ابن الإسلام..
20 Sep 2010, 06:11 PM
فضيلة شيخنا الشيخ حمود بن عبدالله بن عقلاء الشعيـبي - حفظه الله تعالى -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد...
فقد كثر في هذا العصر اعتماد الحكام في العالم الإسلامي والعربي وغيرهم على تحكيم القوانين الوضعية بدلا من تحكيم شرع الله، فما هو الحكم على هؤلاء الحكام؟
نرجوا أن يكون الجواب مدعما بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال العلماء.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى عندما بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الدين القويم الذي أخرج البشرية من الظلمات إلى النور، وكان الناس إذ ذاك يهيمون في ظلمات الجهل والضلال، غارقين في بحر الخرافات والتقاليد البالية، التي ورثوها عن آبائهم وأسلافهم في جميع أمورهم، في المعتقدات والعبادات والتقاضي والمحاكمات، فكانت معتقداتهم وعباداتهم قائمة على الشرك بالله سبحانه وتعالى، فيجعلون له شركاء وأندادا من شجر وحجر وملائكة وجن وبشر وغير ذلك، يتقربون إليهم بشتى أنواع القرب التي لا يجوز صرفها لغير الله، كالذبح والنذر وغير ذلك.
أما التقاضي والمحاكمات فهي لا تقل ضلالا وفسادا عن طريقتهم في العبادة، إذ كانوا ينصبون الطواغيت والكهان والعرافين، يتولون القضاء بين الناس في جميع ما ينشأ بينهم من خلاف وخصومة في الأموال والدماء والفروج وغير ذلك، يقيمون في كل حي واحدا من هؤلاء الطواغيت، وإذا صدر الحكم فهو نافذ لا يقبل النقض ولا التعقيب، على الرغم من كونه جائرا ظالما، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بهذه الشريعة المطهرة أبطل هذه العادات، والتقاليد وقضى عليها، وقصر العبادة على الله سبحانه وتعالى، وقصر التقاضي والتحاكم على شرع الله، قال تعالى: ﴿ إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه... ﴾ الآية، وقوله: ﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ قصر الحكم على شرع الله، و ﴿ ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ : قصر العبادة لله سبحانه وتعالى على عبادته سبحانه وتعالى بطريقة هي أبلغ طرق القصر وهي النفي والاستثناء.
ثم إن المستقرئ لكتاب الله يجد فيه الآيات الكثيرة التي تنص على وجوب التحاكم إلى ما أنزله الله من الشرع المطهر على نبيه صلى الله عليه وسلم.
1) قال تعالى: ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ ، فهذه الآية الكريمة نص في كفر من عدل عن حكم الله ورسوله إلى غيره.
وقد حاول الجهلة من مرجئة العصر أن يصرفوا دلالة هذه الآية عن كفر الحاكم بغير ما أنزل الله فقالوا: الآية نزلت في اليهود، فلا يشملنا حكمها.
وهذا يدل على مدى جهلهم بالقواعد الأصولية التي وضعها علماء التفسير والحديث وأصول الفقه، وهي أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا نزل حكم على سبب معين فإنه لا يقتصر على سببه، بل يتعداه، فيشمل كل من يدخل تحت اللفظ، و (مَنْ) في الآية صيغة عموم، فلا يكون الحكم مقصورا على سببه إلا إذا اقترن به نص من الشرع يقصر الحكم على سببه، كقوله صلى الله عليه وسلم لما سأله أحد الصحابة رضي الله عنه: يا رسول الله إنه كانت لي عناق أحب إلىّ من شاة فضحيت بها فهل تجزئني؟، فقال عليه الصلاة والسلام: (تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك).
وقالوا أيضا - أي المرجئة - قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن تفسير هذه الآية ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ فقال ابن عباس: (كفر دون كفر)، وفي رواية: (ليس الكفر الذي يذهبون إليه).
والجواب عن هذا أن نقول:
هشام بن حجير راوي هذا الأثر عن طاووس عن ابن عباس متكلم فيه من قبل أئمة الحديث كالإمام أحمد و يحيى بن معين وغيرهما، وقد خالفه في هذه الرواية عن طاووس من هو أوثق منه وهو عبدالله ابن طاووس، وقد روى عن أبيه أن ابن عباس لما سئل عن تفسير هذه الآية قال: هي به كفر.
