الدمعة اليتيمة
23 Aug 2010, 02:06 AM
خرج من غرفة الطبيب مكفهرّ الوجه.. غائر العينين.. لم تستطع ملامح وجهه البسيطة أن تخفي حالة الشرود التي سيطرت عليه.. احتضن قطعة لحمِهِ الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها أربعين يومًا.. أنجب ابنته الصغيرة بعد انتظار دام اثنتي عشرة سنة.. طاف فيها بين الأطباء المشاهير ومراكز الخصوبة وخبراء الأعشاب والإنجاب.. وفي نهاية الأمر تكلل تعبه وما لاقاه من مشقة وعناء بتلك الصغيرة الحسناء «جمانة»..
ورغم كل تلك الظروف الصعبة التي واكبت عملية الإنجاب إلا أنه كان لابد لفصول الابتلاء أن تكتمل.. فقد أنجبت زوجتُه الطفلةَ الصغيرة بمرض خطير في القلب.. أنفق الوالد خلال الأشهر الأربعة التي هي سن «جمانة» كل ما يملك من مال.. حتى استحال بيتهم أثرًا بعد عين..
أخبره الطبيب أن الخطب عظيم.. وأن الطفلة ستعيش حياتها بين الشك واليقين ما لم تُجرَ لها عملية تتكلف مبلغًا طائلاً تنوء به العصبة أولو القوة..
خرج الوالد من المستشفى وهو يحمل همًّا عظيمًا على كاهليه.. ينظر إلى عينيها الصغيرتين اللتين بالكاد تفتحتا فيلين قلبه حتى يكاد يذوب شفقة عليها..
- كيف لتلك المسكينة أن يكون فقري سببًا في شقائها وعذابها؟! كيف سأتحمل ما تشعر به من آلام وأوجاع؟! كيف ستكبر أمام عينيّ وأنا أرى شبح الموت يتربص بها كل لحظة؟!
هكذا حدّث نفسه وهو في طريقه إلى منزله..
فتح باب المنزل.. الكل تبدو على وجهه آثار القلق والترقب.. أخبر أمها الخبر.. زاد همّهما همًّا فوق همّ.. لم تكن من تلكم النسوة اللاتي يكثرن ملامة الأزواج.. كانت عاقلة حكيمة.. استرجعت وسلمت لله أمرها..
رنّ جرس الهاتف.. إنه عم الفتاة يطمئن على نتيجة الكشف..
- ماذا قال الطبيب؟!
- ليس في الأمر جديد.. المرض ذاته الذي كان يشكّ فيه.. ثقب في القلب.. ولا بد من إجراء عملية.. والتكلفة بالدولار..
- سأسديك نصيحة.. اجعل الطبيب آخر الحلول.. سنذهب إلى (البرهومي)..
- وما (البرهومي)؟!
- إنه كاشف البلايا.. الدعاء عنده مستجاب.. ألم تزر قبره من قبل؟!
- كلا.. هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها هذا الاسم..
- إن مسجده في القرية المجاورة لنا.. يبعد عنا ربع ساعة بالسيارة..
- وماذا عن الطبيب؟!
- لن نحتاج إليه.. هذا الرجل موصول بالأسباب العليّة.. لن تندم.. لقد مات منذ مائتي سنة.. ومنذ مات وقُبِِرَ ومسجده الذي قُبِر فيه لا يخلو.. ما بين زائر وداعٍ وذابحٍ وناذر.. والجميع تقضى حاجاتهم..
- دعني أفكر أولاً.. أريد البحث عن جهة تعطيني المال لأجري العملية.. ولكن من أين لي بمثل هذا المبلغ الضخم؟!
- اسمع نصيحتي.. لست في حاجة إلى كل هذا.. زيارة أو زيارتان على الأكثر وتشفى ابنتك تمامًا وتوفر على نفسك عناء البحث عمن يقرضك أو بتعبير أدق «يُذِلُّك».. فالدَّين ذل.. والمقرض غالبًا ما يمارس معك دور المتجبر بماله قبل أن يدفعه إليك.. فمال القرض ليس إلا وسمًا في وجهك تراه بين الناس ضعةً وذلاًّ وصغارًا..
- أرجوك.. دعني أقلّب الأمر في رأسي أولاً.. فقد عدت لتوّي من عند الطبيب.. ولا طاقة لي الآن على التفكير..
- الأمر إليك.. سأنتظر ردك.. ولكن كلما أسرعت كان الأمر في صالحك وابنتِك..
- إن شاء الله.. مع السلامة..
انطلق الوالد إلى غرفته وقد ملأ الحزن رأسه.. لا يستطيع أن يفكر لشدة ما شغل لبّه من مشاكسات في دماغه.. فتلمع في رأسه صورة الطبيب وهو يخبره بحقيقة مرض «جمانة».. ثم صورة أخيه تطغى عليها عندما يتحدث عن بركات (البرهومي) ذلك الولي الصالح.. أو هكذا يقولون.. ثم يرى المحيطين بقبره يدعون ويسجدون.. وآخرون يقفون بباب المسجد يذبحون ويتمرغون.. وآخرون يضعون مبالغ بالآلاف في صندوق النذور.. أطبق جفنيه ليطفئ هذا الشريط من ذاكرته.. حتى راح في نوم عميق..
استغرق الوالد في النوم.. ورأى ـ فيما رأى ـ نفسه في بحر لجي أسود.. متلاطم الأمواج.. ويحمل بين يديه طبقًا من اللحم الأحمر وقد تجمعت حوله النسور الجارحة من كل مكان تبتغي خطفه.. تتناوشه الطيور الجارحة.. يكاد يغرق في الدقيقة الواحدة عدة مرات.. يبلغ الماء فاه وأنفه حتى ليكاد يغشى عليه من كثرة ما يتعرض له من لطمات الماء.. وتنقر النسور رأسه بمناقيرها الحادة كي تضعفه وتحصل على ما تريد..
وفي أثناء ذلك برز له رجل على مرمى بصره.. يلبس زيًّا أخضر أشبه ما يكون بأعواد البرسيم الزاهية.. كان يغرق هو الآخر.. وحوله تجمهر جمع من الغرقى كذلك.. الجميع يوشك على الغرق.. لم يجد الوالد بدًّا من أن ينادي الرجل لينقذه مما يعتريه.. نادى بأعلى صوته.. لا يسمع نفسه.. يحاول رفع صوته قدر استطاعته.. لا فائدة.. فجأة خرج الصوت مدوّيًّا من بين شفتيه..
- أنقذني يا (برهومي)..
علتْ الدهشة وجهه..
- من أين لي باسمه؟! كيف تعرفت على شخصه؟! ومن هو؟!
في هذه اللحظة تذكر مكالمة أخيه.. (البرهومي) صاحب القبر في مسجد القرية المجاورة..
التفت إليه الرجل وهو يصارع الغرق.. يكاد يغرق هو الآخر..
- أنقذني يا (برهومي).. أنا في حاجة إلى مساعدتك..
هكذا صرخ الوالد..
- تحتاج عونًا مني؟! بل أنا من يحتاج قشة يتعلق بها.. إن استطعت أن تنقذني فافعل..
- كيف؟! أرجوك افعل شيئًا!!
- ليس عندي ما أقدمه لك.. فليمد لي أحد يد المساعدة..
وفجأة.. هدأ كل شيء.. هدأت الريح والأمواج.. توقفت العواصف والرعود.. ظهر ضوء القمر منعكسًا على صفحة الماء فأحالها إلى الزرقة بعد سوادها الأعمى.. وتوقف الرجلان عن الغرق.. نظر كل منهما إلى الآخر.. وظهر في الناحية الشرقية منهما حبل متدلٍّ من أعلى.. نظر إليه (البرهومي) وأشار إلى الوالد..
- أترى ذلك الحبل المتدلي من السماء.. دونك فخُذْهُ.. تعلّق به ففيه نجاتك.. ولا يغرنّك زيي الأخضر ولا كثرة الغارقين حولي.. هيّا اذهب قبل أن تفوتك الفرصة..
نظر الوالد إلى الحبل.. انطلق إليه.. استلمه.. تشبث به.. بدأ في الصعود والارتقاء.. كلما صعد خطوة لأعلى نظر إلى (البرهومي) فإذا يداه تنزلقان فينزل عدة خطوات..
- لا تنظر إليَّ.. دونك السماء فانظر إليها.. اصعد.. اصعد..
غضّ الوالد طرفه عن (البرهومي).. بل كاد يغمض عينيه لئلا يراه.. أخذ يصعد ويصعد حتى أدرك نهاية الحبل.. وهناك وجد لوحًا منشورًا يضرب بين الخافقين وإذا مكتوب فيه بحروف من نور لامع:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي
استيقظ الوالد من نومه وهو يردد:
فَإِنِّي قَرِيبٌ.. فَإِنِّي قَرِيبٌ..
ورغم كل تلك الظروف الصعبة التي واكبت عملية الإنجاب إلا أنه كان لابد لفصول الابتلاء أن تكتمل.. فقد أنجبت زوجتُه الطفلةَ الصغيرة بمرض خطير في القلب.. أنفق الوالد خلال الأشهر الأربعة التي هي سن «جمانة» كل ما يملك من مال.. حتى استحال بيتهم أثرًا بعد عين..
أخبره الطبيب أن الخطب عظيم.. وأن الطفلة ستعيش حياتها بين الشك واليقين ما لم تُجرَ لها عملية تتكلف مبلغًا طائلاً تنوء به العصبة أولو القوة..
خرج الوالد من المستشفى وهو يحمل همًّا عظيمًا على كاهليه.. ينظر إلى عينيها الصغيرتين اللتين بالكاد تفتحتا فيلين قلبه حتى يكاد يذوب شفقة عليها..
- كيف لتلك المسكينة أن يكون فقري سببًا في شقائها وعذابها؟! كيف سأتحمل ما تشعر به من آلام وأوجاع؟! كيف ستكبر أمام عينيّ وأنا أرى شبح الموت يتربص بها كل لحظة؟!
هكذا حدّث نفسه وهو في طريقه إلى منزله..
فتح باب المنزل.. الكل تبدو على وجهه آثار القلق والترقب.. أخبر أمها الخبر.. زاد همّهما همًّا فوق همّ.. لم تكن من تلكم النسوة اللاتي يكثرن ملامة الأزواج.. كانت عاقلة حكيمة.. استرجعت وسلمت لله أمرها..
رنّ جرس الهاتف.. إنه عم الفتاة يطمئن على نتيجة الكشف..
- ماذا قال الطبيب؟!
- ليس في الأمر جديد.. المرض ذاته الذي كان يشكّ فيه.. ثقب في القلب.. ولا بد من إجراء عملية.. والتكلفة بالدولار..
- سأسديك نصيحة.. اجعل الطبيب آخر الحلول.. سنذهب إلى (البرهومي)..
- وما (البرهومي)؟!
- إنه كاشف البلايا.. الدعاء عنده مستجاب.. ألم تزر قبره من قبل؟!
- كلا.. هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها هذا الاسم..
- إن مسجده في القرية المجاورة لنا.. يبعد عنا ربع ساعة بالسيارة..
- وماذا عن الطبيب؟!
- لن نحتاج إليه.. هذا الرجل موصول بالأسباب العليّة.. لن تندم.. لقد مات منذ مائتي سنة.. ومنذ مات وقُبِِرَ ومسجده الذي قُبِر فيه لا يخلو.. ما بين زائر وداعٍ وذابحٍ وناذر.. والجميع تقضى حاجاتهم..
- دعني أفكر أولاً.. أريد البحث عن جهة تعطيني المال لأجري العملية.. ولكن من أين لي بمثل هذا المبلغ الضخم؟!
- اسمع نصيحتي.. لست في حاجة إلى كل هذا.. زيارة أو زيارتان على الأكثر وتشفى ابنتك تمامًا وتوفر على نفسك عناء البحث عمن يقرضك أو بتعبير أدق «يُذِلُّك».. فالدَّين ذل.. والمقرض غالبًا ما يمارس معك دور المتجبر بماله قبل أن يدفعه إليك.. فمال القرض ليس إلا وسمًا في وجهك تراه بين الناس ضعةً وذلاًّ وصغارًا..
- أرجوك.. دعني أقلّب الأمر في رأسي أولاً.. فقد عدت لتوّي من عند الطبيب.. ولا طاقة لي الآن على التفكير..
- الأمر إليك.. سأنتظر ردك.. ولكن كلما أسرعت كان الأمر في صالحك وابنتِك..
- إن شاء الله.. مع السلامة..
انطلق الوالد إلى غرفته وقد ملأ الحزن رأسه.. لا يستطيع أن يفكر لشدة ما شغل لبّه من مشاكسات في دماغه.. فتلمع في رأسه صورة الطبيب وهو يخبره بحقيقة مرض «جمانة».. ثم صورة أخيه تطغى عليها عندما يتحدث عن بركات (البرهومي) ذلك الولي الصالح.. أو هكذا يقولون.. ثم يرى المحيطين بقبره يدعون ويسجدون.. وآخرون يقفون بباب المسجد يذبحون ويتمرغون.. وآخرون يضعون مبالغ بالآلاف في صندوق النذور.. أطبق جفنيه ليطفئ هذا الشريط من ذاكرته.. حتى راح في نوم عميق..
استغرق الوالد في النوم.. ورأى ـ فيما رأى ـ نفسه في بحر لجي أسود.. متلاطم الأمواج.. ويحمل بين يديه طبقًا من اللحم الأحمر وقد تجمعت حوله النسور الجارحة من كل مكان تبتغي خطفه.. تتناوشه الطيور الجارحة.. يكاد يغرق في الدقيقة الواحدة عدة مرات.. يبلغ الماء فاه وأنفه حتى ليكاد يغشى عليه من كثرة ما يتعرض له من لطمات الماء.. وتنقر النسور رأسه بمناقيرها الحادة كي تضعفه وتحصل على ما تريد..
وفي أثناء ذلك برز له رجل على مرمى بصره.. يلبس زيًّا أخضر أشبه ما يكون بأعواد البرسيم الزاهية.. كان يغرق هو الآخر.. وحوله تجمهر جمع من الغرقى كذلك.. الجميع يوشك على الغرق.. لم يجد الوالد بدًّا من أن ينادي الرجل لينقذه مما يعتريه.. نادى بأعلى صوته.. لا يسمع نفسه.. يحاول رفع صوته قدر استطاعته.. لا فائدة.. فجأة خرج الصوت مدوّيًّا من بين شفتيه..
- أنقذني يا (برهومي)..
علتْ الدهشة وجهه..
- من أين لي باسمه؟! كيف تعرفت على شخصه؟! ومن هو؟!
في هذه اللحظة تذكر مكالمة أخيه.. (البرهومي) صاحب القبر في مسجد القرية المجاورة..
التفت إليه الرجل وهو يصارع الغرق.. يكاد يغرق هو الآخر..
- أنقذني يا (برهومي).. أنا في حاجة إلى مساعدتك..
هكذا صرخ الوالد..
- تحتاج عونًا مني؟! بل أنا من يحتاج قشة يتعلق بها.. إن استطعت أن تنقذني فافعل..
- كيف؟! أرجوك افعل شيئًا!!
- ليس عندي ما أقدمه لك.. فليمد لي أحد يد المساعدة..
وفجأة.. هدأ كل شيء.. هدأت الريح والأمواج.. توقفت العواصف والرعود.. ظهر ضوء القمر منعكسًا على صفحة الماء فأحالها إلى الزرقة بعد سوادها الأعمى.. وتوقف الرجلان عن الغرق.. نظر كل منهما إلى الآخر.. وظهر في الناحية الشرقية منهما حبل متدلٍّ من أعلى.. نظر إليه (البرهومي) وأشار إلى الوالد..
- أترى ذلك الحبل المتدلي من السماء.. دونك فخُذْهُ.. تعلّق به ففيه نجاتك.. ولا يغرنّك زيي الأخضر ولا كثرة الغارقين حولي.. هيّا اذهب قبل أن تفوتك الفرصة..
نظر الوالد إلى الحبل.. انطلق إليه.. استلمه.. تشبث به.. بدأ في الصعود والارتقاء.. كلما صعد خطوة لأعلى نظر إلى (البرهومي) فإذا يداه تنزلقان فينزل عدة خطوات..
- لا تنظر إليَّ.. دونك السماء فانظر إليها.. اصعد.. اصعد..
غضّ الوالد طرفه عن (البرهومي).. بل كاد يغمض عينيه لئلا يراه.. أخذ يصعد ويصعد حتى أدرك نهاية الحبل.. وهناك وجد لوحًا منشورًا يضرب بين الخافقين وإذا مكتوب فيه بحروف من نور لامع:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي
استيقظ الوالد من نومه وهو يردد:
فَإِنِّي قَرِيبٌ.. فَإِنِّي قَرِيبٌ..