ام حفصه
13 Jan 2011, 08:34 PM
العقيدة والإعجاز لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلس
اللذة والسعادة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم ،
إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس التاسع عشر من دروس العقيدة
والإعجاز، لكن قبل أن نبدأ بموضوع الدرس سنذكركم بهيكلية هذه الموضوعات .
في أول درس أكدت لكم أن علة وجود الإنسان أن يعبد الله ،
والعبادة طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة
يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ، إذاً : علة وجودنا أن نعبده ،
وما أمرنا أن نعبده إلا بعد أن أعطانا مقومات هذه العبادة ، وأول
مقوم من مقومات العبادة هذا الكون الذي ينطق بوجود الله ووحدانيته
وكماله ، وهو الثابت الأول ، هو قرآن صامت ، والقرآن كون ناطق ،
والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي .
وقد وقفنا وقفات متأنية عند الكون ، والمقوم الثاني هو العقل ،
وهو مناط التكليف ، وكيف أن في العقل مبادئ ثلاثة ، مبدأ السببية
، مبدأ الغائية ، مبدأ عدم التناقض ، وأن العقل مهمته قبل النقل
التأكد من صحة النقل ، ومهمته بعد النقل فهم النقل ، ولا يمكن أن
يكون العقل حَكماً على النقل ، وأمضينا دروساً عدة في موضوع العقل .
ثم انتقلنا إلى الفطرة ، وكيف أن الإنسان فطر فطرة سليمة ، هذه الفطرة
متطابقة تطابقاً تاماً مع منهج الله ، فالعقل مقياس علمي ، والفطرة
مقياس نفسي ، والكون دليل حسي .
ثم انتقلنا إلى الشهوة ، وبينت لكم أنها القوة المحركة ، وهي
حيادية ، يمكن أن تكون سُلّماً نرقى بها ، أو دركات نهوي بها ،
وبينت في دروس عدة الفرق بين الفطرة والصبغة ، وكيف أن الإنسان
المؤمن يتمتع بالعدالة والضبط ، وكيف أن الإنسان إذا سلك طريق شهوته
يتعرض لمراحل علاجية من الله عز وجل ، أولها الهدى البياني ،
ثم التأديب التربوي ، ثم الإكرام الاستدراجي ، ثم القصم ، ولازلنا في موضوع الشهوة .
اليوم أريد أن أبين لكم فرقاً دقيقاً بين اللذة والسعادة ، والبون شاسع بينهما .
1 – طابعُ اللذة حسيٌّ :
أيها الأخوة ، اللذة حسية طابعها حسي تحتاج إلى مادة ، اللذة تحتاج
إلى طعام تأكله ، تحتاج إلى منظر جميل تمتع عينيك به ، تحتاج
إلى مأوى واسع دافئ ، تحتاج إلى مركبة تركبها ، تحتاج إلى
زوجة تتزوجها ، تحتاج إلى مال تنفقه ، فاللذائذ طبيعتها حسية ،
لا تأتي من الداخل ، بل تأتي من الخارج ، تحتاج إلى بيت ، إلى مال ،
إلى أثاث في البيت ، إلى طعام ، إلى شراب ، إلى زوجة ، إلى شراب ...
والزوجة تحتاج إلى زوج فهناك تكافؤ .
2 – اللذة إمدادُها منقطع :
لكن سبحان الله ! لحكمة بالغة أرادها الله لم يشأ ربنا جل جلاله
أن تمدك اللذة بإمداد مستمر ، بل إمداد متناقص ، فكل لذة لها فورة
، وبعدئذٍ تصبح شيئاً مألوفاً تفقد بريقها ، لذلك هؤلاء الذين نجحوا
في الحياة بعد أن نجحوا شعروا بالفراغ ، لأن في النفس فراغاً لا يملؤه
المال ، ولا المرأة ، ولا المنصب ، ولا مباهج الحياة .
لا بد من توضيح هذه الحقيقة ، أنت أيها الإنسان ، أنت مهيأ لمعرفة
الله ، فطبيعة نفسك لا نهائية ، الخطر الكبير أن تختار هدفاً محدوداً
، قبل أن تصل إليه أنت تحلم به ، فإذا وصلت إليه ، وأحطتَ به شعرت
بفراغ لا يوصف ، لأنك اخترت المحدود ، وأنت مهيأ للامحدود ، اخترت
شيئاً يموت ، وأنت مهيأ للإله عظيم حي باق على الدوام .
أنا أقول للشباب : الشيء الذي لم تصلوا إليه يبدو لكم كبيرا جداً ،
ويبدو متألقاً ، فإذا وصلتم إليه خبا بريقه ، وصغر حجمه ، ويمكن
في مرحلة ما أن تقول : هو لا شيء ، فاللذائذ لا يمكن أن تمدك بمتعة
مستمرة ، بل بمتعة متناقصة ، هذا إذا كانت في الحلال ، فإذا كانت في
الحرام فبعد المتعة كآبة ، وشعور بالذنب ، واختلال توازن ، واحتقار للذات .
أنا أتحدث عن لذة بحثت عنها ضمن الحلال فتملّ ، الدنيا تغر ،
ومعنى تغر أنها قد تبدو لك بحجم أكبر من حجمها بكثير .
كنت أروي هذه القصة كثيرا : شاب يعمل في محل تجاري ، وهو
ذو دعابة ، فكان يكنس المحل ، ويضع المخلّفات في علبة فخمة ،
ويغلف هذه العلبة بورق هدايا غالٍ ، ويضع شريطا أحمر ، وكأن
هذه العلبة فيها قطعة ألماس غالية جداً ، يضعها على طرف المحل
التجاري ، يمر إنسان فيظنها ألماسا ، يأخذها ، ويمضي سريعاً ، فيتبعه
صاحب المحل ، بعد مئتي متر يفك الشريط أولاً ، وبعد مئتي متر أخر
يفك الورق ، وفي مئتي متر الثالثة يفتح العلبة ، فإذا فيها قمامة المحل ،
فيلعن ، ويسب ، وما إلى ذلك ، هذه خيبة الأمل التي حصلت له والله
سوف تحصل لكل إنسان أحب الدنيا ، وجاءه ملَكُ الموت .
يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
(25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
( سورة الفجر )
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
( سورة المؤمنون)
الدنيا تغر ، وتضر ، وتمر ، الدنيا زائلة ، وقد جاء في كلام سيدنا علي :
<< يا دنيا غُرّي غيري ، طلقتك بالثلاث ، غرّي غيري >> ،
ليس معنى كلامي أن تدع الدنيا ، ادرس ، أسس عملا ، تزوج ،
الزواج سنة ، معنى كلامي ألا تغتر بها ، ألا تظنها نهاية الآمال ،
ألا تظنها محطة الرحال ، هي عارية مستردة .
والله هناك حديث أيها الإخوة يقصم الظهر : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا ، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًى
مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟
أَوْ الدَّجَّالَ ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوْ السَّاعَةَ ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) .
[ أخرجه الترمذي ]
هذا كلام علمي ، فهل من واحد منا وأنا معكم يمكن أن يستيقظ
كل يوم كاليوم السابق ؟ مستحيل ، هناك بوابة خروج في
المطارات ، أنت تخرج من هذه البوابة ، الله عز وجل عنده بوابات ،
فالورم بوابة ، الجلطة بوابة ، الاحتشاء بوابة ، خثرة بالدماغ بوابة
، فشل كلوي بوابة ، تشمع كبد بوابة ، حادث سير بوابة الخروج .
(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا ، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ـ كاد الفقر
أن يكون كفراً ـ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟
أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟ أَوْ الدَّجَّالَ ـ الذي يأتي إلى بلاد المسلمين من أجل
الحرية والديمقراطية ، وينهب الثروات ، ويقتل الناس ـ فَشَرُّ
غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوْ السَّاعَةَ ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) .
هذه هي الدنيا فدقق فيها ، ربما بلغت أعلى منصب في العالم ، ثم ماذا ؟
موت ، الموت ينهي كل شيء ، ربما جمعت أكبر ثروة في الأرض ، ثم ماذا ؟
الموت ، ربما استمتعت بكل مباهج الحياة ، ثم ماذا ؟ الموت ،
ربما طفتَ أركان الدنيا ، ثم ماذا ؟ الموت ، لذلك الموت ينهي قوة
القوي ، وضعف الضعيف ، وصحة الصحيح ، ومرض المريض ، وغنى
الغني ، وفقر الفقير ، ووسامة الوسيم ، ودمامة الدميم ، الموت ينهي كل شيء .
