شمري حايلي
02 Sep 2010, 08:25 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فإن الجهاد في الإسلام له منزلة عالية، ومقام رفيع، وهو من أفضل الأعمال بعد الفرائض إن لم يكن أفضلها، وقد دل على ذلك النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم، وفيما يلي نستعرض تلك المنزلة للجهاد وبعض ما يكتنفه من الأحكام على وجه الاختصار لأن حشر جميع ما قيل فيه مما يطول ولا تسعفه المجلدات فضلا عن هذه الأسطر القليلة:
وقبل الدخول في الفضائل والأحكام يحسن التطرق للتعريف بكلمة " الجهاد" حتى يكون الكلام متوجها ومنصباً على هذه الكلمة الشرعية، لأنه كما قال غير واحد من العلماء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فالجهاد لغة: مأخوذ من الجهد؛ وهو بذل الطاقة والوسع قدر الإمكان، قال اللغوي الحجة ابن فارس رحمه الله في معجم مقاييس اللغة (1 / 486): الجيم والهاء والدال، أصلُهُ المشقَّة، ثم يُحمَل عليه ما يقارِبُه. يقال: جَهَدْتُ نفسي وأجْهَدت والجُهْد الطَّاقَة.
وفي اصطلاح الشرع: عرفه الحافظ ابن حجر رحمه الله فقال: "الجهاد شرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفسّاق، فأما مجاهدة النفس فعلى تعلّم أمور الدين ثم على العمل بها ثم تعليمها، وأما مجاهدة الشيطان فعلى ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات، وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وأما مجاهدة الفسّاق فباليد ثم اللسان ثم القلب" فتح الباري (6/3).
وبهذا التعريف يتبين أن قصر الجهاد على نوع واحد من أنواعه خلل في التعريف، فالتعريف الصحيح أنه يشمل جميع أنواع الجهاد ابتداء من جهاد النفس حتى جهاد الكفار.
حكم الجهاد:
الجهاد في أصله فرض كفاية على المسلمين، إذا قام به البعض -حينما يجب- سقط الإثم عن الباقين، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
قال الشيخ موفق الدين ابن قدامة رحمه الله: والجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين.
ثم ذكر قول من قال بوجوبه فرد عليهم بقوله: ولنا قول الله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى } وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال الله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا } ولأن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يبعث السرايا ويقيم هو وسائر أصحابه. المغني - (10 / 359)
وقال أبو بكر الجصاص في كتابه الفصول في الأصول: وَمِنْ الْأَمْرِ مَا يَكُونُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ وَيَتَوَجَّهُ بِهِ الْخِطَابُ إلَى جَمَاعَتِهِمْ , نَحْوُ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَدَفْنِ الْمَوْتَى وَغُسْلِهِمْ , وَنَحْوُ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ , وَالْجِهَادُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ لَازِمٌ لِإِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ , وَلَوْ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ ذَلِكَ لَتَعَطَّلَ النَّاسُ عَنْ سَائِرِ أُمُورِهِمْ , وَفِي ذَلِكَ ظُهُورُ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ , فَدَلَّ ( عَلَى ) أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِهِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْجَمِيعِ فَإِنَّ لُزُومَ فَرْضِهِ مَقْصُورٌ عَلَى وُقُوعِ الْكِفَايَةِ ( بِهِ ) مِنْ بَعْضِهِمْ , فَمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَابُوا عَنْ ( النَّاسِ ) الْبَاقِينَ , عَلَى هَذَا مَضَى السَّلَفُ وَسَائِرُ الْخَلْفِ مِنْ عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا.
شروط وجوب الجهاد:
ذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى ما يجب به الجهاد على الفرد، ومتى تخلف شرط سقط الوجوب على المكلف، فتلك الشروط هي:
(1) الإسلام: فلا يحل لكافر.
(2) العقل: فلا يجب على المجنون.
(3) البلوغ: فلا يجب على الصبي.
(4) الذكورة: فلا يجب على المرأة.
(5) القدرة على مؤونة الجهاد.
