحابة وطبقاتهم ومناقبهم وسيقف على ثروة ضخمة لهؤلاء الكرام يصدق عليها أنها تفسير عملي للقرآن الكريم فلماذا نستبعد كل هذه الثروة الغنية ، ونكتفي بألفاظ وكلمات يسيرة منقولة عنهم في تفسير القرآن ؟ وكثير منها لم يصح سنده ؟! .
فعلى القارئ المتدبر للقرآن أن يوسع التفسير ، وأن يدخل فيه كل سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام ، ومغازيه ، وشمائله وفضائله ، وكل ما صح عن حياة الصحابة بالقرآن ، وجهودهم وجهادهم لأن يبقوا على القمم التي وضعهم عليها القرآن وعندها يستفيد هذا القارئ فائدة تفسيرية وتربوية وسلوكية وإيمانية وعلمية ) (25).
رابعاً : ( على القارئ أن لا يخلط بين الوسائل والغايات ، وأن لا يجعل من الوسائل غايات ، فكم سيخسر لو فعل ذلك !! .
إن كل ما يستخدمه أثناء التلاوة لا يعدو أن يكون وسائل توصله إلى غاية واحدة محددة . التلاوة ، والتدبر والنظر ، وما يحصل عليه من حقائق ولطائف ومعلومات وتقريرات ، وما ينقدح في قلبه من أفهام ومبادئ وآراء ، والاطلاع على التفاسير ، والحياة مع القرآن لحظات أو ساعات هذه كلها لا يجوز أن تكون إلا وسائل لغاية ، ولا يمكن أن تكون بحد ذاتها غايات .. لأنه إن وقف عندها واكتفى بتحقيقها وتحصيلها فلن يحيا بالقرآن ولن يعيش مع القرآن ولن يدرك كيفية التعامل مع القرآن ! .
ونحن نعلم أن من المسلمين من يكتفي بها ، ويقعد عنها ، ويجعلها هي الهدف المرجو والغاية المطلوبة ، لكن هؤلاء لم يفهموا القرآن ، ولم يعيشوا به )(26) !!
وأخيراً ، أسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن العاملين به ، ونسأله سبحانه أن يجعل القرآن حجة لنا لا علينا إنه هو الجواد الكريم .
كتبها / محمد بن عبدالله العبيدي القحطاني*
.................................................. ................................................
* الحواشي :
(1) الحديث رواه مسلم في جملة حديث طويل رقمه ( 746 ) .
(2) بهجة الناظرين شرح رياض الصالحين لسليم الهلالي (3/308/309) .
(3) هو عبد الرحمن بن حبيب التابعي المقرئ المتوفى سنة 72هـ . وهو غير أبي عبد الرحمن السلمي الصوفي المتوفى سنة 412هـ .
(4) أخرجه الإمام أحمد في المسند ( 5/410) وانظر مجمع الزوائد ( 1/165 ) .
(5) يُنظر كتاب : مفاتيح للتعامل مع القرآن الكريم للدكتور : صلاح الخالدي ، حيث عقد مبحثاً بعنوان : نحو نظرية حركية لتدبر القرآن والعمل به ص52 وما بعدها .
(6) هناك رسالة رائعة نفيسة للإمام ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – بعنوان : فضل علم السلف على
علم الخلف . من المناسب والجدير بطالب العلم أن يرجع إليها ويحرص على قراءتها .
(7) رقم 4770 وكذا أخرجه مسلم في صحيحه رقم ( 204 ) ، ( 205 ) بالفاظ مقاربة . وانظر الصحيح المسند من التفسير النبوي للقرآن الكريم للشيخ أبي محمد السيد أبو عمه ص83 ، 84 .
(8) أخرجه في أبواب تفسير القرآن رقم 3215 وهذا لفظه والحديث أخرجه الشيخان أيضاً .
(9) تحفة الأحوذي للمباركفوري (8/300 ، 301 ) .
(10) غباً : من غب الرجل إذا جاء زائراً يوماً بعد أيام . (لسان العرب 5/3204) . وقد رُويت هذه العبارة حديثاً مرفوعاً من طريق عدد من الصحابة وكلها طرق واهية . قال البراز : لا يعلم في زر غباً تزدد حباً حديث صحيح . (كشف الأيثار 2/390) . وقال الذهبي في الميزان : حديث باطل . وقد صححه الألباني في صحيح الجامع رقم 3562 . [ هذا التعليق مأخوذ من كتاب موسوعة فضائل سور القرآن للشيخ محمد بن رزق ابن طرهوني 1/219 من الحاشية ] .
(11) أخرجه ابن حبان ( انظر موارد الظمآن ص139) وذكره ابن كثير وعزاه لابن مردويه وعبد بن
حميد وغيرهما . وانظر كتاب موسوعة فضائل سور القرآن (1/219) .
(12) في كتاب التفسير باب قوله تعالى ] فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ [ رقم 4551 .
(13) في أبواب التفسير سورة الأحقاف رقم 3474 وقال حديث حسن .