2) قال تعالى: ﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾ .
هذه الآية نص في انتفاء الإيمان عمن لم يحكّم شرع الله، لأن الله أقسم فيها على انتفاء الإيمان عن المرء حتى توجد منه غايات ثلاث:
أ) التحاكم إلى شرع الله.
ب) ألا يجد في نفسه حرجا في ذلك، بل يرضى به.
ج) أن يسلم لحكم الله ويرضى به.
وكما حاول المرجئة صرف دلالة الآية السابقة عن كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، فقد حاولوا أيضا صرف دلالة الآية عن انتفاء الإيمان، فقالوا: إن النفي لكمال الإيمان، لا لنفي حقيقته.
وما علم هؤلاء الجهلة أن الأصل في الكلام العربي الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا اقترن به قرينة توجب صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فأي دليل وأي قرينة توجب صرف هذه الآية عن نفي حقيقة الإيمان إلى نفي كماله.
3) قال تعالى: ﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ﴾ ، هذه الآية الكريمة نص في أن من يتحاكم إلى الطاغوت أو يحكمه فقد انتفى عنه الإيمان بدليل قوله تعالى ﴿ يزعمون أنهم آمنوا ﴾ ، إذ لو كانوا مؤمنين حقا لما عبر عن ادعائهم الإيمان بالزعم، فلما عبر بالزعم دل على انتفاء حقيقة الإيمان بالله، كما أن في قولـه تعالى ﴿ وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ﴾ دليل أيضا على انتفاء حقيقة الإيمان عنهم، ويتضح كفر من تحاكم إلى الطاغوت أو حكّمه بمعرفة سبب نزول هذه الآية.
وقد ذكر المفسرون أن سبب نزول الآية أنها كانت بين رجل من اليهود وآخر من غير اليهود خصومة، فقال اليهودي: (نترافع إلى رسول الله)، وقال الآخر: (بل نترافع إلى كعب بن الأشرف اليهودي)، فنـزلت هذه الآية.
وقال الشعبي: (كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نترافع إلى محمد، عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة، ويتحاكما إليه، فنـزلت ﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون... ﴾ الآية، وهذا الأثر المروي عن الشعبي وإن كان فيه ضعف إلا أن له شواهد متعددة تعضده وتقويه.
ووجه الاستشهاد بسبب نزول هذه الآية على كفر وردة من ذكروا فيها: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل الرجل الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن مرتدا لما قتله.
كما روي عن عروة بن الزبير أنه قال: اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فقضى لأحدهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر( رضي الله عنه)، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (نعم انطلقوا إلى عمر)، فانطلقا، فلما أتيا عمر، قال الذي قضى له: يا ابن الخطاب! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لي، وإن هذا قال: ردنا إلى عمر فردنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أكذلك؟ - للذي قضى عليه - فقال: نعم، فقال عمر: مكانك حتى أخرج فأقضي بينكما، فخرج مشتملا على سيفه، فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر فقتله.
وهذا الاختلاف الحاصل في سياق القصة لا يقدح في ثبوتها لاحتمال التعدد، كما أن في قوله تعالى: ﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} ﴾ دلالة على أن من صد عن حكم الله ورسوله وأعرض عنه فحكّم غيره أنه منافق، والمنافق كافر.
وكما أن المحكم للقوانين الوضعية كافر كما تقدم، فإن المشرع للقوانين والواضع لها كافر أيضا، لأنه بتشريعه للناس هذه القوانين صار شريكا لله سبحانه وتعالى في التشريع، قــال تعالى: ﴿ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾ ، وقـــال تعالـى: ﴿ ولا يشرك في حكمه أحدا ﴾ ، وقال عز وجل: ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ .
ولهذا لما سمع عدي بن حاتم هذه الآية قال: (يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم)، فقال صلى الله عليه وسلم: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟)، قال: (بلى)، قال: (فتلك عبادتهم).
فتبين من الآية الكريمة و من حديث عدي بن حاتم أن التحليل والتحريم والتشريع من خصائصه سبحانه وتعالى، فمن حلل أو حرم أو شرع ما يخالف شرع الله فهو شريك لله في خصائصه.