هناك طرفة ثانية أرويها دائماً عن رجل من أهل البادية له أرض
شمالي جدة ، فلما توسعت جدة كثيراً اقتربت من أرضه ، فارتفع سعرها ،
نزل صاحب هذه الأرض ، وباع الأرض لمكتب عقاري خبيث جداً ، اشتراها
بربع قيمتها ، وأنشأ على هذه الأرض بناء من اثني عشر طابقاً ، أصحاب
المكتب العقاري شركاء ثلاثة ، الأول وقع من أعلى البناء فدقت عنقه ، والثاني
دهسته سيارة ، فانتبه الثالث ، وبحث عن صاحب الأرض ستة أشهر ، وعثر
عليه ، ونقده ثلاثة أضعاف حصته ، فقال له هذا البدوي : أنت أدركت أمرَ نفسِك .
أيها الإخوة الكرام ، (( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا ، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا
مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟
أَوْ الدَّجَّالَ ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوْ السَّاعَةَ ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) .
[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ] .
إذاً : اللذائذ لا يمكن أن تمدك بمتعة مستمرة ، بل بمتعة
متناقصة ، فإن كانت هذه المتعة في معصية يعقبها كآبة ومرض نفسي :
أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
( سورة الزمر)
محبوس بالشقاء النفسي ، محبوس بالكآبة ، محبوس بالضيق ،
محبوس بالإحباط ، محبوس بالتفاهة ، أما المؤمنون :
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ (5)
( سورة البقرة)
الهدى يرفعهم ، المهتدون على ، والضالون في ، في كآبة
، أو في سجن ، ارتكب جريمة ، إما في كآبة ، أو في مرض
نفسي ، أو في سجن ، أما المؤمنون :
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ (5)
( سورة البقرة)
الهدى رفعهم إلى أعلى عليين .
أيها الإخوة ، هناك شيء دقيق جداً ، أن الله يعطي
الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه ، و لكنه يعطي
السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين ، هذه السكينة صلة بالله ، الشعور
بالأمن الشعور وبالرضى ، والتوفيق والتأييد والنصر ، فاللذة إن
كانت في مباح كانت متناقصة ، وتمل منها ، وإن كانت في
معصية أعقبتها كآبة ، وتحتاج إلى شيء خارجي ، إلى مال .
بالمناسبة ، قال بعض علماء النفس : تحتاج اللذة إلى شروط ثلاثة ،
تحتاج إلى وقت ، وإلى مال ، وإلى صحة ، سبحان الله ! في بدايات
الحياة الوقت موجود ، والصحة متوافرة ، لكن المال غير متوفر ، يقول
لك : شاب منتوف ما عنده شيء ، وفي وسط الحياة استلم عملا وصار
عنده مال ، وصحة ، لكن ليسس عنده وقت ، كل يوم دوامه في المحل حتى يضبط أمره .
أقسم لي بالله رجلٌ عنده معمل نسيج ، قال : والله ثلاثين سنة ما غادرت
دمشق إلا إلى اللاذقية لتسلم سيارة ، مرة واحدة في حياتي ، الأيام
كلها قابعٌ في المحل التجاري ، فهناك مال وصحة ، لكن الوقت مفقود ،
ثم تقدم في السن فسلّم التجارة لأولاده ، الآن هناك مال ووقت ، لكن الصحة
مفقودة ، في جسمه خمسون علة ، أسيد أوريك ، وشحوم ثلاثية ، والتهاب
مفاصل ، وديسك في الظهر ، شيء لا يحتمل ، ترى كل واحد الآن معه
من الأدوية الشيء الكثير ، قبل الأكل ، وبعد الأكل ، على الريق ، هذه
يسبقها شيء ، هذه بعد شيء ، بعد ذلك يأتي النعي .
أيها الإخوة الكرام ، هكذا هذه اللذة ، تحتاج إلى مال ، وإلى صحة ،
وإلى وقت ، وهي خارجية ، وطابعها حسي ، ومتناقصة ، وإن كانت
في معصية تعقبها كآبة .
3 – السعادة تنبع من الداخل :
أما السعادة فتنبع من الداخل ، فلستَ بحاجة إلى شيء ، بحاجة إلى
أن تستقيم على أمر الله ، بحاجة أن تتصل بالله ، بحاجة أن تذكر الله
، بحاجة أن تصلي ، بحاجة أن تقوم الليل ، بحاجة أن تقرأ القرآن
الكريم ، بحاجة أن تغض بصرك عن محارم الله ، بحاجة أن تضبط
لسانك ، لا تحتاج إلى مال ، ولا إلى صحة ، ولا إلى وقت ، تحتاج إلى إنابة .
والله أيها الإخوة ، إن لم تقل : أنا أسعد من كل الناس إلا أن يكون
أحد أتقى مني ، ففي الإيمان خلل ، أنت متصل مع الله ، وتقلق ،
متصل مع الله ، وتخاف ، متصل مع الله ، وتذل ، متصل مع الله ،
وتيأس ، متصل مع الله ، وتشعر بالضعف ، هذا مستحيل .
السعادة تنبع من الداخل ، وهي متاحة لنا جميعاً ، ليس متاحا لنا
جميعاً أن نسكن في بيت فخم جداً ، بيت بأربعمئة متر ، ثمنه ثمانون
مليونًا ، هذا ليس متاحا ، والمركبة الفارهة ليست متاحة ، لكن
متاح لنا جميعاً أن نكون في قمة السعادة .
والله الذي لا إله إلا هو يمكن أن تصل إلى قمة السعادة وأنت
في السجن ، وأغني ما أقول ، ولا أبالغ .
إذا كنت في كل حال معـــي فعن حملي زادي أنا في غنى
***
فليتك تحلو والـحيــاة مريرة و ليتك ترضى و الأنام غضاب
وليـت الذي بيني و بينك عامر و بـيني و بين العالمين خراب
***
فلو شاهدت عيناك مـن حسننـا الذي رأوه لمـا وليت عنا لغيرنا
ولـو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب و جئتنا
ولـو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الذي أضـحى قتيلاً بحبنا
و لـو نسمت من قربنا لك نسمة لمتّ غـريباً واشتيــاقاً لأجلنا
***
سعادة سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو في النار :
السكينة والسعادة والتألق وجدها إبراهيم في النار :
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ .
( سورة الأنبياء ) .
سعادة أهل الكهف في كهفهم :
السعادة والسكينة والتألق وجدها أهل الكهف في الكهف .
سعادة النبي عليه الصلاة والسلام وهو في غار ثور :
السعادة والسكينة والتألق وجدها النبي عليه الصلاة
والسلام في غار ثور ، يا رسول الله لقد رأونا قال :
(( يَا أَبا بَكْرٍ مَا ظَنّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا ؟ )) .
[ متفق عليه ]
والله أيها الإخوة الكرام ، لو أذاقنا الله طعم القرب منه لنسينا
الدنيا وما فيها ، من عرف الله زهد فيما سواه .
السعادة عند ماشطة بنت فرعون :
ماشطة بنت فرعون ، (( و هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ ، إِذْ
سَقَطَتْ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا ، فَقَالَتْ : بِسْمِ اللَّهِ ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ :
أَبِي ؟ قَالَتْ : لَا ، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ ، قَالَتْ : أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ ، قَالَتْ :
نَعَمْ ، فَأَخْبَرَتْهُ ، فَدَعَاهَا ، فَقَالَ : يَا فُلَانَةُ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي ؟ قَالَتْ :
نَعَمْ ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ، ثُمَّ أَمَرَ
بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلَادُهَا فِيهَا ، قَالَتْ لَهُ : إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً ، قَالَ :
وَمَا حَاجَتُكِ ؟ قَالَتْ أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ
وَتَدْفِنَنَا ، قَالَ : ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ ، قَالَ : فَأَمَرَ بِأَوْلَادِهَا فَأُلْقُوا
بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا ، إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ ، وَكَأَنَّهَا
تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ ، قَالَ : يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ
مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ، فَاقْتَحَمَتْ )) .
[ أحمد ]
النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء العروج :
(( لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ مَرَّتْ بِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ )) قال يا جبريل ما هذه الرائحة ؟
قال هذه رائحة ماشطة بنت فرعون .