(14) رقم 4352 واللفظ له .
(15) رقم 3261 .
(16) رقم 4683 ، 4684 في كتاب التفسير .
(17) أخرجه البخاري رقم 4279 ومسلم رقم 998 .
(18) رقم 4341 .
(19) رقم 4344 .
(20) أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم 379 (1/184) بتحقيق أحمد شاكر وقال : إسناده صحيح. وانظر تفسير ابن جرير (10/566) بتحقيقه أيضاً .
(21) صحيح البخاري . كتاب التفسير . باب " خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين " .
حديث رقم 4366 .
(22) رواه أبو داود وغيره . وهو في صحيح البخاري مختصراً رقم 4480 ، 4481 .
(23) قارن بما في كتاب فتح المنان في صفات عباد الرحمن للشيخ وحيد بالي ص154،155، 156
(24) من مقدمة كتاب : القرآن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحمد خليل جمعة ص7،8.
(25) من كتاب : مفاتيح للتعامل مع القرآن للدكتور : صلاح الخالدي ص118 .
(26) من المراجع السابقة ص143 .
<div align="center">بسم الله الرحمن الرحيم</div>
الحمد لله رب العالمين ، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد:
- فما الفرق بين فهمنا لآيات القرآن الكريم ، وفهم الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لها ؟
- وهل فسّر الرسول صلى الله عليه وسلم - آيات القرآن الكريم كاملة ؟
- وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم - هل ثبت عنهم تفسير كامل لآيات القرآن الكريم ؟
- ولماذا كان لآيات القرآن الكريم تأثير عليهم أدّى إلى وصولهم إلى ما وصلوا إليه في تحقيق الهدف الذي أنزل القرآن من أجله -وهو الهداية للتي هي أقوم- ، ولم يحصل ذلك لمن أتى بعدهم مع أن القرآن هو القرآن لم يتغير منه شيء ؟!
هذه أسئلة كنت أقف عندها كثيراً ، وأبحث عن إجابة لها . وبعد أن اطلعت على ما أُثر عنهم في تفسير آيات القرآن الكريم من خلال ما جاء في بعض كتب السنة ، وبعد طول تأمل في سيرهم العملية لاحت لي بعض الخواطر والتأملات التي حاولت أن أصيدها وأقيدها في هذه الصفحات . وسأجعل هذه الخواطر والتأملات في ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : نظرة عامة لتفسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة .
المبحث الثاني : من روائع تفسير النبي صلى الله عليه وسلم – لبعض الآيات .
المبحث الثالث : من روائع تفسير الصحابة – رضي الله عنهم – لبعض الآيات .
وما هذه التأملات إلا محاولة جادة مني في خدمة هذا النوع من التفسير – وهو التفسير العملي لآيات القرآن الكريم – والتي بذلت فيها ما سمح به الوقت من الجهد سائلاً المولى القدير أن يوفقني للصواب ، وأن يؤتيني من الحكمة ما يلحقني بأولى الألباب الذين يتدبرون آيات الكتاب فيتذكرون ويتعظون ويعملون ، ثم يقولون : ( وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(آل عمران:8).
المبحث الأول : نظرة عامة في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم – والصحابة لآيات القرآن
كثيراً ما كنت أقف عندما يذكره العلماء والباحثون في علوم القرآن أثناء بحثهم لتفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة للقرآن الكريم ، وما يذكرونه من خلافٍ حول القدر الذي فسّره النبي صلى الله عليه وسلم – هل فسر القرآن كاملاً ؟ أو لم يفسر إلا بعضه ؟
وهل ثبت عن الصحابة – رضي الله عنهم – تفسير كامل للقرآن ؟ أو لم يثبت عنهم إلا تفسيرٌ لبعض آياته ؟ وما مقدار ذلك التفسير الذي أثر عنهم ؟
ولست هنا بصدد ذكر الخلاف في هذه المسائل ، وأقوال العلماء فيها ، وإنما الذي أريد أن أقرره هنا هو أن العلماء عندما بحثوا فيما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة من تفسير للقرآن اقتصروا على جانب واحد من جوانب التفسير ألا وهو التفسير القولي ، أي ما ثبت عنهم من أقوال في تفسير الآيات ، وبيان مدلولها ومعناها ، وسبب نزولها وما شابه ذلك مما يتعلق بالتفسير من علوم ومباحث .
وهناك جوانب أخرى للتفسير المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة تتمثل في السلوك والأعمال التي أثرت عنهم . وهذا يعرف من خلال دراسة سيرتهم العملية ، وكيف كانوا يطبقون القرآن في واقعهم ؟ وماذا كان موقفهم من آياته على اختلاف أنواعها من آيات في الأحكام ، وآيات في العقائد وآيات في الوعد والوعيد ، وآيات في القصص ، وآيات في الترغيب والترهيب .
وهذا هو المقصود من قول عائشة – رضي الله عنها – عندما سئلت عن خلق الرسول – صلى الله عليه وسلم – فقالت : كان خلقه القرآن (1).
