ام حفصه
10 Jan 2011, 02:19 PM
المقدمة
لماذا نحفظ القرآن؟
مجالس حفظ القرآن
إلى المحاضن التربوية
الحـفظ بين العزيمة وهم الطريقة
من سير الحفاظ وأخبارهم
وصايا لحملة القرآن
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: -
فقد كانت البشرية تعيش في تخبط وتيه وتُوزِّع ولاءاتها بين طواغيت وأصنام، وبين كهان ومشعوذين، قد أسلمت يدها كالأعمى لهؤلاء يقودونها أينما أرادوا وكيفما شاءوا.
فجاء الله تبارك وتعالى بهذا الكتاب هادياً ومبشراً ونذيراً للناس، (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ). [إبراهيم: 1 – 2].
جاء هذا الكتاب المبين فنقل الله به الناس من الجاهلية والشرك إلى الهداية والتوحيد، من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وتحولت تلك الأمة التي تحمله من أمة لا تُذْكر إلا مثالاً على الهمجية والتخلف، إلى أمة تأخذ بزمام البشرية أجمع لتقودها لسعادة الدارين.
وما هي إلا سنوات وانطلق حملة هذا الكتاب يجوبون الديار، ويقطعون الفيافي حاملين رسالة التوحيد ومشعل الهداية للبشرية أجمع، وهاهي قبورهم المتناثرة هنا وهناك تبقى شاهداً على هذه الحقيقة.
ودار الزمان دورته، وأصبح الأمر كما قال الشاعر:
وما فتيء الزمان يدور حتى *** مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي*** وقد عاشوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر *** سؤال الدهر أين المسلمونا؟
واليوم وقد بدأت بشائر النور تلوح في الأفق، يشعر جيل الصحوة وحاملو الراية أن عنوان فلاحهم، وأمارة استقامة منهجهم، ودليل سيرهم على خطا الرعيل الأول في الإقبال على كتاب الله.
فبدأ الشباب يتوافدون على حفظ القرآن والإقبال على تلاوته وتدبره، وهي خطوة رائدة بإذن الله تحتاج إلى من يدفعها لتبذل المزيد، ولمن يقول لأولئك الذين لما يلحقوا بالقافلة: بادروا ففي الأمر متسع، وهلمّوا قبل أن يفوت الأوان.
وتأتي هذه الرسالة - وهي الرابعة ضمن رسائل للشباب - علها أن تساهم في دفع المسيرة، وتوجيه الشباب نحو مزيد من الإقبال على كتاب الله وتعاهده، وأن تكون معيناً ومثبتاً لأولئك الذين سلكوا هذا الطريق.
وفيها تحدثت عن فوائد حفظ القرآن الكريم، وبعض النماذج من أخبار الحفاظ، وختمتها بوصايا عاجلة لحملة كتاب الله، ولم أتحدث فيها عن طرق الحفظ ووسائله، فهذا الجانب قد تحدث عنه كثير من الكتَّاب.
والله أسأل أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، وأن يبارك في هذا الجهد إنه سميع مجيب،،،
محمد بن عبد الله الدويش
الرياض 3/12/1417هـ
لماذا نحفظ القرآن؟
لماذا نحفظ القرآن؟ سؤال لا يطرحه مسلم جاد إلا من باب الرغبة في التعرف على فضائل هذا العمل وآثاره ليزداد رغبة وحماسة؛ ذلك أن قضية فضيلة حفظ القرآن مقررة لدى كل مسلم بداهة، بغض النظر عن موقعه في سلم الثقافة، وعن مدى تدينه واستقامته.
وهاهي محاولة لحشد بعض الفضائل والمزايا لحفظ القرآن الكريم، سواء ما دلت عليها النصوص الشرعية صراحة، أو كان ذلك مما يفهم من عموم النصوص وقواعد الشرع.
1 - حفظ القرآن هو الأصل في تلقيه:
لقد وصف الله تبارك وتعالى هذا القرآن بقوله (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ). (العنكبوت: 49].
وقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم - كما في الحديث القدسي - : "إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرأه نائماً ويقظان". [رواه مسلم 2865].
قال النووي: "فمعناه: محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب بل يبقى على مر الزمان". [صحيح مسلم بشرح النووي 17/ 204].
ومن لطائف الاستدلال في ذلك ما استدل به أبو الفضل الرازي فقال: "ومنها أن الله عز وجل لم ينزله جملة كغيره من الكتب، بل نجوماً متفرقة مرتلة ما بين الآية والآيتين والآيات والسورة والقصة، في مدة زادت على عشرين سنة، إلا ليتلقوه حفظاً، ويستوي في تلقفه في هذه الصورة الكليل والفطن، والبليد والذكي، والفارغ والمشغول، والأمي وغير الأمي، فيكون لمن بعدهم فيهم أسوة في نقل كتاب الله حفظاً ولفظاً قرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف". [فضائل القرآن، لأبي الفضل الرازي، ص 49].
2 - القرآن مصدر التلقي عند الأمة:
القرآن الكريم دستور الأمة، فإليه الحكم والتحاكم، ومنه الاستمداد والتشريع، وما من صغيرة أو كبيرة إلا ونبأها في هذا الكتاب العزيز (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً). [مريم: 64]. وهو مع ذلك الضياء الذي تحمله الأمة لسائر الناس لتؤدي رسالتها، خير أمة أخرجت للناس، شهيدة عليهم في الدنيا والآخرة، فلا يصير المرء مسلماً إلا بالإيقان أنه من عند الله، والخضوع والاستسلام له، فإذا كان هذا شأن القرآن في حياة الأمة، فما بالك بشأن من يحفظه ويعنى به؟.
3 - حفظ القرآن فرض كفاية على الأمة:
صرح بعض أهل العلم أن حفظ القرآن الكريم واجب على الأمة فإن قام بذلك قوم وإلا سقط الإثم عن الباقين.
قال بدر الدين الزركشي: "قال أصحابنا: تعلم القرآن فرض كفاية، وكذلك حفظه واجب على الأمة، صرح به الجرجاني في الشافي والعبادي وغيرهما". [البرهان في علوم القرآن 1/ 456].
4 - التأسي بالنبي: صلى الله عليه وسلّم:
لقد جعل الله تبارك وتعالى للأمة في محمد صلى الله عليه وسلّم أسوة حسنة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً). [الأحزاب: 21].
ويتعبد المسلم لربه تبارك وتعالى في البحث والتعرف على سنة النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى ما كان يفعل في أموره وأحواله، ومن ثم التأسي بها واتباعها.
وحفظ كتاب الله تبارك وتعالى فيه من التأسي به صلى الله عليه وسلّم ؛ إذ كان صلى الله عليه وسلّم يحفظه ويديم تلاوته ومعارضة جبريل به، وقد نبه على هذا المعنى أبو الفضل الرازي المقرئ فقال: "فمنها: ما لزم الأمة من الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلّم في جلي أمر الشرع وخفيه، قولاً وفعلاً، على الوجوب أو الندب إلى أن يقوم دليل على أنه كان - عليه السلام - مخصوصاً به من قوله أو فعله، فلما وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان حافظاً بجميع ما نزل عليه من القرآن، ومأموراً بقراءته، حتى أنه - عليه السلام - من شدة تمسكه بحفظه كان يعرض على جبريل - عليهما السلام - في كل سنة مرة واحدة، وفي السنة التي قبض فيها عرض عليه - عليهما السلام - مرتين، وكان يعرض على أصحابه ويعرضون عليه، ويعجل به ليستكثر منه، لئلا ينسى ولحرصه عليه، فنهي عنه بقوله تعالى: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً). [طه: 114]. وبقوله عز وجل: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ). [القيامة: 16]. وأمر بالترتيل، وأمن مما كان يصده عن ذلك وهو خشية النسيان والتفلّت منه بقوله تعالى: (سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى). [الأعلى: 6]. علمنا أن الأمة لزم حفظه مع الإمكان وجوباً، إلا عن عذر بين، وإلا فقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة استحباباً وندباً". [فضائل القرآن، لأبي الفضل الرازي 45- 46].
ثم قال: بعد أن ذكر وجوهاً أخرى "غير أني أتقدم عليه بسند ما تقدم من قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم وعرضه على غيره، وعرض الصحابة رضي الله عنهم بعضهم على بعض، ففي جميع ذلك مستدل أنه من الله سبحانه وتعالى دعا به إلى حفظه، وعطف على العمل بما فيه، وأن لا يسع أحد أن يتخلف عن حفظه أو تحفظه، وتلاوته على الدوام إلا عن عذر ظاهر". [فضائل القرآن، لأبي الفضل الرازي 50].
5 - حفظ القرآن تأس بالسلف:
حفظ القرآن في مقتبل العمر ومطلع الشباب تأس بالسلف، وسير على جادتهم، وسلوك لهديهم، فقد كانوا يبدأون بحفظ القرآن قبل سائر العلوم، ويعنون به قبل بقية الفنون، وما أن تقرأ في ترجمة أحد أهل العلم إلا وترى في سيرته: "حفظ القرآن الكريم ثم ابتدأ بطلب العلم".
قال أبو الفضل الرازي: "وعلى الحفظ والتحفظ كان الصدر الأول ومن بعدهم، فربما قرأ الأكبر منهم على الأصغر منه سناً وسابقة، فلم يكن الفقهاء منهم ولا المحدثون والوعاظ يتخلفون عن حفظ القرآن والاجتهاد على استظهاره، ولا المقربون منهم على العلم بما لم يسعهم جهله منه، غير أنهم نسبوا إلى ما غلب عليهم من المعرفة بحروفه أو العلم بغيرها، إلى أن خلفهم الخلف الذين مضى ذكرهم، فاتهم من طراتهم وحداثتهم طلب حفظ القرآن وفي أوانه، ولحقهم العجز والبلادة على سنهم، من غير أن كان لهم أنس بتلاوة كتابٍ من ربهم، ولا بلطيف خطابه وشريف عتابه". [فضائل القرآن، لأبي الفضل الرازي 33].
وقال ابن عبد البر: "طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل، ومن تعداه مجتهداً زل، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه..." . [جامع بيان العلم وفضله 2/ 166].
قال محمد بن الفضل بن محمد: سمعت جدي يعني ابن خزيمة يقول: "استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة، فقال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك، فاستظهرت القرآن، فقال لي: امكث حتى تصلي بالختمة، ففعلت فلما عيدنا أذن لي".
