زاد الرحيل
21 May 2010, 11:35 PM
كيف تصبر على البلاء؟
للكاتب : الإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله
...
الصبر على البلاء ينشأ من أسباب عديدة:
أحدها: شهود جزائها وثوابها.
الثاني: شهود تكفيرهاللسيئات ومحوها لها.
الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنّها مقدّرةفي أمّ الكتاب قبل أن تخلق، فلا بدّ منها؛ فجزعه لا يزيده إلابلاءً.
الرابع: شهوده حقِّ الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبرُ بلاخلاف بين الأمة،
أو الصبر والرضا على أحد القولين. فهو مأمور بأداء حقِّ اللهوعبوديته عليه في تلك البلوى،
فلا بدَّ لهمنه، وإلا تضاعفت عليه.
الخامس: شهود ترتّبها عليه بذنبه، كما قال الله تعالى: {وَمَاأَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنكَثِيرٍ} [الشورى: 30]،
فهذا عامٌّ في كلّ مصيبة دقيقة وجليلة، فشغله شهودهذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في رفع تلك المصيبة.
قال علي بن أبي طالب: "ما نزل بلاءٌ إلاّ بذنب، ولا رُفِعبلاءٌ إلاّ بتوبة".
السادس: أن يعلم أنّ الله قد ارتضاها له واختارهاوقسَمها، وأنّ العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيّدُه ومولاه.
فإن لم يُوفِ قدرهذا المقام حقَّه، فهو لضعفه؛ فلينزل إلى مقام الصبر عليها.
فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدّى لحق.
السابع: أن يعلم أنّ هذه المصيبة هي دواءٌ نافع ساقهإليه الطبيبُ العليمُ بمصلحته الرحيمُ به،
فليصبرْ على تجرعه، ولا يتقيأْه بتسخّطهوشكواه، فيذهبَ نفعه باطلاً.
الثامن: أن يعلم أنّ في عُقبى هذا الدواءِ منالشفاءِ والعافية والصحة وزوال الألم ما لا تحصل بدونه.
فإذا طالعت نفسه كراهية هذاالداءِ ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره. قال تعالى:
{وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰأَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ} [البقرة:216]،
وقال الله تعالى: {فَعَسَىٰأَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
وفي مثل هذا القائل:
لعلَ عتَبك محمودٌ عواقبُه***وربّما صحّت الأجسامُ بالعِلَلِ
التاسع: أن يعلمأنّ المصيبة ما جاءَت لِتُهلِكَه وتقتلَه، وإنما جاءَت لتمتحن صبره وتبتليه،
فيتبيّن حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟، فإن ثبت اصطفاهواجتباه،
وخلع عليه خِلَع الإكرام، وألبسه ملابس الفضل، وجعل أولياءَه وحزبه خدَماًله وعوناً له.
وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرِدَ، وصُفِع قفاه، وأُقصي،
وتضاعفت عليه المصيبة. وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها،
ولكن سيعلم بعد ذلكبأن المصيبة في حقه صارت مصائب،
كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعماًعديدة.
وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلكالساعة.
والمصيبة لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكراماتوالخيرات،
وعن الآخر بالحرمان والخذلان. لأن ذلك تقدير العزيز العليم،
وفضل اللهيؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
العاشر: أن يعلم أنّ الله يربي عبدهعلى السرّاءِ والضرّاءِ، والنعمة والبلاءِ؛
فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال،فإنّ العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال.
وأما عبد السراءوالعافية الذي يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأنّ به،
وإن أصابته فتنةٌ انقلبعلى وجهه؛ فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته.
فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت علىمحكّ الابتلاءِ والعافية هو الأيمان النافع وقت الحاجة،
وأما إيمان العافية فلايكاد يصحب العبدَ ويبلّغه منازلَ المؤمنين،
وإنّما يصحبه إيمانٌ يثبت على البلاءوالعافية.
فالابتلاء كيرُ العبد ومحكّ إيمانه: فإمَّا أن يخرج تِبراً أحمر،وإما أن يخرج زَغَلاً محضاً، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال بهالبلاءُ حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهبا خالصا.
فلو علم العبدأن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغلَ قلبهبشكره، ولسانه بقوله: "اللّهم أعنِّي على ذكرك وشكر وحسن عبادتك". وكيف لا يشكر مَنقيَّضَ له ما يستخرج به خَبَثه ونحاسه، ويُصيّره تِبراً خالصاً يصلح لمجاورتهوالنظر إليه في داره ؟.
فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبرَ على البلاءِ، فإنْقويت أثمرت الرضا والشكر.
فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنابابتلائه بمنه وكرمه.
.
.