أيها الإخوة الكرام ، ابحث عن الأبد ، هذه الدنيا تضر وتغر
وتمر ، ألا ترى جنازة في الطريق ؟ انتهت جميع المتع ، والرجل
يُحمَل إلى القبر ، فإما أن يكون القبر روضة من رياض الجنة أو
حفرة من حفر النيران ، هذه السعادة معك ، ما تحتاج إلى مال ،
لا تحتاج إلى مركبة فارهة ، لا تحتاج إلى بيت ، لا تحتاج إلى
مركز مرموق ، لا تحتاج إلى امرأة جميلة ، تحتاج إلى اتصال بالله.
لذلك أيها الإخوة ، السعادة تنبع من الداخل .
4 – السعادة متنامية تعقبها راحة نفسية :
السعادة متنامية لا متناقصة ، السعادة تعقبها راحة نفسية ، وتوازن ،
واستقرار ، وثقة ، وتفاؤل ، ويقين ، ونفس متألقة ، لأنها اتصلت
بالله ، لذلك الآية الدقيقة ، دققوا معي :
﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ﴾
( سورة البقرة الآية : 165 )
أية قوة ؟ لماذا أكل المال الحرام ؟ من أجل أن يتزوج امرأة
جميلة جداً ، مهرها كبير ، طلباتها كبيرة ، تريد بيتا فخما ، إذاً :
أكل المال الحرام من أجلها .
﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ﴾
( سورة البقرة الآية : 165 )
قوة الجمال التي سبَتْك هي مسحة من جمال الله ، شهوتك
للمال الذي أغراك هو عطاء من الله ، الله عز وجل عنده الجمال ،
وعنده الكمال ، وعنده النوال ، ونحن جميعاً نحب الجمال والكمال والنوال .
إذاً : أيها الإخوة ، السعادة متنامية ، والله الذي لا إله إلا
هو خط المؤمن البياني خط صاعد صعوداً مستمراً ، والموت
نقطة على هذا الخط ، والصعود مستمر ، فإذا عرفت فأنت في
سعادة متنامية ، وكلما كشف لك من كمال الله شيء تقول :
الله أكبر ، أكبر مما كنت أظن ، أكبر مما كنت أعرف ، هذه هي
السعادة ، السعادة قد تكون في كوخ صغير ، قد تكون مع مرض عضال .
والله أيها الإخوة ، حدثني طبيب عن قصة من أندر القصص ، قال :
جاءنا مريض مصاب بمرض خبيث منتشر في أحشائه ، هذا الورم
الخبيث في الأحشاء له آلام لا يحتملها بشر ، قال : كلما دخل عليه
إنسان عائد يراه مبتسماً ، يقول : اشهد أنني راض عن الله ، يا رب ،
لك الحمد ، تماسكه عجيب .
الحقيقة أنني قرأت مرة بحثا حلت عندي مشكلة ، لماذا المرض
نفسه يؤلم إنسانًا إلى درجة أنه يتكلم كلام الكفر من شدة الألم ،
وإنسان آخر ألمه واحد بالمئة والمرض نفسه ؟ العلماء قالوا كلاما
غير مقنع ، قالوا : هناك عتبة للألم ، أنت غرفتك لها عتبة ، أمام
الباب قطعة مرتفعة من الرخام ، فهناك عتبة مرتفعة تعني آلاما كثيرة
، لكن لا ألم في عتبة منخفضة ، هذا كلام الأطباء ، لكن بعد هذا ثبت
أن طريق الآلام عليه بوابات ، طريق الآلام يبدأ من الأعصاب المحيطة
للنخاع الشوكي للمخيخ إلى المخ إلى القشرة ، هذا الطريق عليه بوابات
، هذه البوابات إذا فتحت كانت الآلام مئة ضعف ، وإذا أغلقت كانت
الآلام واحدا في المئة ، المقال مترجم ، ويغلب على ظني أن كاتب
المقال لا يعرف الله ، قال : تتحكم في هذه البوابات الحالة النفسية
للمريض ، فإذا كان المريضُ مؤمنا بالله فالبوابات مغلقة ، فيصل الألم بسيطا جداً معقولا .
هذا المريض كلما دخل عليه عائد يعوده يقول : اشهد أنني راض
عن الله ، يا رب لك الحمد ، يقول لي الطبيب : إذا قرع الجرس
يتهافت الممرضون على خدمته ، والأطباء يأتون فوراً ، وفي بهذه
الغرفة نور ، وجذب ، وروحانية ، إنسان معه ورم خبيث منتشر
ولا يصيح ، بل يقول : يا رب ، لك الحمد ، قال لي : جلس سبعة أيام
، ثم توفي ، لكن مات بحالة حلوة جميلة ، مات بحالة راقية جداً ، قال لي :
لحكمة بالغة جاء إلى هذا الغرفة إنسان مريض بالمرض نفسه ،
ورم خبيث في الأحشاء ، قال لي : ما من نبي إلا سبّه ، يا لطيف ، يكفر
كفرا ، يصيح ، يشتم ، يقذف بالسباب كل من رآه ، فإذا قرع الجرس
لا يأتيه أحد ، الغرفة مظلمة مخيفة ، غرفة كفر ، غرفة سخط ، مع أن المرض نفسه .
أيها الإخوة ، السعادة تنبع من الداخل ، ولا تحتاج إلى شيء مادي ،
قد تكون أسعد الناس في كوخ .
والله مرة كنت في مؤتمر إسلامي في المغرب في أكبر فندق
في الدار البيضاء ، عند الفجر سمعت قرآناً يُتلى ، والله أبكاني ، نظرت
من الشرفة فإذا عامل الحدائق يصلي الفجر في وقته ، وله صوت
حسن ، قلت : يا رب ، لعل هذا العامل أقرب إليك من كل أعضاء
المؤتمر ، المؤتمر إسلامي ، الصلة بالله لها ثمن ، ثمنها أن تكون
محباً لله ، أن تكون مستقيماً على أمره .
تعلقوا بالسعادة أيها الإخوة ، هناك فيلسوف من مصر يقول :
مبدأ اللذة إذا كان هدفاً أصبح مبدأ ألم .
أنت تتصور إنسانا دخله مليون في الشهر ، ومعه كآبة ، وينتحر
بعد ذلك ، أعلى نسب الانتحار في العالم في أغنى البلاد في العالم ،
الذي صمم ثاني أطول جسر في العالم يعبره ثلاثمئة ألف سيارة مهندس
ياباني ، في أثناء قص الشريط ألقى بنفسه في البوسفور ، ذهبوا إ
لى غرفته ، فكتب على ورقة : " ذقتُ كل شيء في الحياة فلم أجد
لها طعماً ، فأردت أن أذوق طعم الموت " .
الحياة ليس فيها شيء ، أكاد أقول لكم : سافرت كثيراً شرقاً وغرباً ،
وجدت صفة مشتركة في العالم الشرقي والغربي ، إنسان بلا هدف ،
هو غني ما عنده مشكلة ، ولأن ما عنده مشكلة فهذه أكبر مشكلة ،
حياة مملة ، ألِف كل شيء ، أكل ، شرب ، شاهد أفلام ، وبعد هذا ؟
والله أيها الإخوة ، هؤلاء الذي ينجحون في حياتهم المادية يأتي وقت
لا يحتمِلون ولا يُحتمَلون ، فهم في مللٍ ، وضجرٍ ، وسأمٍ .
أيها الإخوة ، الحقيقة أن الإنسان إذا لم يعرف الله عز وجل يصبح مبدأ
الشهوة عنده مبدأ ألمٍ ، لماذا ؟ لأنه بلا منهج ، وسوف يعتدي ، وحينما
تعتدي ، عندك زوجة ، وإذا لم تكن لك زوجة كانت لك عشيقة ، هذه
العشيقة فتاة كان من الممكن أن تكون أمًّا عندها أولاد ، عندها أصهار ،
هي أمٌّ محترمة ، زوجة محترمة ، أفسدها هذا الشاب ، فنقلها من امرأة
شريفة إلى امرأة ساقطة ، عنده ضمير ، عنده فطرة سليمة ، هذه الفطرة
تعذبه ، فلذلك أي إنسان يتفلت من منهج الله يعاني من أمراض نفسية ،
أولها الكآبة ، ثانيها اختلال التوازن .
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
( سورة المؤمنون)
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
( سورة طه )
ذكرت شيئًا : المصائب في الدنيا ليست عقاباً ، وليست
انتقاماً ، وليست تشفياً ، بل هي نتائج علمية للمعاصي والآثام ، وكما
أن المركبة علة صنعها السير ، فلا بد لها من مكبح يتناقض مع علة
سيرها ، والمكبح ضروري ، هو أخطر ما في المركبة ، مع أنها صنعت
من أجل أن تسير ، والمكبح يتناقض مع علة سيرها ، لهذا لما يختار الإنسان
الشهوة المحرمة فأمامه سلسلة معالجات تحدثنا عنها في درس سابق ، منها
الهدى البياني ، والتأديب التربوي ، والإكرام الاستدراجي ، والقصم .
