ام حفصه
14 Aug 2010, 06:09 PM
الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلقه ومصطفاه وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
إن الله تعالى شرع الصوم لعباده رحمة لهم وعناية بهم فهو الغني الذي لا يضن عليهم برزقه، كيف؟! وهو الذي جاد عليهم بالجود قبل الوجود وتكفل لهم بإيصال أرزاقهم وحوائجهم مع كلتا حالتيهم من إقرار وجحود..
ولا أراد لهم العنت والمشقة أو العذاب بالجوع والعطش، وهو الرؤوف بهم والرحيم لشأنهم؟!
وإنما أراد لهم عبادة تكف النفس عن شهواتها وتردعها عن غيها فيصير العبد المؤمن سيداً عليها لا عبداً لها.. فيرتفع بها عن ضعة الحيوانات اللائكة إلى رتبة الصديقين والملائكة..
فيترك العبد طعامه وشرابه وشهوته لله كمن لا حاجة له في هذه الدنيا إلا رضاه والمسارعة في الخيرات ولسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ} [طه: 84].
ومن أعظم ثمرات الصوم: الإقبال على الله وتحصيل التقوى التي لا تُنال بشيء مثله، وكسر شهوات النفس، والنشاط للعبادة، والشعور بحال المعوزين وذلة المحتاجين فيرق قلب الصائم لهم ويحمد نعمة الله عليه ويقبل على الزهد والتخلي، ويرغب فيما عند الله.
وأعظم ما فيه من اللطائف والمنن هو شهود حكمة الله وحكمه وشرعه وتشريعه، وشهود مقام الرسول وصدقه فإن الدعي ـوحاشاهـ لا يأمر الناس بما يعسر معيشتهم ويشق على أنفسهم ويلجم شهواتهم، وفيه شهود معجزة الدين الباهرة وحجته البالغة فإتباع الناس له ولو مع شقاء أبدانهم في الظاهر لما يصلح لهم من حال معاشهم ومعادهم وشيء يجدونه في قلوبهم، لهو دليل أنه من عند الله..
ومن أجل ذلك وغيره كثير، قال سيد الورى صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» (متفق عليه واللفظ للبخاري) ولننعم بالسياحة في روض هذا الحديث العاطر قليلاً أقول:
في ذات الإله:
فكل الأركان "راحة للعبد" في سبيل الله فالشهادتين راحة من الشرك والشركاء المتشاكسين ومن المناهج المنحرفة وتقلبها وانتكاسها، والصلاة راحة من التوجه لمن لا ينفع ولا يضر ولا يغني شيئاً، والزكاة راحة من حقد الفقير وإضراره وأمل في كفالة الغني إذا احتاج أو أدركه العوز، والحج شهود لحالة الذل الجماعي وشهود عز الربوبية وهكذا، إذ أن جميع هذه الطاعات هي عبودية وخدمة فهي مناسبة للحال، إلا الصوم فهو "تعب للعبد" من أجل مرضات الله فهو ترك -لا للحركات والممارسات- وإنما لأمس حاجات الإنسان الفطرية والبدنية من الشهوة والطعام والشراب، فهو من باب التنزه والترقي.
لم ينصرف لغير الله قط:
وهو العبادة الوحيدة التي لم تنصرف قط لغير الله، فربما شهد الناس لمخلوق بالألوهية بغير حق، وربما سجدوا له أو ركعوا، وربما تكافلوا بنظم اجتماعية ومؤسسات تأمينية وغيرها، وربما حجوا لغير الله من حجر أو شجر أو بشر، وربما دخلوا على الملوك دخول الذليل الصعلوك ليزيدوا في كبره وجبروته، لكن الصوم له شأن آخر فإنه لا صوم إلا لله وإلا فخبروني متى صام أحد من أجل أحد؟! ومتى تعبد المتعبدون أو تحنث المتحنثون لسمعه أو لبصره في غيبته أو أمن حضوره، فلا والله ما كان، ولو كان لتعب المعبود -بالباطل- من عابديه وتعذب بكثرة مراقبة صائميه؟! إلا السميع البصير الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
مراقي الصعود:
والصوم رفع للعبد في مراقي الصعود من الطاعة والكمالات شهراً كاملاً، فكيف له أن يتسافل في دركات المعصية والدناءات بقية العام؟!
لا رياء فيه:
و «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» إذ لا يظهر ولا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فبقية العبادات إنما تكون بالحركات والسكنات إلا الصوم فإنه يكون بالنيات والامتناعات.. فلذا لا يدخله شوب الرياء في ظاهره إلا قليلاً ولذلك قال: «من أجلي» و في الحديث الضعيف: «ليس في الصوم رياء» (رواه البيهقي) ولو صح لحسم المسألة..
أعظم السر:
وسرية الصوم أعظم من بقية العبادات، والله تعالى هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فهو الذي يعلم الخطرات والنظرات فضلاً عن فلتات اللسان وغيرها مما قد ينغص الصوم فيجزي بكل ذلك لأنه أعلم به، فالصوم من أعظم ما يتحقق فيه مقام الإحسان! الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (رواه مسلم وغيره).
قد لا يقتص منه:
وربما كان معناه أنه يقتص للمظلومين يوم القيامة من أجر كل عمل ابن آدم إلا الصوم فإنه لا يقتص منه (على قول بعض أهل العلم)، قال صلى الله عليه وسلم: «لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا الذي أجزي به» (رواه البخاري) تفسرها رواية أحمد من هذا الوجه: «كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» (مسند أحمد)، وربما كان في هذا نظر إذ يرده خبر مسلم: "أنهم يتعلقون حتى بالصوم(1)".
ثواب لا يحصيه العد:
إذاً فلكل عبادة أجر ولكل طاعة ثواب، فالحسنة بعشر أمثالها، حتى سبعمائة ضعف أما الصوم فله أجر لا يعلمه إلا من بيده خزائن السموات والأرض، فلا يعد عداً ولا يوزن وزنا ولا يكال كيلاً ولا يثاب أو يضاعف مضاعفة كبقية العبادات وإنما يحثى حثواً وينهال فضلاً وكرماً لا يحصيه إلا هو سبحانه فقوله: «لي وأنا أجزي به» تعظيم وتهويل للثواب إذ هو على قدر وعظم من يجزي به، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» مسلم (1151) أي أجازي عليه جزاء كثيرا من غير تعيين لمقداره..
كل الصبر فيه:
والصوم جماع الصبر فهو صبر على الطاعات وصبر عن المحرمات وصبر على المنغصات، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
العلة الغائية ومقصود الأجلية:
وقوله: «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» فسرها هو نفسه بقوله في لفظ مسلم: «إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي» (متفق عليه واللفظ لمسلم)، فالإخلاص في الصيام أعظم منه في غيره، فلا يعلم تلكم العلة الغائية ومقصود الأجلية إلا الله، فالصوم له إذ هو سر بينه وبين عبده لا يطلع على حقيقته إلا هو لا في النية والقصد ـبمعنى الباعث- فحسب، وإلا فهذا مشترك بين الصيام وغيره من العبادات التي يتعبد بها الإنسان، وإنما في حقيقة أداء العبادة نفسها فمن صلى بكيفية صحيحة تامة فقد أدى الصلاة ظاهراً والله أعلم بباطنه وكذلك سائر العبادات إلا الصوم فإن حقيقته الباطنة قريبة من حقيقته الظاهرة وهذه تنحل بالقليل اليسير جداً مما لا يطلع عليه إلا الله.
تشبه بالنورانيين:
والصوم ترك للطعام والشراب والشهوة فهو تشبه بالملائكة الكرام وارتقاء بالروح النورانية إلى درجة تقربها مما خلقها الله عليه أول مرة، وفي ترك ما ذكر تضييق لمجاري الشياطين في الدم فهو مقربة لله وخزي لعدو الله.
أثير عند الله:
«إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به» وحسب الصوم شرفاً أن الله نسبه لذاته العلية فهو من أحب العبادات إليه وأشرفها عنده، فهو تخصيص قي سياق العموم للتعظيم، كقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26]، وقوله: {نَاقَةُ اللَّـهِ} [الأعراف:73]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك بالصوم، فإنه لا مثل له» (النسائي: 2220 وصححه الألباني)، فكأنه قال: هو العبادة الأفضل والآثر عندي، ولهذا جعل جزاء الصائمين عليه فرفع الوساطة بينه وبين الصائمين في علم مقدار الأجر والثواب كما رفعها بينه عز وجل وبين الداعين في الإجابة.
قبول الدعاء ولطائف المنن:
والصيام من أدعي أسباب قبول الدعاء و لهذا ذكرت آية الدعاء بين صيامين قال تبارك وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] ثم قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] وأتبع ذلك بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، وفيها أربعة لطائف:
الأولى: أنها بينية لآيات الصيام وكأنها إشارة لأولوية قبول دعاء الصائمين.
الثانية: لم يجعل الله عز وجل بينه وبين خلقه واسطة في إجابة الدعاء ولو جعلوا هم واسطة في السؤال عليه!! فتجد في كتاب الله ثلاثة عشرة موضعاً: يسئلونك عن كذا -قل: كذا، مثل قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] وغيرها.. وهو معروف من كتاب الله، ولما سألوه صلى الله عليه وسلم عن ربهم عز وجل: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأجابهم بنفسه عن نفسه فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] فرفع الوسائط من بينه وبينهم ولو واسطة اللفظ تقرباً وتحبباً.
الثالثة: التعبير بلفظة إذا دعان يفيد تحقق الإجابة بمجرد الدعاء.
الرابعة: ختم الله تبارك اسمه كلامه عن الصيام بآية: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ..} [البقرة: 188] وكأنها ثمرة الصيام الامتناع عن أكل أموال الناس بالباطل وكيف لا و الصيام امتناع عن أكل مالك أنت بالحق فكيف تأكل بعده أموال الناس؟!
كيف إن صام عن الحلال؟!
والصيام امتناع عن الحلال من الطعام والشراب والنكاح، وهو من باب أولى امتناع عن الحرام فيها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له» [مسلم: 1015]
وربما كان السلام ترك الكلام:
ثم إن من الصيام صيام عن الكلام المباح استحباباً، قال تعالى:{قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41] وقال: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم: 26]، وكذلك هو امتناع عن الكلام المحرم، كالفحش والغيبة والنميمة وقول الباطل، قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (البخاري وغيره).
وعاء زمانه رمضان:
والصوم يكون في رمضان وهو خير شهر وفيه أنزل القرآن وهو شهر الله فكان حرياً بالصوم أن يكون لله ويكون جزاؤه على الله، فرمضان مشتق من: الإرماض وهو الإحراق فالصوم يحرق الذنوب والخطايا، والرميض وهو الحاد إذ هو يمضي عزم المؤمن ويشحذ همته للطاعات وفعل الخيرات، ومن الرمض وهو الانتظار إذ يترقبون إفطارهم وعيدهم وثوابهم، ورمض الظبي إذا انغرز في الرمل الحار فاستسلم واستكان فكذا العبد المؤمن يكون بالصيام لله(2)..
فاللهم بلغنا رمضان واكتب لنا صيامه وقيامه وتقبل منا إنك أنت السميع العليم..
-------------------------------------------------
(1) مستفاد من: [نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 14/221].
(2) مستفاد من [طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية] للنسفي رحمه الله.
طريق الاسلام ---
إن الله تعالى شرع الصوم لعباده رحمة لهم وعناية بهم فهو الغني الذي لا يضن عليهم برزقه، كيف؟! وهو الذي جاد عليهم بالجود قبل الوجود وتكفل لهم بإيصال أرزاقهم وحوائجهم مع كلتا حالتيهم من إقرار وجحود..
ولا أراد لهم العنت والمشقة أو العذاب بالجوع والعطش، وهو الرؤوف بهم والرحيم لشأنهم؟!
وإنما أراد لهم عبادة تكف النفس عن شهواتها وتردعها عن غيها فيصير العبد المؤمن سيداً عليها لا عبداً لها.. فيرتفع بها عن ضعة الحيوانات اللائكة إلى رتبة الصديقين والملائكة..
فيترك العبد طعامه وشرابه وشهوته لله كمن لا حاجة له في هذه الدنيا إلا رضاه والمسارعة في الخيرات ولسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ} [طه: 84].
ومن أعظم ثمرات الصوم: الإقبال على الله وتحصيل التقوى التي لا تُنال بشيء مثله، وكسر شهوات النفس، والنشاط للعبادة، والشعور بحال المعوزين وذلة المحتاجين فيرق قلب الصائم لهم ويحمد نعمة الله عليه ويقبل على الزهد والتخلي، ويرغب فيما عند الله.
وأعظم ما فيه من اللطائف والمنن هو شهود حكمة الله وحكمه وشرعه وتشريعه، وشهود مقام الرسول وصدقه فإن الدعي ـوحاشاهـ لا يأمر الناس بما يعسر معيشتهم ويشق على أنفسهم ويلجم شهواتهم، وفيه شهود معجزة الدين الباهرة وحجته البالغة فإتباع الناس له ولو مع شقاء أبدانهم في الظاهر لما يصلح لهم من حال معاشهم ومعادهم وشيء يجدونه في قلوبهم، لهو دليل أنه من عند الله..
ومن أجل ذلك وغيره كثير، قال سيد الورى صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» (متفق عليه واللفظ للبخاري) ولننعم بالسياحة في روض هذا الحديث العاطر قليلاً أقول:
في ذات الإله:
فكل الأركان "راحة للعبد" في سبيل الله فالشهادتين راحة من الشرك والشركاء المتشاكسين ومن المناهج المنحرفة وتقلبها وانتكاسها، والصلاة راحة من التوجه لمن لا ينفع ولا يضر ولا يغني شيئاً، والزكاة راحة من حقد الفقير وإضراره وأمل في كفالة الغني إذا احتاج أو أدركه العوز، والحج شهود لحالة الذل الجماعي وشهود عز الربوبية وهكذا، إذ أن جميع هذه الطاعات هي عبودية وخدمة فهي مناسبة للحال، إلا الصوم فهو "تعب للعبد" من أجل مرضات الله فهو ترك -لا للحركات والممارسات- وإنما لأمس حاجات الإنسان الفطرية والبدنية من الشهوة والطعام والشراب، فهو من باب التنزه والترقي.
لم ينصرف لغير الله قط:
وهو العبادة الوحيدة التي لم تنصرف قط لغير الله، فربما شهد الناس لمخلوق بالألوهية بغير حق، وربما سجدوا له أو ركعوا، وربما تكافلوا بنظم اجتماعية ومؤسسات تأمينية وغيرها، وربما حجوا لغير الله من حجر أو شجر أو بشر، وربما دخلوا على الملوك دخول الذليل الصعلوك ليزيدوا في كبره وجبروته، لكن الصوم له شأن آخر فإنه لا صوم إلا لله وإلا فخبروني متى صام أحد من أجل أحد؟! ومتى تعبد المتعبدون أو تحنث المتحنثون لسمعه أو لبصره في غيبته أو أمن حضوره، فلا والله ما كان، ولو كان لتعب المعبود -بالباطل- من عابديه وتعذب بكثرة مراقبة صائميه؟! إلا السميع البصير الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
مراقي الصعود:
والصوم رفع للعبد في مراقي الصعود من الطاعة والكمالات شهراً كاملاً، فكيف له أن يتسافل في دركات المعصية والدناءات بقية العام؟!
لا رياء فيه:
و «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» إذ لا يظهر ولا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فبقية العبادات إنما تكون بالحركات والسكنات إلا الصوم فإنه يكون بالنيات والامتناعات.. فلذا لا يدخله شوب الرياء في ظاهره إلا قليلاً ولذلك قال: «من أجلي» و في الحديث الضعيف: «ليس في الصوم رياء» (رواه البيهقي) ولو صح لحسم المسألة..
أعظم السر:
وسرية الصوم أعظم من بقية العبادات، والله تعالى هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فهو الذي يعلم الخطرات والنظرات فضلاً عن فلتات اللسان وغيرها مما قد ينغص الصوم فيجزي بكل ذلك لأنه أعلم به، فالصوم من أعظم ما يتحقق فيه مقام الإحسان! الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (رواه مسلم وغيره).
قد لا يقتص منه:
وربما كان معناه أنه يقتص للمظلومين يوم القيامة من أجر كل عمل ابن آدم إلا الصوم فإنه لا يقتص منه (على قول بعض أهل العلم)، قال صلى الله عليه وسلم: «لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا الذي أجزي به» (رواه البخاري) تفسرها رواية أحمد من هذا الوجه: «كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» (مسند أحمد)، وربما كان في هذا نظر إذ يرده خبر مسلم: "أنهم يتعلقون حتى بالصوم(1)".
ثواب لا يحصيه العد:
إذاً فلكل عبادة أجر ولكل طاعة ثواب، فالحسنة بعشر أمثالها، حتى سبعمائة ضعف أما الصوم فله أجر لا يعلمه إلا من بيده خزائن السموات والأرض، فلا يعد عداً ولا يوزن وزنا ولا يكال كيلاً ولا يثاب أو يضاعف مضاعفة كبقية العبادات وإنما يحثى حثواً وينهال فضلاً وكرماً لا يحصيه إلا هو سبحانه فقوله: «لي وأنا أجزي به» تعظيم وتهويل للثواب إذ هو على قدر وعظم من يجزي به، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» مسلم (1151) أي أجازي عليه جزاء كثيرا من غير تعيين لمقداره..
كل الصبر فيه:
والصوم جماع الصبر فهو صبر على الطاعات وصبر عن المحرمات وصبر على المنغصات، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
العلة الغائية ومقصود الأجلية:
وقوله: «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» فسرها هو نفسه بقوله في لفظ مسلم: «إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي» (متفق عليه واللفظ لمسلم)، فالإخلاص في الصيام أعظم منه في غيره، فلا يعلم تلكم العلة الغائية ومقصود الأجلية إلا الله، فالصوم له إذ هو سر بينه وبين عبده لا يطلع على حقيقته إلا هو لا في النية والقصد ـبمعنى الباعث- فحسب، وإلا فهذا مشترك بين الصيام وغيره من العبادات التي يتعبد بها الإنسان، وإنما في حقيقة أداء العبادة نفسها فمن صلى بكيفية صحيحة تامة فقد أدى الصلاة ظاهراً والله أعلم بباطنه وكذلك سائر العبادات إلا الصوم فإن حقيقته الباطنة قريبة من حقيقته الظاهرة وهذه تنحل بالقليل اليسير جداً مما لا يطلع عليه إلا الله.
تشبه بالنورانيين:
والصوم ترك للطعام والشراب والشهوة فهو تشبه بالملائكة الكرام وارتقاء بالروح النورانية إلى درجة تقربها مما خلقها الله عليه أول مرة، وفي ترك ما ذكر تضييق لمجاري الشياطين في الدم فهو مقربة لله وخزي لعدو الله.
أثير عند الله:
«إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به» وحسب الصوم شرفاً أن الله نسبه لذاته العلية فهو من أحب العبادات إليه وأشرفها عنده، فهو تخصيص قي سياق العموم للتعظيم، كقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26]، وقوله: {نَاقَةُ اللَّـهِ} [الأعراف:73]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك بالصوم، فإنه لا مثل له» (النسائي: 2220 وصححه الألباني)، فكأنه قال: هو العبادة الأفضل والآثر عندي، ولهذا جعل جزاء الصائمين عليه فرفع الوساطة بينه وبين الصائمين في علم مقدار الأجر والثواب كما رفعها بينه عز وجل وبين الداعين في الإجابة.
قبول الدعاء ولطائف المنن:
والصيام من أدعي أسباب قبول الدعاء و لهذا ذكرت آية الدعاء بين صيامين قال تبارك وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] ثم قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] وأتبع ذلك بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، وفيها أربعة لطائف:
الأولى: أنها بينية لآيات الصيام وكأنها إشارة لأولوية قبول دعاء الصائمين.
الثانية: لم يجعل الله عز وجل بينه وبين خلقه واسطة في إجابة الدعاء ولو جعلوا هم واسطة في السؤال عليه!! فتجد في كتاب الله ثلاثة عشرة موضعاً: يسئلونك عن كذا -قل: كذا، مثل قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] وغيرها.. وهو معروف من كتاب الله، ولما سألوه صلى الله عليه وسلم عن ربهم عز وجل: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأجابهم بنفسه عن نفسه فقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] فرفع الوسائط من بينه وبينهم ولو واسطة اللفظ تقرباً وتحبباً.
الثالثة: التعبير بلفظة إذا دعان يفيد تحقق الإجابة بمجرد الدعاء.
الرابعة: ختم الله تبارك اسمه كلامه عن الصيام بآية: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ..} [البقرة: 188] وكأنها ثمرة الصيام الامتناع عن أكل أموال الناس بالباطل وكيف لا و الصيام امتناع عن أكل مالك أنت بالحق فكيف تأكل بعده أموال الناس؟!
كيف إن صام عن الحلال؟!
والصيام امتناع عن الحلال من الطعام والشراب والنكاح، وهو من باب أولى امتناع عن الحرام فيها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له» [مسلم: 1015]
وربما كان السلام ترك الكلام:
ثم إن من الصيام صيام عن الكلام المباح استحباباً، قال تعالى:{قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41] وقال: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم: 26]، وكذلك هو امتناع عن الكلام المحرم، كالفحش والغيبة والنميمة وقول الباطل، قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (البخاري وغيره).
وعاء زمانه رمضان:
والصوم يكون في رمضان وهو خير شهر وفيه أنزل القرآن وهو شهر الله فكان حرياً بالصوم أن يكون لله ويكون جزاؤه على الله، فرمضان مشتق من: الإرماض وهو الإحراق فالصوم يحرق الذنوب والخطايا، والرميض وهو الحاد إذ هو يمضي عزم المؤمن ويشحذ همته للطاعات وفعل الخيرات، ومن الرمض وهو الانتظار إذ يترقبون إفطارهم وعيدهم وثوابهم، ورمض الظبي إذا انغرز في الرمل الحار فاستسلم واستكان فكذا العبد المؤمن يكون بالصيام لله(2)..
فاللهم بلغنا رمضان واكتب لنا صيامه وقيامه وتقبل منا إنك أنت السميع العليم..
-------------------------------------------------
(1) مستفاد من: [نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 14/221].
(2) مستفاد من [طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية] للنسفي رحمه الله.
طريق الاسلام ---