( فالقرآن الكريم كتاب هداية أنزله الله ليعمل الناس بأحكامه ، فيحلوا حلاله ويحرموا حرامه ، ولما كان الناس بحاجة إلى قدوة حسنة في تطبيق ذلك ، فقد قام رسول الله بذلك خير قيام ، فكان القرآن الكريم مطبقاً في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يراه الناس فيقتدون به ) (2). أي أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يفسر القرآن بأقواله وأعماله وتصرفاته ، حتى صار القرآن خلقاً له لا ينفك عنه بحال . فآيات الأحكام فسرها - صلى الله عليه وسلم – لصحابته ولأمته بما ثبت عنه من أقوال وأفعال وتقريرات في بيانها .
وآيات العقائد – ويدخل فيها الأمور الغيبية والمتشابه من القرآن – بينها لأمته وفسرها من خلال بيانه – صلى الله عليه وسلم – للموقف الصحيح الذي يجب عليهم أن يقفوه تجاهها من الإيمان بها على ظاهرها ، وعدم الخوض في تفصيلات لم يكفلوا بها ، وأن يكون موقفهم موقف الراسخين في العلم الذين وصف الله حالهم بقوله عنهم : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)(آل عمران: 7).
وآيات الوعد والوعيد كان تفسير النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام لها بتأثرهم بها خوفاً ورهبة عند الوعيد ، ورجاءً ورغبة عند الوعد مع العمل الذي يؤدى إلى الحذر من الوقوع في أسباب الوعيد ، والسعي فيما يوصل إلى الاتصاف بصفات أهل الوعد والتصديق .
وأما آيات القصص ، فتفسيرهم لها حصل بتصديقهم بما جاء فيها ، واتعاظهم بما فيها من عبر وعظات . وآيات الترغيب والترهيب فسروها بأن بادروا وسارعوا إلى فعل كل ما رغب
الله فيه ، وفروا من كل ما جاء فيه أدنى ترهيب ، واجتنبوا الوقوع فيه وفي الأسباب الموصلة إليه . وبذلك جمعوا بين العلم والعمل ، فكانوا بحق كما وصفهم وأخبر عنهم أبو
عبد الرحمن السُّلمي(3) بقوله : ( حدثنا من كان يُقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – أنهم كانوا يقترئون من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عشر آيات ، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل ، قالوا : فعلمنا العلم والعمل ) (4).
وبهذه النظرة المتكاملة إلى واقع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ، وبهذا الشمول في معنى التفسير نستطيع أن نقرر باطمئنان ، وبدون ارتياب أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام فسروا القرآن الكريم كاملاً . وهذا ما يوافق الأدلة التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين للناس ما نزل إليهم مثل قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )(النحل: 44) . وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تدل على ذلك . فما كان غير واضح من الآيات ويحتاج إلى بيان بينه – صلى الله عليه وسلم – لأمته بأقواله وأفعاله ، وما كان من المتشابه بين لأمته الموقف الصحيح منه ، وما كان غير ذلك فتفسيره – صلى الله عليه وسلم – لـه يُعرف من خلال معرفة سيرته العملية التي هي عبارة عن تفسير عملي للقرآن الكريم (5). وقل مثل هذا في الصحابة – رضي الله عنهم – أيضاً .
ونظراً لكون العلماء والمفسرين قد اهتموا بما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته من أقوال في تفسير آيات القرآن الكريم ، فلن أذكر في هذا البحث شيئاً منها ، وإنما اكتفي بذكر بعض المواقف الرائعة التي كانوا يقفونها أمام آيات القرآن الكريم ، والتي تعتبر تفسيراً عملياً لهذه الآيات .
وهذه المواقف تبين بوضوح مدى تأثير القرآن الكريم على ذلك الجيل ، ومدى اهتمامهم بالعمل بما فيه ، وتطبيق أوامره ، واجتناب نواهيه . ويتبين من خلال تأملها وأخذ العبر والعظات منها الفرق بين تلقي ذلك الجيل لآيات القرآن الكريم وتلقي غيرهم لها ، حيث كانوا يهتمون بالتطبيق وبالعمل أكثر من اهتمامهم بالأقوال التي لا فائدة منها ، ويتبين أيضاً أنهم كانوا يتركون الخوض في تفصيلات لا حاجة إليها ولا صلة لها بالواقع العملي الذي كانوا يهتمون به وهذا هو ما يميز علم السلف – أهل الجهاد والعمل – عن علم والخلف – أهل القيل والقال – إلا من رحم ربك وقليلٌ ما هم (6).
المبحث الثاني : من روائع تفسير النبي – صلى الله عليه وسلم – لبعض الآيات.