ومما تقدم من الآيات الكريمة وتعليقنا عليها يتبين أن من حكم بغير ما أنزل الله وأعرض عن شرع الله وحكمه أنه كافر بالله العظيم خارج من الإسلام، وكذلك مثله من وضع للناس تشريعات وضعية، لأنه لو لم يرض بها لما حكم بها، فإن الواقع يكذبه، فالكثير من الحكام لديه من الصلاحيات في تأجيل الحكم، وتغيير الدستور والحذف وغيرها.
وإن تنـّزلنا وقلنا إنهم لم يضعوها ويشرعوها لشعوبهم فمن الذي ألزم الرعية بالعمل بها ومعاقبة من خالفها؟
وما حالهم وحال التتار الذي نقل ابن تيمية وابن كثير رحمهما الله الإجماع على كفرهم ببعيد، فإن التتار لم يضعوا ولم يشرعوا (الياسق)، بل الذي وضعه أحد حكامهم الأوائل ويسمى (جنكيز خان)، فصورة هؤلاء كحال أولئك.
وبذلك يتبين أن الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى يقع في الكفر من جهة أو جهتين:
الأولى: من جهة التشريع إن شرع.
الثانية: من جهة الحكم إن حكم.
وحيث قد فرغت من ذكر النصوص الدالة على كفر من يحكّم القوانين الوضعية فسأذكر الآن أقوال العلماء والأئمة على كفر محكّمي القوانين:
أولا: قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية كما في الفتاوى (3/267): (والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرا باتفاق الفقهاء).
وقال في الفتاوى (35/372): (ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة).
ثانيا: قال ابن كثير في البداية والنهاية (13/119): (من ترك الشرع المحكّم المنـّزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه، ومن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين).
ثالثا: قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله بعد أن ذكر النصوص الدالة على كفر محكّمي القوانين: (وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم).
رابعا: شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في تعليقه على قوله تعالى ﴿ فلا وربك لا يؤمنون... ﴾ الآية، قال: (وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن من لم يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، نفيا مؤكدا بتكرار أداة النفي و بالقسم). هذا ما قاله رحمه الله في تعليقه على هذه الآية.
وحيث إنني لازمت حلقته رحمه الله سنوات عدة فقد سمعته أكثر من مرة يشدد في هذه المسألة ويصرح بكفر من حكم غير شرع الله، كما أوضح ذلك في رسالة تحكيم القوانين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد...
فقد كثر في هذا العصر اعتماد الحكام في العالم الإسلامي والعربي وغيرهم على تحكيم القوانين الوضعية بدلا من تحكيم شرع الله، فما هو الحكم على هؤلاء الحكام؟
نرجوا أن يكون الجواب مدعما بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال العلماء.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى عندما بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الدين القويم الذي أخرج البشرية من الظلمات إلى النور، وكان الناس إذ ذاك يهيمون في ظلمات الجهل والضلال، غارقين في بحر الخرافات والتقاليد البالية، التي ورثوها عن آبائهم وأسلافهم في جميع أمورهم، في المعتقدات والعبادات والتقاضي والمحاكمات، فكانت معتقداتهم وعباداتهم قائمة على الشرك بالله سبحانه وتعالى، فيجعلون له شركاء وأندادا من شجر وحجر وملائكة وجن وبشر وغير ذلك، يتقربون إليهم بشتى أنواع القرب التي لا يجوز صرفها لغير الله، كالذبح والنذر وغير ذلك.
أما التقاضي والمحاكمات فهي لا تقل ضلالا وفسادا عن طريقتهم في العبادة، إذ كانوا ينصبون الطواغيت والكهان والعرافين، يتولون القضاء بين الناس في جميع ما ينشأ بينهم من خلاف وخصومة في الأموال والدماء والفروج وغير ذلك، يقيمون في كل حي واحدا من هؤلاء الطواغيت، وإذا صدر الحكم فهو نافذ لا يقبل النقض ولا التعقيب، على الرغم من كونه جائرا ظالما، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بهذه الشريعة المطهرة أبطل هذه العادات، والتقاليد وقضى عليها، وقصر العبادة على الله سبحانه وتعالى، وقصر التقاضي والتحاكم على شرع الله، قال تعالى: ﴿ إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه... ﴾ الآية، وقوله: ﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ قصر الحكم على شرع الله، و ﴿ ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ : قصر العبادة لله سبحانه وتعالى على عبادته سبحانه وتعالى بطريقة هي أبلغ طرق القصر وهي النفي والاستثناء.
ثم إن المستقرئ لكتاب الله يجد فيه الآيات الكثيرة التي تنص على وجوب التحاكم إلى ما أنزله الله من الشرع المطهر على نبيه صلى الله عليه وسلم.
1) قال تعالى: ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ ، فهذه الآية الكريمة نص في كفر من عدل عن حكم الله ورسوله إلى غيره.
وقد حاول الجهلة من مرجئة العصر أن يصرفوا دلالة هذه الآية عن كفر الحاكم بغير ما أنزل الله فقالوا: الآية نزلت في اليهود، فلا يشملنا حكمها.
وهذا يدل على مدى جهلهم بالقواعد الأصولية التي وضعها علماء التفسير والحديث وأصول الفقه، وهي أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا نزل حكم على سبب معين فإنه لا يقتصر على سببه، بل يتعداه، فيشمل كل من يدخل تحت اللفظ، و (مَنْ) في الآية صيغة عموم، فلا يكون الحكم مقصورا على سببه إلا إذا اقترن به نص من الشرع يقصر الحكم على سببه، كقوله صلى الله عليه وسلم لما سأله أحد الصحابة رضي الله عنه: يا رسول الله إنه كانت لي عناق أحب إلىّ من شاة فضحيت بها فهل تجزئني؟، فقال عليه الصلاة والسلام: (تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك).
وقالوا أيضا - أي المرجئة - قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن تفسير هذه الآية ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ فقال ابن عباس: (كفر دون كفر)، وفي رواية: (ليس الكفر الذي يذهبون إليه).
والجواب عن هذا أن نقول:
هشام بن حجير راوي هذا الأثر عن طاووس عن ابن عباس متكلم فيه من قبل أئمة الحديث كالإمام أحمد و يحيى بن معين وغيرهما، وقد خالفه في هذه الرواية عن طاووس من هو أوثق منه وهو عبدالله ابن طاووس، وقد روى عن أبيه أن ابن عباس لما سئل عن تفسير هذه الآية قال: هي به كفر.
2) قال تعالى: ﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾ .
هذه الآية نص في انتفاء الإيمان عمن لم يحكّم شرع الله، لأن الله أقسم فيها على انتفاء الإيمان عن المرء حتى توجد منه غايات ثلاث:
أ) التحاكم إلى شرع الله.
ب) ألا يجد في نفسه حرجا في ذلك، بل يرضى به.
ج) أن يسلم لحكم الله ويرضى به.
وكما حاول المرجئة صرف دلالة الآية السابقة عن كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، فقد حاولوا أيضا صرف دلالة الآية عن انتفاء الإيمان، فقالوا: إن النفي لكمال الإيمان، لا لنفي حقيقته.
وما علم هؤلاء الجهلة أن الأصل في الكلام العربي الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا اقترن به قرينة توجب صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فأي دليل وأي قرينة توجب صرف هذه الآية عن نفي حقيقة الإيمان إلى نفي كماله.
3) قال تعالى: ﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ﴾ ، هذه الآية الكريمة نص في أن من يتحاكم إلى الطاغوت أو يحكمه فقد انتفى عنه الإيمان بدليل قوله تعالى ﴿ يزعمون أنهم آمنوا ﴾ ، إذ لو كانوا مؤمنين حقا لما عبر عن ادعائهم الإيمان بالزعم، فلما عبر بالزعم دل على انتفاء حقيقة الإيمان بالله، كما أن في قولـه تعالى ﴿ وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ﴾ دليل أيضا على انتفاء حقيقة الإيمان عنهم، ويتضح كفر من تحاكم إلى الطاغوت أو حكّمه بمعرفة سبب نزول هذه الآية.
وقد ذكر المفسرون أن سبب نزول الآية أنها كانت بين رجل من اليهود وآخر من غير اليهود خصومة، فقال اليهودي: (نترافع إلى رسول الله)، وقال الآخر: (بل نترافع إلى كعب بن الأشرف اليهودي)، فنـزلت هذه الآية.
وقال الشعبي: (كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نترافع إلى محمد، عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة، ويتحاكما إليه، فنـزلت ﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون... ﴾ الآية، وهذا الأثر المروي عن الشعبي وإن كان فيه ضعف إلا أن له شواهد متعددة تعضده وتقويه.
ووجه الاستشهاد بسبب نزول هذه الآية على كفر وردة من ذكروا فيها: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل الرجل الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن مرتدا لما قتله.
كما روي عن عروة بن الزبير أنه قال: اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فقضى لأحدهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر( رضي الله عنه)، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (نعم انطلقوا إلى عمر)، فانطلقا، فلما أتيا عمر، قال الذي قضى له: يا ابن الخطاب! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لي، وإن هذا قال: ردنا إلى عمر فردنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أكذلك؟ - للذي قضى عليه - فقال: نعم، فقال عمر: مكانك حتى أخرج فأقضي بينكما، فخرج مشتملا على سيفه، فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر فقتله.
وهذا الاختلاف الحاصل في سياق القصة لا يقدح في ثبوتها لاحتمال التعدد، كما أن في قوله تعالى: ﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} ﴾ دلالة على أن من صد عن حكم الله ورسوله وأعرض عنه فحكّم غيره أنه منافق، والمنافق كافر.
وكما أن المحكم للقوانين الوضعية كافر كما تقدم، فإن المشرع للقوانين والواضع لها كافر أيضا، لأنه بتشريعه للناس هذه القوانين صار شريكا لله سبحانه وتعالى في التشريع، قــال تعالى: ﴿ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾ ، وقـــال تعالـى: ﴿ ولا يشرك في حكمه أحدا ﴾ ، وقال عز وجل: ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ .
ولهذا لما سمع عدي بن حاتم هذه الآية قال: (يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم)، فقال صلى الله عليه وسلم: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟)، قال: (بلى)، قال: (فتلك عبادتهم).
فتبين من الآية الكريمة و من حديث عدي بن حاتم أن التحليل والتحريم والتشريع من خصائصه سبحانه وتعالى، فمن حلل أو حرم أو شرع ما يخالف شرع الله فهو شريك لله في خصائصه.
ومما تقدم من الآيات الكريمة وتعليقنا عليها يتبين أن من حكم بغير ما أنزل الله وأعرض عن شرع الله وحكمه أنه كافر بالله العظيم خارج من الإسلام، وكذلك مثله من وضع للناس تشريعات وضعية، لأنه لو لم يرض بها لما حكم بها، فإن الواقع يكذبه، فالكثير من الحكام لديه من الصلاحيات في تأجيل الحكم، وتغيير الدستور والحذف وغيرها.
وإن تنـّزلنا وقلنا إنهم لم يضعوها ويشرعوها لشعوبهم فمن الذي ألزم الرعية بالعمل بها ومعاقبة من خالفها؟
وما حالهم وحال التتار الذي نقل ابن تيمية وابن كثير رحمهما الله الإجماع على كفرهم ببعيد، فإن التتار لم يضعوا ولم يشرعوا (الياسق)، بل الذي وضعه أحد حكامهم الأوائل ويسمى (جنكيز خان)، فصورة هؤلاء كحال أولئك.
وبذلك يتبين أن الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى يقع في الكفر من جهة أو جهتين:
الأولى: من جهة التشريع إن شرع.
الثانية: من جهة الحكم إن حكم.
وحيث قد فرغت من ذكر النصوص الدالة على كفر من يحكّم القوانين الوضعية فسأذكر الآن أقوال العلماء والأئمة على كفر محكّمي القوانين:
أولا: قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية كما في الفتاوى (3/267): (والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرا باتفاق الفقهاء).
وقال في الفتاوى (35/372): (ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة).
ثانيا: قال ابن كثير في البداية والنهاية (13/119): (من ترك الشرع المحكّم المنـّزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه، ومن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين).
ثالثا: قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله بعد أن ذكر النصوص الدالة على كفر محكّمي القوانين: (وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم).
رابعا: شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في تعليقه على قوله تعالى ﴿ فلا وربك لا يؤمنون... ﴾ الآية، قال: (وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن من لم يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، نفيا مؤكدا بتكرار أداة النفي و بالقسم). هذا ما قاله رحمه الله في تعليقه على هذه الآية.
وحيث إنني لازمت حلقته رحمه الله سنوات عدة فقد سمعته أكثر من مرة يشدد في هذه المسألة ويصرح بكفر من حكم غير شرع الله، كما أوضح ذلك في رسالة تحكيم القوانين.