(6) السلامة من الضرر، فلا يجب على العاجز غير المستطيع.
(7) الحرية، فلا يجب على العبد.
(8) المدين، فلا يجب إلا بعد الإذن من الدائن.
(9) إذن الوالدين، فلا يجب إن لم يأذنا.
متى يتعين الجهاد:
ذكر العلماء أحوالاً يتعين فيها الجهاد على الفرد المسلم، ويحرم عليه عند ذلك ترك الجهاد والتخلف عنه، فمن تلك الأحوال:
أحدها: إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا } وقوله: { واصبروا إن الله مع الصابرين } وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله }.
الثاني: إذا نزل الكفر ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم.
الثالث: إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير معه لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } الآية والتي بعدها، وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ وإذا استنفرتم فانفروا ]
الرابع: إذا عين الإمام شخصاً بعينه لزمه.
الاستئذان في الذهاب للجهاد:
وذكر أهل العلم صوراً يجب فيها للمسلم أن يستأذن ممن يجب عليه أن يستأذنه قبل ذهابه للجهاد؛ فمن تلك الصور:
1- الإذن من الوالدين: فلا يجوز الجهاد إلا بإذن الوالدين المسلمين، أو بإذن أحدهما إن كان الآخر كافراً أو ميتاًً، إلا إذا تعين، كالحالات التي ذكرناها آنفا. ففي الصحيحين أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال عليه الصلاة والسلامأحيٌّ والداك؟)، قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)، فدل على أن برُّ الوالدين مقدمٌ على الجهاد، وأن الجهاد في هذه الحالة فرض كفاية.
2- إذن الدائن: فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يخرج المدين للجهاد الكفائي إذا كان الدين حالاً، أما إن كان الدين مؤجلاً فالصحيح أنه لا يمنع. أما إذا تعين الجهاد فلا خلاف بين الفقهاء في أنه لا إذن لغريمه، لأنه تعلق بعينه، فكان مقدماً على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان.
3- إذن إمام المسلمين: وهي فرع عن مسألة وجوب السمع والطاعة لإمام المسلمين التي دلت عليها الأدلة من الكتاب والسنة، فيلزم الرعية طاعة ولي الأمر فيما يراه من ذلك؛ لقول الله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ..]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليهمن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني).
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالتسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع) رواه مسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (35/16، 17) ( فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمر واجبة؛ لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق).
ومن أدلة وجوب الاستئذان من الإمام حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقالأحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد).
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قالإنما الإمام جُنَّة يُقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له ذلك أجر، وإن أمر بغيره كان عليه منه).
قال الإمام ابن قدامة رحمه اللهوأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك). وذكر الإمام الخرقي وابن قدامة أيضاًأنه لا يجوز حتى الخروج من العسكر إلا بإذن الأمير، ولا يحدث حدثاً إلا بإذنه)، لقول الله تعالى:[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ..]، ولأن الأمير أعرف بحال العدو، ومكامنهم، ومواضعهم، وقربهم، وبعدهم، فإذا خرج خارج بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كميناً للعدو فيأخذه..).
من لا يجوز قتله في الجهاد:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِي الْجِهَادِ قَتْل النِّسَاءِ ، وَالصِّبْيَانِ ، وَالْمَجَانِينِ ، وَالْخُنْثَى الْمُشْكِل ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْتُولَةً ، فَنَهَى عَنْ قَتْل النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. رواه البخاري ومسلم.
وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ قَتْل الشُّيُوخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، وَبِهِ قَال مُجَاهِدٌ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال : لاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا ، وَلاَ طِفْلاً ، وَلاَ امْرَأَةً. رواه أبو داود بإسناد حسن ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلاَ تَعْتَدُوا } يَقُول : " لاَ تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ ، وَالشَّيْخَ الْكَبِيرَ " وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْقِتَال فَلاَ يُقْتَل كَالْمَرْأَةِ ، وَقَدْ أَوْمَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي وُجِدَتْ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ ، فَقَال : مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِل. أخرجه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وَيَجُوزُ قَتْل مَنْ قَاتَل مِمَّنْ سبق ذكرهم، قَال الشيخ ابْنُ قُدَامَةَ : وَلاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا. المغني 8 / 478 ، 479
فضل الجهاد:
قال الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) [النساء : 95 ، 96] و: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
روى البخاري في صحيحه وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ.