سبقت الإشارة إلى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد بيّن لأمته أتم البيان ، وفسّر لهم القرآن أحسن تفسير ، سواء كان ذلك بأقواله أم بأفعاله ومواقفه من آياته ، فكان كما قالت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها - : " كان خلقه القرآن " . وفي هذا المبحث أذكر بعضاً من المواقف التي تبين لنا كيف كان يتأثر بالقرآن ؟ وكيف كان يفسر القرآن بالعمل بما فيه ؟
الموقف الأول : سرعة الاستجابة لأمر الله – تعالى:
أخرج البخاري في صحيحه (7) عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : لما نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)(الشعراء:214) . صعد النبي – صلى الله عليه وسلم – على الصفا فجعل ينادي : يا بني فهر ، يا بني عدى ، - لبطون من قريش – حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو . فجاء أبو لهب وقريش فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقاً . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم . ألهذا جمعتنا ؟ فنـزلت : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ...) السورة( المسد:1-2) .
فمن هذا الموقف يتبين لنا كيف كان – صلى الله عليه وآله وسلم – يبادر بالاستجابة لأوامر الله في القرآن ، ويأتمر بما أمره الله به فوراً من غير تردد ، ومهما كانت الظروف ، ومهما واجه من الصعوبات والأذى . وما أحوجنا إلى تدبر هذا الموقف الرائع من النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أمام هذه الآية الكريمة ، وما أحوجنا إلى الوقوف عندها ، ومن ثم تطبيق هذا الأمر الإلهي الذي ورد فيها ، وإنذار الأقربين من عشائرنا ؛ فكم من داعية في هذا الزمان ، وكم من طالب علم يقرأ القرآن ولكن لا يقف عند هذه الآية ، ولا يهتم بأقاربه ، ولا يدعوهم إلى الله – عز وجل – ولا يحذرهم من معصية الله ؛ وهذا بلا شك دليل على البعد عن تعاليم القرآن وعدم الوقوف عندها .
الموقف الثاني : التأثر والبكاء عند الاستماع لآيات القرآن الكريم :
أخرج الترمذي (8)– رحمه الله تعالى – عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " اقرأ علي " فقلت : يارسول الله ، أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : " إني أحب أن أسمعه من غيري ". فقرأت سورة النساء حتى بلغت : ( وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) (النساء:41) قال : فرأيت عيني النبي – صلى الله عليه وسلم – تهملان .
قال ابن بطال : إنما بكى – صلى الله عليه وسلم – عند تلاوته هذه الآية لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بالتصديق وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف وهو أمر يحق له طول البكاء . انتهى
قال الحافظ : والذي يظهر أنه بكى رحمة لأمته لأنه علم أنه لابد أن يشهد عليهم بعملهم ، وعملهم قد لا يكون مستقيماً فقد يفضى إلى تعذيبهم .
قال الغزالي : يستحب البكاء مع قراءة القرآن وعندها ، وطريق تحصيله أن يحضر قلبه الحزن والخوف بتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والوثائق والعهود ثم ينظر تقصيره في ذلك ؛ فإن لم يحضره حزن فليبك على فَقْد ذلك وأنه من أعظم المصائب ) (9).
وأياً ما كان سبب بكائه – صلى الله عليه وسلم – فـإن هذا يدل على
تأثره بالقرآن الكريم ، ووقوفه عند آياته ، لأن هذا القرآن كما أخبر الله عنه بقوله : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ )(الزمر: 23) .
ومما يدل على شدة تأثر النبي – صلى الله عليه وسلم – بآيات القرآن وبكائه منها ما رواه ابن مردويه بسنده ، عن عطاء قال : انطلقت أنا ، وابن عمر ، وعبيد بن عمير إلى عائشة – رضي الله عنها – فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب . فقالت : يا عبيد ، ما يمنعك من زيارتنا ؟ قال : قول الشاعر : زر غباً تزدد حباً (10).
فقال ابن عمر : ذرينا ، أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبكت وقالت : كل أمره كان عجباً . أتاني في ليلتي حتى مسّ جلده جلدي . ثم قال : " ذريني أتعبد ربي " . قالت : فقلت : والله إني لأحب قربك ، وإني أحب أن تتعبد لربك . فقام وتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلي فبكى حتى بلَّ لحيته ، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ، ثم اضطجع على جنبه فبكى ، حتى إذا أتى بلال يؤذنه لصلاة الصبح . قالت : فقال : يا رسول الله ، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " وفي رواية فقال : " ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ) (آل عمران:190) ثم قال : " ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها " (11).
الموقف الثالث : خوفه من آيات الوعيد .
أخرج البخاري (12)– رحمه الله تعالى – عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : ما رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ضاحكاً حتى أرى منه لهواته ، إنما كان يتبسم . قالت : وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف في وجهه ، قالت : يارسول الله ، إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ؟ فقال : " يا عائشة ، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ؟ عُذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: هذا عارض ممطرنا ".
وفي رواية للترمذي(13) : فقال : " وما أدري لعله كما قال الله تعالى: ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)(الاحقاف: 24).
