ام حفصه
04 Aug 2010, 08:46 AM
http://up.ala7ebah.com/img/3Eo51422.jpg
هذا المقال في الأصل حديث إذاعي، ألقاه الأديب الفقيه الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - من إذاعة دمشق قبل أكثر من اثنين وأربعين عاماً... ويقارن فيه شهر الصوم الذي عرفه في طفولته، وشهر الصوم عام 1377هـ (1975) عندما أذيع حديثُه.
هذا الحديث عن رمضان، وفي رمضان النور والعطر، وفي رمضان الخير والطهر، وفي رمضان الذكريات الكثر، ففيه نزل الذكر، وفيه ليلة القدر، وكان فيه نصر بدر، وفي آخره عيد الفطر.
ورمضان نور على المآذن ونور في القلوب، ورمضان صوم عن الطعام، وصوم عن الحرام.
إن كانت الحياة تنازعا على الحياة، فهذا الشهر إدراك لسر الحياة، وإن كان العمر كله للجسم، فهذا الشهر للروح، وإن كانت الدنيا للتناحر والخصام، فهذا الشهر للحب والوئام.
هذا هو رمضان الذي أبصرت وجهه من كوة الطفولية فأحببته، ورأيت أثره الخير في كل مكان في دمشق، فأكبرته، ثم لم أعد أراه أبداً، فعلمت أني قد افتقدته واضعته.
عن رمضان الذي عرفته لم يعد يتردد على دمشق. إن هذا رمضان جديد، يحمل اسم رمضان الأول، الذي رأيته أول مرة منذ أكثر من أربعين سنة، ولكنه ليس ذلك الـ (رمضان)
رمضان القديم كان يغمر أرجاء دمشق كلها، فكنت تحس به حيثما سرت. تراه في المساجد الممتلئة بالمصلين والقارئين، والملتحقين حول كراسي المدرسين، وتراه في الأسواق، فلا تجد عورة بادية، ولا منكرا ظاهرا، ولا مطعماً مفتوحاً، ولا مدخناً ولا شارباً، وتشتري البضاعة وأنت آمن من الغش والغبن؛ لأن أفسق البائعين لا يغش في رمضان، والمرأة تعمل مطمئنة إلى أنها مهمتا أخطأت فلن تسمع من زوجها كلمة ملام، لأن المسلم الصائم لا يشتم، ولا يلوم في رمضان، والرجل يجيء إلى بيته وهو آمن أن يجد من زوجه نكداً أو إساءة، لأن المرأة الصائمة لا تؤذي زوجها في رمضان، ولو تركت بابك مفتوحاً لما دخل المنزل لص؛ لأن اللصوص يضربون عن العمل ويتوبون عن السرقة في رمضان.
أما رمضان الجديد، فلا تعرفه هذه الشوارع الجديدة والأحياء الحديثة، ولم يعرف ـ بعدُ ـ الطريق إليها، ودمشق القديمة لم يعد يستطيع أن يسيطر عليها، فالمساجد مملوءة بالمفطرين، والصائمون تسوء أخلاقهم في رمضان من الجوع وشهوة الدخان، والشياطين تُصفد في رمضان، لكن الفساق ينطلقون عاملين فيه كما كانوا يعملون قبل رمضان.
ولقد كان أشد الناس بعداً عن الدين إذا سمع مدافع رمضان تاب وأناب إلى الله، ونزع نفسه الآثمة واستبدل بها نفساً زكية متعبدة، كما ينزع ثوبه الوسخ ويستبدل به ثوبا نظيفا، والبيوت التي كان يسودها الخصام تتحول في رمضان إلى دور أمن وسلام والمدينة تصير كلها أسرة واحدة، أو مدرسة داخلية يأكل الناس فيها في وقت واحد، وينامون في وقت واحد، ويقومون في وقت واحد.
إذا دنت ساعة الغروب رأيت الناس ـ جميعاً ـ مسرعين إلى بيوتهم، وهذا يحمل صحن الفول المدمس، وهذا يحمل الجرادق، والبرازق، وتكون المائدة منصوبة حتى إن أفقر الناس يجد في رمضان فطوراً شهياً، لأن كل صائم في رمضان يتفقد جيرانه ومن حوله، فلا يأكل هو الطعم الطيب، والألوان الكثيرة، وجاره لا يجد الخبز والجبن.
وتصطف الأسرة كلها حول المائدة، يجمعها شعور واحد، شعور يجمع الغني والفقير، والأمير والأجير، هو الجوع، أغنى الناس يشتهي قبل المغرب ملعقة من حساء أو رشفة من شراب. والأولاد يقفون على الشرفات، أو على جوانب الطرق، فإذا رأوا مصباح المنارة، أو سمعوا المدفع، صاحوا بنغمة موزونة ولحن موقع: أذّن. أذّن. أذّن. وطاروا إلى بيوتهم كما تطير العصافير إلى أعشاشها إذا رأت طلائع الليل، وتخلو الطرق، وتهدف الأصوات ثم ترتفع من كل مكان، من الكوخ ومن القصر على السواء، كلمة: الحمد لله، كلهم شبع، وكلهم رضي، وكلهم شكر، الذي أكل السبعة الألوان والذي أكل الخبز والمسبحة والفول.
ثم يمضي الرجال إلى المساجد؛ ليصلوا التراويح، أو يصبّوها مع أهليهم وأولادهم، وتكون الأسواق مضاءة، والأولاد مزدحمين فيها، على بائع المثلجات إن كان الوقت صيفاً أو بائع الفول النابت. ومن أراد لهوا لم يجد إلا الحكواتي يقص قصة عنتر - وكلها بطولة ونبل -، لا كهذه القصص الآثمة الداعرة التي تغضب الكلاب ولو وصفت مجتمعاتها بمثل ما وصف به المجتمع الأمريكي في قصة "الطريق التبغ " التي طبعت من سنين قليلة عشرين مرة، وبيع ملايين، أو الكراكوزاتي..
فإذا مضت ساعة بعد صلاة العشاء، انطفأت الأضواء، وخلت الأسواق وانصرف الناس إلى دورهم ليناموا، والمسحر لا يجيء إلا في وقت السحور، لا يجيء نصف الليل، ليوقظك من نومك، ويقرع بطبلته رأسك، كما يفعل الآن، وأنت مجبر أن تقول له أشكرك، وتدفع له أجرته على أنه كسر دماغك وحطم أعصابك، ولم تكن هذه الإذاعات التي لا تسكت لحظة في رمضان، ولا كانت في البيوت هذه الأجهزة الشنيعة، مصيبة المصائب الراد (الراديو لأنه يرد الصوت المنتشر في الفضاء) الذي تستطيع كل امرأة جاهل، وكل ولد لعاب أن يزعج به مئة بيت، ولا يكلفه ذلك إلا أن يمد إصبعه وهو نائم فيدير زره أنملة (سانتي متر) فيدخل الداء العصبي على كل ما سكن هذه البيوت، ويهرب رمضان المسكين بتأمله وخشوعه وطهره.
إن رمضان لا يستطيع أن يعيش إلا في الهدوء والسكون، فكيف يعيش في هذه الضجة الهائلة، وكيف يتوجه إلى ربه؟ وكيف ينام ليقوم إلى السحور، إذا كان كل صاحب رادّ لا يسمع وحده بل يسمع أربعين جاراً، وكانت الأصوات لا تنقطع طول الليل، والمسحر يجيء من الساعة الواحدة، وهؤلاء الموسيقيون الفاشلون الذين عجزوا عن أن يكون رجال فن، فأسبغوا على غنائهم ثوب الدين، والدين يبرأ منهم وتغزلوا بالرسول r بدلا من التغزل بليلى وسلمى، والبياعون يأتون من طلوع الشمس، مصلح البوابير، ويباع الحليب (واللي عنده سجاد للبيع) والأولاد الذين يتخذون الحارات والجادات ملاعب للكرة.
وكيف يشعر بوجود رمضان من يركب الترام فيرى أمامه من يدخن وينفخ في وجهه الدخان، ويرى المطاعم مفتحة والأكلة يأكلون، ويرى الناس إن صاموا عن الشراب وعن الطعام، لا يصوم إلا القليل منهم عن الكذب والغش والغيبة والبذاءة والحلف بغير الله، أو الحلف كاذبا بالله، ولا يصوم إلا القليل عن الغضب والبطش والأذى. وليس الصيام ـ في الحقيقة ـ إلا تدريب خلقي، ليس الصوم جوعا وعطشا فقط، خلق الله ملائكة، وخلق شياطين وخلق وحوشا وسباعاً. فالملك خير كله، والشيطان شر كله، والسبع طبيعته البطش، لولاه ما عاش، وخلق الإنسان من الثلاثة جميعاً، ففي الإنسان ملك وشيطان وسبع، الملك له الإيمان والرحمة والطاعة والخشوع والسمو النفسي، والشيطان له الشهوة المحرمة والكذب والاحتيال والإفساد، والسبع له الغضب والبطش والقهر. والصيام في الحقيقة صيام عن السبعية والشيطانية؛ لتخلص النفس في هذا الشهر للملكية. فإذا لم تظهر على الصائم أخلاق الملائكة، وإذا بقي يغضب ويبطش كالسبع، ويشتهي ويفسد كالشيطان، فإنه لم يعرف حقيقة الصيام.
لقد كان رمضان الذي يجيء دمشق من أربعين سنة رمضان حقيقيا، وما أدري أمات وجاء غيره، أم قد شاخ وعجز أن يطوف دمشق كلها فصار يثبت وجوده في المفكرة والتقويم وفي أضواء المآذن ومدافع القلعة فقط، فقط لا غير، أم أنا الذي تغير وتبدل؟ كنت أنظر قبل أربعين سنة بعين صبي لم يقترف إثماً. فكنت أرى رمضان، فلما أثقلت الآثام أجفاني لم أعد أراه!
وكان أهل دمشق في مثل طهارة الأطفال، لم تشوه أصباغ الحضارة طبيعة الحسن في نفوسهم، ولم تفسد الشبه والعصبيات جمال الأخوة بين أفرادهم، ولم تكن قد هتكت أستار الصيانة، ولا مزقت براقع الحياء، كانت المرأة لزوجها وولدها وربها، والرجل لزوجته وولده وربه، فكانوا يرون رمضان كلهم. يرون هلاله في الأفق، ونوره في القلوب، وأثره في البيوت والأسواق والمدارس والمساجد، يشعرون ـ حقا ـ أن قافلة العمر كانت تمشي بهم في صحراء مجدبة، فإذا كان رمضان مشت في الواحة التي تعقب بريّا الأزاهير وترقص على أنغام الشحارير، فيكون من ذلك أنس للنفس وراحة للروح.
فأين ذلك الرمضان؟ أين هو؟ دلوني عليه دلوني عليه أجد فيه ماضي الذي فقدته، وأُنسي الذي أضعته. رمضان الذي يتوب فيه كل عاصٍ، ويتصل فيه كل منقطع، ويشهد فيه كل محجوب، وتسطع فيه الأنوار في كل قلب، حتى لتمتلئ بالرضا والاطمئنان والحب، ويقوم الناس في الأسحار ساعة يتجلى الله على الوجود تجلي الرحمة والغفران وينادي المنادي من السماء: ألا من سائل فأعطيه ألا من مستغفر فأغفره، فيهتفون من أعماق قلوبهم: يا أرحم الراحمين، ويسألون الله ويستغفرونه، فيحسون أن قد صعدوا بأرواحهم إلى حيث يرون الأرض كلها ومن عليها ذرة تجول في هذا الفضاء. الدنيا كلها بأطماعها وأحقادها ومغرياتها، ويتذوقون أعظم اللذات، اللذة التي لا تقاربها لذة، لذة الاتصال بالله، ومناجاته في سكنات الليل، وهدأت الأسحار، فتسطع أنوار الإيمان في كل قلب ويمتلئ بالرضا والاطمئنان والحب، والقلب كالنسر الذي يضرب بجناحه في طباق السماء ولكنا قيدناه بقيود المادة، ثم أغرقناه في حمأة المطامع والشهوات. فكيف يطير نسر مقيد الجناح غارق في الطين؟
هذا هو رمضان.؟.. فحلوا القيود عن قلوبكم واغسلوها من أوضار الحمأة التي غمستموها فيها، ودعوها ترتفع لتطلّع على جمال الوجود، وترى من هذا المرقب العالي جمال رمضان.
منقول ---
هذا المقال في الأصل حديث إذاعي، ألقاه الأديب الفقيه الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - من إذاعة دمشق قبل أكثر من اثنين وأربعين عاماً... ويقارن فيه شهر الصوم الذي عرفه في طفولته، وشهر الصوم عام 1377هـ (1975) عندما أذيع حديثُه.
هذا الحديث عن رمضان، وفي رمضان النور والعطر، وفي رمضان الخير والطهر، وفي رمضان الذكريات الكثر، ففيه نزل الذكر، وفيه ليلة القدر، وكان فيه نصر بدر، وفي آخره عيد الفطر.
ورمضان نور على المآذن ونور في القلوب، ورمضان صوم عن الطعام، وصوم عن الحرام.
إن كانت الحياة تنازعا على الحياة، فهذا الشهر إدراك لسر الحياة، وإن كان العمر كله للجسم، فهذا الشهر للروح، وإن كانت الدنيا للتناحر والخصام، فهذا الشهر للحب والوئام.
هذا هو رمضان الذي أبصرت وجهه من كوة الطفولية فأحببته، ورأيت أثره الخير في كل مكان في دمشق، فأكبرته، ثم لم أعد أراه أبداً، فعلمت أني قد افتقدته واضعته.
عن رمضان الذي عرفته لم يعد يتردد على دمشق. إن هذا رمضان جديد، يحمل اسم رمضان الأول، الذي رأيته أول مرة منذ أكثر من أربعين سنة، ولكنه ليس ذلك الـ (رمضان)
رمضان القديم كان يغمر أرجاء دمشق كلها، فكنت تحس به حيثما سرت. تراه في المساجد الممتلئة بالمصلين والقارئين، والملتحقين حول كراسي المدرسين، وتراه في الأسواق، فلا تجد عورة بادية، ولا منكرا ظاهرا، ولا مطعماً مفتوحاً، ولا مدخناً ولا شارباً، وتشتري البضاعة وأنت آمن من الغش والغبن؛ لأن أفسق البائعين لا يغش في رمضان، والمرأة تعمل مطمئنة إلى أنها مهمتا أخطأت فلن تسمع من زوجها كلمة ملام، لأن المسلم الصائم لا يشتم، ولا يلوم في رمضان، والرجل يجيء إلى بيته وهو آمن أن يجد من زوجه نكداً أو إساءة، لأن المرأة الصائمة لا تؤذي زوجها في رمضان، ولو تركت بابك مفتوحاً لما دخل المنزل لص؛ لأن اللصوص يضربون عن العمل ويتوبون عن السرقة في رمضان.
أما رمضان الجديد، فلا تعرفه هذه الشوارع الجديدة والأحياء الحديثة، ولم يعرف ـ بعدُ ـ الطريق إليها، ودمشق القديمة لم يعد يستطيع أن يسيطر عليها، فالمساجد مملوءة بالمفطرين، والصائمون تسوء أخلاقهم في رمضان من الجوع وشهوة الدخان، والشياطين تُصفد في رمضان، لكن الفساق ينطلقون عاملين فيه كما كانوا يعملون قبل رمضان.
ولقد كان أشد الناس بعداً عن الدين إذا سمع مدافع رمضان تاب وأناب إلى الله، ونزع نفسه الآثمة واستبدل بها نفساً زكية متعبدة، كما ينزع ثوبه الوسخ ويستبدل به ثوبا نظيفا، والبيوت التي كان يسودها الخصام تتحول في رمضان إلى دور أمن وسلام والمدينة تصير كلها أسرة واحدة، أو مدرسة داخلية يأكل الناس فيها في وقت واحد، وينامون في وقت واحد، ويقومون في وقت واحد.
إذا دنت ساعة الغروب رأيت الناس ـ جميعاً ـ مسرعين إلى بيوتهم، وهذا يحمل صحن الفول المدمس، وهذا يحمل الجرادق، والبرازق، وتكون المائدة منصوبة حتى إن أفقر الناس يجد في رمضان فطوراً شهياً، لأن كل صائم في رمضان يتفقد جيرانه ومن حوله، فلا يأكل هو الطعم الطيب، والألوان الكثيرة، وجاره لا يجد الخبز والجبن.
وتصطف الأسرة كلها حول المائدة، يجمعها شعور واحد، شعور يجمع الغني والفقير، والأمير والأجير، هو الجوع، أغنى الناس يشتهي قبل المغرب ملعقة من حساء أو رشفة من شراب. والأولاد يقفون على الشرفات، أو على جوانب الطرق، فإذا رأوا مصباح المنارة، أو سمعوا المدفع، صاحوا بنغمة موزونة ولحن موقع: أذّن. أذّن. أذّن. وطاروا إلى بيوتهم كما تطير العصافير إلى أعشاشها إذا رأت طلائع الليل، وتخلو الطرق، وتهدف الأصوات ثم ترتفع من كل مكان، من الكوخ ومن القصر على السواء، كلمة: الحمد لله، كلهم شبع، وكلهم رضي، وكلهم شكر، الذي أكل السبعة الألوان والذي أكل الخبز والمسبحة والفول.
ثم يمضي الرجال إلى المساجد؛ ليصلوا التراويح، أو يصبّوها مع أهليهم وأولادهم، وتكون الأسواق مضاءة، والأولاد مزدحمين فيها، على بائع المثلجات إن كان الوقت صيفاً أو بائع الفول النابت. ومن أراد لهوا لم يجد إلا الحكواتي يقص قصة عنتر - وكلها بطولة ونبل -، لا كهذه القصص الآثمة الداعرة التي تغضب الكلاب ولو وصفت مجتمعاتها بمثل ما وصف به المجتمع الأمريكي في قصة "الطريق التبغ " التي طبعت من سنين قليلة عشرين مرة، وبيع ملايين، أو الكراكوزاتي..
فإذا مضت ساعة بعد صلاة العشاء، انطفأت الأضواء، وخلت الأسواق وانصرف الناس إلى دورهم ليناموا، والمسحر لا يجيء إلا في وقت السحور، لا يجيء نصف الليل، ليوقظك من نومك، ويقرع بطبلته رأسك، كما يفعل الآن، وأنت مجبر أن تقول له أشكرك، وتدفع له أجرته على أنه كسر دماغك وحطم أعصابك، ولم تكن هذه الإذاعات التي لا تسكت لحظة في رمضان، ولا كانت في البيوت هذه الأجهزة الشنيعة، مصيبة المصائب الراد (الراديو لأنه يرد الصوت المنتشر في الفضاء) الذي تستطيع كل امرأة جاهل، وكل ولد لعاب أن يزعج به مئة بيت، ولا يكلفه ذلك إلا أن يمد إصبعه وهو نائم فيدير زره أنملة (سانتي متر) فيدخل الداء العصبي على كل ما سكن هذه البيوت، ويهرب رمضان المسكين بتأمله وخشوعه وطهره.
إن رمضان لا يستطيع أن يعيش إلا في الهدوء والسكون، فكيف يعيش في هذه الضجة الهائلة، وكيف يتوجه إلى ربه؟ وكيف ينام ليقوم إلى السحور، إذا كان كل صاحب رادّ لا يسمع وحده بل يسمع أربعين جاراً، وكانت الأصوات لا تنقطع طول الليل، والمسحر يجيء من الساعة الواحدة، وهؤلاء الموسيقيون الفاشلون الذين عجزوا عن أن يكون رجال فن، فأسبغوا على غنائهم ثوب الدين، والدين يبرأ منهم وتغزلوا بالرسول r بدلا من التغزل بليلى وسلمى، والبياعون يأتون من طلوع الشمس، مصلح البوابير، ويباع الحليب (واللي عنده سجاد للبيع) والأولاد الذين يتخذون الحارات والجادات ملاعب للكرة.
وكيف يشعر بوجود رمضان من يركب الترام فيرى أمامه من يدخن وينفخ في وجهه الدخان، ويرى المطاعم مفتحة والأكلة يأكلون، ويرى الناس إن صاموا عن الشراب وعن الطعام، لا يصوم إلا القليل منهم عن الكذب والغش والغيبة والبذاءة والحلف بغير الله، أو الحلف كاذبا بالله، ولا يصوم إلا القليل عن الغضب والبطش والأذى. وليس الصيام ـ في الحقيقة ـ إلا تدريب خلقي، ليس الصوم جوعا وعطشا فقط، خلق الله ملائكة، وخلق شياطين وخلق وحوشا وسباعاً. فالملك خير كله، والشيطان شر كله، والسبع طبيعته البطش، لولاه ما عاش، وخلق الإنسان من الثلاثة جميعاً، ففي الإنسان ملك وشيطان وسبع، الملك له الإيمان والرحمة والطاعة والخشوع والسمو النفسي، والشيطان له الشهوة المحرمة والكذب والاحتيال والإفساد، والسبع له الغضب والبطش والقهر. والصيام في الحقيقة صيام عن السبعية والشيطانية؛ لتخلص النفس في هذا الشهر للملكية. فإذا لم تظهر على الصائم أخلاق الملائكة، وإذا بقي يغضب ويبطش كالسبع، ويشتهي ويفسد كالشيطان، فإنه لم يعرف حقيقة الصيام.
لقد كان رمضان الذي يجيء دمشق من أربعين سنة رمضان حقيقيا، وما أدري أمات وجاء غيره، أم قد شاخ وعجز أن يطوف دمشق كلها فصار يثبت وجوده في المفكرة والتقويم وفي أضواء المآذن ومدافع القلعة فقط، فقط لا غير، أم أنا الذي تغير وتبدل؟ كنت أنظر قبل أربعين سنة بعين صبي لم يقترف إثماً. فكنت أرى رمضان، فلما أثقلت الآثام أجفاني لم أعد أراه!
وكان أهل دمشق في مثل طهارة الأطفال، لم تشوه أصباغ الحضارة طبيعة الحسن في نفوسهم، ولم تفسد الشبه والعصبيات جمال الأخوة بين أفرادهم، ولم تكن قد هتكت أستار الصيانة، ولا مزقت براقع الحياء، كانت المرأة لزوجها وولدها وربها، والرجل لزوجته وولده وربه، فكانوا يرون رمضان كلهم. يرون هلاله في الأفق، ونوره في القلوب، وأثره في البيوت والأسواق والمدارس والمساجد، يشعرون ـ حقا ـ أن قافلة العمر كانت تمشي بهم في صحراء مجدبة، فإذا كان رمضان مشت في الواحة التي تعقب بريّا الأزاهير وترقص على أنغام الشحارير، فيكون من ذلك أنس للنفس وراحة للروح.
فأين ذلك الرمضان؟ أين هو؟ دلوني عليه دلوني عليه أجد فيه ماضي الذي فقدته، وأُنسي الذي أضعته. رمضان الذي يتوب فيه كل عاصٍ، ويتصل فيه كل منقطع، ويشهد فيه كل محجوب، وتسطع فيه الأنوار في كل قلب، حتى لتمتلئ بالرضا والاطمئنان والحب، ويقوم الناس في الأسحار ساعة يتجلى الله على الوجود تجلي الرحمة والغفران وينادي المنادي من السماء: ألا من سائل فأعطيه ألا من مستغفر فأغفره، فيهتفون من أعماق قلوبهم: يا أرحم الراحمين، ويسألون الله ويستغفرونه، فيحسون أن قد صعدوا بأرواحهم إلى حيث يرون الأرض كلها ومن عليها ذرة تجول في هذا الفضاء. الدنيا كلها بأطماعها وأحقادها ومغرياتها، ويتذوقون أعظم اللذات، اللذة التي لا تقاربها لذة، لذة الاتصال بالله، ومناجاته في سكنات الليل، وهدأت الأسحار، فتسطع أنوار الإيمان في كل قلب ويمتلئ بالرضا والاطمئنان والحب، والقلب كالنسر الذي يضرب بجناحه في طباق السماء ولكنا قيدناه بقيود المادة، ثم أغرقناه في حمأة المطامع والشهوات. فكيف يطير نسر مقيد الجناح غارق في الطين؟
هذا هو رمضان.؟.. فحلوا القيود عن قلوبكم واغسلوها من أوضار الحمأة التي غمستموها فيها، ودعوها ترتفع لتطلّع على جمال الوجود، وترى من هذا المرقب العالي جمال رمضان.
منقول ---