5 – متعة الشهوة زائلة والمسؤولية باقيةٌ ، والمجاهدة في الطاعة زائلة والتكريم باقٍ :
أيها الإخوة الكرام ، المتع في المعاصي زائلة والمسؤولية باقية ، ألا
يا رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً .
الآن المجاهدة في الطاعات زائلة لا تستمر ، بل تنتهي ، والتكريم
باق ، المتعة آنية وزائلة والمسؤولية باقية ، والمجاهدة في الطاعة
زائلة ومنقضية والتكريم هو الباقي .
لكن أدق كلام أن في أنفسنا جميعاً فراغا لا يمكن أن يملأ إلا بمعرفة
الله ، المال لا يملؤه ، ولا المنصب ، ولا اللذة ، ولا المتعة ، هذا الذي
نسعى إليه كي نملأ فراغ الإيمان .
مرة كنت في بلد في أمريكا ، وفي مدينة إلى جانب مدينة إقامتي
اسمها توليدوا اتصلوا بي وطلبوا زيارة ، أول سنة اعتذرت ، والثانية
اعتذرت ، والثالثة اعتذرت ، الرابعة ذهبت ، بعد أن انتهت المحاضرة
والله الذي لا إله إلا هو قال لي أخ : أنا أخو فلان ، وفلان صديقي ، قال :
تعرف كم مسافة قطعتُ وقدتُ مركبتي كي أستمع لهذه المحاضرة ؟
قلت له : كم ؟ قال ستمئة ميلا ، أي ألف كيلو متر ، هناك تصحر ، إنسان
يقود مركبته ألف كيلو متر ليستمع إلى محاضرة ، نحن في الشام
دروس ، خطب ، ندوات من فضل الله ، العلم ثمين جداً ، أنت حينما تعرف
الله فقد وصلت إلى كل شيء ، وإذا غابت عنك حقيقة الإيمان فما وصلت إلى شيء .
مرة أخيرة ، يا رب ، ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟
وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟
1 – خلايا الدماغ :
وننتقل أيها الأخوة إلى موضوع علمي جديد ، كلكم يعلم أن جسمك
يتبدل تبدلاً كلياً كل خمس سنوات ، لأن أطول عمر خلية الخلية
العظيمة ، خمس سنوات ، وأقصر عمر خليةٍ خليةُ زغابة الأمعاء ،
عمرها ثمان وأربعون ساعة ، زغابات الأمعاء تتبدل كل ثمانٍ وأربعين
ساعة ، والخلايا العظمية تتبدل كل خمس سنوات ، أما أنت أيها
الإنسان فبمجملك تتبدل كلياً كل خمس سنوات ، لا الجلد هو هوَ ، ولا
الشعر هو هوَ ، ولا شيء بجسمك هو هوَ ، كل شيء يتبدل إلا خلايا الدماغ وخلايا القلب .
في الدماغ ذاكرتك ، خبراتك ، مهاراتك ، معلوماتك ، كل شيء حصلته
في حياتك مودع في الدماغ ، معارفك ، أولادك ، أصدقاءك ،
أقرباءك ، اختصاصك ، أنت طبيب ، كل المعلومات في الدماغ
، لو تبدل الدماغ ماذا كنت تعمل ؟ أنا كنت طبيبا ، الآن أنا أميٌّ ،
شيء لا يحتمل ، ضاعت ذاكرتك ، ما عرفت أولادك ، نسيت معلوماتك ،
فقدت اختصاصك ، فقدت الدكتوراه .
جاء رجلٌ من أمريكا أصيب بفقد الذاكرة ، دخل عليه ابنه ، قال له : من أنت ؟
أحد إخواننا الكرام توفاه الله ، قبل أن يموت خرج من معمله
باتجاه بيته في المهاجرين ، نسي بيته ، بقي ساعتين ، لكنه
يعلم بيت ابنه في الجسر ، ذهب إليه ، قال : يا بني ، أين بيتي ؟ فقَد ذاكرته .
لو أن إنسانا يتبدل دماغه لخسر كل شيء ، خسر دراسة ثلاثٍ وثلاثين
سنة ، فالدماغ لا يتبدل ، والحكمة واضحة جداً وضوح الشمس ، هذا شيء قديم ذكرتُه لكم .
2 – خلايا القلب :
أما الشيء الجديد أن القلب أيضاً لا يتبدل ، لماذا ؟
ما كنت أعلم ، لكن الآن ثبت أن القلب مكان المشاعر والأذواق
والميول ، كيف عرفوا هذا ؟ بعد أن استطاع الإنسان أن يزرع
قلب إنسان في إنسان آخر ، رجل في الثمانين قلبه معطوب ، شاب
مات بحادث ، أخذوا قلب الشاب إلى هذا المتقدم بالسن ، هذا المتقدم
بالسن عاش بالأربعينات ، حيث كانت الموسيقى الكلاسيكية ، وجد
نفسه يحب موسيقى الجاز ، ليس معقولا ، تبدل في الميول عجيب ،
وجد نفسه يحب أكلات معينة ، ما كان يحبها سابقاً .
في العالم الآن ثلاثة وسبعون حالة زرع قلب ، القصص التي تروى
عن أحوال هؤلاء الذين أخذوا قلوب الآخرين شيء ممتع جداً :
إنسان زرع له قلب إنسان يتكلم كلاما ليس له معنى ، كلمة ليس
لها معنى ، من شدة قلقه اتصل بزوجة الذي أخذ قلبه ، قالت له :
هذه كلمة سر بيننا ، تعني أن كل شيء على ما يرام ، وبعض الأشخاص
يحب أغاني ما كان يحبها من قبل ، طبعاً القصص طويلة وممتعة ،
هذه كلها نجدها في مراجعها .
صار القلب مركز الأحاسيس والمشاعر والأذواق ، لو تبدل يكون
الإنسان الذي كان يحب أن يسمع القرآن الكريم فرضاً يصبح يحب
أن يسمع شيئا ثانيا ، أما الله عز وجل فثبت القلب في خلاياه .
أنا كنت أظن أن هذا القلب الصنوبري لا علاقة له بموضوع القلب
في القرآن الكريم ، والله أنا كنت أقول : إن هذا القلب الصنوبري
مضخة ، أما القلب الذي ورد في القرآن الكريم فهو قلب النفس ، الآن
ثبت أن القلب الذي ورد في القرآن الكريم هو هذا القلب نفسه ، هذا
مكان المشاعر والأحاسيس والأذواق ، والحديث طبعاً طويل ، ويمكن
أن أروي لكم ثلاثاً وسبعين قصة عن أشخاص زرعت قلوب لهم ، وانتقلت
أحاسيس الآخرين إليهم وأذواقهم ورغباتهم وميولهم .
أخطر شيء في هذا الموضوع أن الله ثبت أن حول القلب خلايا
عصبية إدراكية ، قدراتها تفوق خمسمئة ضعف ، وأن هذه الخلايا
تأمر الدماغ ، وأن الدماغ محكوم بالقلب ، هذا بحث يمكن أن تراه
في الإنترنت ، والذين اكتشفوه لا علاقة لهم بالدين إطلاقاً .
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ﴾ .( سورة فصلت الآية : 53 ) .
هناك خلايا عصبية محيطة بالقلب ، وقدرتها أضعاف مضاعفة
عن خلايا الدماغ ، بل هي تحكم معظم خلايا الدماغ .
زارنا عالم من علماء الدين والدنيا ، وذكر هذه المعلومات ، أنا
تابعتها في الإنترنت فوجدتها صحيحة كما قال .
أيها الإخوة الكرام ، كلما تقدم العلم كشف عن جانب من عظمة
هذا القرآن الكريم ، كلما تقدم العلم تبين أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن .
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ .( سورة الواقعة ) .
الآن هناك نجوم تبعد عنا أربعة وعشرين ألف مليون سنة ضوئية ،
أو أربعة وعشرين مليار سنة ، والضوء يقطع في الثانية الواحدة
ثلاثمئة ألف كيلو متر ، بالدقيقة ضرب ستين ، بالساعة ضرب ستين ،
باليوم ضرب أربع وعشرين ، بالسنة ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين ،
بأربعة وعشرين ألف مليون سنة .
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ .
( سورة الواقعة ) .
جواب القسم :
إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77)
( سورة الواقعة ) .
الإعجاز العلمي محوره أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن .
اللذة والسعادة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا
محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم ،
إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس التاسع عشر من دروس العقيدة
والإعجاز، لكن قبل أن نبدأ بموضوع الدرس سنذكركم بهيكلية هذه الموضوعات .
في أول درس أكدت لكم أن علة وجود الإنسان أن يعبد الله ،
والعبادة طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة
يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ، إذاً : علة وجودنا أن نعبده ،
وما أمرنا أن نعبده إلا بعد أن أعطانا مقومات هذه العبادة ، وأول
مقوم من مقومات العبادة هذا الكون الذي ينطق بوجود الله ووحدانيته
وكماله ، وهو الثابت الأول ، هو قرآن صامت ، والقرآن كون ناطق ،
والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي .
وقد وقفنا وقفات متأنية عند الكون ، والمقوم الثاني هو العقل ،
وهو مناط التكليف ، وكيف أن في العقل مبادئ ثلاثة ، مبدأ السببية
، مبدأ الغائية ، مبدأ عدم التناقض ، وأن العقل مهمته قبل النقل
التأكد من صحة النقل ، ومهمته بعد النقل فهم النقل ، ولا يمكن أن
يكون العقل حَكماً على النقل ، وأمضينا دروساً عدة في موضوع العقل .
ثم انتقلنا إلى الفطرة ، وكيف أن الإنسان فطر فطرة سليمة ، هذه الفطرة
متطابقة تطابقاً تاماً مع منهج الله ، فالعقل مقياس علمي ، والفطرة
مقياس نفسي ، والكون دليل حسي .
ثم انتقلنا إلى الشهوة ، وبينت لكم أنها القوة المحركة ، وهي
حيادية ، يمكن أن تكون سُلّماً نرقى بها ، أو دركات نهوي بها ،
وبينت في دروس عدة الفرق بين الفطرة والصبغة ، وكيف أن الإنسان
المؤمن يتمتع بالعدالة والضبط ، وكيف أن الإنسان إذا سلك طريق شهوته
يتعرض لمراحل علاجية من الله عز وجل ، أولها الهدى البياني ،
ثم التأديب التربوي ، ثم الإكرام الاستدراجي ، ثم القصم ، ولازلنا في موضوع الشهوة .
اليوم أريد أن أبين لكم فرقاً دقيقاً بين اللذة والسعادة ، والبون شاسع بينهما .
1 – طابعُ اللذة حسيٌّ :
أيها الأخوة ، اللذة حسية طابعها حسي تحتاج إلى مادة ، اللذة تحتاج
إلى طعام تأكله ، تحتاج إلى منظر جميل تمتع عينيك به ، تحتاج
إلى مأوى واسع دافئ ، تحتاج إلى مركبة تركبها ، تحتاج إلى
زوجة تتزوجها ، تحتاج إلى مال تنفقه ، فاللذائذ طبيعتها حسية ،
لا تأتي من الداخل ، بل تأتي من الخارج ، تحتاج إلى بيت ، إلى مال ،
إلى أثاث في البيت ، إلى طعام ، إلى شراب ، إلى زوجة ، إلى شراب ...
والزوجة تحتاج إلى زوج فهناك تكافؤ .
2 – اللذة إمدادُها منقطع :
لكن سبحان الله ! لحكمة بالغة أرادها الله لم يشأ ربنا جل جلاله
أن تمدك اللذة بإمداد مستمر ، بل إمداد متناقص ، فكل لذة لها فورة
، وبعدئذٍ تصبح شيئاً مألوفاً تفقد بريقها ، لذلك هؤلاء الذين نجحوا
في الحياة بعد أن نجحوا شعروا بالفراغ ، لأن في النفس فراغاً لا يملؤه
المال ، ولا المرأة ، ولا المنصب ، ولا مباهج الحياة .
لا بد من توضيح هذه الحقيقة ، أنت أيها الإنسان ، أنت مهيأ لمعرفة
الله ، فطبيعة نفسك لا نهائية ، الخطر الكبير أن تختار هدفاً محدوداً
، قبل أن تصل إليه أنت تحلم به ، فإذا وصلت إليه ، وأحطتَ به شعرت
بفراغ لا يوصف ، لأنك اخترت المحدود ، وأنت مهيأ للامحدود ، اخترت
شيئاً يموت ، وأنت مهيأ للإله عظيم حي باق على الدوام .
أنا أقول للشباب : الشيء الذي لم تصلوا إليه يبدو لكم كبيرا جداً ،
ويبدو متألقاً ، فإذا وصلتم إليه خبا بريقه ، وصغر حجمه ، ويمكن
في مرحلة ما أن تقول : هو لا شيء ، فاللذائذ لا يمكن أن تمدك بمتعة
مستمرة ، بل بمتعة متناقصة ، هذا إذا كانت في الحلال ، فإذا كانت في
الحرام فبعد المتعة كآبة ، وشعور بالذنب ، واختلال توازن ، واحتقار للذات .
أنا أتحدث عن لذة بحثت عنها ضمن الحلال فتملّ ، الدنيا تغر ،
ومعنى تغر أنها قد تبدو لك بحجم أكبر من حجمها بكثير .
كنت أروي هذه القصة كثيرا : شاب يعمل في محل تجاري ، وهو
ذو دعابة ، فكان يكنس المحل ، ويضع المخلّفات في علبة فخمة ،
ويغلف هذه العلبة بورق هدايا غالٍ ، ويضع شريطا أحمر ، وكأن
هذه العلبة فيها قطعة ألماس غالية جداً ، يضعها على طرف المحل
التجاري ، يمر إنسان فيظنها ألماسا ، يأخذها ، ويمضي سريعاً ، فيتبعه
صاحب المحل ، بعد مئتي متر يفك الشريط أولاً ، وبعد مئتي متر أخر
يفك الورق ، وفي مئتي متر الثالثة يفتح العلبة ، فإذا فيها قمامة المحل ،
فيلعن ، ويسب ، وما إلى ذلك ، هذه خيبة الأمل التي حصلت له والله
سوف تحصل لكل إنسان أحب الدنيا ، وجاءه ملَكُ الموت .
يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
(25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
( سورة الفجر )
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
( سورة المؤمنون)
الدنيا تغر ، وتضر ، وتمر ، الدنيا زائلة ، وقد جاء في كلام سيدنا علي :
<< يا دنيا غُرّي غيري ، طلقتك بالثلاث ، غرّي غيري >> ،
ليس معنى كلامي أن تدع الدنيا ، ادرس ، أسس عملا ، تزوج ،
الزواج سنة ، معنى كلامي ألا تغتر بها ، ألا تظنها نهاية الآمال ،
ألا تظنها محطة الرحال ، هي عارية مستردة .
والله هناك حديث أيها الإخوة يقصم الظهر : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا ، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًى
مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟
أَوْ الدَّجَّالَ ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوْ السَّاعَةَ ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) .
[ أخرجه الترمذي ]
هذا كلام علمي ، فهل من واحد منا وأنا معكم يمكن أن يستيقظ
كل يوم كاليوم السابق ؟ مستحيل ، هناك بوابة خروج في
المطارات ، أنت تخرج من هذه البوابة ، الله عز وجل عنده بوابات ،
فالورم بوابة ، الجلطة بوابة ، الاحتشاء بوابة ، خثرة بالدماغ بوابة
، فشل كلوي بوابة ، تشمع كبد بوابة ، حادث سير بوابة الخروج .
(( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا ، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ـ كاد الفقر
أن يكون كفراً ـ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟
أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟ أَوْ الدَّجَّالَ ـ الذي يأتي إلى بلاد المسلمين من أجل
الحرية والديمقراطية ، وينهب الثروات ، ويقتل الناس ـ فَشَرُّ
غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوْ السَّاعَةَ ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) .
هذه هي الدنيا فدقق فيها ، ربما بلغت أعلى منصب في العالم ، ثم ماذا ؟
موت ، الموت ينهي كل شيء ، ربما جمعت أكبر ثروة في الأرض ، ثم ماذا ؟
الموت ، ربما استمتعت بكل مباهج الحياة ، ثم ماذا ؟ الموت ،
ربما طفتَ أركان الدنيا ، ثم ماذا ؟ الموت ، لذلك الموت ينهي قوة
القوي ، وضعف الضعيف ، وصحة الصحيح ، ومرض المريض ، وغنى
الغني ، وفقر الفقير ، ووسامة الوسيم ، ودمامة الدميم ، الموت ينهي كل شيء .