وروى البخاري أيضاً عن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ.
وروى البخاري أيضاً عن أبي حَصِينٍ أَنَّ ذَكْوَانَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ؟ قَالَ: لَا أَجِدُهُ، قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ؟ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ.
أنواع الجهاد ومراتبه:
سبق في التعريف بأن الجهاد ليس نوعاً واحداً، وهو درجات وأنواع، فيتفاوت حكمه وأنواعه بحسب كل منزلة، بل المنزلة الواحدة تتفاوت مكانتها بحسب حالها وما يتلبس بها من أحوال، وقد أشار العلامة ابن القيم رحمه الله إلى تفاوت الجهاد ومراتبه، فقال رحمه الله –منوهاً بجهاد أفضل المجاهدين محمد صلى الله عليه وسلم-: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الذّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْهُ-أي الجهاد- وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْوَاعِهِ كُلّهَا فَجَاهَدَ فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ بِالْقَلْبِ وَالْجِنَانِ وَالدّعْوَةِ وَالْبَيَانِ وَالسّيْفِ وَالسّنَانِ وَكَانَتْ سَاعَاتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْجِهَادِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ . وَلِهَذَا كَانَ أَرْفَعَ الْعَالَمِينَ ذِكْرًا وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَ اللّهِ قَدْرًا .
وَأَمَرَهُ اللّهُ تَعَالَى بِالْجِهَادِ مِنْ حِينِ بَعْثِهِ وَقَالَ { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } [ الْفُرْقَانُ : 52 ] فَهَذِهِ سُورَةٌ مَكّيّةٌ أَمَرَ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفّارِ بِالْحُجّةِ وَالْبَيَانِ وَتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ إنّمَا هُوَ بِتَبْلِيغِ الْحُجّةِ وَإِلّا فَهُمْ تَحْتَ قَهْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ التّوْبَةُ 73 ] فَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَصْعَبُ مِنْ جِهَادِ الْكُفّارِ وَهُوَ جِهَادُ خَوَاصّ الْأُمّةِ وَوَرَثَةُ الرّسُلِ وَالْقَائِمُونَ بِهِ أَفْرَادٌ فِي الْعَالَمِ وَالْمُشَارِكُونَ فِيهِ وَالْمُعَاوِنُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا هُمْ الْأَقَلّينَ عَدَدًا فَهُمْ الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللّهِ قَدْرًا . وَلَمّا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ قَوْلُ الْحَقّ مَعَ شِدّةِ الْمُعَارِضِ مِثْلَ أَنْ تَتَكَلّمَ بِهِ عِنْدَ مَنْ تَخَافُ سَطْوَتَهُ وَأَذَاهُ كَانَ لِلرّسُلِ - صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - مِنْ ذَلِكَ الْحَظّ الْأَوْفَرِ وَكَانَ لِنَبِيّنَا - صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - مِنْ ذَلِكَ أَكْمَلُ الْجِهَادِ وَأَتَمّهُ.
وَلَمّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللّهِ فِي الْخَارِجِ فَرْعًا عَلَى جِهَادِ الْعَبْدِ نَفْسِهِ فِي ذَاتِ الله كما قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللّهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللّهُ عَنْهُ؛ كَانَ جِهَادُ النّفْسِ مُقَدّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوّ فِي الْخَارِجِ وَأَصْلًا لَهُ، فَإِنّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوّلًا لِتَفْعَلَ مَا أُمِرْت بِهِ وَتَتْرُكَ مَا نُهِيت عَنْهُ وَيُحَارِبُهَا فِي اللّهِ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوّهِ فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوّهِ وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ وَعَدُوّهُ الّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ مُتَسَلّطٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجَاهِدْهُ وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللّهِ بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَى عَدُوّهِ حَتّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ.