وقال الإمام النووي: "كان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن يحفظ القرآن". [المجموع 1/ 38].
ويحكي ذلك ابن خلدون فيقول: "اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده، من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات". [مقدمة ابن خلدون 537- 538].
وعد ابن جماعة الأدب الأول من آداب طالب العلم في دروسه: "أن يبتدئ بكتاب الله العزيز، فيتقنه حفظاً، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه؛ فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها". [تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم 166- 167].
قال ابن مفلح: "وقال الميموني: سألت أبا عبد الله: أيهما أحب إليك، أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا، بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: إلا أن يعسر فتعلمه منه، ثم قال لي: إذا قرأ أولاً تعود القراءة ثم لزمها، وعلى هذا أتباع الإمام أحمد إلى زماننا هذا". [الآداب الشرعية 2/ 35].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما طلب حفظ القرآن: فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علماً: وهو إما باطل، أو قليل النفع، وهو أيضاً مقدم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم: من الكلام، أو الجدال والخلاف، أو الفروع النادرة، والتقليد الذي لا يحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله". [الفتاوى الكبرى 2/ 235].
6 - حفظ القرآن من خصائص هذه الأمة:
حفظ القرآن من خصائص هذه الأمة المحمدية، قال ابن الجزري رحمه الله: "ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة".
وقال أيضاً: " فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرأه بكل حال كما جاء في صفة أمته: ( أناجيلهم في صدورهم ) وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب، ولا يقرؤونه كله إلا نظراً، لاعن ظهر قلب، ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله، أقام له أئمة ثقاة تجردوا لتصحيحه، وبذلوا أنفسهم في إتقانه، وتلقوه من النبي صلى الله عليه وسلّم حرفاً حرفاً، لم يهملوا منه حركة ولا سكوناً، ولا إثباتاً ولا حذفاً، ولا دخل عليهم في شيء منه شك ولا وهم ".
ولا يزال حفظ القرآن شعاراً لهذه الأمة، وشوكة في حلوق أعدائها، تقول المستشرقة لورا فاغليري: "إننا اليوم نجد على الرغم من انحسار موجة الإيمان آلافاً من الناس القادرين على ترديده عن ظهر قلب، وفي مصر وحدها عدد من الحفاظ أكثر من عدد القادرين على تلاوة الأناجيل عن ظهر قلب في أوربا كلها".
ويعترف أحد من حرموا نور القرآن بهذه الميزة والخاصية؛ إذ يقول جيمس منشيز: "لعل القرآن هو أكثر الكتب التي تقرأ في العالم، وهو بكل تأكيد أيسرها حفظاً".
7 - حفظه ميسر للناس كلهم:
يأمل كثير من الناس أن يحقق قدراً من العلم ومستوى من التحصيل، لكن ربما تقف قدراته العقلية عائقاً دون ذلك، أما حفظ القرآن الكريم فله شأن آخر، فكم رأينا مَنْ محدودي الإدراك وضعاف الحفظ استطاعوا حفظ القرآن الكريم، ولذا عدّ النويري ذلك من إعجاز القرآن فقال: "والقرآن قد يسر الله تعالى حفظه على الغلمان في المدة القريبة والنسوان، وقد رأينا مَن حفظه على كبر سنه، وهذا من معجزاته ".
وقال القرطبي - حول قوله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر). [القمر: 17]:
"أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟". [الجامع لأحكام القرآن 17/ 134].
وعده بعض أهل العلم وجهاً من وجوه إعجاز القرآن كما قال الماوردي: "الوجه السادس عشر من إعجازه: تيسيره على جميع الألسنة، حتى حفظه الأعجمي الأبكم، ودار به لسان القبطي الألكن، ولا يحفظ غيره من الكتب كحفظه، ولا تجري به ألسنة البكم كجريها به، وما ذلك إلا بخصائص إلهية، فضله بها على سائر كتبه". [أعلام النبوة للماوردي 69. نقلاً عن خصائص القرآن للرومي، ص 162- 163].
قال الرافعي: "إنا لنعرف صبيان المكاتب - وقد كنا منهم - وما يسهل عليه القرآن وإظهاره، ولا يمكنه في أنفسهم حتى يثبتوه إلا نظمه واتساق هذا النظم، ولو هم أخذوا في غيره من فنون المعارف أو مختار الكلام أو نحوه مما يرادون على حفظه، أي ذلك كان لأعياهم وبلغ منهم إلى حد الانقطاع والتخاذل حتى لا يجمعوا منه قدراً في حجم القرآن إن جمعوه إلا وقد استنفدوا من العمر أضعاف ما يقطعونه في حفظ القرآن، على أنهم يبلغون هذا بالعفو والأناة ولا يبلغون مثله من ذلك إلا بالعنت والجهد" . [إعجاز القرآن 242].
"أرأيتم ذلك الصبي يرسله والده إلى الكتاب، لا يعرف للحروف شكلاً، ولا يملك من اللسان العربي إلا كلمات محدودة، يقضي بها الحاجات اليومية لمن هم في مثل سنه، ولا يدرك من المعاني ما وراءها، يرسله والده إلى الكتاب فيقرأ القرآن، ثم ما يلبث إلا زمناً يسيراً، فإذا به قد حفظ القرآن كله، وأجاد تلاوته". [من خصائص القرآن لفهد الرومي 161].
و"تلكم مدارس تحفيظ القرآن في العالم الإسلامي، نشأت منذ نزول القرآن ومازالت، يلتحق بها في كل بلد الآلاف يتلون القرآن، ويحفظون منه ما شاء الله، أرأيتم لو كان في حفظه مشقة، هل سيلتحق بها أحد أو يُلحق ابنه؟".
"أما المتعتع فيه فإنه لا يشكو صعوبة القرآن، وإنما يشكو تقصيره هو، فإذا ما أجاد سوراً منه، انطلق لسانه في السور كلها" [من خصائص القرآن لفهد الرومي 162].
وهذا كله مما يقوي العزيمة ويعلي الهمة للحفظ، ويجعل المرء يتجاوز مخاوف الفشل وعدم بلوغ الغاية.
8 - حفظ القرآن مشروع لا يعرف الفشل:
يمثل الخوف من الفشل عائقاً وحاجزاً يحول بين كثير من الناس وطموحاته، وبقدر سمو همته وعلو طموحه يتبدى له هذا الهاجس، وقد تكون نهاية كثير من مشاريع الناس وطموحاتهم الاصطدام الفعلي بحاجز الفشل وعدم القدرة على تجاوزه، وبغض النظر عن مناقشة النفسية التي يسيطر عليها مثل ذلك الشعور، فإن مشروع حفظ القرآن لا مجال فيه لهذا التفكير، لماذا؟
حين يبدأ الشاب برنامجه الطموح لحفظ القرآن ثم تنقطع نفسه وتنتهي عزيمته قبل النهاية، فهل فشل فعلاً، وقد حفظ بضعة أجزاء؟ إن هذا الجهد لم يذهب سدى، بل هب أنه لم يحفظ شيئاً يذكر، فالوقت الذي بذله في التلاوة والحفظ وحرم نفسه من كثير من شهواتها وملذاتها هو وقت قضاه في طاعة الله تبارك وتعالى، بل وكم آية وسورة رددها تالياً والحرف بعشر حسنات؟
9 - حملة القرآن هم أهل الله:
إن من تمام إكرام الله تبارك وتعالى لحملة كتابه أن جعلهم من أهله وخاصته، وهو وصف وشرف يهون دونه أي شرف يسعى إليه الناس في الدنيا؛ إذ يصبح العبد الفقير الضعيف من أهل لله وخاصته، وأهله وخاصته هم أولى الخلق بالرحمة والعفو والمحبة والقرب والزلفى منه تبارك وتعالى.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " إن لله أهلين من الناس" قالوا: يا رسول الله، من هم؟ قال: "هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته". [رواه ابن ماجه 215].
فلينتسب كل إنسان لما يحلو له: أهل الدنيا، أهل الثراء، أهل الفن، أهل الرياضة... ولتجُد القواميس بكل وصف وثناء، فهل تأتي بأكمل مما وصف به حملة كتاب الله: (أهل الله وخاصته)؟
10 - تكريم حامل القرآن من إجلال الله:
إكرام حافظ القرآن الكريم من إجلال الله سبحانه، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط". [رواه أبو داود 4843]. وهذا دليل على علو منزلته وعظم شأنه.
ذلك أن من يكرم حامل القرآن فإنه لا يكرمه لأنه فلان أو فلان، إنما لأنه يحمل كلام الله تبارك وتعالى فصار إكرامه إجلالاً لله عز وجل.
11 - حافظ القرآن أولى أن يغبط:
لقد رفع الله بعض الناس في هذه الدار على بعض درجات:
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ). [الزخرف: 32].
(انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً). [الإسراء: 21].
فجعل تبارك وتعالى من الناس صاحب المال الوفير، وصاحب المكانة العالية بين الناس، وجعل منهم صاحب الجاه والشهرة فيشير الناس لأحدهم ويتطلعون إليه ويغبطونه ويحسدونه على ما هو عليه، ولسان حال كل منهم يقول: "يا ليتني مكانه".
أما الذي يستحق الغبطة حقاً، ويستحق أن يتبوأ هذه المكانة فهو حامل كتاب الله عز وجل.
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه صلى الله عليه وسلّم قال: "لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل وآناء النهار". [رواه البخاري 5025، ومسلم 815].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل". [روا ه البخاري 5026].
12 - حفظه وتعلمه خير من متاع الدنيا:
حين يفرح الناس بالدينار والدرهم، ويحوزونها إلى رحالهم فإن حافظ القرآن وقارئه يظفر بخيرٍ من ذلك وأبقى.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟ قلنا: نعم، قال: فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان". [رواه مسلم 802].
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونحن في الصفة فقال: "أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم؟ فقلنا: يا رسول الله، نحب ذلك، قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل". [رواه مسلم 803].
ولن تفهم هذا النص حق الفهم إلا حين تدرك أن الإبل كانت آنذاك أنفس المال وأغلاه.