هناك طرفة ثانية أرويها دائماً عن رجل من أهل البادية له أرض
شمالي جدة ، فلما توسعت جدة كثيراً اقتربت من أرضه ، فارتفع سعرها ،
نزل صاحب هذه الأرض ، وباع الأرض لمكتب عقاري خبيث جداً ، اشتراها
بربع قيمتها ، وأنشأ على هذه الأرض بناء من اثني عشر طابقاً ، أصحاب
المكتب العقاري شركاء ثلاثة ، الأول وقع من أعلى البناء فدقت عنقه ، والثاني
دهسته سيارة ، فانتبه الثالث ، وبحث عن صاحب الأرض ستة أشهر ، وعثر
عليه ، ونقده ثلاثة أضعاف حصته ، فقال له هذا البدوي : أنت أدركت أمرَ نفسِك .
أيها الإخوة الكرام ، (( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا ، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا
مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟
أَوْ الدَّجَّالَ ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوْ السَّاعَةَ ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) .
[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ] .
إذاً : اللذائذ لا يمكن أن تمدك بمتعة مستمرة ، بل بمتعة
متناقصة ، فإن كانت هذه المتعة في معصية يعقبها كآبة ومرض نفسي :
أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
( سورة الزمر)
محبوس بالشقاء النفسي ، محبوس بالكآبة ، محبوس بالضيق ،
محبوس بالإحباط ، محبوس بالتفاهة ، أما المؤمنون :
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ (5)
( سورة البقرة)
الهدى يرفعهم ، المهتدون على ، والضالون في ، في كآبة
، أو في سجن ، ارتكب جريمة ، إما في كآبة ، أو في مرض
نفسي ، أو في سجن ، أما المؤمنون :
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ (5)
( سورة البقرة)
الهدى رفعهم إلى أعلى عليين .
أيها الإخوة ، هناك شيء دقيق جداً ، أن الله يعطي
الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه ، و لكنه يعطي
السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين ، هذه السكينة صلة بالله ، الشعور
بالأمن الشعور وبالرضى ، والتوفيق والتأييد والنصر ، فاللذة إن
كانت في مباح كانت متناقصة ، وتمل منها ، وإن كانت في
معصية أعقبتها كآبة ، وتحتاج إلى شيء خارجي ، إلى مال .
بالمناسبة ، قال بعض علماء النفس : تحتاج اللذة إلى شروط ثلاثة ،
تحتاج إلى وقت ، وإلى مال ، وإلى صحة ، سبحان الله ! في بدايات
الحياة الوقت موجود ، والصحة متوافرة ، لكن المال غير متوفر ، يقول
لك : شاب منتوف ما عنده شيء ، وفي وسط الحياة استلم عملا وصار
عنده مال ، وصحة ، لكن ليسس عنده وقت ، كل يوم دوامه في المحل حتى يضبط أمره .
أقسم لي بالله رجلٌ عنده معمل نسيج ، قال : والله ثلاثين سنة ما غادرت
دمشق إلا إلى اللاذقية لتسلم سيارة ، مرة واحدة في حياتي ، الأيام
كلها قابعٌ في المحل التجاري ، فهناك مال وصحة ، لكن الوقت مفقود ،
ثم تقدم في السن فسلّم التجارة لأولاده ، الآن هناك مال ووقت ، لكن الصحة
مفقودة ، في جسمه خمسون علة ، أسيد أوريك ، وشحوم ثلاثية ، والتهاب
مفاصل ، وديسك في الظهر ، شيء لا يحتمل ، ترى كل واحد الآن معه
من الأدوية الشيء الكثير ، قبل الأكل ، وبعد الأكل ، على الريق ، هذه
يسبقها شيء ، هذه بعد شيء ، بعد ذلك يأتي النعي .
أيها الإخوة الكرام ، هكذا هذه اللذة ، تحتاج إلى مال ، وإلى صحة ،
وإلى وقت ، وهي خارجية ، وطابعها حسي ، ومتناقصة ، وإن كانت
في معصية تعقبها كآبة .
3 – السعادة تنبع من الداخل :
أما السعادة فتنبع من الداخل ، فلستَ بحاجة إلى شيء ، بحاجة إلى
أن تستقيم على أمر الله ، بحاجة أن تتصل بالله ، بحاجة أن تذكر الله
، بحاجة أن تصلي ، بحاجة أن تقوم الليل ، بحاجة أن تقرأ القرآن
الكريم ، بحاجة أن تغض بصرك عن محارم الله ، بحاجة أن تضبط
لسانك ، لا تحتاج إلى مال ، ولا إلى صحة ، ولا إلى وقت ، تحتاج إلى إنابة .
والله أيها الإخوة ، إن لم تقل : أنا أسعد من كل الناس إلا أن يكون
أحد أتقى مني ، ففي الإيمان خلل ، أنت متصل مع الله ، وتقلق ،
متصل مع الله ، وتخاف ، متصل مع الله ، وتذل ، متصل مع الله ،
وتيأس ، متصل مع الله ، وتشعر بالضعف ، هذا مستحيل .
السعادة تنبع من الداخل ، وهي متاحة لنا جميعاً ، ليس متاحا لنا
جميعاً أن نسكن في بيت فخم جداً ، بيت بأربعمئة متر ، ثمنه ثمانون
مليونًا ، هذا ليس متاحا ، والمركبة الفارهة ليست متاحة ، لكن
متاح لنا جميعاً أن نكون في قمة السعادة .
والله الذي لا إله إلا هو يمكن أن تصل إلى قمة السعادة وأنت
في السجن ، وأغني ما أقول ، ولا أبالغ .
إذا كنت في كل حال معـــي فعن حملي زادي أنا في غنى
***
فليتك تحلو والـحيــاة مريرة و ليتك ترضى و الأنام غضاب
وليـت الذي بيني و بينك عامر و بـيني و بين العالمين خراب
***
فلو شاهدت عيناك مـن حسننـا الذي رأوه لمـا وليت عنا لغيرنا
ولـو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب و جئتنا
ولـو ذقت من طعم المحبة ذرة عذرت الذي أضـحى قتيلاً بحبنا
و لـو نسمت من قربنا لك نسمة لمتّ غـريباً واشتيــاقاً لأجلنا
***
سعادة سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو في النار :
السكينة والسعادة والتألق وجدها إبراهيم في النار :
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ .
( سورة الأنبياء ) .
سعادة أهل الكهف في كهفهم :
السعادة والسكينة والتألق وجدها أهل الكهف في الكهف .
سعادة النبي عليه الصلاة والسلام وهو في غار ثور :
السعادة والسكينة والتألق وجدها النبي عليه الصلاة
والسلام في غار ثور ، يا رسول الله لقد رأونا قال :
(( يَا أَبا بَكْرٍ مَا ظَنّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا ؟ )) .
[ متفق عليه ]
والله أيها الإخوة الكرام ، لو أذاقنا الله طعم القرب منه لنسينا
الدنيا وما فيها ، من عرف الله زهد فيما سواه .
السعادة عند ماشطة بنت فرعون :
ماشطة بنت فرعون ، (( و هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ ، إِذْ
سَقَطَتْ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا ، فَقَالَتْ : بِسْمِ اللَّهِ ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ :
أَبِي ؟ قَالَتْ : لَا ، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ ، قَالَتْ : أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ ، قَالَتْ :
نَعَمْ ، فَأَخْبَرَتْهُ ، فَدَعَاهَا ، فَقَالَ : يَا فُلَانَةُ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي ؟ قَالَتْ :
نَعَمْ ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ، ثُمَّ أَمَرَ
بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلَادُهَا فِيهَا ، قَالَتْ لَهُ : إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً ، قَالَ :
وَمَا حَاجَتُكِ ؟ قَالَتْ أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ
وَتَدْفِنَنَا ، قَالَ : ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ ، قَالَ : فَأَمَرَ بِأَوْلَادِهَا فَأُلْقُوا
بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا ، إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ ، وَكَأَنَّهَا
تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ ، قَالَ : يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ
مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ، فَاقْتَحَمَتْ )) .
[ أحمد ]
النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء العروج :
(( لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ مَرَّتْ بِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ )) قال يا جبريل ما هذه الرائحة ؟
قال هذه رائحة ماشطة بنت فرعون .