(منقول من كتاب طريق الهجرتينوباب السعادتين)
للكاتب : الإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله
...
الصبر على البلاء ينشأ من أسباب عديدة:
أحدها: شهود جزائها وثوابها.
الثاني: شهود تكفيرهاللسيئات ومحوها لها.
الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنّها مقدّرةفي أمّ الكتاب قبل أن تخلق، فلا بدّ منها؛ فجزعه لا يزيده إلابلاءً.
الرابع: شهوده حقِّ الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبرُ بلاخلاف بين الأمة،
أو الصبر والرضا على أحد القولين. فهو مأمور بأداء حقِّ اللهوعبوديته عليه في تلك البلوى،
فلا بدَّ لهمنه، وإلا تضاعفت عليه.
الخامس: شهود ترتّبها عليه بذنبه، كما قال الله تعالى: {وَمَاأَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنكَثِيرٍ} [الشورى: 30]،
فهذا عامٌّ في كلّ مصيبة دقيقة وجليلة، فشغله شهودهذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في رفع تلك المصيبة.
قال علي بن أبي طالب: "ما نزل بلاءٌ إلاّ بذنب، ولا رُفِعبلاءٌ إلاّ بتوبة".
السادس: أن يعلم أنّ الله قد ارتضاها له واختارهاوقسَمها، وأنّ العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيّدُه ومولاه.
فإن لم يُوفِ قدرهذا المقام حقَّه، فهو لضعفه؛ فلينزل إلى مقام الصبر عليها.
فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدّى لحق.
السابع: أن يعلم أنّ هذه المصيبة هي دواءٌ نافع ساقهإليه الطبيبُ العليمُ بمصلحته الرحيمُ به،
فليصبرْ على تجرعه، ولا يتقيأْه بتسخّطهوشكواه، فيذهبَ نفعه باطلاً.
الثامن: أن يعلم أنّ في عُقبى هذا الدواءِ منالشفاءِ والعافية والصحة وزوال الألم ما لا تحصل بدونه.
فإذا طالعت نفسه كراهية هذاالداءِ ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره. قال تعالى:
{وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰأَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ} [البقرة:216]،
وقال الله تعالى: {فَعَسَىٰأَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
وفي مثل هذا القائل:
لعلَ عتَبك محمودٌ عواقبُه***وربّما صحّت الأجسامُ بالعِلَلِ
التاسع: أن يعلمأنّ المصيبة ما جاءَت لِتُهلِكَه وتقتلَه، وإنما جاءَت لتمتحن صبره وتبتليه،
فيتبيّن حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟، فإن ثبت اصطفاهواجتباه،
وخلع عليه خِلَع الإكرام، وألبسه ملابس الفضل، وجعل أولياءَه وحزبه خدَماًله وعوناً له.
وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرِدَ، وصُفِع قفاه، وأُقصي،
وتضاعفت عليه المصيبة. وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها،
ولكن سيعلم بعد ذلكبأن المصيبة في حقه صارت مصائب،
كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعماًعديدة.
وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلكالساعة.
والمصيبة لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكراماتوالخيرات،
وعن الآخر بالحرمان والخذلان. لأن ذلك تقدير العزيز العليم،
وفضل اللهيؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
العاشر: أن يعلم أنّ الله يربي عبدهعلى السرّاءِ والضرّاءِ، والنعمة والبلاءِ؛
فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال،فإنّ العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال.
وأما عبد السراءوالعافية الذي يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأنّ به،
وإن أصابته فتنةٌ انقلبعلى وجهه؛ فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته.
فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت علىمحكّ الابتلاءِ والعافية هو الأيمان النافع وقت الحاجة،
وأما إيمان العافية فلايكاد يصحب العبدَ ويبلّغه منازلَ المؤمنين،
وإنّما يصحبه إيمانٌ يثبت على البلاءوالعافية.
فالابتلاء كيرُ العبد ومحكّ إيمانه: فإمَّا أن يخرج تِبراً أحمر،وإما أن يخرج زَغَلاً محضاً، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال بهالبلاءُ حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهبا خالصا.
فلو علم العبدأن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغلَ قلبهبشكره، ولسانه بقوله: "اللّهم أعنِّي على ذكرك وشكر وحسن عبادتك". وكيف لا يشكر مَنقيَّضَ له ما يستخرج به خَبَثه ونحاسه، ويُصيّره تِبراً خالصاً يصلح لمجاورتهوالنظر إليه في داره ؟.
فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبرَ على البلاءِ، فإنْقويت أثمرت الرضا والشكر.
فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنابابتلائه بمنه وكرمه.
.
.
(منقول من كتاب طريق الهجرتينوباب السعادتين)