النعمانى
19 Jan 2011, 02:05 PM
كتبه/ محمد القاضي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن سفينة دعوتنا تواجه أثناء سيرها الأمواج المضطربة والرياح العاصفة المتمثلة في الابتلاءات والفتن، والشبهات المثارة، والشهوات المعروضة، وهي محكومة مِن ناحية أخرى: بإدارة الربان، وما تُتخذ مِن قرارات مِن قِبَل قادتها الأفاضل.
وعليه فهي تتأثر بكل حركة تقع فيها وحولها، فتهتز مرة ذات اليمين، وتهتز مرة ذات الشمال، وقد تستقيم على الجادة أحيانًا، أو تغيب مؤقتًا أحيانًا أخرى، ولن تُكتب لها السلامة والاستواء فوق الموج المضطرب حتى يكون كل شخص فيها على حذر مما يفعل، ويقظة لما يريد، وأن نعلم جميعًا أن لنا أعداءً خارج سفينتنا يتربصون بنا الدوائر، ويسعون جادين لتخريبها وإفسادها.
وأسهل وسيلة لتحقيق هدفهم أن يجدوا مِن أصحاب السفينة وربانها مَن يساعدهم في ذلك، فهناك الكثير مِن أبناء الدعوة ممن ينتسبون إليها، ويتحركون بين كنفاتها يتعاملون مع المواقف الحرجة مِن المنطلق العاطفي دون التدقيق في مآلات الأمور، وهم في الحقيقة بهذا الاندفاع العاطفي يمثلِّون ضغطًا كبيرًا على الخطاب الإسلامي قد يدفعه إلى التهور وعدم النظر في مآلات الأمور.
وهذا ما عبَّر عنه الدكتور "محمد إسماعيل" -حفظه الله- في تعليقه على الأحداث الأخيرة بقوله: "فهؤلاء العامة تسوقهم العواطف، وتحكمهم المواقف الآنيّة، فيدفعون بالخطاب الإسلامي إلى العجلة، وسوء تقدير العواقب، والمبالغة في تقدير قدرات الذات، والتقليل من إمكانات الغير".
والذي ينبغي أن ندركه تمامًا في هذه الأوقات العصيبة، والمراحل الحرجة من حياة الدعوة: أننا في هذه الأوقات نحتاج إلى علمائنا وحكمائنا أشد ما تكون الحاجة؛ فإن الله -تبارك وتعالى- حثَّ المؤمنين على أن يتثبَّتوا في الأمور قبل إذاعتها، وأن يُرجعوا الأمور إلى علمائهم وحكمائهم؛ فإن في ذلك سببًا في حفظ الدعوة والدعاة من اتباع الأهواء، والسقوط في حبائل الشيطان.
فقد قال -تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً) (النساء:83).
قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في بيان معنى هذه الآيات: "هذا تأديب مِن الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر مِن الأمور المهمة، والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة؛ عليهم أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم، والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطًا للمؤمنين، وسرورًا لهم، وتحرزًا من أعدائهم؛ فعلوا ذلك.
وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته؛ لم يذيعوه، ولهذا قال: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، أي: يستخرجونه بفكرهم، وآرائهم السديدة، وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية؛ وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور؛ ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم؛ فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ.
وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه: هل هو مصلحة فيُقْدِم عليه الإنسان، أم لا فيحجم عنه؟
ثم قال -تعالى-: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي: في توفيقكم وتأديبكم، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون؛ (لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً)؛ لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر، فإذا لجأ إلى ربه، واعتصم به، واجتهد في ذلك؛ لطف به ربه، ووفَّقه لكل خير، وعصمه من الشيطان الرجيم".
وقال الشوكاني في فتح القدير ما ملخصه:
"قوله: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ): يقال: أذاع الشيء وأذاع به: إذا أفشاه وأظهره، وهؤلاء هم جماعة مِن ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئًا مِن أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوّهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم؛ أفشوه، وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك.