فما بالك أخي الشاب بمن يتعلم ويحفظ القرآن كله، ويقرأه مراراً، ويحرك قلبه بمواعظه؟ أرأيت أنك أحسنت الاختيار وأصبت الطريق وسلكت الجادة حين ثنيت ركبتك في المسجد تحفظ كتاب الله وتتعلمه، وما أنت عليه لا يقارن بحال بما عليه أترابك من الانصراف للهو أو الدنيا، فالزم غرزك، أو بادر للميدان إن كنت لما تسلكه بعد.
13 - حافظ القرآن هو أولى الناس بالإمامة:
الصلاة عمود الدين وثاني أركان الإسلام، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله، وليس شيء من الأعمال تركه كفر غير الصلاة...الخ فضائلها ومكانتها، ولهذا رأى الصحابة أن تقديم النبي صلى الله عليه وسلّم أبا بكر - رضي الله عنه - في الصلاة رضاً لدينهم، فرضوه لدنياهم.
فمن الذي يقدم فيها لأن يؤم الناس؟ إنه حامل القرآن:
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم". [رواه مسلم 672].
وعن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً، ولا يؤمنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه". [رواه مسلم 673].
14 - حافظ القرآن هو أولى الناس بالإمارة:
وكما أن حامل القرآن أولى الناس بالإمامة، فهو أولاهم بالإمارة والولاية، فعن نافع بن عبد الحارث أنه لقي عمر - رضي الله عنه - بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟، قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلّم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين". [رواه مسلم 817].
لقد كان إدراك الرعيل الأول لمنزلة حامل القرآن دافعاً لهم أن يتجاوزوا المعاني الضيقة التي تكبل الناس فتحول دون بلوغ من يحمل الصفات الخيرة منزلته التي يستحقها.
وأنت حين تسعى لحفظ كتاب الله تبارك وتعالى فليس الذي يدفعك لذلك الحرص على الإمارة والولاية، أو أن تُقدم إماماً للناس، إنما تشعر أن تقديم الشرع لحامل القرآن دليل على فضله ومنزلته، فأنت حينها تقصد هذا الفضل والمنزلة لا ما ينتج عنه من الإمارة أو الولاية ونحوها.
15 - حفظ القرآن مهر للصالحات من المؤمنات:
وحفظ القرآن مهرٌ وأنعم به من مهر فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلّم امرأة فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فصعد النظر إليها وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً، جلست فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: "هل عندك من شيء؟" فقال: لا والله يا رسول الله، قال: "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً؟" فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئاً، قال: "انظر ولو خاتماً من حديد" فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد، ولكن هذا إزاري - قال: سهل: ما له رداء - فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك شيء؟ فجلس الرجل حتى طال مجلسه، ثم قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلّم مولياً، فأمر به فدعي فلما جاء قال: "ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا، عدها. قال: أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم. قال: اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن" [رواه البخاري 5030، ومسلم 1425].
وإن لم تجد من يُزوجك بما معك من القرآن، فلعل سلوكك هذا الطريق يكون مهراً لكاعب لا تشيخ ولا تموت، إليها المنتهى في الجمال، وقد بلغت الغاية ومضرب المثل، لو اطلعت على أهل ا لأرض لملأت ما بينهما ريحاً، فبادر بتقديم مهرها جعلنا الله وإياك من أهل هذا النعيم.
16 - حافظ القرآن يقدم في قبره:
وكما أعلى الله شأن حامله في الدنيا فقد أعلى شأنه في الآخرة، فهو أولى الناس بالتقديم حتى بعد موته، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: "أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟". فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد. وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. [رواه البخاري 1343].
إن تكريم حامل القرآن لم يقف عند هذه الدار بل تجاوزها إلى الدار الباقية، فيقدم في قبره، وهنيئاً له ما يلقاه بعد ذلك.
17 - شفاعته لحامله:
حين تلم بالمرء حاجة من حوائج الدنيا، فتضيق أمامه السبل وتغلق الأبواب في وجهه، فإنه يبحث ويفتش عن فلان أو فلان من الناس ليكون شفيعاً له في حاجته وقاضياً لها.
فما بالك بالحاجة الأم، والقضية الأساس، التي يلقاها العبد أمام الله عز وجل؟
ما بالك بهذه القضية التي يكون المرء فيها رهن عمله وما قدّم، أليس يحتاج فيها إلى الشفاعة؟ فكيف بمن يشفع له القرآن الكريم، بمن تأتي سور القرآن كما قال: صلى الله عليه وسلّم - تُحاج عنه، تحاج عن صاحبها الذي أمضى وقتاً ودهراً من عمره في حفظها وتلاوتها وتعلمها وتعليمها؟
عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار". [رواه ابن حبان].
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: "اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة". [رواه مسلم 804].
وعن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب فيقول: أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك ". [رواه ابن ماجه 3781، والدارمي 3391].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان". [رواه أحمد 6589].
وحيث الفتى يرتاع في ظلماته *** من القبر يلقاه سناً متهللاً
هناك يهنيه مقيلاً وروضة *** ومن أجله في روضة العز يجتلا
يناشد في إرضائه لحبيبه *** وأجدر به سؤلاً إليه موصلاً
18 - القرآن حجة لك أو عليك:
المرء لا يخلو أن يكون القرآن حجة له أو عليه فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها". [رواه مسلم 223].
إن الذي يقضي وقته، ويتخلى عن مشاغله لأجل أن يقضي وقتاً مع كتاب الله سبحانه وتعالى، حفظاً وتلاوة ومدارسة، ثم يصبح هذا الكتاب يتردد على لسانه، فهو يتلو هذا الكتاب قائماً أو قاعداً، ذاهباً أو آتياً أينما حل وحيثما ارتحل، إن مثل هذا المرء حريُُ بأن يكون القرآن حجة له يوم القيامة كما كان شفيعاً له.
19 - استحقاق ظل الله يوم لا ظل إلا ظله:
في يوم القيامة تزداد الأهوال مع الناس ويبلغ الكرب مداه، ومن كروب يوم القيامة ما وصفه صلى الله عليه وسلّم في حديث المقداد بن الأسود - رضي الله عنه -: " تدنى الشمس يوم القيامة من الخلائق حتى تكون منهم كمقدار ميل، قال سليم بن عامر - أحد رواة الحديث - فو الله ما أدري ما يعني بالميل، أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيده إلى فيه". [رواه مسلم 2864].
وفي هذا الموقف الرهيب يكرم الله سبحانه وتعالى طائفة من عباده فيظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما أخبر صلى الله عليه وسلّم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه". [رواه البخاري 660، ومسلم1031].
فالشاب الذي نشأ في بيوت الله وعلى حفظ كتابه وتدبره من أولى الناس بهذا الوصف (شاب نشأ في عبادة ربه)؛ إذ التعبد لله بتلاوة كتابه وحفظه وتعاهده من أفضل ما يتقرب به العبد إلى مولاه.
20 - حفظ القرآن سبب للنجاة من النار:
إن من أهم ما يسعى إليه المسلم في هذه الحياة أن ينجيه الله من النار، وقد كتب الله تبارك وتعالى لمن حفظ القرآن ألا تحرقه النار، فعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: "لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق" [رواه أحمد 4/ 155، والدارمي 3192، وأبو الفضل الرازي في فضائل القرآن 125، والفريابي 2].
وقد فسره بعض أهل العلم بأن المقصود بذلك حافظ القرآن فروى أبو الفضل الرازي عن يزيد بن عمرو، قال: سألت الأصمعي عنه قال: يعني في إنسان، أراد أن من علمه الله القرآن من المسلمين وحفظه إياه لم تحرقه النار يوم القيامة إن ألقي فيها بالذنوب، كما قال: أبو أمامة: "اقرأوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف، فإن الله لا يعذب بالنار قلباً وعى القرآن". [فضائل القرآن لأبي الفضل الرازي 155- 156].
وقال: أبو عبيد: "وجه هذا عندنا أن يكون أراد بالإهاب قلب المؤمن وجوفه الذي قد وعى القرآن". [فضائل القرآن لأبي عبيد 23].
21 - رفعة الدرجات في الجنة:
حين يدخل المؤمنون الجنة فإن حافظ القرآن يعلو غيره بدرجاته لتعلو منزلته وترتفع درجته في الآخرة كما ارتفعت في الدنيا.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيقال: اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة". [رواه الترمذي 2915].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "يقال: لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها". [رواه الترمذي 2914].
قال: ابن حجر الهيتمي: "الخبر المذكور خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب، لا بمن يقرأ بالمصحف، لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها ولا يتفاوتون قلة وكثرة، وإنما الذي يتفاوتون فيه كذلك هو الحفظ عن ظهر قلب، فلهذا تفاوتت منازلهم في الجنة بحسب تفاوت حفظهم، ومما يؤيد ذلك أيضاً أن حفظ القرآن عن ظهر قلب فرض كفاية على الأمة، ومجرد القراءة في المصحف من غير حفظ لا يسقط بها الطلب، فليس لها كبير فضل كفضل الحفظ، فتعين أنه - أعني الحفظ عن ظهر قلب - هو المراد في الخبر، وهذا ظاهر من لفظ الخبر بأدنى تأمل، وقول الملائكة له: اقرأ وارق صريح في حفظه عن ظهر قلب كما لا يخفى". [الفتاوى الحديثية، ص 156].
22 - حافظه مع السفرة الكرام البررة:
حافظ القرآن مع السفرة الكرام البررة فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: " مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران". [رواه البخاري 4937].
وأولئك السفرة اختارهم الله تبارك وتعالى، وشرفهم بأن تكون بأيديهم الصحف المطهرة (فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ*مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرَامٍ بَرَرَةٍ). [عبس: 13 – 16] .
وما نفتأ نرى الناس اليوم يفتخرون حين ينسبون إلى عظيم من العظماء، أو رجل يحمل الشهرة والاسم اللامع ولو كان ذلك في ميدان الرياضة أو اللهو الباطل، فهنيئاً لهؤلاء ما اختاروه من هوان لأنفسهم، وهنيئاً لحفظة كتاب الله حين اختاروا أن يكونوا مع السفرة الكرام البررة.
23 - الحرف بحسنة والحسنة بعشر:
حافظ القرآن هو أكثر الناس تلاوة لكتاب الله فلن يطيق حفظه إلا بترداده، ولن يثبت له ذلك إلا بمراجعته. ولك أن تقدر أي جزاء وثواب يحصل له حين يجزى بالحرف الواحد حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف الله لمن شاء فعن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" . [رواه الترمذي 2910].
وحين يكون الشاب ثانياً ركبته في بيت من بيوت الله ساعة كل يوم أو أكثر، فكم حرف سيقرأه؟ ناهيك عن مراجعته وترداده لما حفظ فيما سوى هذا الوقت.
وإذا أضيف لذلك صلاح النية وصدق العزيمة، والمحبة لكتاب الله، والتأثر بمواعظه، والتأدب بآدابه، ومراعاة أدب التلاوة، فهذه أبواب أخر فيها من الأجر مالا يعلمه إلا الكريم المنان.
فهاهو الميدان للتنافس والتسابق بالخيرات، هذا هو الميدان الحق لا شهوات الدنيا الفانية وحطامها الزائل.
24 - حافظ القرآن يقرأ في كل أحواله:
حافظ القرآن هو الذي يقدر أن يقرأ في كل حال، فهو يقرأ ماشياً، ويقرأ حين يقود سيارته في سفر أو حضر، ويقرأ حين ينتظر أحداً، يقرأ مضطجعاً وقاعداً وقائماً، أما غيره فلا يقرأ إلا حين يتهيأ ويتطهر، ويمسك مصحفه، وله أسوة بنبيه صلى الله عليه وسلّم إذ دخل مكة وهو على دابته يقرأ القرآن.
وقديماً كان آباؤنا يشبهون حافظ القرآن بالمسافر الذي زاده تمر فهو يأكل متى شاء، لا يحتاج إلا لإدخال يده في جرابه، أما غير الحافظ فهو يشبه من زاده دقيق فلابد أن يقف، وينزل عن راحلته، ويعجن، ويجمع الحطب... وذلك أمر يطول.
25 - حفظ القرآن شفاء للصدور:
تزداد شكوى الصالحين اليوم من قسوة القلوب وصدئها، وتكثر التساؤلات عن المعاناة التي يعاني منها الجميع بما فيهم الصالحون، وفي ظل البحث والتساؤل عن الحل والعلاج لن يجد أحد علاجاً غير الإقبال على كتاب الله تبارك وتعالى الذي وصفه من أنزله (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ). [الزمر: 23].
فالانشغال بحفظ القرآن، فيه علاج لصدأ القلوب وقسوتها وزيادة للإيمان قال تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). [الأنفال: 2]. (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ). [التوبة: 124].
26 - حين يفني المرء شبابه بحفظ كتاب الله:
سيقف كل امرئ طال عمره أو قصر بين يدي ربه ويُسأل ويحاسب، ومن صور الحساب ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله: "لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم". [رواه الترمذي 2416].
وهو موقف يبعث على الوجل والخوف، تتسارع الصور وتتزاحم المواقف في ذهن المرء حين يسمع بهذا الحديث، ويشعر أنه سوف يسأل عن حياته ووقته، ثم يخص الشباب بسؤال آخر، فماذا عساه قائل؟ وبم يجيب؟ وهل سيجد في تاريخه وشبابه ما يسعفه بإجابة تنجيه من هول الموقف؟
فما بالك بمن سيقول: يا رب أفنيت زهرة شبابي وسني عمري ثانٍ ركبتي في أفضل بقاع الأرض إليك، في بيتك حاملاً مصحفي متطهراً، أتلو كلامك وأحفظه، وحين أنهيت حفظه شغلت نفسي بمراجعته وتكراره حتى لا يتفلت مني وأنساه.
وحين يرى ذلك من حرم هذا الفضل فلن يسعه إلا أن يقول: (يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً). [النساء: 73].
27 - حفظ القرآن خير ما تنفق به الأوقات:
حفظ القرآن الكريم استثمار للوقت بما ينفع، وانشغال وانصراف عن القيل والقال، واللغط واللهو، فحين يسابق الناس إلى مجالس اللهو التي ينهشون فيها أعراض الناس، أو يتحدثون عما يهيج الشهوات والغرائز، فالشاب المشتغل بحفظ القرآن له شأن آخر وهم آخر، يا له من بون شاسع بين هؤلاء وأولئك، بل إن المقارنة بين هذين النموذجين غير متكافئة.
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
والنفس أبيه عصية إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، فأولئك الذين شغلوا أنفسهم بحفظ كتاب الله ربما لو تركوا ذلك كان البديل إضاعة الوقت فيما لا ينفع، بل ربما فيما حرم الله تبارك وتعالى.
28 - حفظ القرآن في مقتبل العمر خطوة نحو الاستقامة:
كم نرى ونشاهد في عصرنا الحاضر من فئام من الشباب أعرضوا عن الله، وساروا في طريق الغواية وركبوا جادة الانحراف؟.
ظاهرة لم تعد مجهولة أو خافية على ذي عين، بل صار الأب يضع يده على قلبه ويرقب ابنه في سائر أحواله، وهو يخشى أن تزل به القدم.
أليس انشغال الشاب بحفظ القرآن مدعاة لحفظه في مقتبل حياته وفترة مراهقته حيث تكثر الصبوة، ويميل الأقران للشهوات؟.
إن الشاب الذي يشغل وقته في مقتبل شبابه بحفظ القرآن، ينصرف عما يعصف بأمثاله من الشهوات والمغريات، فيكون حفظاً لدينه واستقامته، وسائرُ عمره مبناه على هذه البذرة والركيزة.
29 - القرآن كتاب علم وهدى:
والقرآن كتاب علم يحتاجه كل متخصص، فالفقيه يستدل به، وعالم العقيدة يحتج به، ومن يدرس سنن الله في الأمم والتاريخ، ومن يدرس الدعوة، والنحو.. فكل عالم مهما كان علمه لا يستغني عن الاحتجاج بالقرآن والاستشهاد به، ومن ثم فحافظ القرآن لم يحز علماً واحداً بل علوماً عدة في هذا الكتاب العزيز.
أحدهم وهو في قاعة الامتحان ورد إليه سؤال في مادة التاريخ عن أسباب النصر، وكان يحفظ سورة الأنفال فاستحضر الآيات ودوَّن ما استنبطه منها.
والأمر لا يقف عند مجرد إسعاف طالب بالإجابة في قاعة الامتحان، بل من يدرك هذه الفوائد الغزيرة في هذا الموطن يدركها فيما سواه.
ومع التوجه العلمي الذي نراه اليوم - وهو ثمرة من ثمرات الصحوة المباركة - نرى أن هناك خللاً في ترتيب الأولويات عند فئة من الشباب لا يعدون من العلم إلا حفظ المسائل وأقوال الرجال، أما القرآن فتقرأ ألفاظه للتعبد فقط.
وفي حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة وحدثنا عن رفعها...." . [رواه البخاري 7086، ومسلم 143].
وقال ابن عبد البر: "القرآن أصل العلم، فمن حفظه قبل بلوغه، ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب كان له ذلك عوناً كبيراً على مراده منه". [صحيح جامع بيان العلم وفضله 454].
30 - حافظ القرآن لا يعوزه الاستشهاد:
لابد لك أن تقف متحدثاً، أو واعظاً، أو مدرساً، لاسيما وأنك اخترت لنفسك طريق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فحين تكون حافظاً للقرآن فهو أمامك وبين عينيك تحضرك الأدلة في الترغيب والترهيب، والأحكام والفرائض، والسلوك والآداب، والقصص والعبر، في حين يحتاج غيرك لمراجعة المعاجم، وكتابة الآية، لذا فهو محروم من الاستطراد واقتناص الفوائد الواردة على الذهن، فضلاً عن الارتجال والحديث دون إعداد حين يتطلب الموقف ذلك.
بل والحافظ حين ينسى الآية وتعزب عن ذاكرته فلا يحتاج إلا دقائق معدودة يراجع فيها المصحف؛ إذ هو يعرف الآية في أي سورة وأي موضع.
31 - حِلَق القرآن ميدان للصحبة الصالحة:
يشعر المرء مهما كان أنه بحاجة إلى صحبة ورفقة، والمسلم الذي يعنيه شأن دينه يدرك تمام الإدراك تلك الضرورة الملحة لاختيار الصحبة الصالحة الذين يأمنهم على دينه، ويرضى أن يحشر معهم يوم القيامة لذا فقد أشار أنصح الخلق صلى الله عليه وسلّم وأعرفهم بالله سبحانه إلى هذا المعنى في أحاديث عدة.
منها قوله: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". [رواه الترمذي 2378، وأبو داود 4833].
وقوله صلى الله عليه وسلّم "لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي". [رواه أحمد 3/ 38، والترمذي 2395، وأبو داود 4832، والدارمي 1985].
وأخبر صلى الله عليه وسلّم أن حال المرء يوم القيامة مرتبط بحال قرينه فقال: "المرء مع من أحب". [رواه البخاري 6170، ومسلم 2641].
وحافظ القرآن يتيح له درس الحفظ التعرف واللقاء بالصحبة الصالحة ومجالسة أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، فهو من أسعد الناس بفضائل الصحبة الصالحة في الدنيا والآخرة.
بل حين يُكْرِم أصحابه فذلك من إجلال الله، وحين يحبهم فيحبهم لله، وحين يتبرأ الناس يوم القيامة من أخلائهم فهؤلاء أخلاء على سرر متقابلين: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ* يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ). [الزخرف: 67- 68].
32 - التعلق به خطوة للتربية الجادة:
يدرك المربون اليوم الحاجة الملحة للتربية على معالي الأمور، ولتخريج جيل يتمثل المعاني الجادة في حياته، فيدفعهم ذلك الشعور إلى التساؤل عن طريق تحقيق ذلك؟
ولا شك أن الانشغال بحفظ القرآن وثني الركب في حلق المساجد مما يعوِّد الشاب على الجدية ويطرد عنه الكسل والتواني، فيعتاد التحمل والجد؛ إذ هو يجلس في المسجد ساعات لحفظ القرآن يخصص هذا الجزء من وقته كل يوم، ناهيك عما يضحي به مما يتعلق به أترابه الذين يمتِّعون أنفسهم باللهو والعبث والجري وراء متع الدنيا، وذلك كله يخلق نفساً عالية متعلقة بالأمور الجادة.