فهذا الحديث يدل على خوفه – صلى الله عليه وسلم – من نزول العذاب ؛ مع أن الله – عز وجل – قد أخبر أنه لن يعذب أمته وهو فيهم كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(الأنفال: 33) ولكنه – صلى الله عليه وسلم – يخشى على أمته أن تقع فيما وقعت فيه غيرها من الأمم من الأمن من مكر الله ، فكان يخاف ويقبل ويدبر حين يرى السحاب ، ويقول إذا عصفت الريح : " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به " وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأدبر فإذا أمطرت سُري عنه " الحديث أخرجه مسلم بطوله .
وقريبٌ من هذا ما أخرجه البخاري(14) والترمذي(15) وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ)(الأنعام: 65) قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " أعوذ بوجهك " قال : ( أو من تحت أرجلكم). قال : " أعوذ بوجهك" . ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) . قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا أهون ، أو هذا أيسر " .
وهكذا كان حاله – صلى الله عليه وسلم – مع آيات الوعيد ؛ كان يستعيذ بالله من وقوع العذاب ، ويستعيذ بالله من كل شر ، ويخاف على أمته من أن ينـزل بهم ما نزل بالأمم قبلهم ، ويخاف عليهم من أهوال يوم القيامة .
الموقف الرابع : حرصه على العمل بتعاليم القرآن ، وتطبيقه العملي لها ، ومداومته على ذلك :
أخرجه البخاري(16) من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت : ماصلى النبي – صلى الله عليه وسلم – صلاة بعد أن نزلت عليه :" إذا جاء نصر الله والفتح" إلا وقال فيها : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم أغفر لي " ، وفي رواية قالت : كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي " بتأويل القرآن . فهذا الحديث يدل على اهتمامه – صلى الله عليه وسلم – بتنفيذ ما جاء في القرآن الكريم من أوامر وإرشادات ، وحرصه على المداومة على ذلك .
فهذه بعض المواقف العملية للنبي – صلى الله عليه وسلم - التي لها أهمية كبيرة في فهم آيات القرآن الكريم وتفسيرها ، وإن كانت كل حياته وكل أعماله – صلى الله عليه وسلم – تعتبر تفسيراً لما جاء في القرآن ، والسنة كلها تعتبر شارحة ومفسرة للقرآن كما ذكر ذلك العلماء ؛ إلا أن هذه المواقف توضح بجلاء كيف كان – صلى الله عليه وسلم – يتعامل مع آيات القرآن ، وكيف كان يعيش مع القرآن عملاً بأوامره واجتناباً لنواهيه ووقوفاً عند الآيات المتعلقة بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب .
فحري بنا أن نقتدي به – صلى الله عليه وسلم - ، وأن يكون حالنا مع القرآن كحاله معه ؛ وبذلك لا نكون من الذين شكى النبي – صلى الله عليه وسلم – حالهم إلى الله بسبب هجرهم للقرآن فقال : ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)(الفرقان: 30) .
المبحث الثالث : من روائع تفسير الصحابة – رضي الله عنهم – لبعض الآيات
الصحابة هم ذلك الجيل القرآني الفريد الذي لم يوجد له مثيل ، وهم الذين كانوا يتلقون آيات القرآن الكريم من نبيهم الكريم -صلى الله عليه وسلم- ليعملوا بها . وقد جاء في كتب السير والمناقب والسنن الكثير من المواقف الرائعة التي تبين لنا مدى اهتمامهم بآيات القرآن ، وسرعة استجابتهم للتعاليم الربانية الواردة فيها . وأذكر في هذا الفصل بعضاً من هذه المواقف :
الموقف الأول : الحرص على الاتصاف بالصفات التي أثنى الله على أهلها في القرآن :
يدل على ذلك موقف رائع قلّ أن تجد من يفعل مثله ؛ ألا وهو موقف أبي طلحة الأنصاري – رضي الله عنه – من قوله تعالى : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)(آل عمران: 92) . فعن أنس – رضي الله عنه – قال : كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيب ، فلما أنزلت : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " قام أبو طلحة فقال : " يا رسول الله ، إن الله يقول : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " وإن أحب أموالي إلي بيرُحاء ، وإنها صدقة لله ، أرجو برّها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بَخْ ، ذلك مالٌ رايح ، ذلك مال رايح ، وقد سمعت ما قلت ، وأني أرى أن تجعلها في الأقربين " قال
أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمَّه " (17).
فهذا الموقف ذكره يكفي ويغني عن التعليق عليه ، ولكن إذا أردنا أن نكون على بينة من روعة هذا الموقف ، فلننظر إلى حالنا مع هذه الآية ، وما موقفنا منها عندما تتلى علينا ؟! هل فكر أحد منا أن ينفق أحب ما يملك فضلاً على أن يفعل ذلك ؟! . ولكنه الإيمان واليقين بما عند الله ، وإيثار ما يبقى على ما يفنى ، وهذا ما دفعهم إلى اتخاذ مثل هذه المواقف الرائعة . فنسأل الله أن يلحقنا بهم بحبنا لهم لا بأعمالنا فلن نصل إلى ما وصلوا إليه وهم أصحاب مثل هذه المواقف .
الموقف الثاني : ترك ما نهى الله عنه في كتابه مهما كان حبهم له :
نزلت آيات في القرآن الكريم تحرم أموراً كان الصحابة قد اعتادوا عليها حتى كانت جزءاً من حياتهم من الصعب أن يتركوه ومع ذلك فقد كانوا بمجرد علمهم بأن الله قد حرمها ونهى عنها في كتابه يتركونها فوراً وبلا أدنى تردد . وهذا موقف رائع يدل على مدى تأثرهم بآيات القرآن الكريم التي تنهاهم عن بعض الأمور التي ألفوها وتعودوا عليها :
أخرج البخاري(18) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : ما كان لنا خمرٌ غير فضيحكم هذا الذي تسمونه الفضيح ، فإني لقائم أسقى أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال : هل بلغكم الخبر ؟ فقالوا : وماذاك ؟ قال : حرمت الخمر ، قالوا : أهرق هذه القلال يا أنس ، قال : فما سألوا عنها ولا أرجعوها بعد خبر الرجل .
وفي رواية لـه(19) ، قال أنس : كنت ساقي القوم في منـزل أبي طلحة ، فنـزل تحريم الخمر، فأمر منادياً فنادى، فقال أبو طلحة : أخرج فأنظر ما هذا الصوت ؟ قال : فخرجت فقلت : هذا منادي ينادي : الا إن الخمر قد حرّمت ، فقال لي : أذهب فأهرقها ، قال : فجرت في سكك المدينة .
فأنظر – رعاك الله – كيف كف الصحابة – رضي الله عنهم – عن شرب الخمر بمجرد وصول خبر تحريمه ، ولم يكتفوا بذلك ، بل أضافوا على ترك شربه إراقته في سكك المدينة زيادة في البعد عنه وحذراً من الوقوع في شربه مرة أخرى ولم يراجعوا الرسول في ذلك ، ولم يتأخروا حتى يتحققوا من خبر التحريم . فكيف بحالنا اليوم ، وحال كثير من المسلمين الذين يدّعون أنهم مستجيبون لأوامر الله ؛ وكثير من الأمور يفعلونها مع أنها محرمة في كتاب الله ، وفي سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وآيات تحريمها تتلى عليهم ليلاً ونهاراً ، وهم لا يستجيبون ولا ينتهون ، ويقولون : إن ترك هذه الأمور يشق علينا ، لأننا قد تعودنا عليها فيصعب علينا تركها والبعد عنها ، والله غفور رحيم . ونسى هؤلاء أو تناسوا أن الله شديد العقاب وعذابه عذاب أليم ، ولم يكونوا مثل أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – الذين قالوا عندما نزلت عليهم آيات تحريم الخمر وفي آخرها : ] فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [ (المائدة: 91) . قالوا : انتهينا انتهينا (20).
وهكذا ينبغي أن يكون موقف كل مسلم من آيات الله عندما تتلى عليه وتنهاه عن فعل أمر من الأمور ، ينبغي أن يبادر بالاستجابة ويكون حاله كحال المؤمنين الصادقين الذين قال الله عنهم : ] إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ (النور:51) .
الموقف الثالث : الوقوف عند آداب القرآن الكريم والتخلق بأخلاقه :
كان الصحابة - رضي الله عنهم - شديدي الحرص على التأدب بآداب القرآن ، والتخلق بأخلاقه ، والوقوف عند آياته ، وهذا موقف يدل على ذلك : عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنـزل على ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته ، كهولاً كانوا أوشباناً ، فقال عيينة بن حصن لابن أخيه : يا ابن أخي ، لك وجه عند هذا الأمير ، فاستأذن لي عليه ، قال : سأستأذن لك عليه ، قال ابن عباس : فاستأذن الحر لعيينة ، فأذن له عمر ، فلمّا دخل عليه قال : هي يا ابن الخطاب ، فو الله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم بيننا بالعدل . فغضب عمر حتى همّ به ، فقال له الحر : يا أمير المؤمنين ، إن الله - تعالى – قال لنبيه – صلى الله عليه وسلم - : " خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين " وإن هذا من الجاهلين . والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقافاً عند كتاب الله (21).
فهذا الموقف من عمر – رضي الله عنه – يبين لنا كيف كان الصحابة – رضي الله عنهم – يتأثرون بآيات القرآن الكريم إذا تليت عليهم ، ويقفون عند حدودها ويتأدبون بآدابها . فما أحوجنا إلى التأسي بهم في مثل هذه المواقف ، وما أحوجنا إلى الوقوف عند آيات القرآن الكريم ، والعمل فما فيه من آداب ، فهذا هو الغرض والهدف الذي أنزل من أجله القرآن ، ليعمل بما فيه لا ليقرأ وتبحث آياته بحوثاً نظرية مجردة عن العمل والتطبيق كما هو حال أكثر المهتمين بدراسة القرآن اليوم ، تجد الواحد منهم يحلل الآيات ، ويبحث في مدلولات ألفاظها ومعانيها ويسوّد الورق في ذلك دون أن ترى لآيات القرآن أدنى تأثير في سلوكه وفي هديه وسمته ، وما هكذا ينبغي أن يكون أهل القرآن ، وما لهذا أنزل القرآن !!.
الموقف الرابع : سرعة الاستجابة لأمر الله ، وشدة التصديق لكلام الله :-
كانت المواقف السابقة متعلقة بالرجال من الصحابة ، وهذا الموقف الذي أختم به يتعلق بنساء الصحابة ، وهو موقف رائع يدل على قوة الإيمان وشدة التصديق لكتاب الله . فعن صفية بنت شيبة ؛ قالت : بينما نحن عند عائشة ؛ قالت : فذكرنا نساء قريش وفضلهن . فقالت عائشة – رضي الله عنها - : " إن لنساء قريش لفضلاً ، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ، أشد تصديقاً لكتاب الله ، ولا إيماناً بالتنـزيل ، لقد أنزلت سورة النور: ] وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [(النور: 31) ، انقلب رجالهن عليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابة ، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل ، فاعتجرت به ؛ تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه ، فأصبحن وراء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – معتجرات ، كأن على رؤوسهن الغربان " (22).
فهذه الآية نزلت بالليل ، فلم ينتظرن حتى الصباح ، بل شققن الثياب وصنعن الخمر وصلين خلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مختمرات ، فرضي الله عنهن . وسبحان الله ... ما أطهرها من قلوب وما أنقاها من نفوس ! .
قارن بين هذا الموقف وبين من تقول لها : تحجبي ، والزمي أمر ربك ، فتقول لك : نعم ، الحجاب حق ، ولكن بعد الزواج سأتحجب ! أو لا تلتزم بالحجاب ، ولا تمتثل أمر الله (23).
فرحم الله نساء الأنصار ، ورحم الله الصحابة جميعاً ، ورضي الله عنهم . ( لقد جعلوا القرآن العظيم ربيع قلوبهم ، وتعاملوا معه معاملة صحيحة ، فخلعوا الراحات ، وأعطوا المجهود في الطاعات ، فكانوا كما عناهم القائل :
منع القرآن بوعده ووعيده * مِقلَ العيون فليلها لا تهجع
فَهِموا عن الملك الكريم كلامه * فَهْماً تذل لـه الرقاب وتخضع
لقد خالط القرآن الكريم لحومهم ودمائهم ، فوضعوه على افئدتهم فانفرجت ، وضمّوه إلى صدورهم فانشرحت ، فجعلوه لظلمتهم سراجاً ، ولنومهم مهاداً ، ولسبيلهم منهاجاً ) (24).
والمواقف في مثل هذا عن الصحابة كثيرة ؛ ولكن اكتفيت بما سبق خوفاً من الإطالة . ولعلّ الله أن يعين على جمعها ودراستها في بحوث أخرى موسعة ومحررة ومجوّدة .
وأخيراً ؛ أختم هذه التأملات بالنتائج التالية :
أولاً : أهمية البحث في هذا الموضوع المهم – وهو التفسير العملي لآيات القرآن الكريم - ؛ وذلك لحاجتنا إليه ، ولقلة من أفراده بالبحث والتأليف .
ثانياً : لا غنى للمفسر عن الرجوع إلى كتب السيرة وكتب السنة حتى يستطيع أن يعرف كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام يفهمون آيات القرآن الكريم ، ويطبقونه في واقعهم حسب فهمهم لها وتأثرهم بها .
ثالثاً : ( إن أي ناظر في كتب أسباب النـزول وفي سيرة رسول الله عليه السلام وفي مغازيه وجهاده ، وفي الكتب التي تحدثت عن حياة الصحابة وطبقاتهم ومناقبهم وسيقف على ثروة ضخمة لهؤلاء الكرام يصدق عليها أنها تفسير عملي للقرآن الكريم فلماذا نستبعد كل هذه الثروة الغنية ، ونكتفي بألفاظ وكلمات يسيرة منقولة عنهم في تفسير القرآن ؟ وكثير منها لم يصح سنده ؟! .
فعلى القارئ المتدبر للقرآن أن يوسع التفسير ، وأن يدخل فيه كل سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام ، ومغازيه ، وشمائله وفضائله ، وكل ما صح عن حياة الصحابة بالقرآن ، وجهودهم وجهادهم لأن يبقوا على القمم التي وضعهم عليها القرآن وعندها يستفيد هذا القارئ فائدة تفسيرية وتربوية وسلوكية وإيمانية وعلمية ) (25).
رابعاً : ( على القارئ أن لا يخلط بين الوسائل والغايات ، وأن لا يجعل من الوسائل غايات ، فكم سيخسر لو فعل ذلك !! .
