طيف المدينة
21 Jul 2010, 08:17 PM
"التأمل في أسرار الصلاة وفوائدها يسهل على العبد أداءها ويجعله متلذذاً بها "
http://www.aldaawah.com/wp-content/uploads/islam_prayer-300x224.jpg (http://www.aldaawah.com/wp-content/uploads/islam_prayer.jpg)
بقلم: فضيلة الشيخ د. صالح بن فوزان الفوزان
إن الخشوع في الصلاة هو روحها والمقصود منها، وقد وصف الله به رسله والصالحين من عباده فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } [المؤمنون: 1 - 2]، ووصف أهل العلم بخشيته والخشوع عند سماع كلامه فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)} [الإسراء: 107 - 109]، وأصل الخشوع: لين القلب وسكونه وخضوعه، فإذا خشع القلب تبعه خشوع الجوارح والأعضاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهي القلب” متفق عليه.
ومتى تكلف الإنسان الخشوع في جوارحه وأطرافه مع عدم خشوع قلبه كان ذلك خشوع نفاق، فقد نظر عمر رضي الله عنه إلى شاب قد نكس رأسه فقال له: يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع ليس في الرقاب إن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، والخشوع الحاصل في القلب إنما يحصل من معرفة الله – عزَّ وجلَّ – ومعرفة عظمته، من كان بالله أعرف كان له أخشع، ومن أعظم الأسباب لحصول الخشوع تدبر كلام الله – عزَّ وجلَّ – فقد قال الله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، وقد وصف الله المؤمنين من علماء أهل الكتاب بالخشوع عند سماع هذا القرآن فقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)} [الإسراء: 107 - 109]، وقد ذم الله من لا يخشع عند سماع كلامه، فقال سبحانه: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 16]، بل قد توعد الله أصحاب القلوب القاسية بقوله: { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [الزمر: 22]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من قلب لا يخشع كما في الحديث الذي رواه مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع. وقلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها ) وقد شرع الله لعباده من أنواع العبادات ما يظهر فيه خشوع قلوبهم وأبدانهم. ومن أعظم ذلك الصلاة، وقد مدح الله الخاشعين فيها بقوله: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، قال مجاهد: كان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن – عزَّ وجلَّ – أن يشذ نظره، أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه في أمر الدنيا إلا ناسياً ما دام في صلاته، وفي صحيح مسلم عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، مالم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله”
وللخشوع في الصلاة أسباب من أعظمها: استحضار العبد عظمة ربه الذي هو واقف بين يديه، وأنه قريب منه يراه ويسمعه ويطلع على ما في قلبه وضميره، فيستحي من ربه عزَّ وجلَّ. ومن أسباب الخشوع في الصلاة وضع اليدين إحداهما على الأخرى، بأن يضع اليمنى على اليسرى ويجعلهما فوق صدره، ومعنى ذلك الذل والانكسار بين يدي الله – عزَّ وجلَّ – فقد سئل الإمام أحمد – رحمه الله – عن المراد بذلك فقال: هو ذل بين يدي عزيز،…
ومن أسباب الخشوع في الصلاة: قطع الحركة والعبث وملازمة السكون، ولهذا لما رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة قال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وروي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الناس إذا قام في الصلاة يتململ ويحرك يديه ورجليه ويعبث بلحيته وأنفه، حتى أنه يؤذي من بجواره وهذا مما يدل على عدم الخشوع في الصلاة.
ومن أسباب الخشوع في الصلاة: إحضار القلب فيها وعدم انشغاله بهموم الدنيا وأعمالها، وأن يقبل بقلبه على الله – عزَّ وجلَّ – ولا يشتغل بغير صلاته، وقد جاء النهي عن الالتفات في الصلاة – قال العلماء: والالتفات في الصلاة نوعان:
أحدهما: التفات القلب عن الله – عزَّ وجلَّ – بأن ينصرف إلى الدنيا وأشغالها ولا يتفرغ لربه، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في فضل الوضوء وثوابه قال: “فإن هو قام وصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجّده بالذي هو أهله وفرغ قلبه انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه”
النوع الثاني: الالتفاف بالنظر يميناً وشمالاً، والمشروع قصر النظر على موضع سجوده لأن ذلك من لوازم الخشوع ويقطع عنه الاشتغال بالمناظر التي حوله، وفي صحيح مسلم عن عائشة – رضي الله عنها -: “سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد” وخرّج الإمام أحمد والترمذي من حديث.. الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله أمر يحيى بن زكريا عليهما السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فذكر منها: وأمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا” وروى الإمام أحمد أيضاً من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي قال: “لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه”
إن الصلاة في كل ما يفعل خضوع لله عزَّ وجلَّ كالقيام والركوع والسجود، وما يقال في هذه الأحوال من الأذكار، قال الله تعالى: { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } [البقرة: 238]، وقال: { وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } [البقرة: 43]، لأن الركوع خضوع لله وذل بين يديه بظاهر الجسد، وقد أبى المتكبرون أن يركعوا فتوعدهم الله بقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ(49)} [المرسلات: 48 - 49].
ومن ذلك السجود وهو أعظم ما يظهر فيه ذل العبد لربه عزّ وجلّ، حيث جعل العبد أشرف أعضائه وأعزها عليه وأعلاها عليه أوضع ما يكون بين يدي ربه، فيضعه في التراب متعفراً ويتبع ذلك انكسار القلب وتواضعه وخشوعه لله عزَّ وجلَّ، ولهذا كان جزاء المؤمن إذا فعل ذلك أن يقربه الله إليه، ( فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله عزَّ وجلَّ لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } [العلق: 19]، وقد استكبر إبليس عن السجود فباء باللعنة والصغر، وأبى المشركون والمنافقون عن السجود واستكبروا عنه، فتوعدهم الله عزَّ وجلَّ بأن يحرمهم من السجود يوم القيامة عند لقائه، لما أبوا أن يسجدوا له في الدنيا قال تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } [القلم: 42 - 43]، وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً”، قال الإمام ابن كثير: وهذا الحديث مخرج في (الصحيحين) وفي غيرهما من طرق وله ألفاظ وهو حديث طويل مشهور … ومن تمام خشوع العبد في ركوعه وسجوده أنه إذا ذل لربه بالركوع والسجود وصف ربه حينئذ بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول: الذل والتواضع وصفي، والعلو والعظمة والكبرياء وصفك ولهذا شرع للعبد في ركوعه أن يقول: (سبحان ربي العظيم)، وفي سجوده: (سبحان ربي الأعلى).
إن التأمل في أسرار الصلاة وفوائدها مما يسهل على العبد أداءها ويجعله متلذذا بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جُعِلت قرة عيني في الصلاة) وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45]، وقال تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت: 45]. لكن حينما يغفل العبد عن فوائد الصلاة واسرارها تصبح ثقيلة عليه. واذا دخل فيها كأنه في سجن حتى يخرج منها. ولهذا تكثر حركاته وهواجسه ويسابق الإمام. ومن كان كذلك فإنه يخرج من صلاته بلا فائدة، ولا يجد رغبة في الدخول فيها وإنما يصلي من باب العادة أو المجاملة.
فاتقوا الله في صلاتكم فإنها عمود الإسلام، وتنهى عن الفحشاء والآثام، وهي آخر ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من الدنيا وآخر ما يفقد من الدين، فليس بعد فقد الصلاة دين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)$ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ(10)} [المؤمنون: 1 - 10].
مجلة الدعوة
http://www.aldaawah.com/wp-content/uploads/islam_prayer-300x224.jpg (http://www.aldaawah.com/wp-content/uploads/islam_prayer.jpg)
بقلم: فضيلة الشيخ د. صالح بن فوزان الفوزان
إن الخشوع في الصلاة هو روحها والمقصود منها، وقد وصف الله به رسله والصالحين من عباده فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } [المؤمنون: 1 - 2]، ووصف أهل العلم بخشيته والخشوع عند سماع كلامه فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)} [الإسراء: 107 - 109]، وأصل الخشوع: لين القلب وسكونه وخضوعه، فإذا خشع القلب تبعه خشوع الجوارح والأعضاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهي القلب” متفق عليه.
ومتى تكلف الإنسان الخشوع في جوارحه وأطرافه مع عدم خشوع قلبه كان ذلك خشوع نفاق، فقد نظر عمر رضي الله عنه إلى شاب قد نكس رأسه فقال له: يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع ليس في الرقاب إن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، والخشوع الحاصل في القلب إنما يحصل من معرفة الله – عزَّ وجلَّ – ومعرفة عظمته، من كان بالله أعرف كان له أخشع، ومن أعظم الأسباب لحصول الخشوع تدبر كلام الله – عزَّ وجلَّ – فقد قال الله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، وقد وصف الله المؤمنين من علماء أهل الكتاب بالخشوع عند سماع هذا القرآن فقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)} [الإسراء: 107 - 109]، وقد ذم الله من لا يخشع عند سماع كلامه، فقال سبحانه: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 16]، بل قد توعد الله أصحاب القلوب القاسية بقوله: { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [الزمر: 22]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من قلب لا يخشع كما في الحديث الذي رواه مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع. وقلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها ) وقد شرع الله لعباده من أنواع العبادات ما يظهر فيه خشوع قلوبهم وأبدانهم. ومن أعظم ذلك الصلاة، وقد مدح الله الخاشعين فيها بقوله: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، قال مجاهد: كان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن – عزَّ وجلَّ – أن يشذ نظره، أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه في أمر الدنيا إلا ناسياً ما دام في صلاته، وفي صحيح مسلم عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، مالم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله”
وللخشوع في الصلاة أسباب من أعظمها: استحضار العبد عظمة ربه الذي هو واقف بين يديه، وأنه قريب منه يراه ويسمعه ويطلع على ما في قلبه وضميره، فيستحي من ربه عزَّ وجلَّ. ومن أسباب الخشوع في الصلاة وضع اليدين إحداهما على الأخرى، بأن يضع اليمنى على اليسرى ويجعلهما فوق صدره، ومعنى ذلك الذل والانكسار بين يدي الله – عزَّ وجلَّ – فقد سئل الإمام أحمد – رحمه الله – عن المراد بذلك فقال: هو ذل بين يدي عزيز،…
ومن أسباب الخشوع في الصلاة: قطع الحركة والعبث وملازمة السكون، ولهذا لما رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة قال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وروي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الناس إذا قام في الصلاة يتململ ويحرك يديه ورجليه ويعبث بلحيته وأنفه، حتى أنه يؤذي من بجواره وهذا مما يدل على عدم الخشوع في الصلاة.
ومن أسباب الخشوع في الصلاة: إحضار القلب فيها وعدم انشغاله بهموم الدنيا وأعمالها، وأن يقبل بقلبه على الله – عزَّ وجلَّ – ولا يشتغل بغير صلاته، وقد جاء النهي عن الالتفات في الصلاة – قال العلماء: والالتفات في الصلاة نوعان:
أحدهما: التفات القلب عن الله – عزَّ وجلَّ – بأن ينصرف إلى الدنيا وأشغالها ولا يتفرغ لربه، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في فضل الوضوء وثوابه قال: “فإن هو قام وصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجّده بالذي هو أهله وفرغ قلبه انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه”
النوع الثاني: الالتفاف بالنظر يميناً وشمالاً، والمشروع قصر النظر على موضع سجوده لأن ذلك من لوازم الخشوع ويقطع عنه الاشتغال بالمناظر التي حوله، وفي صحيح مسلم عن عائشة – رضي الله عنها -: “سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد” وخرّج الإمام أحمد والترمذي من حديث.. الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله أمر يحيى بن زكريا عليهما السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فذكر منها: وأمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا” وروى الإمام أحمد أيضاً من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي قال: “لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه”
إن الصلاة في كل ما يفعل خضوع لله عزَّ وجلَّ كالقيام والركوع والسجود، وما يقال في هذه الأحوال من الأذكار، قال الله تعالى: { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } [البقرة: 238]، وقال: { وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } [البقرة: 43]، لأن الركوع خضوع لله وذل بين يديه بظاهر الجسد، وقد أبى المتكبرون أن يركعوا فتوعدهم الله بقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ(49)} [المرسلات: 48 - 49].
ومن ذلك السجود وهو أعظم ما يظهر فيه ذل العبد لربه عزّ وجلّ، حيث جعل العبد أشرف أعضائه وأعزها عليه وأعلاها عليه أوضع ما يكون بين يدي ربه، فيضعه في التراب متعفراً ويتبع ذلك انكسار القلب وتواضعه وخشوعه لله عزَّ وجلَّ، ولهذا كان جزاء المؤمن إذا فعل ذلك أن يقربه الله إليه، ( فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله عزَّ وجلَّ لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } [العلق: 19]، وقد استكبر إبليس عن السجود فباء باللعنة والصغر، وأبى المشركون والمنافقون عن السجود واستكبروا عنه، فتوعدهم الله عزَّ وجلَّ بأن يحرمهم من السجود يوم القيامة عند لقائه، لما أبوا أن يسجدوا له في الدنيا قال تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } [القلم: 42 - 43]، وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً”، قال الإمام ابن كثير: وهذا الحديث مخرج في (الصحيحين) وفي غيرهما من طرق وله ألفاظ وهو حديث طويل مشهور … ومن تمام خشوع العبد في ركوعه وسجوده أنه إذا ذل لربه بالركوع والسجود وصف ربه حينئذ بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول: الذل والتواضع وصفي، والعلو والعظمة والكبرياء وصفك ولهذا شرع للعبد في ركوعه أن يقول: (سبحان ربي العظيم)، وفي سجوده: (سبحان ربي الأعلى).
إن التأمل في أسرار الصلاة وفوائدها مما يسهل على العبد أداءها ويجعله متلذذا بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جُعِلت قرة عيني في الصلاة) وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } [البقرة: 45]، وقال تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت: 45]. لكن حينما يغفل العبد عن فوائد الصلاة واسرارها تصبح ثقيلة عليه. واذا دخل فيها كأنه في سجن حتى يخرج منها. ولهذا تكثر حركاته وهواجسه ويسابق الإمام. ومن كان كذلك فإنه يخرج من صلاته بلا فائدة، ولا يجد رغبة في الدخول فيها وإنما يصلي من باب العادة أو المجاملة.
فاتقوا الله في صلاتكم فإنها عمود الإسلام، وتنهى عن الفحشاء والآثام، وهي آخر ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من الدنيا وآخر ما يفقد من الدين، فليس بعد فقد الصلاة دين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)$ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ(10)} [المؤمنون: 1 - 10].
مجلة الدعوة