أيها الإخوة الكرام ، ابحث عن الأبد ، هذه الدنيا تضر وتغر
وتمر ، ألا ترى جنازة في الطريق ؟ انتهت جميع المتع ، والرجل
يُحمَل إلى القبر ، فإما أن يكون القبر روضة من رياض الجنة أو
حفرة من حفر النيران ، هذه السعادة معك ، ما تحتاج إلى مال ،
لا تحتاج إلى مركبة فارهة ، لا تحتاج إلى بيت ، لا تحتاج إلى
مركز مرموق ، لا تحتاج إلى امرأة جميلة ، تحتاج إلى اتصال بالله.
لذلك أيها الإخوة ، السعادة تنبع من الداخل .
4 – السعادة متنامية تعقبها راحة نفسية :
السعادة متنامية لا متناقصة ، السعادة تعقبها راحة نفسية ، وتوازن ،
واستقرار ، وثقة ، وتفاؤل ، ويقين ، ونفس متألقة ، لأنها اتصلت
بالله ، لذلك الآية الدقيقة ، دققوا معي :
﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ﴾
( سورة البقرة الآية : 165 )
أية قوة ؟ لماذا أكل المال الحرام ؟ من أجل أن يتزوج امرأة
جميلة جداً ، مهرها كبير ، طلباتها كبيرة ، تريد بيتا فخما ، إذاً :
أكل المال الحرام من أجلها .
﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ﴾
( سورة البقرة الآية : 165 )
قوة الجمال التي سبَتْك هي مسحة من جمال الله ، شهوتك
للمال الذي أغراك هو عطاء من الله ، الله عز وجل عنده الجمال ،
وعنده الكمال ، وعنده النوال ، ونحن جميعاً نحب الجمال والكمال والنوال .
إذاً : أيها الإخوة ، السعادة متنامية ، والله الذي لا إله إلا
هو خط المؤمن البياني خط صاعد صعوداً مستمراً ، والموت
نقطة على هذا الخط ، والصعود مستمر ، فإذا عرفت فأنت في
سعادة متنامية ، وكلما كشف لك من كمال الله شيء تقول :
الله أكبر ، أكبر مما كنت أظن ، أكبر مما كنت أعرف ، هذه هي
السعادة ، السعادة قد تكون في كوخ صغير ، قد تكون مع مرض عضال .
والله أيها الإخوة ، حدثني طبيب عن قصة من أندر القصص ، قال :
جاءنا مريض مصاب بمرض خبيث منتشر في أحشائه ، هذا الورم
الخبيث في الأحشاء له آلام لا يحتملها بشر ، قال : كلما دخل عليه
إنسان عائد يراه مبتسماً ، يقول : اشهد أنني راض عن الله ، يا رب ،
لك الحمد ، تماسكه عجيب .
الحقيقة أنني قرأت مرة بحثا حلت عندي مشكلة ، لماذا المرض
نفسه يؤلم إنسانًا إلى درجة أنه يتكلم كلام الكفر من شدة الألم ،
وإنسان آخر ألمه واحد بالمئة والمرض نفسه ؟ العلماء قالوا كلاما
غير مقنع ، قالوا : هناك عتبة للألم ، أنت غرفتك لها عتبة ، أمام
الباب قطعة مرتفعة من الرخام ، فهناك عتبة مرتفعة تعني آلاما كثيرة
، لكن لا ألم في عتبة منخفضة ، هذا كلام الأطباء ، لكن بعد هذا ثبت
أن طريق الآلام عليه بوابات ، طريق الآلام يبدأ من الأعصاب المحيطة
للنخاع الشوكي للمخيخ إلى المخ إلى القشرة ، هذا الطريق عليه بوابات
، هذه البوابات إذا فتحت كانت الآلام مئة ضعف ، وإذا أغلقت كانت
الآلام واحدا في المئة ، المقال مترجم ، ويغلب على ظني أن كاتب
المقال لا يعرف الله ، قال : تتحكم في هذه البوابات الحالة النفسية
للمريض ، فإذا كان المريضُ مؤمنا بالله فالبوابات مغلقة ، فيصل الألم بسيطا جداً معقولا .
هذا المريض كلما دخل عليه عائد يعوده يقول : اشهد أنني راض
عن الله ، يا رب لك الحمد ، يقول لي الطبيب : إذا قرع الجرس
يتهافت الممرضون على خدمته ، والأطباء يأتون فوراً ، وفي بهذه
الغرفة نور ، وجذب ، وروحانية ، إنسان معه ورم خبيث منتشر
ولا يصيح ، بل يقول : يا رب ، لك الحمد ، قال لي : جلس سبعة أيام
، ثم توفي ، لكن مات بحالة حلوة جميلة ، مات بحالة راقية جداً ، قال لي :
لحكمة بالغة جاء إلى هذا الغرفة إنسان مريض بالمرض نفسه ،
ورم خبيث في الأحشاء ، قال لي : ما من نبي إلا سبّه ، يا لطيف ، يكفر
كفرا ، يصيح ، يشتم ، يقذف بالسباب كل من رآه ، فإذا قرع الجرس
لا يأتيه أحد ، الغرفة مظلمة مخيفة ، غرفة كفر ، غرفة سخط ، مع أن المرض نفسه .
أيها الإخوة ، السعادة تنبع من الداخل ، ولا تحتاج إلى شيء مادي ،
قد تكون أسعد الناس في كوخ .
والله مرة كنت في مؤتمر إسلامي في المغرب في أكبر فندق
في الدار البيضاء ، عند الفجر سمعت قرآناً يُتلى ، والله أبكاني ، نظرت
من الشرفة فإذا عامل الحدائق يصلي الفجر في وقته ، وله صوت
حسن ، قلت : يا رب ، لعل هذا العامل أقرب إليك من كل أعضاء
المؤتمر ، المؤتمر إسلامي ، الصلة بالله لها ثمن ، ثمنها أن تكون
محباً لله ، أن تكون مستقيماً على أمره .
تعلقوا بالسعادة أيها الإخوة ، هناك فيلسوف من مصر يقول :
مبدأ اللذة إذا كان هدفاً أصبح مبدأ ألم .
أنت تتصور إنسانا دخله مليون في الشهر ، ومعه كآبة ، وينتحر
بعد ذلك ، أعلى نسب الانتحار في العالم في أغنى البلاد في العالم ،
الذي صمم ثاني أطول جسر في العالم يعبره ثلاثمئة ألف سيارة مهندس
ياباني ، في أثناء قص الشريط ألقى بنفسه في البوسفور ، ذهبوا إ
لى غرفته ، فكتب على ورقة : " ذقتُ كل شيء في الحياة فلم أجد
لها طعماً ، فأردت أن أذوق طعم الموت " .
الحياة ليس فيها شيء ، أكاد أقول لكم : سافرت كثيراً شرقاً وغرباً ،
وجدت صفة مشتركة في العالم الشرقي والغربي ، إنسان بلا هدف ،
هو غني ما عنده مشكلة ، ولأن ما عنده مشكلة فهذه أكبر مشكلة ،
حياة مملة ، ألِف كل شيء ، أكل ، شرب ، شاهد أفلام ، وبعد هذا ؟
والله أيها الإخوة ، هؤلاء الذي ينجحون في حياتهم المادية يأتي وقت
لا يحتمِلون ولا يُحتمَلون ، فهم في مللٍ ، وضجرٍ ، وسأمٍ .
أيها الإخوة ، الحقيقة أن الإنسان إذا لم يعرف الله عز وجل يصبح مبدأ
الشهوة عنده مبدأ ألمٍ ، لماذا ؟ لأنه بلا منهج ، وسوف يعتدي ، وحينما
تعتدي ، عندك زوجة ، وإذا لم تكن لك زوجة كانت لك عشيقة ، هذه
العشيقة فتاة كان من الممكن أن تكون أمًّا عندها أولاد ، عندها أصهار ،
هي أمٌّ محترمة ، زوجة محترمة ، أفسدها هذا الشاب ، فنقلها من امرأة
شريفة إلى امرأة ساقطة ، عنده ضمير ، عنده فطرة سليمة ، هذه الفطرة
تعذبه ، فلذلك أي إنسان يتفلت من منهج الله يعاني من أمراض نفسية ،
أولها الكآبة ، ثانيها اختلال التوازن .
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
( سورة المؤمنون)
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
( سورة طه )
ذكرت شيئًا : المصائب في الدنيا ليست عقاباً ، وليست
انتقاماً ، وليست تشفياً ، بل هي نتائج علمية للمعاصي والآثام ، وكما
أن المركبة علة صنعها السير ، فلا بد لها من مكبح يتناقض مع علة
سيرها ، والمكبح ضروري ، هو أخطر ما في المركبة ، مع أنها صنعت
من أجل أن تسير ، والمكبح يتناقض مع علة سيرها ، لهذا لما يختار الإنسان
الشهوة المحرمة فأمامه سلسلة معالجات تحدثنا عنها في درس سابق ، منها
الهدى البياني ، والتأديب التربوي ، والإكرام الاستدراجي ، والقصم .
5 – متعة الشهوة زائلة والمسؤولية باقيةٌ ، والمجاهدة في الطاعة زائلة والتكريم باقٍ :
أيها الإخوة الكرام ، المتع في المعاصي زائلة والمسؤولية باقية ، ألا
يا رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً .
الآن المجاهدة في الطاعات زائلة لا تستمر ، بل تنتهي ، والتكريم
باق ، المتعة آنية وزائلة والمسؤولية باقية ، والمجاهدة في الطاعة
زائلة ومنقضية والتكريم هو الباقي .
لكن أدق كلام أن في أنفسنا جميعاً فراغا لا يمكن أن يملأ إلا بمعرفة
الله ، المال لا يملؤه ، ولا المنصب ، ولا اللذة ، ولا المتعة ، هذا الذي
نسعى إليه كي نملأ فراغ الإيمان .
مرة كنت في بلد في أمريكا ، وفي مدينة إلى جانب مدينة إقامتي
اسمها توليدوا اتصلوا بي وطلبوا زيارة ، أول سنة اعتذرت ، والثانية
اعتذرت ، والثالثة اعتذرت ، الرابعة ذهبت ، بعد أن انتهت المحاضرة
والله الذي لا إله إلا هو قال لي أخ : أنا أخو فلان ، وفلان صديقي ، قال :
تعرف كم مسافة قطعتُ وقدتُ مركبتي كي أستمع لهذه المحاضرة ؟
قلت له : كم ؟ قال ستمئة ميلا ، أي ألف كيلو متر ، هناك تصحر ، إنسان
يقود مركبته ألف كيلو متر ليستمع إلى محاضرة ، نحن في الشام
دروس ، خطب ، ندوات من فضل الله ، العلم ثمين جداً ، أنت حينما تعرف
الله فقد وصلت إلى كل شيء ، وإذا غابت عنك حقيقة الإيمان فما وصلت إلى شيء .
مرة أخيرة ، يا رب ، ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟
وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟
1 – خلايا الدماغ :
وننتقل أيها الأخوة إلى موضوع علمي جديد ، كلكم يعلم أن جسمك
يتبدل تبدلاً كلياً كل خمس سنوات ، لأن أطول عمر خلية الخلية
العظيمة ، خمس سنوات ، وأقصر عمر خليةٍ خليةُ زغابة الأمعاء ،
عمرها ثمان وأربعون ساعة ، زغابات الأمعاء تتبدل كل ثمانٍ وأربعين
ساعة ، والخلايا العظمية تتبدل كل خمس سنوات ، أما أنت أيها
الإنسان فبمجملك تتبدل كلياً كل خمس سنوات ، لا الجلد هو هوَ ، ولا
الشعر هو هوَ ، ولا شيء بجسمك هو هوَ ، كل شيء يتبدل إلا خلايا الدماغ وخلايا القلب .
في الدماغ ذاكرتك ، خبراتك ، مهاراتك ، معلوماتك ، كل شيء حصلته
في حياتك مودع في الدماغ ، معارفك ، أولادك ، أصدقاءك ،
أقرباءك ، اختصاصك ، أنت طبيب ، كل المعلومات في الدماغ
، لو تبدل الدماغ ماذا كنت تعمل ؟ أنا كنت طبيبا ، الآن أنا أميٌّ ،
شيء لا يحتمل ، ضاعت ذاكرتك ، ما عرفت أولادك ، نسيت معلوماتك ،
فقدت اختصاصك ، فقدت الدكتوراه .
جاء رجلٌ من أمريكا أصيب بفقد الذاكرة ، دخل عليه ابنه ، قال له : من أنت ؟
أحد إخواننا الكرام توفاه الله ، قبل أن يموت خرج من معمله
باتجاه بيته في المهاجرين ، نسي بيته ، بقي ساعتين ، لكنه
يعلم بيت ابنه في الجسر ، ذهب إليه ، قال : يا بني ، أين بيتي ؟ فقَد ذاكرته .
لو أن إنسانا يتبدل دماغه لخسر كل شيء ، خسر دراسة ثلاثٍ وثلاثين
سنة ، فالدماغ لا يتبدل ، والحكمة واضحة جداً وضوح الشمس ، هذا شيء قديم ذكرتُه لكم .
2 – خلايا القلب :
أما الشيء الجديد أن القلب أيضاً لا يتبدل ، لماذا ؟
ما كنت أعلم ، لكن الآن ثبت أن القلب مكان المشاعر والأذواق
والميول ، كيف عرفوا هذا ؟ بعد أن استطاع الإنسان أن يزرع
قلب إنسان في إنسان آخر ، رجل في الثمانين قلبه معطوب ، شاب
مات بحادث ، أخذوا قلب الشاب إلى هذا المتقدم بالسن ، هذا المتقدم
بالسن عاش بالأربعينات ، حيث كانت الموسيقى الكلاسيكية ، وجد
نفسه يحب موسيقى الجاز ، ليس معقولا ، تبدل في الميول عجيب ،
وجد نفسه يحب أكلات معينة ، ما كان يحبها سابقاً .
في العالم الآن ثلاثة وسبعون حالة زرع قلب ، القصص التي تروى
عن أحوال هؤلاء الذين أخذوا قلوب الآخرين شيء ممتع جداً :
إنسان زرع له قلب إنسان يتكلم كلاما ليس له معنى ، كلمة ليس
لها معنى ، من شدة قلقه اتصل بزوجة الذي أخذ قلبه ، قالت له :
هذه كلمة سر بيننا ، تعني أن كل شيء على ما يرام ، وبعض الأشخاص
يحب أغاني ما كان يحبها من قبل ، طبعاً القصص طويلة وممتعة ،
هذه كلها نجدها في مراجعها .
صار القلب مركز الأحاسيس والمشاعر والأذواق ، لو تبدل يكون
الإنسان الذي كان يحب أن يسمع القرآن الكريم فرضاً يصبح يحب
أن يسمع شيئا ثانيا ، أما الله عز وجل فثبت القلب في خلاياه .
أنا كنت أظن أن هذا القلب الصنوبري لا علاقة له بموضوع القلب
في القرآن الكريم ، والله أنا كنت أقول : إن هذا القلب الصنوبري
مضخة ، أما القلب الذي ورد في القرآن الكريم فهو قلب النفس ، الآن
ثبت أن القلب الذي ورد في القرآن الكريم هو هذا القلب نفسه ، هذا
مكان المشاعر والأحاسيس والأذواق ، والحديث طبعاً طويل ، ويمكن
أن أروي لكم ثلاثاً وسبعين قصة عن أشخاص زرعت قلوب لهم ، وانتقلت
أحاسيس الآخرين إليهم وأذواقهم ورغباتهم وميولهم .
أخطر شيء في هذا الموضوع أن الله ثبت أن حول القلب خلايا
عصبية إدراكية ، قدراتها تفوق خمسمئة ضعف ، وأن هذه الخلايا
تأمر الدماغ ، وأن الدماغ محكوم بالقلب ، هذا بحث يمكن أن تراه
في الإنترنت ، والذين اكتشفوه لا علاقة لهم بالدين إطلاقاً .
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ﴾ .( سورة فصلت الآية : 53 ) .
هناك خلايا عصبية محيطة بالقلب ، وقدرتها أضعاف مضاعفة
عن خلايا الدماغ ، بل هي تحكم معظم خلايا الدماغ .
زارنا عالم من علماء الدين والدنيا ، وذكر هذه المعلومات ، أنا
تابعتها في الإنترنت فوجدتها صحيحة كما قال .
أيها الإخوة الكرام ، كلما تقدم العلم كشف عن جانب من عظمة
هذا القرآن الكريم ، كلما تقدم العلم تبين أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن .
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ .( سورة الواقعة ) .
الآن هناك نجوم تبعد عنا أربعة وعشرين ألف مليون سنة ضوئية ،
أو أربعة وعشرين مليار سنة ، والضوء يقطع في الثانية الواحدة
ثلاثمئة ألف كيلو متر ، بالدقيقة ضرب ستين ، بالساعة ضرب ستين ،
باليوم ضرب أربع وعشرين ، بالسنة ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين ،
بأربعة وعشرين ألف مليون سنة .
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ .
( سورة الواقعة ) .
جواب القسم :
إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77)
( سورة الواقعة ) .
الإعجاز العلمي محوره أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن .