النعمانى
25 Jan 2011, 02:37 PM
كتبه/ محمد إسماعيل أبو جميل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن مِن أعظم ما يُثبت فؤاد المؤمن عند نزول الفتن واشتداد الكروب هو حسن الظن بالله -جل وعلا-، فإنه هو -أي حسن الظن بالله-: الحصن الحصين، والركن الركين الذي إليه يلجأ، وبه يعتصم؛ فيثبت قلبه، ويزداد يقينه، ويقوى عزمه، وتنير بصيرته؛ فيرى أين وكيف يضع قدمه لئلا تزل مِن بعد ثبوتها؛ فيهوى مع مَن هوى، أو يطيش عقله فيسيء تقدير أمر قد يجلب عليه سوءًا أو يزيد الفتنة عسرًا.
وذلك مِن معنى اسم الله المؤمن: الذي يُؤمِّن عباده المؤمنين وقت المحن، فإن للإنسان: كل عجز، وكل ضعف، وكل نقص، وكل فقر.. ولله -سبحانه وتعالى-: كل قدرة، وكل قوة، وكل كمال، وكل غنى..
فإذا أنزل العبد عجزه وضعفه ونقصه وفقره بباب ربه -عز وجل-: (أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء:87), (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء:83), (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص:24), (اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) (متفق عليه)؛ أنعم الله عليه مِن آثار قدرته، وقوته، وكماله، وغناه، وسائر أسمائه وصفاته -عز وجل- ما يجبر به قلبه، ويزيل همه، ويجعل مع الصبر نصرًا، ومع الكرب فرجًا، ومع العسر يسرًا: (وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (رواه أحمد، وصححه الألباني), (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق:7).
وإن علق المؤمن قلبه بربه ذي القوة المتين؛ سكن واطمئن ولم يضره كيد الكائدين: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ) (الأنبياء:70), (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى) (طه:68), (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (الطور:42), (وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا) (النساء:84)، (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) (البروج:20).
و إذا استعصم بالعليم الخبير؛ الذي يعلم السر وأخفى، والذي يعلم ما ظهر من كيد أعدائه وما خفي (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) (النساء:45).
ولا يعلم عواقب الأمور إلا هو -عز وجل-: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) (الجن:26)، حينها يزداد يقينًا باختيار ربه -جل وعلا-، وينشغل بتنفيذ أمره وشرعه، فإنه -سبحانه- الذي قدَّر، وهو -سبحانه- الذي أمر وشرع، وهو علام الغيوب؛ فأمره وشرعه فيه المصلحة، ورد الأمر إليه فيه خير المآل والعاقبة (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) (النساء:59), (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (مريم:64), (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14).
فينشغل بمعرفة أمره، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في كل موطن بلاء أو فتنة منضبطًا بضابط الوحي، واثقًا في العاقبة وأن: (الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود:49)، فطالما كان هذا هو أمره الشرعي فإن عاقبته هي الحسنى ولا شك، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر -رضي الله عنه- يوم الحديبية: إذ قال عمر: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟! فَقَالَ: (بَلَى). فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاهُمْ فِي النَّارِ؟! قَالَ: (بَلَى). قَالَ: فَعَلامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟! فَقَالَ: (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا). فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا. فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ. (رواه البخاري ومسلم).
وكما قالت هاجر لإبراهيم -عليه السلام-: (أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا!). قال: (نَعَمْ), قالت: (إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا) (رواه البخاري).
فإذا وثق العبد بذلك انشغل بالبحث عن أمر ربه وأمر رسوله -عليه الصلاة والسلام-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (الحجرات:1), فإن كان عالمًا فبها ونعمت، وإن لم يكن فليتبع آثار أهل العلم وليستمسك بغرزهم: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء:83)، والعلماء هم ورثة الأنبياء.
وكذلك إذا ركن القلب إلى اللطيف -عز وجل-، والذي يدبر الخير في الخفاء لعباده؛ لعلم أنه (لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) (يوسف:100), (غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21)، (لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ) (رواه مسلم)؛ لعلم أنه قدَّر بحكمته لعدوه الصولة والدولة والمال والجاه ليمحقهم بذلك، وليجعل تدبيرهم تدميرهم, حتى وإن طال زمن المحنة فإنه -سبحانه- أرحم بعباده المؤمنين من الأم بولدها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟). قُلْنَا: لا. وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ. فَقَالَ: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا) (متفق عليه).
فقد جعل -سبحانه- ذلك مِن حكم البلاء: أن يغتر مِن الظلمة مَن يغتر؛ ليفتنه ربه بما آتاه من أسباب وأموال، حتى يقدم على هلاكه بيديه وليحفر قبره بنفسه، (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:141), (رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ) (يونس:88), (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) (الأنفال:44).
وإذا شاهد بقلبه ملكه -عز وجل-، وأنه -سبحانه- له الملك وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير, ولم يقف ببصره عند الرسوم والأحداث، بل نظر وراءها؛ فوجد تدبير الملك وتقدير العزيز الحكيم؛ لوجد أن أيسر شيء يهوِّن على قلبه، ويثبته استحضار أن كل ما يجري في الكون فهو في مُلك، ومِلك ربه -عز وجل-، فحتى كيد عدوه له فهو تقدير العزيز الرحيم, وليست الأمور بأيدي أعدائه، بل هم وأفعالهم وذواتهم وما ملكوا كله بأمره وحكمته -جل وعلا-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112)، (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ.. ) (آل عمران:166).
قدَّر كل ذلك وهو هو الحليم -عز وجل-, الودود -تبارك وتعالى-، الذي يحب عباده المؤمنين كل الحب ويحبه المؤمنون كل الحب, الذي يكره مساءة المؤمن (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَه) (رواه البخاري).
فما ابتلاه إلا ليمحصه، وما آلمه إلا ليقويه ويعلمه، وما قدر عليه سوءًا إلا ليعزه ويمكنه؛ طالما تحلى بالصبر والإيمان: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:179).
حينئذ ومع ما يرى من آلام تنزل بالمسلمين في دمائهم وأعراضهم، بل وأعظم من ذلك أن يرى دينًا يبدل، وعقائد تزيف، وحق يُطمس، وباطل يُزخرف، لعلم أن هذا هو عين ما سيظهر من ورائه الحق، ويظهر من جرائه الدين -إن ثبت أهل الحق على الإيمان-؛ فإنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
ألم يكن قتل غلام الأخدود إيذانًا بانتشار دعوة الحق وإيمان الناس، وعبادتهم لربهم -جل وعلا- بعدما ظلوا سنين يعبدون الملك، ومِن ورائه الساحر (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) (التوبة:111)، فهو -سبحانه- الذي وعد: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55), (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21), (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) (إبراهيم:42).
قال الحسن -رحمه الله-: "كم من أناس خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم يقولون: نحسن الظن بالله، وكذبوا والله، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل".
فلابد أن نعلم أن لكل بشرى شرط، ولكل وعد طرفان: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة:40)، فمع الآلام والأحداث وتتابعها وتلاحق الفتن.. لا يكونن هم أحدنا متابعة الأخبار والأحداث، والتألم والتحسر، وضرب الكف بالكف، وحوقلة باللسان دون القلب وحسب..
بل لابد من الانشغال بعبودية كل وقت.. فللتمكين عبودية، وللاستضعاف عبودية، وفي النور عبودية، وحين الظلمة عبودية؛ عبودية على وفق ما يريده ويحبه -عز وجل-، لا على وفق تشهينا واختيارنا نحن، فلنا العظة في أقوام قال الله فيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء:77).
والكف مع القدرة جبن وتفريط، كما أن الإقدام مع العجز -(الحسي أو المعنوي)- تهور وإفراط، فلعل مِن حكم المحن أن نعود لكتاب ربنا نتدبر آياته آية آية، ونعلم أسباب نزولها ونطبقها على واقعنا وأنفسنا.
وأن نراجع أنفسنا.. فإن عظم البلاء يدل على عظم الذنب "فما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة"، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:165), (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء:79).
فإذا رأينا المحنة عظيمة فآن الأوان أن نبصر حقيقة ما نحن عليه من إيمان (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).
وآن الأوان أن نراجع التزامنا ونصححه؛ فهل هذا هو ما ينبغي أن يكون عليه أهل التمكين أم نحن فعلاً -معشر الملتزمين فضلاً عن غيرهم- غثاء كغثاء السيل؟! (بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
فإن عدة أهل بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر. فهل مِن بيننا رجال كرجال بدر، حتى يحق لنا أن نقول: (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) (البقرة:214)؟!
أما أن نقولها ونحن مفرطون.. ونحن سبب الخذلان.. فأنى هذا؟! فإن لله سننا كونية لا تتبدل ولا تحابى أحدًا، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر:43).
فلنصحح التزامنا ونضبط جميع أمرنا على قوله -تعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65), ولنديم الاستغفار والتوبة والتضرع، ولنستمر في البناء لإيجاد الشخصية المؤمنة -علمًا بالإسلام والإيمان والإحسان ،وعمل بهم ودعوة لهم، وعمل للدين- مِن أنفسنا ثم مِن إخواننا، ومِن ثمَّ توجد الطائفة المؤمنة التي يمكنها الله -عز وجل-.
فهذه هي المهمة الأساسية في حياتنا، وهي سبيل عودة الحياة لأمتنا، فلا ننساها أبدًا مع ظلمة الفتن، وحتى مع انشغالنا وسؤالنا ما واجبنا في هذه الأحداث أو في غيرها؛ فلنعمل بواجب كل وقت، ولا ننسى المهمة الرئيسية في خضم الأحداث وبعدها، ولنلتف حول علمائنا، ولا نصدر إلا عن قولهم؛ فإننا بذلك قد أمرنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59)، وأولو الأمر: هم العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله، وعند غياب الأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله؛ فلم يبقى لنا إلا العلماء يحفظ الله لنا بهم ديننا.
فاللهم نجنا من الفتن ماظهر منها وما بطن، وأرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وارنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل، وانصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، وردنا والمسلمين لدينك ردًا جميلاً.
من موقع صوت السلف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن مِن أعظم ما يُثبت فؤاد المؤمن عند نزول الفتن واشتداد الكروب هو حسن الظن بالله -جل وعلا-، فإنه هو -أي حسن الظن بالله-: الحصن الحصين، والركن الركين الذي إليه يلجأ، وبه يعتصم؛ فيثبت قلبه، ويزداد يقينه، ويقوى عزمه، وتنير بصيرته؛ فيرى أين وكيف يضع قدمه لئلا تزل مِن بعد ثبوتها؛ فيهوى مع مَن هوى، أو يطيش عقله فيسيء تقدير أمر قد يجلب عليه سوءًا أو يزيد الفتنة عسرًا.
وذلك مِن معنى اسم الله المؤمن: الذي يُؤمِّن عباده المؤمنين وقت المحن، فإن للإنسان: كل عجز، وكل ضعف، وكل نقص، وكل فقر.. ولله -سبحانه وتعالى-: كل قدرة، وكل قوة، وكل كمال، وكل غنى..
فإذا أنزل العبد عجزه وضعفه ونقصه وفقره بباب ربه -عز وجل-: (أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء:87), (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء:83), (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص:24), (اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) (متفق عليه)؛ أنعم الله عليه مِن آثار قدرته، وقوته، وكماله، وغناه، وسائر أسمائه وصفاته -عز وجل- ما يجبر به قلبه، ويزيل همه، ويجعل مع الصبر نصرًا، ومع الكرب فرجًا، ومع العسر يسرًا: (وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (رواه أحمد، وصححه الألباني), (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق:7).
وإن علق المؤمن قلبه بربه ذي القوة المتين؛ سكن واطمئن ولم يضره كيد الكائدين: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ) (الأنبياء:70), (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى) (طه:68), (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (الطور:42), (وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا) (النساء:84)، (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) (البروج:20).
و إذا استعصم بالعليم الخبير؛ الذي يعلم السر وأخفى، والذي يعلم ما ظهر من كيد أعدائه وما خفي (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) (النساء:45).
ولا يعلم عواقب الأمور إلا هو -عز وجل-: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) (الجن:26)، حينها يزداد يقينًا باختيار ربه -جل وعلا-، وينشغل بتنفيذ أمره وشرعه، فإنه -سبحانه- الذي قدَّر، وهو -سبحانه- الذي أمر وشرع، وهو علام الغيوب؛ فأمره وشرعه فيه المصلحة، ورد الأمر إليه فيه خير المآل والعاقبة (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) (النساء:59), (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (مريم:64), (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14).
فينشغل بمعرفة أمره، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في كل موطن بلاء أو فتنة منضبطًا بضابط الوحي، واثقًا في العاقبة وأن: (الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود:49)، فطالما كان هذا هو أمره الشرعي فإن عاقبته هي الحسنى ولا شك، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر -رضي الله عنه- يوم الحديبية: إذ قال عمر: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟! فَقَالَ: (بَلَى). فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاهُمْ فِي النَّارِ؟! قَالَ: (بَلَى). قَالَ: فَعَلامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟! فَقَالَ: (يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا). فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا. فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ. (رواه البخاري ومسلم).
وكما قالت هاجر لإبراهيم -عليه السلام-: (أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا!). قال: (نَعَمْ), قالت: (إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا) (رواه البخاري).
فإذا وثق العبد بذلك انشغل بالبحث عن أمر ربه وأمر رسوله -عليه الصلاة والسلام-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (الحجرات:1), فإن كان عالمًا فبها ونعمت، وإن لم يكن فليتبع آثار أهل العلم وليستمسك بغرزهم: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء:83)، والعلماء هم ورثة الأنبياء.
وكذلك إذا ركن القلب إلى اللطيف -عز وجل-، والذي يدبر الخير في الخفاء لعباده؛ لعلم أنه (لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) (يوسف:100), (غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21)، (لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ) (رواه مسلم)؛ لعلم أنه قدَّر بحكمته لعدوه الصولة والدولة والمال والجاه ليمحقهم بذلك، وليجعل تدبيرهم تدميرهم, حتى وإن طال زمن المحنة فإنه -سبحانه- أرحم بعباده المؤمنين من الأم بولدها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟). قُلْنَا: لا. وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ. فَقَالَ: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا) (متفق عليه).
فقد جعل -سبحانه- ذلك مِن حكم البلاء: أن يغتر مِن الظلمة مَن يغتر؛ ليفتنه ربه بما آتاه من أسباب وأموال، حتى يقدم على هلاكه بيديه وليحفر قبره بنفسه، (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:141), (رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ) (يونس:88), (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) (الأنفال:44).
وإذا شاهد بقلبه ملكه -عز وجل-، وأنه -سبحانه- له الملك وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير, ولم يقف ببصره عند الرسوم والأحداث، بل نظر وراءها؛ فوجد تدبير الملك وتقدير العزيز الحكيم؛ لوجد أن أيسر شيء يهوِّن على قلبه، ويثبته استحضار أن كل ما يجري في الكون فهو في مُلك، ومِلك ربه -عز وجل-، فحتى كيد عدوه له فهو تقدير العزيز الرحيم, وليست الأمور بأيدي أعدائه، بل هم وأفعالهم وذواتهم وما ملكوا كله بأمره وحكمته -جل وعلا-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112)، (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ.. ) (آل عمران:166).
قدَّر كل ذلك وهو هو الحليم -عز وجل-, الودود -تبارك وتعالى-، الذي يحب عباده المؤمنين كل الحب ويحبه المؤمنون كل الحب, الذي يكره مساءة المؤمن (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَه) (رواه البخاري).
فما ابتلاه إلا ليمحصه، وما آلمه إلا ليقويه ويعلمه، وما قدر عليه سوءًا إلا ليعزه ويمكنه؛ طالما تحلى بالصبر والإيمان: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:179).
حينئذ ومع ما يرى من آلام تنزل بالمسلمين في دمائهم وأعراضهم، بل وأعظم من ذلك أن يرى دينًا يبدل، وعقائد تزيف، وحق يُطمس، وباطل يُزخرف، لعلم أن هذا هو عين ما سيظهر من ورائه الحق، ويظهر من جرائه الدين -إن ثبت أهل الحق على الإيمان-؛ فإنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
ألم يكن قتل غلام الأخدود إيذانًا بانتشار دعوة الحق وإيمان الناس، وعبادتهم لربهم -جل وعلا- بعدما ظلوا سنين يعبدون الملك، ومِن ورائه الساحر (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) (التوبة:111)، فهو -سبحانه- الذي وعد: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55), (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21), (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) (إبراهيم:42).
قال الحسن -رحمه الله-: "كم من أناس خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم يقولون: نحسن الظن بالله، وكذبوا والله، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل".
فلابد أن نعلم أن لكل بشرى شرط، ولكل وعد طرفان: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة:40)، فمع الآلام والأحداث وتتابعها وتلاحق الفتن.. لا يكونن هم أحدنا متابعة الأخبار والأحداث، والتألم والتحسر، وضرب الكف بالكف، وحوقلة باللسان دون القلب وحسب..
بل لابد من الانشغال بعبودية كل وقت.. فللتمكين عبودية، وللاستضعاف عبودية، وفي النور عبودية، وحين الظلمة عبودية؛ عبودية على وفق ما يريده ويحبه -عز وجل-، لا على وفق تشهينا واختيارنا نحن، فلنا العظة في أقوام قال الله فيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء:77).
والكف مع القدرة جبن وتفريط، كما أن الإقدام مع العجز -(الحسي أو المعنوي)- تهور وإفراط، فلعل مِن حكم المحن أن نعود لكتاب ربنا نتدبر آياته آية آية، ونعلم أسباب نزولها ونطبقها على واقعنا وأنفسنا.
وأن نراجع أنفسنا.. فإن عظم البلاء يدل على عظم الذنب "فما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة"، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:165), (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء:79).
فإذا رأينا المحنة عظيمة فآن الأوان أن نبصر حقيقة ما نحن عليه من إيمان (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).
وآن الأوان أن نراجع التزامنا ونصححه؛ فهل هذا هو ما ينبغي أن يكون عليه أهل التمكين أم نحن فعلاً -معشر الملتزمين فضلاً عن غيرهم- غثاء كغثاء السيل؟! (بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
فإن عدة أهل بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر. فهل مِن بيننا رجال كرجال بدر، حتى يحق لنا أن نقول: (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) (البقرة:214)؟!
أما أن نقولها ونحن مفرطون.. ونحن سبب الخذلان.. فأنى هذا؟! فإن لله سننا كونية لا تتبدل ولا تحابى أحدًا، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر:43).
فلنصحح التزامنا ونضبط جميع أمرنا على قوله -تعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65), ولنديم الاستغفار والتوبة والتضرع، ولنستمر في البناء لإيجاد الشخصية المؤمنة -علمًا بالإسلام والإيمان والإحسان ،وعمل بهم ودعوة لهم، وعمل للدين- مِن أنفسنا ثم مِن إخواننا، ومِن ثمَّ توجد الطائفة المؤمنة التي يمكنها الله -عز وجل-.
فهذه هي المهمة الأساسية في حياتنا، وهي سبيل عودة الحياة لأمتنا، فلا ننساها أبدًا مع ظلمة الفتن، وحتى مع انشغالنا وسؤالنا ما واجبنا في هذه الأحداث أو في غيرها؛ فلنعمل بواجب كل وقت، ولا ننسى المهمة الرئيسية في خضم الأحداث وبعدها، ولنلتف حول علمائنا، ولا نصدر إلا عن قولهم؛ فإننا بذلك قد أمرنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59)، وأولو الأمر: هم العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله، وعند غياب الأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله؛ فلم يبقى لنا إلا العلماء يحفظ الله لنا بهم ديننا.
فاللهم نجنا من الفتن ماظهر منها وما بطن، وأرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وارنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل، وانصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، وردنا والمسلمين لدينك ردًا جميلاً.
من موقع صوت السلف