قوله: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ): وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم، أو هم الولاة عليهم؛ (لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، أي: يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم، والمعنى: أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يذيعها، أو يكون أولي الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك؛ لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى، وما ينبغي أن يكتم.
وقيل: إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها، فتحصل بذلك المفسدة.
وأخرج عبد بن حميد، ومسلم، وابن أبي حاتم، من طريق ابن عباس، عن عمر بن الخطاب قال: "لما اعتزل النبي -صلى الله عليه وسلم- نساءه؛ دخلتُ المسجد، فوجدت الناس ينكتون بالحصا، ويقولون: طلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه، فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر".
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في الآية، قال: "هذا في الإخبار إذا غزت سرية من المسلمين؛ أخبر الناس عنها، فقالوا: أصاب المسلمون مِن عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدوّ من المسلمين كذا وكذا، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- هو يخبرهم به".
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك: "(وَإِذَا جَاءهُمْ) قال: هم أهل النفاق"، وأخرج ابن جرير، عن أبي معاذ مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: (وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان) قال: "فانقطع الكلام، وقوله: (إِلاَّ قَلِيلاً) فهو في أوّل الآية يخبر عن المنافقين، قال: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ) (إِلاَّ قَلِيلاً) يعني: بالقليل المؤمنين".
فهذه دعوة إلى التعقل، والنظر في مآلات الأمور، ورد الأمور إلى أهل العلم؛ حتى تكون ردود الأفعال في أي موقف مِن المواقف موافقة للكتاب والسنة، ولا تتحكم فيها العاطفة فقط، وحتى تلتف الأمة حول علمائها، وتُقدِم بإقدامهم، وتحجِم بإحجامهم؛ فإن السير في ركاب العلماء يعطي للدعوة ميزة هي في أمسِّ الحاجة إليها؛ ألا وهي: البصيرة التي تُنجي مِن الحيرة، وتُنير الطريق أمام الدعاة، وطلبة العلم، وعوام الأخوة، والناس جميعًا؛ للوصول إلى بر الأمان، وحماية الدعوة والدعاة من مكر الأعداء وغدر الخبثاء، قال -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108).
فقد وجدنا مِن إخواننا مَن يقول في ظل هذه الأزمات: "إلى متى نظل نردد هذه العبارات، مثل: الصبر، والدعاء، والنظر في مآلات الأمور، إلى غير ذلك من العبارات"، ومثل هذه المقالات تحتاج في الحقيقة إلى توبة؛ فطاعة الوقت تُوجب على كل مكلف وعلى جماعة المكلفين ما يلزمهم أداؤه في ظل ما أعطاهم الله من القوة والقدرة؛ فإن الله لا يكلف نفسًا إلا ما أتاها.
وهذا لا يعني مِن قريب ولا بعيد أن نتوقف عن العمل بالإسلام وللإسلام؛ فإن ما يقلق الأعداء في الداخل والخارج هي هذه الأعداد الغفيرة مِن الملتزمين بالإسلام والمتمسكين بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- العدنان، ولكن ينبغي أن يكون العمل موافقًا لهذه الضوابط؛ حتى يكن مرضيًا عند الله؛ فإنما نتقرب إلى الله بموافقة الشرع لا بموافقة العاطفة.
وينبغي أيضًا أن يكون العمل دائمًا متصلاً؛ حتى تصل الدعوة بكل معانيها إلى كل الناس، فالجهود المتصلة هي التي توضح المفاهيم الغائبة عن الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فمِن خلال العمل الإسلامي الرصين يكون الرد على أعداء هذه الدعوة الربانية، وبيان الحقائق والثوابت التي دل عليها الكتاب والسنة، والتي منها: حرمة دماء المسلمين، وحرمة أعراضهم، وأن المسلمين تتكافأ دماؤهم، ويجري بذمتهم أدناهم، وهم يد على مَن سواهم، وأن مَن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا، وأن مَن قتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا، وأن من عذَّب الناس فلابد أن يعذبه الله في الدنيا والآخرة.
ومِن خلال هذا البيان ظهرت الثوابت التي لا تقبل المساومة؛ مثل قوله -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) (آل عمران:19)، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وقوله -تعالى-: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (الحشر:20)، وقوله -تعالى-: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (القلم:35)، إلى غير ذلك من النصوص التي توضح مَن نحب، ومَن نبغض، ومَن نوالي، ومَن نعادي، في نفس الوقت الذي تبين فيه كيف يتعامل المسلم مع غير المسلمين تعاملاً يملؤه العدل، انظر لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:8).
فالعدل أساس الملك وبه قامت السموات والأرض، فنبيع ونشتري، ونتعامل بالعدل الذي أمر الله به، ونسالم من سالمنا، ونسامح مَن تعامل معنا بالسماحة، وهناك قضايا كثيرة غير ما أشرنا إليه انتشر العلم بها جزئيًّا بين الناس، ولابد من استكمال مشوار البيان؛ ليحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، وكما قال -تعالى-: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55).
فنحن لا نتكلم بالأهواء، ولا بالأطروحات العقلية المتجردة عن الاستدلال؛ بل نتكلم باللغة الشرعية المفعمة بالأدلة من الكتاب والسنة والقياسات العقلية الصحيحة على ذلك، ومِن هنا كان الخطاب مقنعًا لكل من سمعه ووعاه؛ فإنه يجد نفسه مضطرًا إلى التسليم له، إلا أن يكون في نفسه هوى يمنعه من التسليم للنصوص الصريحة، ولفهم أعلم الناس بالنصوص؛ وهم: سلف هذه الأمة مِن الصحابة، والتابعين، ومَن تبعهم بإحسان ممن جاء بعدهم إلى يوم الدين.
وهذا الفهم الصحيح لدين الإسلام هو الذي يعطي هذا العمق لمواقف هذه الدعوة المباركة خلال العقود الماضية، وسوف يظل -بإذن الله- في العقود القادمة طالما ظل الأبناء يحافظون في دعوتهم إلى الله على هذه الرصانة، ويتمسكون بما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتمسك به (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
من موقع صوت السلف
(http://www.salafvoice.com/)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن سفينة دعوتنا تواجه أثناء سيرها الأمواج المضطربة والرياح العاصفة المتمثلة في الابتلاءات والفتن، والشبهات المثارة، والشهوات المعروضة، وهي محكومة مِن ناحية أخرى: بإدارة الربان، وما تُتخذ مِن قرارات مِن قِبَل قادتها الأفاضل.
وعليه فهي تتأثر بكل حركة تقع فيها وحولها، فتهتز مرة ذات اليمين، وتهتز مرة ذات الشمال، وقد تستقيم على الجادة أحيانًا، أو تغيب مؤقتًا أحيانًا أخرى، ولن تُكتب لها السلامة والاستواء فوق الموج المضطرب حتى يكون كل شخص فيها على حذر مما يفعل، ويقظة لما يريد، وأن نعلم جميعًا أن لنا أعداءً خارج سفينتنا يتربصون بنا الدوائر، ويسعون جادين لتخريبها وإفسادها.
وأسهل وسيلة لتحقيق هدفهم أن يجدوا مِن أصحاب السفينة وربانها مَن يساعدهم في ذلك، فهناك الكثير مِن أبناء الدعوة ممن ينتسبون إليها، ويتحركون بين كنفاتها يتعاملون مع المواقف الحرجة مِن المنطلق العاطفي دون التدقيق في مآلات الأمور، وهم في الحقيقة بهذا الاندفاع العاطفي يمثلِّون ضغطًا كبيرًا على الخطاب الإسلامي قد يدفعه إلى التهور وعدم النظر في مآلات الأمور.
وهذا ما عبَّر عنه الدكتور "محمد إسماعيل" -حفظه الله- في تعليقه على الأحداث الأخيرة بقوله: "فهؤلاء العامة تسوقهم العواطف، وتحكمهم المواقف الآنيّة، فيدفعون بالخطاب الإسلامي إلى العجلة، وسوء تقدير العواقب، والمبالغة في تقدير قدرات الذات، والتقليل من إمكانات الغير".
والذي ينبغي أن ندركه تمامًا في هذه الأوقات العصيبة، والمراحل الحرجة من حياة الدعوة: أننا في هذه الأوقات نحتاج إلى علمائنا وحكمائنا أشد ما تكون الحاجة؛ فإن الله -تبارك وتعالى- حثَّ المؤمنين على أن يتثبَّتوا في الأمور قبل إذاعتها، وأن يُرجعوا الأمور إلى علمائهم وحكمائهم؛ فإن في ذلك سببًا في حفظ الدعوة والدعاة من اتباع الأهواء، والسقوط في حبائل الشيطان.
فقد قال -تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً) (النساء:83).
قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في بيان معنى هذه الآيات: "هذا تأديب مِن الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر مِن الأمور المهمة، والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة؛ عليهم أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم، والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطًا للمؤمنين، وسرورًا لهم، وتحرزًا من أعدائهم؛ فعلوا ذلك.
وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته؛ لم يذيعوه، ولهذا قال: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، أي: يستخرجونه بفكرهم، وآرائهم السديدة، وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية؛ وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور؛ ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم؛ فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ.
وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه: هل هو مصلحة فيُقْدِم عليه الإنسان، أم لا فيحجم عنه؟
ثم قال -تعالى-: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي: في توفيقكم وتأديبكم، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون؛ (لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً)؛ لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر، فإذا لجأ إلى ربه، واعتصم به، واجتهد في ذلك؛ لطف به ربه، ووفَّقه لكل خير، وعصمه من الشيطان الرجيم".
وقال الشوكاني في فتح القدير ما ملخصه:
"قوله: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ): يقال: أذاع الشيء وأذاع به: إذا أفشاه وأظهره، وهؤلاء هم جماعة مِن ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئًا مِن أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوّهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم؛ أفشوه، وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك.
قوله: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ): وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم، أو هم الولاة عليهم؛ (لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، أي: يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم، والمعنى: أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يذيعها، أو يكون أولي الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك؛ لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى، وما ينبغي أن يكتم.
وقيل: إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها، فتحصل بذلك المفسدة.
وأخرج عبد بن حميد، ومسلم، وابن أبي حاتم، من طريق ابن عباس، عن عمر بن الخطاب قال: "لما اعتزل النبي -صلى الله عليه وسلم- نساءه؛ دخلتُ المسجد، فوجدت الناس ينكتون بالحصا، ويقولون: طلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه، فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر".
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في الآية، قال: "هذا في الإخبار إذا غزت سرية من المسلمين؛ أخبر الناس عنها، فقالوا: أصاب المسلمون مِن عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدوّ من المسلمين كذا وكذا، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- هو يخبرهم به".
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك: "(وَإِذَا جَاءهُمْ) قال: هم أهل النفاق"، وأخرج ابن جرير، عن أبي معاذ مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: (وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان) قال: "فانقطع الكلام، وقوله: (إِلاَّ قَلِيلاً) فهو في أوّل الآية يخبر عن المنافقين، قال: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ) (إِلاَّ قَلِيلاً) يعني: بالقليل المؤمنين".
فهذه دعوة إلى التعقل، والنظر في مآلات الأمور، ورد الأمور إلى أهل العلم؛ حتى تكون ردود الأفعال في أي موقف مِن المواقف موافقة للكتاب والسنة، ولا تتحكم فيها العاطفة فقط، وحتى تلتف الأمة حول علمائها، وتُقدِم بإقدامهم، وتحجِم بإحجامهم؛ فإن السير في ركاب العلماء يعطي للدعوة ميزة هي في أمسِّ الحاجة إليها؛ ألا وهي: البصيرة التي تُنجي مِن الحيرة، وتُنير الطريق أمام الدعاة، وطلبة العلم، وعوام الأخوة، والناس جميعًا؛ للوصول إلى بر الأمان، وحماية الدعوة والدعاة من مكر الأعداء وغدر الخبثاء، قال -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108).
فقد وجدنا مِن إخواننا مَن يقول في ظل هذه الأزمات: "إلى متى نظل نردد هذه العبارات، مثل: الصبر، والدعاء، والنظر في مآلات الأمور، إلى غير ذلك من العبارات"، ومثل هذه المقالات تحتاج في الحقيقة إلى توبة؛ فطاعة الوقت تُوجب على كل مكلف وعلى جماعة المكلفين ما يلزمهم أداؤه في ظل ما أعطاهم الله من القوة والقدرة؛ فإن الله لا يكلف نفسًا إلا ما أتاها.
وهذا لا يعني مِن قريب ولا بعيد أن نتوقف عن العمل بالإسلام وللإسلام؛ فإن ما يقلق الأعداء في الداخل والخارج هي هذه الأعداد الغفيرة مِن الملتزمين بالإسلام والمتمسكين بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- العدنان، ولكن ينبغي أن يكون العمل موافقًا لهذه الضوابط؛ حتى يكن مرضيًا عند الله؛ فإنما نتقرب إلى الله بموافقة الشرع لا بموافقة العاطفة.
وينبغي أيضًا أن يكون العمل دائمًا متصلاً؛ حتى تصل الدعوة بكل معانيها إلى كل الناس، فالجهود المتصلة هي التي توضح المفاهيم الغائبة عن الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فمِن خلال العمل الإسلامي الرصين يكون الرد على أعداء هذه الدعوة الربانية، وبيان الحقائق والثوابت التي دل عليها الكتاب والسنة، والتي منها: حرمة دماء المسلمين، وحرمة أعراضهم، وأن المسلمين تتكافأ دماؤهم، ويجري بذمتهم أدناهم، وهم يد على مَن سواهم، وأن مَن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا، وأن مَن قتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا، وأن من عذَّب الناس فلابد أن يعذبه الله في الدنيا والآخرة.
ومِن خلال هذا البيان ظهرت الثوابت التي لا تقبل المساومة؛ مثل قوله -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) (آل عمران:19)، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، وقوله -تعالى-: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (الحشر:20)، وقوله -تعالى-: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (القلم:35)، إلى غير ذلك من النصوص التي توضح مَن نحب، ومَن نبغض، ومَن نوالي، ومَن نعادي، في نفس الوقت الذي تبين فيه كيف يتعامل المسلم مع غير المسلمين تعاملاً يملؤه العدل، انظر لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:8).
فالعدل أساس الملك وبه قامت السموات والأرض، فنبيع ونشتري، ونتعامل بالعدل الذي أمر الله به، ونسالم من سالمنا، ونسامح مَن تعامل معنا بالسماحة، وهناك قضايا كثيرة غير ما أشرنا إليه انتشر العلم بها جزئيًّا بين الناس، ولابد من استكمال مشوار البيان؛ ليحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، وكما قال -تعالى-: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55).
فنحن لا نتكلم بالأهواء، ولا بالأطروحات العقلية المتجردة عن الاستدلال؛ بل نتكلم باللغة الشرعية المفعمة بالأدلة من الكتاب والسنة والقياسات العقلية الصحيحة على ذلك، ومِن هنا كان الخطاب مقنعًا لكل من سمعه ووعاه؛ فإنه يجد نفسه مضطرًا إلى التسليم له، إلا أن يكون في نفسه هوى يمنعه من التسليم للنصوص الصريحة، ولفهم أعلم الناس بالنصوص؛ وهم: سلف هذه الأمة مِن الصحابة، والتابعين، ومَن تبعهم بإحسان ممن جاء بعدهم إلى يوم الدين.
وهذا الفهم الصحيح لدين الإسلام هو الذي يعطي هذا العمق لمواقف هذه الدعوة المباركة خلال العقود الماضية، وسوف يظل -بإذن الله- في العقود القادمة طالما ظل الأبناء يحافظون في دعوتهم إلى الله على هذه الرصانة، ويتمسكون بما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتمسك به (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
من موقع صوت السلف
(http://www.salafvoice.com/)