ثم بين الإمام ابن القيم رحمه الله مراتب الجهاد إجمالاً وتفصيلاً فقال: فَالْجِهَادُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ جِهَادُ النّفْسِ وَجِهَادُ الشّيْطَانِ وَجِهَادُ الْكُفّارِ وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ .
مَرَاتِبُ جِهَادِ النّفْسِ فَجِهَادُ النّفْسِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ أَيْضًا : إحْدَاهَا : أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى تَعَلّمِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ الّذِي لَا فَلَاحَ لَهَا وَلَا سَعَادَةَ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا إلّا بِهِ وَمَتَى فَاتَهَا عَلِمَهُ شَقِيَتْ فِي الدّارَيْنِ . الثّانِيَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَإِلّا فَمُجَرّدُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ إنْ لَمْ يَضُرّهَا لَمْ يَنْفَعْهَا . الثّالِثَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الدّعْوَةِ إلَيْهِ وَتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ وَإِلّا كَانَ مِنْ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيّنَاتِ وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللّهِ. الرّابِعَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الصّبْرِ عَلَى مَشَاقّ الدّعْوَةِ إلَى اللّهِ وَأَذَى الْخَلْقِ وَيَتَحَمّلُ ذَلِكَ كُلّهُ لِلّهِ .
فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ صَارَ مِنْ الرّبّانِيّينَ فَإِنّ السّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الْعَالِمَ لَا يَسْتَحِقّ أَنْ يُسَمّى رَبّانِيّا حَتّى يَعْرِفَ الْحَقّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلّمَهُ فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلّمَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ.
وأما مَرَاتِبُ جِهَادِ الشّيْطَانِ فَمَرْتَبَتَانِ إحْدَاهُمَا : جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَى الْعَبْدِ مِنْ الشّبُهَاتِ وَالشّكُوكِ الْقَادِحَةِ فِي الْإِيمَانِ . الثّانِيَةُ جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَيْهِ مِنْ الْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالشّهَوَاتِ فَالْجِهَادُ الْأَوّلُ يَكُونُ بَعْدَهُ الْيَقِينُ وَالثّانِي يَكُونُ بَعْدَهُ الصّبْرُ . قَالَ تَعَالَى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السّجْدَةُ 24 ] فَأَخْبَرَ أَنّ إمَامَةَ الدّينِ إنّمَا تُنَالُ بِالصّبْرِ وَالْيَقِينِ فَالصّبْرُ يَدْفَعُ الشّهَوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةَ وَالْيَقِينُ يَدْفَعُ الشّكُوكَ وَالشّبُهَاتِ .
وَأَمّا جِهَادُ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَأَرْبَعُ مَرَاتِبَ بِالْقَلْبِ وَاللّسَانِ وَالْمَالِ وَالنّفْسِ وَجِهَادُ الْكُفّارِ أَخُصّ بِالْيَدِ وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَخُصّ بِاللّسَانِ .
وَأَمّا جِهَادُ أَرْبَابِ الظّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ فَثَلَاثُ مَرَاتِبَ الْأُولَى: بِالْيَدِ إذَا قَدَرَ فَإِنْ عَجَزَ انْتَقَلَ إلَى اللّسَانِ فَإِنْ عَجَزَ جَاهَدَ بِقَلْبِهِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مُرَتّبَةً مِنْ الْجِهَادِ وَ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ النّفَاقِ.
