النعمانى
21 Aug 2010, 11:17 AM
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال -تعالى-: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن:46)، فالجنة التي يأمن فيها جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما كما صح ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (متفق عليه)، وهؤلاء أصحاب أعلى المقامات، وهم السابقون؛ لأن الله -عز وجل- قال بعد ذلك: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) (الرحمن:62)، فبعد أن وصف حال الأعلى وصف حال الأدنى، فقال: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ)، فدل هذا على أن السابقين إلى الله -عز وجل- يخافون من الله، وهذا يُبطل قول غلاة التصوف أن الخوف من الله من مقامات العوام وليس من مقامات الخواص ولا خواص الخواص، وأما مقامات الخواص فيزول فيها الخوف بالكلية، ولا تبقى إلا الهيبة أي التعظيم، وهذا كلام باطل؛ فإن المؤمن كلما ازداد صلاحًا وسبقًا كلما خاف من الله -عز وجل- أكثر، وخاف أن يضيع ما قربه الله -عز وجل- به إليه، وما اختصه الله به، فكلما اقترب ازداد خوفًا حتى يأمن بدخول الجنة بسماع قول الله -عز وجل-: (يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (الزخرف:68)، فهنا يأمن، وأما قبل ذلك فلا يزال بين الخوف والرجاء.
وَعَد الله من خاف مقامه بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة، قال الله -عز وجل-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم:13-14)، وكلما ازددنا خوفًا من الله -خوفًا من مقامه وخوفًا من وعيده- كلما اقتربنا من النصر والتمكين ومن إجابة الدعاء؛ لأن الله -عز وجل- قال بعدها: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (إبراهيم:15)، فمن استحضر أمر الآخرة وعظَّم الله -عز وجل- فخاف مقام الله وخاف وعيده؛ فإنه عندما يدعو يخيب أمام دعوته واستفتاحه كل جبار عنيد، والاستفتاح هو طلب الفتح من الله، فقوله هنا: (وَاسْتَفْتَحُوا) مثل قول شعيب -عليه السلام-: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (الأعراف:89)، أي: احكم وافصل بيننا، فإذا فصل الله -عز وجل- وهو خير الفاصلين حكم لعباده المؤمنين، وأهلك الظالمين، وخاب كل جبار عنيد في الدنيا والآخرة.
وفُسِّر خوف مقام الرب -سبحانه وتعالى- تفسيرين، وكلٌّ منهما ملازم للآخر:
التفسير الأول: الخوف من مقام الرب على عباده بالإطلاع والقدرة والربوبية، فقوله: (مَقَامَ رَبِّهِ) من إضافة الفعل إلى فاعله، ومعناه: خوف مقام الرب على عبده بالإطلاع، فهو مطَّلِع عليه، يدبر أمره، وهو -عز وجل- قائم على كل نفس بما كسبت، وهو الذي يقوم عليه بالحساب أيضًا، فهو قائم عليهم بما كسبوا، يعلم ما يفعلون، ويحاسبهم عليه.
التفسير الثاني: أنه خوف مقام العبد بين يدي ربه يوم القيامة، كما قال -عز وجل-: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين:6)، فهو موقف فظيع شديد، تقف فيه سنين طوالاً منتظرًا الفصل، ثم تُوقَف بين يديه عاريًا محتاجًا ضعيفًا فقيرًا وليس معك أحد، وليس بين يديك شيء إلا عملك، ولا يقيك إلا عملك، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) (متفق عليه).
فكلا المعنيين واجب، وهما متلازمان، ولابد أن يتذكر العبد موقفه بين يدي الله -عز وجل-، ومما يعينه على ذلك أن يتذكر أن الله -عز وجل- قائم عليه، مطلع عليه، قادر عليه في كل لحظة من لحظاته، فالتفسيران وإن اختلفا في العبارة أو في حقيقة المعنى إلا أن المعنيين متلازمان؛ لأن الذي شهد قيام الرب عليه وعلى غيره وأنه قيَّام السماوات والأرض وقيومهما لابد أن يخاف موقفه وقيامه بين يدي الله -عز وجل- للحساب.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلجَامًا) (رواه مسلم).
قال ابن كثير: "وفي حديث أنهم يقومون سبعين سنة لا يتكلمون، وقيل: يقومون ثلاثمائة سنة، وقيل: يقومون أربعين ألف سنة، ويُقضى بينهم في مقدار عشرة آلاف سنة" "تفسير ابن كثير 8/348".
لو وقف أحدنا عدة ساعات فقط لانهار ولما استطاع أن يكمل، فما بالنا والموقف في الآخرة خمسين ألف سنة، كما قال -تعالى-: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج:4)، نسأل الله العافية.
وكلا المعنيين من خوف المقام واجب مع خوف الوعيد، كما قال -تعالى-: (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم:14)، ووالله لو لم يكن إلا الفضيحة وخوف أن يغضب الله عليه؛ لكان ذلك كافيًا، ولو لم يكن عذاب إلا غضب الرب وعدم رضاه عنك وحياؤك من موقفك بين يديه حين تدعى فتُعرض عليك سيئاتك حتى إذا ظننت أنك قد هلكت قال الله -عز وجل-: (فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) (متفق عليه).. لو لم يكن إلا هذه اللحظة الرهيبة التي يظن فيها أنه قد هلك أعظم الهلاك وأنه قد وقع عليه سخط الرب -عز وجل- وغضبه، ثم يغفر الله له؛ لكان ذلك كافيًا.
ولهذا قال مَن قال مِن السلف: "يا ليتني كنت شجرة تُعضد ثم تؤكل"، و"يا ليت أمي لم تلدني"؛ لأنه يريد أن لا تمر عليه هذه اللحظة، بالرغم من أن هذا الذي يقول الله له: (فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) ينجو لأول وهلة، ولا يدخل النار أصلاً، بل يُؤتى كتابه بيمينه، فكيف بموقف العبد الذي يغضب الله -عز وجل- عليه ويأمر به إلى النار -والعياذ بالله- ويقول: (خُذُوهُ)، فتبادر الملائكة إلى هذا العبد أعظم مبادرة، فيأخذ هذا يده، ويأخذ هذا رجله، ويضع آخر الأغلال في عنقه كما أمر الله -تعالى-: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ)، فيؤخذ إلى العذاب، ومعنى: (فَغُلُّوهُ) أي: ضعوا الأغلال في عنقه، (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ليحترق فيها، (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ)، أي: أدخلوا السلسلة من فمه وأخرجوها من دبره ليكون كالحيوان الذى يُشوى والعياذ بالله، فتُجعل أسياخ عند رقبته حتى تخرج من دبره، وهذا يُفعل به وهو حيٌّ، ولا يموت ولا يحيا، (إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ . وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ . فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ . وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ . لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ) (الحاقة:30-37)، والعياذ بالله.
فخوف وعيد الله -عز وجل- واجب، وقال الله -عز وجل- عن الكفار: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)، فوقهم غمامات من النار تغطيهم، وتحتهم فرش من النار، (ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) (الزمر:16)، أيجوز بعد ذلك أن يقول إنسان: "أنا لا أخاف النار"، أو "لا أخاف القيامة"؟ والله من قال هذه الكلمات لا يكون مؤمنًا بالقرآن العظيم.
وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصدر موقع صوت السلف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال -تعالى-: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن:46)، فالجنة التي يأمن فيها جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما كما صح ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (متفق عليه)، وهؤلاء أصحاب أعلى المقامات، وهم السابقون؛ لأن الله -عز وجل- قال بعد ذلك: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) (الرحمن:62)، فبعد أن وصف حال الأعلى وصف حال الأدنى، فقال: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ)، فدل هذا على أن السابقين إلى الله -عز وجل- يخافون من الله، وهذا يُبطل قول غلاة التصوف أن الخوف من الله من مقامات العوام وليس من مقامات الخواص ولا خواص الخواص، وأما مقامات الخواص فيزول فيها الخوف بالكلية، ولا تبقى إلا الهيبة أي التعظيم، وهذا كلام باطل؛ فإن المؤمن كلما ازداد صلاحًا وسبقًا كلما خاف من الله -عز وجل- أكثر، وخاف أن يضيع ما قربه الله -عز وجل- به إليه، وما اختصه الله به، فكلما اقترب ازداد خوفًا حتى يأمن بدخول الجنة بسماع قول الله -عز وجل-: (يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (الزخرف:68)، فهنا يأمن، وأما قبل ذلك فلا يزال بين الخوف والرجاء.
وَعَد الله من خاف مقامه بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة، قال الله -عز وجل-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم:13-14)، وكلما ازددنا خوفًا من الله -خوفًا من مقامه وخوفًا من وعيده- كلما اقتربنا من النصر والتمكين ومن إجابة الدعاء؛ لأن الله -عز وجل- قال بعدها: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (إبراهيم:15)، فمن استحضر أمر الآخرة وعظَّم الله -عز وجل- فخاف مقام الله وخاف وعيده؛ فإنه عندما يدعو يخيب أمام دعوته واستفتاحه كل جبار عنيد، والاستفتاح هو طلب الفتح من الله، فقوله هنا: (وَاسْتَفْتَحُوا) مثل قول شعيب -عليه السلام-: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (الأعراف:89)، أي: احكم وافصل بيننا، فإذا فصل الله -عز وجل- وهو خير الفاصلين حكم لعباده المؤمنين، وأهلك الظالمين، وخاب كل جبار عنيد في الدنيا والآخرة.
وفُسِّر خوف مقام الرب -سبحانه وتعالى- تفسيرين، وكلٌّ منهما ملازم للآخر:
التفسير الأول: الخوف من مقام الرب على عباده بالإطلاع والقدرة والربوبية، فقوله: (مَقَامَ رَبِّهِ) من إضافة الفعل إلى فاعله، ومعناه: خوف مقام الرب على عبده بالإطلاع، فهو مطَّلِع عليه، يدبر أمره، وهو -عز وجل- قائم على كل نفس بما كسبت، وهو الذي يقوم عليه بالحساب أيضًا، فهو قائم عليهم بما كسبوا، يعلم ما يفعلون، ويحاسبهم عليه.
التفسير الثاني: أنه خوف مقام العبد بين يدي ربه يوم القيامة، كما قال -عز وجل-: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين:6)، فهو موقف فظيع شديد، تقف فيه سنين طوالاً منتظرًا الفصل، ثم تُوقَف بين يديه عاريًا محتاجًا ضعيفًا فقيرًا وليس معك أحد، وليس بين يديك شيء إلا عملك، ولا يقيك إلا عملك، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) (متفق عليه).
فكلا المعنيين واجب، وهما متلازمان، ولابد أن يتذكر العبد موقفه بين يدي الله -عز وجل-، ومما يعينه على ذلك أن يتذكر أن الله -عز وجل- قائم عليه، مطلع عليه، قادر عليه في كل لحظة من لحظاته، فالتفسيران وإن اختلفا في العبارة أو في حقيقة المعنى إلا أن المعنيين متلازمان؛ لأن الذي شهد قيام الرب عليه وعلى غيره وأنه قيَّام السماوات والأرض وقيومهما لابد أن يخاف موقفه وقيامه بين يدي الله -عز وجل- للحساب.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلجَامًا) (رواه مسلم).
قال ابن كثير: "وفي حديث أنهم يقومون سبعين سنة لا يتكلمون، وقيل: يقومون ثلاثمائة سنة، وقيل: يقومون أربعين ألف سنة، ويُقضى بينهم في مقدار عشرة آلاف سنة" "تفسير ابن كثير 8/348".
لو وقف أحدنا عدة ساعات فقط لانهار ولما استطاع أن يكمل، فما بالنا والموقف في الآخرة خمسين ألف سنة، كما قال -تعالى-: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج:4)، نسأل الله العافية.
وكلا المعنيين من خوف المقام واجب مع خوف الوعيد، كما قال -تعالى-: (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (إبراهيم:14)، ووالله لو لم يكن إلا الفضيحة وخوف أن يغضب الله عليه؛ لكان ذلك كافيًا، ولو لم يكن عذاب إلا غضب الرب وعدم رضاه عنك وحياؤك من موقفك بين يديه حين تدعى فتُعرض عليك سيئاتك حتى إذا ظننت أنك قد هلكت قال الله -عز وجل-: (فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) (متفق عليه).. لو لم يكن إلا هذه اللحظة الرهيبة التي يظن فيها أنه قد هلك أعظم الهلاك وأنه قد وقع عليه سخط الرب -عز وجل- وغضبه، ثم يغفر الله له؛ لكان ذلك كافيًا.
ولهذا قال مَن قال مِن السلف: "يا ليتني كنت شجرة تُعضد ثم تؤكل"، و"يا ليت أمي لم تلدني"؛ لأنه يريد أن لا تمر عليه هذه اللحظة، بالرغم من أن هذا الذي يقول الله له: (فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) ينجو لأول وهلة، ولا يدخل النار أصلاً، بل يُؤتى كتابه بيمينه، فكيف بموقف العبد الذي يغضب الله -عز وجل- عليه ويأمر به إلى النار -والعياذ بالله- ويقول: (خُذُوهُ)، فتبادر الملائكة إلى هذا العبد أعظم مبادرة، فيأخذ هذا يده، ويأخذ هذا رجله، ويضع آخر الأغلال في عنقه كما أمر الله -تعالى-: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ)، فيؤخذ إلى العذاب، ومعنى: (فَغُلُّوهُ) أي: ضعوا الأغلال في عنقه، (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ليحترق فيها، (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ)، أي: أدخلوا السلسلة من فمه وأخرجوها من دبره ليكون كالحيوان الذى يُشوى والعياذ بالله، فتُجعل أسياخ عند رقبته حتى تخرج من دبره، وهذا يُفعل به وهو حيٌّ، ولا يموت ولا يحيا، (إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ . وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ . فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ . وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ . لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ) (الحاقة:30-37)، والعياذ بالله.
فخوف وعيد الله -عز وجل- واجب، وقال الله -عز وجل- عن الكفار: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)، فوقهم غمامات من النار تغطيهم، وتحتهم فرش من النار، (ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) (الزمر:16)، أيجوز بعد ذلك أن يقول إنسان: "أنا لا أخاف النار"، أو "لا أخاف القيامة"؟ والله من قال هذه الكلمات لا يكون مؤمنًا بالقرآن العظيم.
وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصدر موقع صوت السلف