إن كل ما يستخدمه أثناء التلاوة لا يعدو أن يكون وسائل توصله إلى غاية واحدة محددة . التلاوة ، والتدبر والنظر ، وما يحصل عليه من حقائق ولطائف ومعلومات وتقريرات ، وما ينقدح في قلبه من أفهام ومبادئ وآراء ، والاطلاع على التفاسير ، والحياة مع القرآن لحظات أو ساعات هذه كلها لا يجوز أن تكون إلا وسائل لغاية ، ولا يمكن أن تكون بحد ذاتها غايات .. لأنه إن وقف عندها واكتفى بتحقيقها وتحصيلها فلن يحيا بالقرآن ولن يعيش مع القرآن ولن يدرك كيفية التعامل مع القرآن ! .
ونحن نعلم أن من المسلمين من يكتفي بها ، ويقعد عنها ، ويجعلها هي الهدف المرجو والغاية المطلوبة ، لكن هؤلاء لم يفهموا القرآن ، ولم يعيشوا به )(26) !!
وأخيراً ، أسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن العاملين به ، ونسأله سبحانه أن يجعل القرآن حجة لنا لا علينا إنه هو الجواد الكريم .
كتبها / محمد بن عبدالله العبيدي القحطاني*
.................................................. ................................................
* الحواشي :
(1) الحديث رواه مسلم في جملة حديث طويل رقمه ( 746 ) .
(2) بهجة الناظرين شرح رياض الصالحين لسليم الهلالي (3/308/309) .
(3) هو عبد الرحمن بن حبيب التابعي المقرئ المتوفى سنة 72هـ . وهو غير أبي عبد الرحمن السلمي الصوفي المتوفى سنة 412هـ .
(4) أخرجه الإمام أحمد في المسند ( 5/410) وانظر مجمع الزوائد ( 1/165 ) .
(5) يُنظر كتاب : مفاتيح للتعامل مع القرآن الكريم للدكتور : صلاح الخالدي ، حيث عقد مبحثاً بعنوان : نحو نظرية حركية لتدبر القرآن والعمل به ص52 وما بعدها .
(6) هناك رسالة رائعة نفيسة للإمام ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – بعنوان : فضل علم السلف على
علم الخلف . من المناسب والجدير بطالب العلم أن يرجع إليها ويحرص على قراءتها .
(7) رقم 4770 وكذا أخرجه مسلم في صحيحه رقم ( 204 ) ، ( 205 ) بالفاظ مقاربة . وانظر الصحيح المسند من التفسير النبوي للقرآن الكريم للشيخ أبي محمد السيد أبو عمه ص83 ، 84 .
(8) أخرجه في أبواب تفسير القرآن رقم 3215 وهذا لفظه والحديث أخرجه الشيخان أيضاً .
(9) تحفة الأحوذي للمباركفوري (8/300 ، 301 ) .
(10) غباً : من غب الرجل إذا جاء زائراً يوماً بعد أيام . (لسان العرب 5/3204) . وقد رُويت هذه العبارة حديثاً مرفوعاً من طريق عدد من الصحابة وكلها طرق واهية . قال البراز : لا يعلم في زر غباً تزدد حباً حديث صحيح . (كشف الأيثار 2/390) . وقال الذهبي في الميزان : حديث باطل . وقد صححه الألباني في صحيح الجامع رقم 3562 . [ هذا التعليق مأخوذ من كتاب موسوعة فضائل سور القرآن للشيخ محمد بن رزق ابن طرهوني 1/219 من الحاشية ] .
(11) أخرجه ابن حبان ( انظر موارد الظمآن ص139) وذكره ابن كثير وعزاه لابن مردويه وعبد بن
حميد وغيرهما . وانظر كتاب موسوعة فضائل سور القرآن (1/219) .
(12) في كتاب التفسير باب قوله تعالى ] فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ [ رقم 4551 .
(13) في أبواب التفسير سورة الأحقاف رقم 3474 وقال حديث حسن .
(14) رقم 4352 واللفظ له .
(15) رقم 3261 .
(16) رقم 4683 ، 4684 في كتاب التفسير .
(17) أخرجه البخاري رقم 4279 ومسلم رقم 998 .
(18) رقم 4341 .
(19) رقم 4344 .
(20) أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم 379 (1/184) بتحقيق أحمد شاكر وقال : إسناده صحيح. وانظر تفسير ابن جرير (10/566) بتحقيقه أيضاً .
(21) صحيح البخاري . كتاب التفسير . باب " خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين " .
حديث رقم 4366 .
(22) رواه أبو داود وغيره . وهو في صحيح البخاري مختصراً رقم 4480 ، 4481 .
(23) قارن بما في كتاب فتح المنان في صفات عباد الرحمن للشيخ وحيد بالي ص154،155، 156
(24) من مقدمة كتاب : القرآن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحمد خليل جمعة ص7،8.
(25) من كتاب : مفاتيح للتعامل مع القرآن للدكتور : صلاح الخالدي ص118 .
(26) من المراجع السابقة ص143 .