لماذا نحفظ القرآن؟
مجالس حفظ القرآن
إلى المحاضن التربوية
الحـفظ بين العزيمة وهم الطريقة
من سير الحفاظ وأخبارهم
وصايا لحملة القرآن
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: -
فقد كانت البشرية تعيش في تخبط وتيه وتُوزِّع ولاءاتها بين طواغيت وأصنام، وبين كهان ومشعوذين، قد أسلمت يدها كالأعمى لهؤلاء يقودونها أينما أرادوا وكيفما شاءوا.
فجاء الله تبارك وتعالى بهذا الكتاب هادياً ومبشراً ونذيراً للناس، (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ). [إبراهيم: 1 – 2].
جاء هذا الكتاب المبين فنقل الله به الناس من الجاهلية والشرك إلى الهداية والتوحيد، من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وتحولت تلك الأمة التي تحمله من أمة لا تُذْكر إلا مثالاً على الهمجية والتخلف، إلى أمة تأخذ بزمام البشرية أجمع لتقودها لسعادة الدارين.
وما هي إلا سنوات وانطلق حملة هذا الكتاب يجوبون الديار، ويقطعون الفيافي حاملين رسالة التوحيد ومشعل الهداية للبشرية أجمع، وهاهي قبورهم المتناثرة هنا وهناك تبقى شاهداً على هذه الحقيقة.
ودار الزمان دورته، وأصبح الأمر كما قال الشاعر:
وما فتيء الزمان يدور حتى *** مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي*** وقد عاشوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر *** سؤال الدهر أين المسلمونا؟
واليوم وقد بدأت بشائر النور تلوح في الأفق، يشعر جيل الصحوة وحاملو الراية أن عنوان فلاحهم، وأمارة استقامة منهجهم، ودليل سيرهم على خطا الرعيل الأول في الإقبال على كتاب الله.
فبدأ الشباب يتوافدون على حفظ القرآن والإقبال على تلاوته وتدبره، وهي خطوة رائدة بإذن الله تحتاج إلى من يدفعها لتبذل المزيد، ولمن يقول لأولئك الذين لما يلحقوا بالقافلة: بادروا ففي الأمر متسع، وهلمّوا قبل أن يفوت الأوان.
وتأتي هذه الرسالة - وهي الرابعة ضمن رسائل للشباب - علها أن تساهم في دفع المسيرة، وتوجيه الشباب نحو مزيد من الإقبال على كتاب الله وتعاهده، وأن تكون معيناً ومثبتاً لأولئك الذين سلكوا هذا الطريق.
وفيها تحدثت عن فوائد حفظ القرآن الكريم، وبعض النماذج من أخبار الحفاظ، وختمتها بوصايا عاجلة لحملة كتاب الله، ولم أتحدث فيها عن طرق الحفظ ووسائله، فهذا الجانب قد تحدث عنه كثير من الكتَّاب.
والله أسأل أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، وأن يبارك في هذا الجهد إنه سميع مجيب،،،
محمد بن عبد الله الدويش
الرياض 3/12/1417هـ
لماذا نحفظ القرآن؟
لماذا نحفظ القرآن؟ سؤال لا يطرحه مسلم جاد إلا من باب الرغبة في التعرف على فضائل هذا العمل وآثاره ليزداد رغبة وحماسة؛ ذلك أن قضية فضيلة حفظ القرآن مقررة لدى كل مسلم بداهة، بغض النظر عن موقعه في سلم الثقافة، وعن مدى تدينه واستقامته.
وهاهي محاولة لحشد بعض الفضائل والمزايا لحفظ القرآن الكريم، سواء ما دلت عليها النصوص الشرعية صراحة، أو كان ذلك مما يفهم من عموم النصوص وقواعد الشرع.
1 - حفظ القرآن هو الأصل في تلقيه:
لقد وصف الله تبارك وتعالى هذا القرآن بقوله (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ). (العنكبوت: 49].
وقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم - كما في الحديث القدسي - : "إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرأه نائماً ويقظان". [رواه مسلم 2865].
قال النووي: "فمعناه: محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب بل يبقى على مر الزمان". [صحيح مسلم بشرح النووي 17/ 204].
ومن لطائف الاستدلال في ذلك ما استدل به أبو الفضل الرازي فقال: "ومنها أن الله عز وجل لم ينزله جملة كغيره من الكتب، بل نجوماً متفرقة مرتلة ما بين الآية والآيتين والآيات والسورة والقصة، في مدة زادت على عشرين سنة، إلا ليتلقوه حفظاً، ويستوي في تلقفه في هذه الصورة الكليل والفطن، والبليد والذكي، والفارغ والمشغول، والأمي وغير الأمي، فيكون لمن بعدهم فيهم أسوة في نقل كتاب الله حفظاً ولفظاً قرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف". [فضائل القرآن، لأبي الفضل الرازي، ص 49].
2 - القرآن مصدر التلقي عند الأمة:
القرآن الكريم دستور الأمة، فإليه الحكم والتحاكم، ومنه الاستمداد والتشريع، وما من صغيرة أو كبيرة إلا ونبأها في هذا الكتاب العزيز (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً). [مريم: 64]. وهو مع ذلك الضياء الذي تحمله الأمة لسائر الناس لتؤدي رسالتها، خير أمة أخرجت للناس، شهيدة عليهم في الدنيا والآخرة، فلا يصير المرء مسلماً إلا بالإيقان أنه من عند الله، والخضوع والاستسلام له، فإذا كان هذا شأن القرآن في حياة الأمة، فما بالك بشأن من يحفظه ويعنى به؟.
3 - حفظ القرآن فرض كفاية على الأمة:
صرح بعض أهل العلم أن حفظ القرآن الكريم واجب على الأمة فإن قام بذلك قوم وإلا سقط الإثم عن الباقين.
قال بدر الدين الزركشي: "قال أصحابنا: تعلم القرآن فرض كفاية، وكذلك حفظه واجب على الأمة، صرح به الجرجاني في الشافي والعبادي وغيرهما". [البرهان في علوم القرآن 1/ 456].
4 - التأسي بالنبي: صلى الله عليه وسلّم:
لقد جعل الله تبارك وتعالى للأمة في محمد صلى الله عليه وسلّم أسوة حسنة (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً). [الأحزاب: 21].
ويتعبد المسلم لربه تبارك وتعالى في البحث والتعرف على سنة النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى ما كان يفعل في أموره وأحواله، ومن ثم التأسي بها واتباعها.
وحفظ كتاب الله تبارك وتعالى فيه من التأسي به صلى الله عليه وسلّم ؛ إذ كان صلى الله عليه وسلّم يحفظه ويديم تلاوته ومعارضة جبريل به، وقد نبه على هذا المعنى أبو الفضل الرازي المقرئ فقال: "فمنها: ما لزم الأمة من الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلّم في جلي أمر الشرع وخفيه، قولاً وفعلاً، على الوجوب أو الندب إلى أن يقوم دليل على أنه كان - عليه السلام - مخصوصاً به من قوله أو فعله، فلما وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان حافظاً بجميع ما نزل عليه من القرآن، ومأموراً بقراءته، حتى أنه - عليه السلام - من شدة تمسكه بحفظه كان يعرض على جبريل - عليهما السلام - في كل سنة مرة واحدة، وفي السنة التي قبض فيها عرض عليه - عليهما السلام - مرتين، وكان يعرض على أصحابه ويعرضون عليه، ويعجل به ليستكثر منه، لئلا ينسى ولحرصه عليه، فنهي عنه بقوله تعالى: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً). [طه: 114]. وبقوله عز وجل: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ). [القيامة: 16]. وأمر بالترتيل، وأمن مما كان يصده عن ذلك وهو خشية النسيان والتفلّت منه بقوله تعالى: (سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى). [الأعلى: 6]. علمنا أن الأمة لزم حفظه مع الإمكان وجوباً، إلا عن عذر بين، وإلا فقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة استحباباً وندباً". [فضائل القرآن، لأبي الفضل الرازي 45- 46].
ثم قال: بعد أن ذكر وجوهاً أخرى "غير أني أتقدم عليه بسند ما تقدم من قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم وعرضه على غيره، وعرض الصحابة رضي الله عنهم بعضهم على بعض، ففي جميع ذلك مستدل أنه من الله سبحانه وتعالى دعا به إلى حفظه، وعطف على العمل بما فيه، وأن لا يسع أحد أن يتخلف عن حفظه أو تحفظه، وتلاوته على الدوام إلا عن عذر ظاهر". [فضائل القرآن، لأبي الفضل الرازي 50].
5 - حفظ القرآن تأس بالسلف:
حفظ القرآن في مقتبل العمر ومطلع الشباب تأس بالسلف، وسير على جادتهم، وسلوك لهديهم، فقد كانوا يبدأون بحفظ القرآن قبل سائر العلوم، ويعنون به قبل بقية الفنون، وما أن تقرأ في ترجمة أحد أهل العلم إلا وترى في سيرته: "حفظ القرآن الكريم ثم ابتدأ بطلب العلم".
قال أبو الفضل الرازي: "وعلى الحفظ والتحفظ كان الصدر الأول ومن بعدهم، فربما قرأ الأكبر منهم على الأصغر منه سناً وسابقة، فلم يكن الفقهاء منهم ولا المحدثون والوعاظ يتخلفون عن حفظ القرآن والاجتهاد على استظهاره، ولا المقربون منهم على العلم بما لم يسعهم جهله منه، غير أنهم نسبوا إلى ما غلب عليهم من المعرفة بحروفه أو العلم بغيرها، إلى أن خلفهم الخلف الذين مضى ذكرهم، فاتهم من طراتهم وحداثتهم طلب حفظ القرآن وفي أوانه، ولحقهم العجز والبلادة على سنهم، من غير أن كان لهم أنس بتلاوة كتابٍ من ربهم، ولا بلطيف خطابه وشريف عتابه". [فضائل القرآن، لأبي الفضل الرازي 33].
وقال ابن عبد البر: "طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل، ومن تعداه مجتهداً زل، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه..." . [جامع بيان العلم وفضله 2/ 166].
قال محمد بن الفضل بن محمد: سمعت جدي يعني ابن خزيمة يقول: "استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة، فقال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك، فاستظهرت القرآن، فقال لي: امكث حتى تصلي بالختمة، ففعلت فلما عيدنا أذن لي".
وقال الإمام النووي: "كان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن يحفظ القرآن". [المجموع 1/ 38].
ويحكي ذلك ابن خلدون فيقول: "اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده، من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات". [مقدمة ابن خلدون 537- 538].
وعد ابن جماعة الأدب الأول من آداب طالب العلم في دروسه: "أن يبتدئ بكتاب الله العزيز، فيتقنه حفظاً، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه؛ فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها". [تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم 166- 167].
قال ابن مفلح: "وقال الميموني: سألت أبا عبد الله: أيهما أحب إليك، أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا، بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: إلا أن يعسر فتعلمه منه، ثم قال لي: إذا قرأ أولاً تعود القراءة ثم لزمها، وعلى هذا أتباع الإمام أحمد إلى زماننا هذا". [الآداب الشرعية 2/ 35].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما طلب حفظ القرآن: فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علماً: وهو إما باطل، أو قليل النفع، وهو أيضاً مقدم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم: من الكلام، أو الجدال والخلاف، أو الفروع النادرة، والتقليد الذي لا يحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله". [الفتاوى الكبرى 2/ 235].
6 - حفظ القرآن من خصائص هذه الأمة:
حفظ القرآن من خصائص هذه الأمة المحمدية، قال ابن الجزري رحمه الله: "ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة".
وقال أيضاً: " فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرأه بكل حال كما جاء في صفة أمته: ( أناجيلهم في صدورهم ) وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب، ولا يقرؤونه كله إلا نظراً، لاعن ظهر قلب، ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله، أقام له أئمة ثقاة تجردوا لتصحيحه، وبذلوا أنفسهم في إتقانه، وتلقوه من النبي صلى الله عليه وسلّم حرفاً حرفاً، لم يهملوا منه حركة ولا سكوناً، ولا إثباتاً ولا حذفاً، ولا دخل عليهم في شيء منه شك ولا وهم ".
ولا يزال حفظ القرآن شعاراً لهذه الأمة، وشوكة في حلوق أعدائها، تقول المستشرقة لورا فاغليري: "إننا اليوم نجد على الرغم من انحسار موجة الإيمان آلافاً من الناس القادرين على ترديده عن ظهر قلب، وفي مصر وحدها عدد من الحفاظ أكثر من عدد القادرين على تلاوة الأناجيل عن ظهر قلب في أوربا كلها".
ويعترف أحد من حرموا نور القرآن بهذه الميزة والخاصية؛ إذ يقول جيمس منشيز: "لعل القرآن هو أكثر الكتب التي تقرأ في العالم، وهو بكل تأكيد أيسرها حفظاً".
7 - حفظه ميسر للناس كلهم:
يأمل كثير من الناس أن يحقق قدراً من العلم ومستوى من التحصيل، لكن ربما تقف قدراته العقلية عائقاً دون ذلك، أما حفظ القرآن الكريم فله شأن آخر، فكم رأينا مَنْ محدودي الإدراك وضعاف الحفظ استطاعوا حفظ القرآن الكريم، ولذا عدّ النويري ذلك من إعجاز القرآن فقال: "والقرآن قد يسر الله تعالى حفظه على الغلمان في المدة القريبة والنسوان، وقد رأينا مَن حفظه على كبر سنه، وهذا من معجزاته ".
وقال القرطبي - حول قوله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر). [القمر: 17]:
"أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟". [الجامع لأحكام القرآن 17/ 134].
وعده بعض أهل العلم وجهاً من وجوه إعجاز القرآن كما قال الماوردي: "الوجه السادس عشر من إعجازه: تيسيره على جميع الألسنة، حتى حفظه الأعجمي الأبكم، ودار به لسان القبطي الألكن، ولا يحفظ غيره من الكتب كحفظه، ولا تجري به ألسنة البكم كجريها به، وما ذلك إلا بخصائص إلهية، فضله بها على سائر كتبه". [أعلام النبوة للماوردي 69. نقلاً عن خصائص القرآن للرومي، ص 162- 163].
قال الرافعي: "إنا لنعرف صبيان المكاتب - وقد كنا منهم - وما يسهل عليه القرآن وإظهاره، ولا يمكنه في أنفسهم حتى يثبتوه إلا نظمه واتساق هذا النظم، ولو هم أخذوا في غيره من فنون المعارف أو مختار الكلام أو نحوه مما يرادون على حفظه، أي ذلك كان لأعياهم وبلغ منهم إلى حد الانقطاع والتخاذل حتى لا يجمعوا منه قدراً في حجم القرآن إن جمعوه إلا وقد استنفدوا من العمر أضعاف ما يقطعونه في حفظ القرآن، على أنهم يبلغون هذا بالعفو والأناة ولا يبلغون مثله من ذلك إلا بالعنت والجهد" . [إعجاز القرآن 242].
"أرأيتم ذلك الصبي يرسله والده إلى الكتاب، لا يعرف للحروف شكلاً، ولا يملك من اللسان العربي إلا كلمات محدودة، يقضي بها الحاجات اليومية لمن هم في مثل سنه، ولا يدرك من المعاني ما وراءها، يرسله والده إلى الكتاب فيقرأ القرآن، ثم ما يلبث إلا زمناً يسيراً، فإذا به قد حفظ القرآن كله، وأجاد تلاوته". [من خصائص القرآن لفهد الرومي 161].
و"تلكم مدارس تحفيظ القرآن في العالم الإسلامي، نشأت منذ نزول القرآن ومازالت، يلتحق بها في كل بلد الآلاف يتلون القرآن، ويحفظون منه ما شاء الله، أرأيتم لو كان في حفظه مشقة، هل سيلتحق بها أحد أو يُلحق ابنه؟".
"أما المتعتع فيه فإنه لا يشكو صعوبة القرآن، وإنما يشكو تقصيره هو، فإذا ما أجاد سوراً منه، انطلق لسانه في السور كلها" [من خصائص القرآن لفهد الرومي 162].
وهذا كله مما يقوي العزيمة ويعلي الهمة للحفظ، ويجعل المرء يتجاوز مخاوف الفشل وعدم بلوغ الغاية.
8 - حفظ القرآن مشروع لا يعرف الفشل:
يمثل الخوف من الفشل عائقاً وحاجزاً يحول بين كثير من الناس وطموحاته، وبقدر سمو همته وعلو طموحه يتبدى له هذا الهاجس، وقد تكون نهاية كثير من مشاريع الناس وطموحاتهم الاصطدام الفعلي بحاجز الفشل وعدم القدرة على تجاوزه، وبغض النظر عن مناقشة النفسية التي يسيطر عليها مثل ذلك الشعور، فإن مشروع حفظ القرآن لا مجال فيه لهذا التفكير، لماذا؟
حين يبدأ الشاب برنامجه الطموح لحفظ القرآن ثم تنقطع نفسه وتنتهي عزيمته قبل النهاية، فهل فشل فعلاً، وقد حفظ بضعة أجزاء؟ إن هذا الجهد لم يذهب سدى، بل هب أنه لم يحفظ شيئاً يذكر، فالوقت الذي بذله في التلاوة والحفظ وحرم نفسه من كثير من شهواتها وملذاتها هو وقت قضاه في طاعة الله تبارك وتعالى، بل وكم آية وسورة رددها تالياً والحرف بعشر حسنات؟
9 - حملة القرآن هم أهل الله:
إن من تمام إكرام الله تبارك وتعالى لحملة كتابه أن جعلهم من أهله وخاصته، وهو وصف وشرف يهون دونه أي شرف يسعى إليه الناس في الدنيا؛ إذ يصبح العبد الفقير الضعيف من أهل لله وخاصته، وأهله وخاصته هم أولى الخلق بالرحمة والعفو والمحبة والقرب والزلفى منه تبارك وتعالى.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " إن لله أهلين من الناس" قالوا: يا رسول الله، من هم؟ قال: "هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته". [رواه ابن ماجه 215].
فلينتسب كل إنسان لما يحلو له: أهل الدنيا، أهل الثراء، أهل الفن، أهل الرياضة... ولتجُد القواميس بكل وصف وثناء، فهل تأتي بأكمل مما وصف به حملة كتاب الله: (أهل الله وخاصته)؟
10 - تكريم حامل القرآن من إجلال الله:
إكرام حافظ القرآن الكريم من إجلال الله سبحانه، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط". [رواه أبو داود 4843]. وهذا دليل على علو منزلته وعظم شأنه.
ذلك أن من يكرم حامل القرآن فإنه لا يكرمه لأنه فلان أو فلان، إنما لأنه يحمل كلام الله تبارك وتعالى فصار إكرامه إجلالاً لله عز وجل.
11 - حافظ القرآن أولى أن يغبط:
لقد رفع الله بعض الناس في هذه الدار على بعض درجات:
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ). [الزخرف: 32].
(انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً). [الإسراء: 21].
فجعل تبارك وتعالى من الناس صاحب المال الوفير، وصاحب المكانة العالية بين الناس، وجعل منهم صاحب الجاه والشهرة فيشير الناس لأحدهم ويتطلعون إليه ويغبطونه ويحسدونه على ما هو عليه، ولسان حال كل منهم يقول: "يا ليتني مكانه".
أما الذي يستحق الغبطة حقاً، ويستحق أن يتبوأ هذه المكانة فهو حامل كتاب الله عز وجل.
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه صلى الله عليه وسلّم قال: "لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل وآناء النهار". [رواه البخاري 5025، ومسلم 815].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل". [روا ه البخاري 5026].
12 - حفظه وتعلمه خير من متاع الدنيا:
حين يفرح الناس بالدينار والدرهم، ويحوزونها إلى رحالهم فإن حافظ القرآن وقارئه يظفر بخيرٍ من ذلك وأبقى.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟ قلنا: نعم، قال: فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان". [رواه مسلم 802].
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونحن في الصفة فقال: "أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم؟ فقلنا: يا رسول الله، نحب ذلك، قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل". [رواه مسلم 803].
ولن تفهم هذا النص حق الفهم إلا حين تدرك أن الإبل كانت آنذاك أنفس المال وأغلاه.
فما بالك أخي الشاب بمن يتعلم ويحفظ القرآن كله، ويقرأه مراراً، ويحرك قلبه بمواعظه؟ أرأيت أنك أحسنت الاختيار وأصبت الطريق وسلكت الجادة حين ثنيت ركبتك في المسجد تحفظ كتاب الله وتتعلمه، وما أنت عليه لا يقارن بحال بما عليه أترابك من الانصراف للهو أو الدنيا، فالزم غرزك، أو بادر للميدان إن كنت لما تسلكه بعد.
13 - حافظ القرآن هو أولى الناس بالإمامة:
الصلاة عمود الدين وثاني أركان الإسلام، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله، وليس شيء من الأعمال تركه كفر غير الصلاة...الخ فضائلها ومكانتها، ولهذا رأى الصحابة أن تقديم النبي صلى الله عليه وسلّم أبا بكر - رضي الله عنه - في الصلاة رضاً لدينهم، فرضوه لدنياهم.
فمن الذي يقدم فيها لأن يؤم الناس؟ إنه حامل القرآن:
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم". [رواه مسلم 672].
وعن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً، ولا يؤمنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه". [رواه مسلم 673].
14 - حافظ القرآن هو أولى الناس بالإمارة:
وكما أن حامل القرآن أولى الناس بالإمامة، فهو أولاهم بالإمارة والولاية، فعن نافع بن عبد الحارث أنه لقي عمر - رضي الله عنه - بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟، قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلّم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين". [رواه مسلم 817].
لقد كان إدراك الرعيل الأول لمنزلة حامل القرآن دافعاً لهم أن يتجاوزوا المعاني الضيقة التي تكبل الناس فتحول دون بلوغ من يحمل الصفات الخيرة منزلته التي يستحقها.
وأنت حين تسعى لحفظ كتاب الله تبارك وتعالى فليس الذي يدفعك لذلك الحرص على الإمارة والولاية، أو أن تُقدم إماماً للناس، إنما تشعر أن تقديم الشرع لحامل القرآن دليل على فضله ومنزلته، فأنت حينها تقصد هذا الفضل والمنزلة لا ما ينتج عنه من الإمارة أو الولاية ونحوها.
15 - حفظ القرآن مهر للصالحات من المؤمنات:
وحفظ القرآن مهرٌ وأنعم به من مهر فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلّم امرأة فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فصعد النظر إليها وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً، جلست فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: "هل عندك من شيء؟" فقال: لا والله يا رسول الله، قال: "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً؟" فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئاً، قال: "انظر ولو خاتماً من حديد" فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد، ولكن هذا إزاري - قال: سهل: ما له رداء - فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك شيء؟ فجلس الرجل حتى طال مجلسه، ثم قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلّم مولياً، فأمر به فدعي فلما جاء قال: "ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا، عدها. قال: أتقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم. قال: اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن" [رواه البخاري 5030، ومسلم 1425].
وإن لم تجد من يُزوجك بما معك من القرآن، فلعل سلوكك هذا الطريق يكون مهراً لكاعب لا تشيخ ولا تموت، إليها المنتهى في الجمال، وقد بلغت الغاية ومضرب المثل، لو اطلعت على أهل ا لأرض لملأت ما بينهما ريحاً، فبادر بتقديم مهرها جعلنا الله وإياك من أهل هذا النعيم.
16 - حافظ القرآن يقدم في قبره:
وكما أعلى الله شأن حامله في الدنيا فقد أعلى شأنه في الآخرة، فهو أولى الناس بالتقديم حتى بعد موته، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: "أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟". فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد. وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. [رواه البخاري 1343].
إن تكريم حامل القرآن لم يقف عند هذه الدار بل تجاوزها إلى الدار الباقية، فيقدم في قبره، وهنيئاً له ما يلقاه بعد ذلك.
17 - شفاعته لحامله:
حين تلم بالمرء حاجة من حوائج الدنيا، فتضيق أمامه السبل وتغلق الأبواب في وجهه، فإنه يبحث ويفتش عن فلان أو فلان من الناس ليكون شفيعاً له في حاجته وقاضياً لها.
فما بالك بالحاجة الأم، والقضية الأساس، التي يلقاها العبد أمام الله عز وجل؟
ما بالك بهذه القضية التي يكون المرء فيها رهن عمله وما قدّم، أليس يحتاج فيها إلى الشفاعة؟ فكيف بمن يشفع له القرآن الكريم، بمن تأتي سور القرآن كما قال: صلى الله عليه وسلّم - تُحاج عنه، تحاج عن صاحبها الذي أمضى وقتاً ودهراً من عمره في حفظها وتلاوتها وتعلمها وتعليمها؟
عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار". [رواه ابن حبان].
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: "اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة". [رواه مسلم 804].
وعن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب فيقول: أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك ". [رواه ابن ماجه 3781، والدارمي 3391].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان". [رواه أحمد 6589].
وحيث الفتى يرتاع في ظلماته *** من القبر يلقاه سناً متهللاً
هناك يهنيه مقيلاً وروضة *** ومن أجله في روضة العز يجتلا
يناشد في إرضائه لحبيبه *** وأجدر به سؤلاً إليه موصلاً
18 - القرآن حجة لك أو عليك:
المرء لا يخلو أن يكون القرآن حجة له أو عليه فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها". [رواه مسلم 223].
إن الذي يقضي وقته، ويتخلى عن مشاغله لأجل أن يقضي وقتاً مع كتاب الله سبحانه وتعالى، حفظاً وتلاوة ومدارسة، ثم يصبح هذا الكتاب يتردد على لسانه، فهو يتلو هذا الكتاب قائماً أو قاعداً، ذاهباً أو آتياً أينما حل وحيثما ارتحل، إن مثل هذا المرء حريُُ بأن يكون القرآن حجة له يوم القيامة كما كان شفيعاً له.
19 - استحقاق ظل الله يوم لا ظل إلا ظله:
في يوم القيامة تزداد الأهوال مع الناس ويبلغ الكرب مداه، ومن كروب يوم القيامة ما وصفه صلى الله عليه وسلّم في حديث المقداد بن الأسود - رضي الله عنه -: " تدنى الشمس يوم القيامة من الخلائق حتى تكون منهم كمقدار ميل، قال سليم بن عامر - أحد رواة الحديث - فو الله ما أدري ما يعني بالميل، أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيده إلى فيه". [رواه مسلم 2864].
وفي هذا الموقف الرهيب يكرم الله سبحانه وتعالى طائفة من عباده فيظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما أخبر صلى الله عليه وسلّم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه". [رواه البخاري 660، ومسلم1031].
فالشاب الذي نشأ في بيوت الله وعلى حفظ كتابه وتدبره من أولى الناس بهذا الوصف (شاب نشأ في عبادة ربه)؛ إذ التعبد لله بتلاوة كتابه وحفظه وتعاهده من أفضل ما يتقرب به العبد إلى مولاه.
20 - حفظ القرآن سبب للنجاة من النار:
إن من أهم ما يسعى إليه المسلم في هذه الحياة أن ينجيه الله من النار، وقد كتب الله تبارك وتعالى لمن حفظ القرآن ألا تحرقه النار، فعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: "لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق" [رواه أحمد 4/ 155، والدارمي 3192، وأبو الفضل الرازي في فضائل القرآن 125، والفريابي 2].
وقد فسره بعض أهل العلم بأن المقصود بذلك حافظ القرآن فروى أبو الفضل الرازي عن يزيد بن عمرو، قال: سألت الأصمعي عنه قال: يعني في إنسان، أراد أن من علمه الله القرآن من المسلمين وحفظه إياه لم تحرقه النار يوم القيامة إن ألقي فيها بالذنوب، كما قال: أبو أمامة: "اقرأوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف، فإن الله لا يعذب بالنار قلباً وعى القرآن". [فضائل القرآن لأبي الفضل الرازي 155- 156].
وقال: أبو عبيد: "وجه هذا عندنا أن يكون أراد بالإهاب قلب المؤمن وجوفه الذي قد وعى القرآن". [فضائل القرآن لأبي عبيد 23].
21 - رفعة الدرجات في الجنة:
حين يدخل المؤمنون الجنة فإن حافظ القرآن يعلو غيره بدرجاته لتعلو منزلته وترتفع درجته في الآخرة كما ارتفعت في الدنيا.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيقال: اقرأ وارق ويزاد بكل آية حسنة". [رواه الترمذي 2915].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "يقال: لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها". [رواه الترمذي 2914].
قال: ابن حجر الهيتمي: "الخبر المذكور خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب، لا بمن يقرأ بالمصحف، لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها ولا يتفاوتون قلة وكثرة، وإنما الذي يتفاوتون فيه كذلك هو الحفظ عن ظهر قلب، فلهذا تفاوتت منازلهم في الجنة بحسب تفاوت حفظهم، ومما يؤيد ذلك أيضاً أن حفظ القرآن عن ظهر قلب فرض كفاية على الأمة، ومجرد القراءة في المصحف من غير حفظ لا يسقط بها الطلب، فليس لها كبير فضل كفضل الحفظ، فتعين أنه - أعني الحفظ عن ظهر قلب - هو المراد في الخبر، وهذا ظاهر من لفظ الخبر بأدنى تأمل، وقول الملائكة له: اقرأ وارق صريح في حفظه عن ظهر قلب كما لا يخفى". [الفتاوى الحديثية، ص 156].
22 - حافظه مع السفرة الكرام البررة:
حافظ القرآن مع السفرة الكرام البررة فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: " مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران". [رواه البخاري 4937].
وأولئك السفرة اختارهم الله تبارك وتعالى، وشرفهم بأن تكون بأيديهم الصحف المطهرة (فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ*مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرَامٍ بَرَرَةٍ). [عبس: 13 – 16] .
وما نفتأ نرى الناس اليوم يفتخرون حين ينسبون إلى عظيم من العظماء، أو رجل يحمل الشهرة والاسم اللامع ولو كان ذلك في ميدان الرياضة أو اللهو الباطل، فهنيئاً لهؤلاء ما اختاروه من هوان لأنفسهم، وهنيئاً لحفظة كتاب الله حين اختاروا أن يكونوا مع السفرة الكرام البررة.
23 - الحرف بحسنة والحسنة بعشر:
حافظ القرآن هو أكثر الناس تلاوة لكتاب الله فلن يطيق حفظه إلا بترداده، ولن يثبت له ذلك إلا بمراجعته. ولك أن تقدر أي جزاء وثواب يحصل له حين يجزى بالحرف الواحد حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف الله لمن شاء فعن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" . [رواه الترمذي 2910].
وحين يكون الشاب ثانياً ركبته في بيت من بيوت الله ساعة كل يوم أو أكثر، فكم حرف سيقرأه؟ ناهيك عن مراجعته وترداده لما حفظ فيما سوى هذا الوقت.
وإذا أضيف لذلك صلاح النية وصدق العزيمة، والمحبة لكتاب الله، والتأثر بمواعظه، والتأدب بآدابه، ومراعاة أدب التلاوة، فهذه أبواب أخر فيها من الأجر مالا يعلمه إلا الكريم المنان.
فهاهو الميدان للتنافس والتسابق بالخيرات، هذا هو الميدان الحق لا شهوات الدنيا الفانية وحطامها الزائل.
24 - حافظ القرآن يقرأ في كل أحواله:
حافظ القرآن هو الذي يقدر أن يقرأ في كل حال، فهو يقرأ ماشياً، ويقرأ حين يقود سيارته في سفر أو حضر، ويقرأ حين ينتظر أحداً، يقرأ مضطجعاً وقاعداً وقائماً، أما غيره فلا يقرأ إلا حين يتهيأ ويتطهر، ويمسك مصحفه، وله أسوة بنبيه صلى الله عليه وسلّم إذ دخل مكة وهو على دابته يقرأ القرآن.
وقديماً كان آباؤنا يشبهون حافظ القرآن بالمسافر الذي زاده تمر فهو يأكل متى شاء، لا يحتاج إلا لإدخال يده في جرابه، أما غير الحافظ فهو يشبه من زاده دقيق فلابد أن يقف، وينزل عن راحلته، ويعجن، ويجمع الحطب... وذلك أمر يطول.
25 - حفظ القرآن شفاء للصدور:
تزداد شكوى الصالحين اليوم من قسوة القلوب وصدئها، وتكثر التساؤلات عن المعاناة التي يعاني منها الجميع بما فيهم الصالحون، وفي ظل البحث والتساؤل عن الحل والعلاج لن يجد أحد علاجاً غير الإقبال على كتاب الله تبارك وتعالى الذي وصفه من أنزله (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ). [الزمر: 23].
فالانشغال بحفظ القرآن، فيه علاج لصدأ القلوب وقسوتها وزيادة للإيمان قال تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). [الأنفال: 2]. (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ). [التوبة: 124].
26 - حين يفني المرء شبابه بحفظ كتاب الله:
سيقف كل امرئ طال عمره أو قصر بين يدي ربه ويُسأل ويحاسب، ومن صور الحساب ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله: "لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم". [رواه الترمذي 2416].
وهو موقف يبعث على الوجل والخوف، تتسارع الصور وتتزاحم المواقف في ذهن المرء حين يسمع بهذا الحديث، ويشعر أنه سوف يسأل عن حياته ووقته، ثم يخص الشباب بسؤال آخر، فماذا عساه قائل؟ وبم يجيب؟ وهل سيجد في تاريخه وشبابه ما يسعفه بإجابة تنجيه من هول الموقف؟
فما بالك بمن سيقول: يا رب أفنيت زهرة شبابي وسني عمري ثانٍ ركبتي في أفضل بقاع الأرض إليك، في بيتك حاملاً مصحفي متطهراً، أتلو كلامك وأحفظه، وحين أنهيت حفظه شغلت نفسي بمراجعته وتكراره حتى لا يتفلت مني وأنساه.
وحين يرى ذلك من حرم هذا الفضل فلن يسعه إلا أن يقول: (يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً). [النساء: 73].
27 - حفظ القرآن خير ما تنفق به الأوقات:
حفظ القرآن الكريم استثمار للوقت بما ينفع، وانشغال وانصراف عن القيل والقال، واللغط واللهو، فحين يسابق الناس إلى مجالس اللهو التي ينهشون فيها أعراض الناس، أو يتحدثون عما يهيج الشهوات والغرائز، فالشاب المشتغل بحفظ القرآن له شأن آخر وهم آخر، يا له من بون شاسع بين هؤلاء وأولئك، بل إن المقارنة بين هذين النموذجين غير متكافئة.
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
والنفس أبيه عصية إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، فأولئك الذين شغلوا أنفسهم بحفظ كتاب الله ربما لو تركوا ذلك كان البديل إضاعة الوقت فيما لا ينفع، بل ربما فيما حرم الله تبارك وتعالى.
28 - حفظ القرآن في مقتبل العمر خطوة نحو الاستقامة:
كم نرى ونشاهد في عصرنا الحاضر من فئام من الشباب أعرضوا عن الله، وساروا في طريق الغواية وركبوا جادة الانحراف؟.
ظاهرة لم تعد مجهولة أو خافية على ذي عين، بل صار الأب يضع يده على قلبه ويرقب ابنه في سائر أحواله، وهو يخشى أن تزل به القدم.
أليس انشغال الشاب بحفظ القرآن مدعاة لحفظه في مقتبل حياته وفترة مراهقته حيث تكثر الصبوة، ويميل الأقران للشهوات؟.
إن الشاب الذي يشغل وقته في مقتبل شبابه بحفظ القرآن، ينصرف عما يعصف بأمثاله من الشهوات والمغريات، فيكون حفظاً لدينه واستقامته، وسائرُ عمره مبناه على هذه البذرة والركيزة.
29 - القرآن كتاب علم وهدى:
والقرآن كتاب علم يحتاجه كل متخصص، فالفقيه يستدل به، وعالم العقيدة يحتج به، ومن يدرس سنن الله في الأمم والتاريخ، ومن يدرس الدعوة، والنحو.. فكل عالم مهما كان علمه لا يستغني عن الاحتجاج بالقرآن والاستشهاد به، ومن ثم فحافظ القرآن لم يحز علماً واحداً بل علوماً عدة في هذا الكتاب العزيز.
أحدهم وهو في قاعة الامتحان ورد إليه سؤال في مادة التاريخ عن أسباب النصر، وكان يحفظ سورة الأنفال فاستحضر الآيات ودوَّن ما استنبطه منها.
والأمر لا يقف عند مجرد إسعاف طالب بالإجابة في قاعة الامتحان، بل من يدرك هذه الفوائد الغزيرة في هذا الموطن يدركها فيما سواه.
ومع التوجه العلمي الذي نراه اليوم - وهو ثمرة من ثمرات الصحوة المباركة - نرى أن هناك خللاً في ترتيب الأولويات عند فئة من الشباب لا يعدون من العلم إلا حفظ المسائل وأقوال الرجال، أما القرآن فتقرأ ألفاظه للتعبد فقط.
وفي حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة وحدثنا عن رفعها...." . [رواه البخاري 7086، ومسلم 143].
وقال ابن عبد البر: "القرآن أصل العلم، فمن حفظه قبل بلوغه، ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب كان له ذلك عوناً كبيراً على مراده منه". [صحيح جامع بيان العلم وفضله 454].
30 - حافظ القرآن لا يعوزه الاستشهاد:
لابد لك أن تقف متحدثاً، أو واعظاً، أو مدرساً، لاسيما وأنك اخترت لنفسك طريق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فحين تكون حافظاً للقرآن فهو أمامك وبين عينيك تحضرك الأدلة في الترغيب والترهيب، والأحكام والفرائض، والسلوك والآداب، والقصص والعبر، في حين يحتاج غيرك لمراجعة المعاجم، وكتابة الآية، لذا فهو محروم من الاستطراد واقتناص الفوائد الواردة على الذهن، فضلاً عن الارتجال والحديث دون إعداد حين يتطلب الموقف ذلك.
بل والحافظ حين ينسى الآية وتعزب عن ذاكرته فلا يحتاج إلا دقائق معدودة يراجع فيها المصحف؛ إذ هو يعرف الآية في أي سورة وأي موضع.
31 - حِلَق القرآن ميدان للصحبة الصالحة:
يشعر المرء مهما كان أنه بحاجة إلى صحبة ورفقة، والمسلم الذي يعنيه شأن دينه يدرك تمام الإدراك تلك الضرورة الملحة لاختيار الصحبة الصالحة الذين يأمنهم على دينه، ويرضى أن يحشر معهم يوم القيامة لذا فقد أشار أنصح الخلق صلى الله عليه وسلّم وأعرفهم بالله سبحانه إلى هذا المعنى في أحاديث عدة.
منها قوله: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل". [رواه الترمذي 2378، وأبو داود 4833].
وقوله صلى الله عليه وسلّم "لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي". [رواه أحمد 3/ 38، والترمذي 2395، وأبو داود 4832، والدارمي 1985].
وأخبر صلى الله عليه وسلّم أن حال المرء يوم القيامة مرتبط بحال قرينه فقال: "المرء مع من أحب". [رواه البخاري 6170، ومسلم 2641].
وحافظ القرآن يتيح له درس الحفظ التعرف واللقاء بالصحبة الصالحة ومجالسة أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، فهو من أسعد الناس بفضائل الصحبة الصالحة في الدنيا والآخرة.
بل حين يُكْرِم أصحابه فذلك من إجلال الله، وحين يحبهم فيحبهم لله، وحين يتبرأ الناس يوم القيامة من أخلائهم فهؤلاء أخلاء على سرر متقابلين: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ* يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ). [الزخرف: 67- 68].
32 - التعلق به خطوة للتربية الجادة:
يدرك المربون اليوم الحاجة الملحة للتربية على معالي الأمور، ولتخريج جيل يتمثل المعاني الجادة في حياته، فيدفعهم ذلك الشعور إلى التساؤل عن طريق تحقيق ذلك؟
ولا شك أن الانشغال بحفظ القرآن وثني الركب في حلق المساجد مما يعوِّد الشاب على الجدية ويطرد عنه الكسل والتواني، فيعتاد التحمل والجد؛ إذ هو يجلس في المسجد ساعات لحفظ القرآن يخصص هذا الجزء من وقته كل يوم، ناهيك عما يضحي به مما يتعلق به أترابه الذين يمتِّعون أنفسهم باللهو والعبث والجري وراء متع الدنيا، وذلك كله يخلق نفساً عالية متعلقة بالأمور الجادة.