ونكتفي بهذه الإشارات إلى بعض أحكام الجهاد التي قد تغيب عن بعض المسلمين، ونحيل إلى كتب علمائنا السابقين واللاحقين المشهود لهم بالعلم لمن أراد الاستزادة في بقية أحكام الجهاد، لكون ذلك مما يطول ويخرج عن المقصود، وفي ذات الوقت نحذر من الرجوع في أحكام هذه العبادة العظيمة من كتابات المتأخرين الذي غلب عليهم آراء الخوارج، فكما تؤخذ بقية أحكام العبادات من العلماء فأخذ أحكام هذه العبادة منهم من باب أولى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فإن الجهاد في الإسلام له منزلة عالية، ومقام رفيع، وهو من أفضل الأعمال بعد الفرائض إن لم يكن أفضلها، وقد دل على ذلك النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم، وفيما يلي نستعرض تلك المنزلة للجهاد وبعض ما يكتنفه من الأحكام على وجه الاختصار لأن حشر جميع ما قيل فيه مما يطول ولا تسعفه المجلدات فضلا عن هذه الأسطر القليلة:
وقبل الدخول في الفضائل والأحكام يحسن التطرق للتعريف بكلمة " الجهاد" حتى يكون الكلام متوجها ومنصباً على هذه الكلمة الشرعية، لأنه كما قال غير واحد من العلماء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فالجهاد لغة: مأخوذ من الجهد؛ وهو بذل الطاقة والوسع قدر الإمكان، قال اللغوي الحجة ابن فارس رحمه الله في معجم مقاييس اللغة (1 / 486): الجيم والهاء والدال، أصلُهُ المشقَّة، ثم يُحمَل عليه ما يقارِبُه. يقال: جَهَدْتُ نفسي وأجْهَدت والجُهْد الطَّاقَة.
وفي اصطلاح الشرع: عرفه الحافظ ابن حجر رحمه الله فقال: "الجهاد شرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفسّاق، فأما مجاهدة النفس فعلى تعلّم أمور الدين ثم على العمل بها ثم تعليمها، وأما مجاهدة الشيطان فعلى ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات، وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وأما مجاهدة الفسّاق فباليد ثم اللسان ثم القلب" فتح الباري (6/3).
وبهذا التعريف يتبين أن قصر الجهاد على نوع واحد من أنواعه خلل في التعريف، فالتعريف الصحيح أنه يشمل جميع أنواع الجهاد ابتداء من جهاد النفس حتى جهاد الكفار.
حكم الجهاد:
الجهاد في أصله فرض كفاية على المسلمين، إذا قام به البعض -حينما يجب- سقط الإثم عن الباقين، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
قال الشيخ موفق الدين ابن قدامة رحمه الله: والجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين.
ثم ذكر قول من قال بوجوبه فرد عليهم بقوله: ولنا قول الله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى } وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال الله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا } ولأن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يبعث السرايا ويقيم هو وسائر أصحابه. المغني - (10 / 359)
وقال أبو بكر الجصاص في كتابه الفصول في الأصول: وَمِنْ الْأَمْرِ مَا يَكُونُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ وَيَتَوَجَّهُ بِهِ الْخِطَابُ إلَى جَمَاعَتِهِمْ , نَحْوُ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَدَفْنِ الْمَوْتَى وَغُسْلِهِمْ , وَنَحْوُ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ , وَالْجِهَادُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ لَازِمٌ لِإِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ , وَلَوْ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ ذَلِكَ لَتَعَطَّلَ النَّاسُ عَنْ سَائِرِ أُمُورِهِمْ , وَفِي ذَلِكَ ظُهُورُ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ , فَدَلَّ ( عَلَى ) أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِهِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْجَمِيعِ فَإِنَّ لُزُومَ فَرْضِهِ مَقْصُورٌ عَلَى وُقُوعِ الْكِفَايَةِ ( بِهِ ) مِنْ بَعْضِهِمْ , فَمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَابُوا عَنْ ( النَّاسِ ) الْبَاقِينَ , عَلَى هَذَا مَضَى السَّلَفُ وَسَائِرُ الْخَلْفِ مِنْ عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا.
شروط وجوب الجهاد:
ذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى ما يجب به الجهاد على الفرد، ومتى تخلف شرط سقط الوجوب على المكلف، فتلك الشروط هي:
(1) الإسلام: فلا يحل لكافر.
(2) العقل: فلا يجب على المجنون.
(3) البلوغ: فلا يجب على الصبي.
(4) الذكورة: فلا يجب على المرأة.
(5) القدرة على مؤونة الجهاد.
(6) السلامة من الضرر، فلا يجب على العاجز غير المستطيع.
(7) الحرية، فلا يجب على العبد.
(8) المدين، فلا يجب إلا بعد الإذن من الدائن.
(9) إذن الوالدين، فلا يجب إن لم يأذنا.
متى يتعين الجهاد:
ذكر العلماء أحوالاً يتعين فيها الجهاد على الفرد المسلم، ويحرم عليه عند ذلك ترك الجهاد والتخلف عنه، فمن تلك الأحوال:
أحدها: إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا } وقوله: { واصبروا إن الله مع الصابرين } وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله }.
الثاني: إذا نزل الكفر ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم.
الثالث: إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير معه لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } الآية والتي بعدها، وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ وإذا استنفرتم فانفروا ]
الرابع: إذا عين الإمام شخصاً بعينه لزمه.
الاستئذان في الذهاب للجهاد:
وذكر أهل العلم صوراً يجب فيها للمسلم أن يستأذن ممن يجب عليه أن يستأذنه قبل ذهابه للجهاد؛ فمن تلك الصور:
1- الإذن من الوالدين: فلا يجوز الجهاد إلا بإذن الوالدين المسلمين، أو بإذن أحدهما إن كان الآخر كافراً أو ميتاًً، إلا إذا تعين، كالحالات التي ذكرناها آنفا. ففي الصحيحين أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال عليه الصلاة والسلامأحيٌّ والداك؟)، قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)، فدل على أن برُّ الوالدين مقدمٌ على الجهاد، وأن الجهاد في هذه الحالة فرض كفاية.
2- إذن الدائن: فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يخرج المدين للجهاد الكفائي إذا كان الدين حالاً، أما إن كان الدين مؤجلاً فالصحيح أنه لا يمنع. أما إذا تعين الجهاد فلا خلاف بين الفقهاء في أنه لا إذن لغريمه، لأنه تعلق بعينه، فكان مقدماً على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان.
3- إذن إمام المسلمين: وهي فرع عن مسألة وجوب السمع والطاعة لإمام المسلمين التي دلت عليها الأدلة من الكتاب والسنة، فيلزم الرعية طاعة ولي الأمر فيما يراه من ذلك؛ لقول الله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ..]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليهمن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني).
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالتسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع) رواه مسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (35/16، 17) ( فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمر واجبة؛ لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق).
ومن أدلة وجوب الاستئذان من الإمام حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقالأحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد).
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قالإنما الإمام جُنَّة يُقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له ذلك أجر، وإن أمر بغيره كان عليه منه).
قال الإمام ابن قدامة رحمه اللهوأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك). وذكر الإمام الخرقي وابن قدامة أيضاًأنه لا يجوز حتى الخروج من العسكر إلا بإذن الأمير، ولا يحدث حدثاً إلا بإذنه)، لقول الله تعالى:[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ..]، ولأن الأمير أعرف بحال العدو، ومكامنهم، ومواضعهم، وقربهم، وبعدهم، فإذا خرج خارج بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كميناً للعدو فيأخذه..).
من لا يجوز قتله في الجهاد:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِي الْجِهَادِ قَتْل النِّسَاءِ ، وَالصِّبْيَانِ ، وَالْمَجَانِينِ ، وَالْخُنْثَى الْمُشْكِل ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْتُولَةً ، فَنَهَى عَنْ قَتْل النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. رواه البخاري ومسلم.
وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ قَتْل الشُّيُوخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، وَبِهِ قَال مُجَاهِدٌ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال : لاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا ، وَلاَ طِفْلاً ، وَلاَ امْرَأَةً. رواه أبو داود بإسناد حسن ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلاَ تَعْتَدُوا } يَقُول : " لاَ تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ ، وَالشَّيْخَ الْكَبِيرَ " وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْقِتَال فَلاَ يُقْتَل كَالْمَرْأَةِ ، وَقَدْ أَوْمَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي وُجِدَتْ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ ، فَقَال : مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِل. أخرجه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وَيَجُوزُ قَتْل مَنْ قَاتَل مِمَّنْ سبق ذكرهم، قَال الشيخ ابْنُ قُدَامَةَ : وَلاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا. المغني 8 / 478 ، 479
فضل الجهاد:
قال الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) [النساء : 95 ، 96] و: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
روى البخاري في صحيحه وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ.
وروى البخاري أيضاً عن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ.
وروى البخاري أيضاً عن أبي حَصِينٍ أَنَّ ذَكْوَانَ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ؟ قَالَ: لَا أَجِدُهُ، قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ؟ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ.
أنواع الجهاد ومراتبه:
سبق في التعريف بأن الجهاد ليس نوعاً واحداً، وهو درجات وأنواع، فيتفاوت حكمه وأنواعه بحسب كل منزلة، بل المنزلة الواحدة تتفاوت مكانتها بحسب حالها وما يتلبس بها من أحوال، وقد أشار العلامة ابن القيم رحمه الله إلى تفاوت الجهاد ومراتبه، فقال رحمه الله –منوهاً بجهاد أفضل المجاهدين محمد صلى الله عليه وسلم-: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الذّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْهُ-أي الجهاد- وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْوَاعِهِ كُلّهَا فَجَاهَدَ فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ بِالْقَلْبِ وَالْجِنَانِ وَالدّعْوَةِ وَالْبَيَانِ وَالسّيْفِ وَالسّنَانِ وَكَانَتْ سَاعَاتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْجِهَادِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ . وَلِهَذَا كَانَ أَرْفَعَ الْعَالَمِينَ ذِكْرًا وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَ اللّهِ قَدْرًا .
وَأَمَرَهُ اللّهُ تَعَالَى بِالْجِهَادِ مِنْ حِينِ بَعْثِهِ وَقَالَ { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } [ الْفُرْقَانُ : 52 ] فَهَذِهِ سُورَةٌ مَكّيّةٌ أَمَرَ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفّارِ بِالْحُجّةِ وَالْبَيَانِ وَتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ إنّمَا هُوَ بِتَبْلِيغِ الْحُجّةِ وَإِلّا فَهُمْ تَحْتَ قَهْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ التّوْبَةُ 73 ] فَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَصْعَبُ مِنْ جِهَادِ الْكُفّارِ وَهُوَ جِهَادُ خَوَاصّ الْأُمّةِ وَوَرَثَةُ الرّسُلِ وَالْقَائِمُونَ بِهِ أَفْرَادٌ فِي الْعَالَمِ وَالْمُشَارِكُونَ فِيهِ وَالْمُعَاوِنُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا هُمْ الْأَقَلّينَ عَدَدًا فَهُمْ الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللّهِ قَدْرًا . وَلَمّا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ قَوْلُ الْحَقّ مَعَ شِدّةِ الْمُعَارِضِ مِثْلَ أَنْ تَتَكَلّمَ بِهِ عِنْدَ مَنْ تَخَافُ سَطْوَتَهُ وَأَذَاهُ كَانَ لِلرّسُلِ - صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - مِنْ ذَلِكَ الْحَظّ الْأَوْفَرِ وَكَانَ لِنَبِيّنَا - صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - مِنْ ذَلِكَ أَكْمَلُ الْجِهَادِ وَأَتَمّهُ.
وَلَمّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللّهِ فِي الْخَارِجِ فَرْعًا عَلَى جِهَادِ الْعَبْدِ نَفْسِهِ فِي ذَاتِ الله كما قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللّهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللّهُ عَنْهُ؛ كَانَ جِهَادُ النّفْسِ مُقَدّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوّ فِي الْخَارِجِ وَأَصْلًا لَهُ، فَإِنّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوّلًا لِتَفْعَلَ مَا أُمِرْت بِهِ وَتَتْرُكَ مَا نُهِيت عَنْهُ وَيُحَارِبُهَا فِي اللّهِ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوّهِ فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوّهِ وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ وَعَدُوّهُ الّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ مُتَسَلّطٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجَاهِدْهُ وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللّهِ بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَى عَدُوّهِ حَتّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ.
ثم بين الإمام ابن القيم رحمه الله مراتب الجهاد إجمالاً وتفصيلاً فقال: فَالْجِهَادُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ جِهَادُ النّفْسِ وَجِهَادُ الشّيْطَانِ وَجِهَادُ الْكُفّارِ وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ .
مَرَاتِبُ جِهَادِ النّفْسِ فَجِهَادُ النّفْسِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ أَيْضًا : إحْدَاهَا : أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى تَعَلّمِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ الّذِي لَا فَلَاحَ لَهَا وَلَا سَعَادَةَ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا إلّا بِهِ وَمَتَى فَاتَهَا عَلِمَهُ شَقِيَتْ فِي الدّارَيْنِ . الثّانِيَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَإِلّا فَمُجَرّدُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ إنْ لَمْ يَضُرّهَا لَمْ يَنْفَعْهَا . الثّالِثَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الدّعْوَةِ إلَيْهِ وَتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ وَإِلّا كَانَ مِنْ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيّنَاتِ وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللّهِ. الرّابِعَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الصّبْرِ عَلَى مَشَاقّ الدّعْوَةِ إلَى اللّهِ وَأَذَى الْخَلْقِ وَيَتَحَمّلُ ذَلِكَ كُلّهُ لِلّهِ .
فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ صَارَ مِنْ الرّبّانِيّينَ فَإِنّ السّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الْعَالِمَ لَا يَسْتَحِقّ أَنْ يُسَمّى رَبّانِيّا حَتّى يَعْرِفَ الْحَقّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلّمَهُ فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلّمَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ.
وأما مَرَاتِبُ جِهَادِ الشّيْطَانِ فَمَرْتَبَتَانِ إحْدَاهُمَا : جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَى الْعَبْدِ مِنْ الشّبُهَاتِ وَالشّكُوكِ الْقَادِحَةِ فِي الْإِيمَانِ . الثّانِيَةُ جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَيْهِ مِنْ الْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالشّهَوَاتِ فَالْجِهَادُ الْأَوّلُ يَكُونُ بَعْدَهُ الْيَقِينُ وَالثّانِي يَكُونُ بَعْدَهُ الصّبْرُ . قَالَ تَعَالَى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السّجْدَةُ 24 ] فَأَخْبَرَ أَنّ إمَامَةَ الدّينِ إنّمَا تُنَالُ بِالصّبْرِ وَالْيَقِينِ فَالصّبْرُ يَدْفَعُ الشّهَوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةَ وَالْيَقِينُ يَدْفَعُ الشّكُوكَ وَالشّبُهَاتِ .
وَأَمّا جِهَادُ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَأَرْبَعُ مَرَاتِبَ بِالْقَلْبِ وَاللّسَانِ وَالْمَالِ وَالنّفْسِ وَجِهَادُ الْكُفّارِ أَخُصّ بِالْيَدِ وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَخُصّ بِاللّسَانِ .
وَأَمّا جِهَادُ أَرْبَابِ الظّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ فَثَلَاثُ مَرَاتِبَ الْأُولَى: بِالْيَدِ إذَا قَدَرَ فَإِنْ عَجَزَ انْتَقَلَ إلَى اللّسَانِ فَإِنْ عَجَزَ جَاهَدَ بِقَلْبِهِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مُرَتّبَةً مِنْ الْجِهَادِ وَ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ النّفَاقِ.
ونكتفي بهذه الإشارات إلى بعض أحكام الجهاد التي قد تغيب عن بعض المسلمين، ونحيل إلى كتب علمائنا السابقين واللاحقين المشهود لهم بالعلم لمن أراد الاستزادة في بقية أحكام الجهاد، لكون ذلك مما يطول ويخرج عن المقصود، وفي ذات الوقت نحذر من الرجوع في أحكام هذه العبادة العظيمة من كتابات المتأخرين الذي غلب عليهم آراء الخوارج، فكما تؤخذ بقية أحكام العبادات من العلماء فأخذ أحكام هذه العبادة منهم من باب أولى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه