ام حفصه
01 Mar 2011, 07:38 AM
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
وبعد:
ففي ظلالِ مشيِ خيرِ من وطِئَ الثرى -صلى الله عليه وسلم- نمضي، لنرى معالِمَ طريقه التي خطها لنفسه ولمن بعده من أمته، نعم ربما هي مجردُ مِشية مادية على أرضٍ مدها ربي مدًّا كان يمشيها صلى الله عليه وسلم، لكنها قد تكشف عن كثيرٍ من رموز قد تفك لنا شفرات لطالما عجَزنا عن استيعابها، وعلامات لطريق النور الذي رسمه وأهداه لنا صلى الله عليه وسلم.
ولما كان خلقه القرآن، ولما كان دومًا مثالًا حيًّا على أرض الواقع، فقد كان ثمة تطابق بين سلوكه وسماته الحالية وبين منهجه في الحياة صلى الله عليه وسلم وغاياته الكبرى ومهماته الخطيرة، وكلامي لا يقصد به التركيز على ظاهر هديه صلى الله عليه وسلم دون الباطن، بل هو دليلٌ عليه، وحلقة متصلة وبرنامج متكامل ينسجم فيه الهدي الظاهر والسمات العامة مع الأخلاق والسلوك وأعمال القلوب لتتلاحم مشيته الحالية مع خطى طريق الكفاح الصراح الممتد عبر العصر النبوي إلى أن تتصلَ لَأْلآتُ عبقِه الزاكي في الفوز الكبير والمقام المحمود.
ولقد كان هديُه في مشيه صلى الله عليه وسلم مليئًا بدلالات ومعانٍ قال فيها الشاعر:
لو لم تكن فيه آياتٌ مبينة
كانت بديهتُه تُنبيك بالخبرِ
صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
وينبغي لنا قبل الشروع في هدي مشيه صلى الله عليه وسلم توضيحُ أهمية المشي ومدى ارتباطه بشخصية الإنسان.
المشي عند علماء النفس والفراسة:
فعلماء النفس والفراسة يقولون: إن مشي المرء يعطي مدلولا على شخصيته، بل يعدونه ميزانًا للاستقرار والاتزان النفسي.
وطريقة المشي تعطي الانطباعَ الأول الذي يظل شديدَ الأهمية في العلاقات الإنسانية، فلو مشى الشخص بتثاقل وكأنه يجر رجليه، محنيًّا ظهرُه، كان هذا دليلًا على الانطواء والكآبة، وبعكسه لو مشى معتدلَ القامة بخطى ثابتة، فذلك دليل على اتزان الشخص واستقراره النفسي وقوته النفسية..
المشي في لغة العرب:
ولقد حظي المشي في لغة العرب في الجاهلية بالكثير من الألفاظ والمترادفات الثرية التي تدل على اهتمامهم بالمشيوتَفَهُّمهم للدلالات والمعاني التي ترتبط بطريقة كل مشية، فكان منها الوهص (المشي شديد الوطء)، والرهو (المشي السهل المستقيم)، والجدف (الإسراع في المشي مع سرعة تحريك اليدين) والدلف (مشي مع تقارب الخطى) والبيقرة (أن يمشي مسرعًا مع طأطأة الرأس)، والزياف (أن يمشي في سرعة مع تمايل وكأنه سيستدير)[1].
ووصف الأعشى محبوبته بالرفاهية والتبختر قائلا:
غرّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارضُها
تمشي الهوينى كما يمشي الوَجِي الوَجِلُ
(أو الوَحِلُ) أي تمشي بتريث كما يمشي الخائف المترقب أو أنها تمشي بتريث لأنها كمن يمشي على الطين الرقيق، وهنا ينعتها بالدلال في مشتها.
دلالات المشي في القرآن والحديث:
وفي القرآن الكريم دلالات تفصح عن العلاقة بين الصفات الإنسانية ومشي المرء وما يخلف ذلك من مؤثرات إما بالخير وإما الشر على الإنسان.
• ففي قول الله تبارك وتعالى:﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18] دليل على ذم الخيلاء والمرح والعجب وذلك من خلال ذم هيئة المشية.
• وفي قوله عز وجل: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ [القصص: 25] دليل على صفة الحياء والتأدب وغض البصر، كل هذا لم يظهر إلا بذكر هيئة المشي التي كانت عليها ابنةُ شعيب في سؤلها لموسى عليه السلام، وكما قال ابنُ كثير في تفسيره: إنه مشي الحرائر، وكأنه يبين الفرق بينه وبين مشي البغايا والإماء المائلات المميلات كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جلَّى ذلك قولُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "جاءت تمشي على استحياء، قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسلفع خَرَّاجة ولاجة". هذا إسناد صحيح. [تفسير ابن كثير سورة القصص].
• ولقد جاءت المشية أحيانًا في السياقات القرآنية لتدل على خبث الفعلة المصاحبة للمشية وقبحها؛ فقال تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11].
وصفة المشي هنا إن كانت مادية فالمقصود بها الحركة والسعي وراء النميمة كما فسرها ابن كثير: (المشاء بنميم: الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم، وينقل الحديث لفساد ذات البين وهي الحالقة).
أو أنها مشية معنوية كما فسرها السعدي في قوله (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي نقل كلام بعض الناس لبعض، لقصد الإفساد بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء. وفيها قال الراغب الأصفهاني: (ويُكْنَى بالمشي عن النميمة)، وفسرها البغوي بقوله: (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) قتَّات يسعى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم.
ويوضحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقًا الموطؤون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إليالمشاؤونبالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبراء العنت" [2].
• كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مشى أبو دجانة متبخترًا أمامه في غزوة أحد: (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن) [3] لأن هذه المشية المفعمة بالكبر والفخر تستعمل لإذلال أعداء الله وإرهابهم.
• ولقد كانت كذلك مشية (الرمل) في الحج، رسالة إعلامية قصيرة فعّالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مشركي مكة تبلغهم قوة النبي وأصحابه ومعافاتهم من السقم وصحتهم البدنية وأنهم أُسودٌ إن دعا داعي الجهاد.
ولما كانت هناك مشيات يبغضها الله عز وجل، وهناك أخرى يحبها الله عز وجل، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يلحظون مشية النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتنون بذلك، ويقتدون بها؛ فأم المؤمنين عائشة تقول في مشية فاطمة سيدة نساء المؤمنين رضي الله عنهما: (فأقبلت فاطمة عليها السلام تمشي، ولا والله ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم) متفق عليه.
فكيف كانت إذًا مشيته بأبي هو وأمي وما مدلولاتها؟
في ظلال مشيه صلى الله عليه وسلم:
وقد اعتنيت في هذا المبحث ببيان النص في حديث هند ابن أبي هالة رضي الله عنه لابن أخته الحسن رضي الله عنه واصفًا مشي النبي صلى الله عليه وسلم، وما يحمله لنا من دلالات[4] تفصح عن محامد صفاته صلى الله عليه وسلم، وتطابقها مع خلقه ومنهجه، وذلك لتيسير الوصول إليها، والاقتداء بها، والاستفادة العملية منها، وذلك بعيدًا عن النظر في بلاغة الألفاظ في حد ذاتها؛ إذ ليس موضع البحث.
1- علو الهمة والمثابرة في العمل مع التواضع:
صفتان عظيمتان قلما اجتمعا معا، فكثيرٌ ممن أهمتهم همتهم وطموحاتهم المستقبلية تلوثوا بغثيان الكبر والاغترار والعجب، وكثير ممن أهمهم التواضع تراهم أفرطوا في التذلل إلى حد الزهد في طلب الهمم، فما عزموا على معالجة أنفسهم من داء العجب بالتواضع إلا وأصابوها بداء العزوف عن طلب الهمة والاستزادة من الطموح ومعالي الأمور، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني لنا مثالاً جديدًا وسطًا بين هذا وذاك، يتضح ذلك في وصف مشيته صلى الله عليه وسلم؛ يقول هند بن أبي هالة رضي الله عنه واصفًا النبي صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: (كان إذا زال زال قَلِعا)
المعنى اللغوي: (الزَّوَّال: الذي يتحرَّك في مشيه كثيرًا وما يقطعه من المسافة قليل) [لسان العرب]، وهو دليل المثابرة في نيل الأمور، (وقَلِعا: معناه أنه إذا مشي وتَقَلَّعَ في مَشْيَتِه: مشَى كأَنه يَنْحَدِرُ، أَراد قوّة مشيه، وأَنه كان يرفع رجليه من الأَرض إِذا مشى رَفْعًا بائنًا بقوّة، لا كمن يَمْشِي اخْتِيالًا وتَنَعُّمًا، ويُقارِبُ خُطاه، فإِنّ ذلك من مَشْي النساء ويُوصَفْنَ به، وقال الأزهريّ: يقال هو كقوله: كأَنما يَنْحَطُّ في صَبَبٍ، وقال ابن الأَثير: الانْحِدارُ من الصَّبَبِ، والتَّقَلُّعُ من الأَرض قريب بعضه من بعض، أَراد أَنه كان يستعمل التَّثَبُّّت ولا يَبِينُ منه في هذه الحال اسْتعجال ومُبادرة شديدة) [لسان العرب].
وفي غريب الحديث ("إذا زال زال قلعًا" هو بمنزلة قول علي عليه السلام في وصفه: "إذا مشى تقلع") [غريب الحديث لابن قتيبة]، (التقلع:القوة في المشي مع تتابع الخطى) [دلائل النبوة للبيهقي].
(إذا مشى كأنما ينحط من صبب) (وكأَنما يَنْحَطُّفي صَعَد؛ هكذا جاءَ في رواية، يعني موضعًا عاليًا يَصْعَدُ فيهو ينحطّ،والمشهور: (كأَنما ينحط في صَبَبٍ) أَي في موضع مُنْحدر؛ وقال ابن عباس: أَراد به أَنه قويّ البدن، فإِذا مشى فكأَنه يمشي على صَدْر قدميه من القوة) [لسان العرب].
المعنى الدلالي: إذًا فقد كانت مشيتُه صلى الله عليه وسلم مفعمة بالحيوية والنشاط والهمة والحركة الشاملة المنتظمة مع القوة وتتابع الخطي الثابتة الرزينة بلا توقف ولا عجلة ولا اختيال أو تنعم أو تبختر، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع رجليه من الأرض رفعًا بائنًا بقوة، ويمشي صلى الله عليه وسلم كأنما يصعد موضعًا عاليًا، وهذا الوصف دليل على التواضع والمثابرة وعلو الهمة أيضًا، والنشاط والتفاؤل، والتوكل والاحتساب، والحلم والصبر، وثبات المبدأ، ولم تختلف هذه المشية ولم تتبدل في العصرين المكي والمدني، بل كانت دومًا ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، في مرحلة الاستضعاف ومرحلة الجهاد، في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، إنها مشية ينبغي للنبلاء محاكاتها؛ ففيها الكثير من الرفعة وعلو الشأن والقدرة على إحكام الأمور وبسط الظل.
وقال هند بن أبي هالة رضي الله عنه:(ذريع المشية)
المعنى اللغوي: (والتَّذْرِيعُفي المشي: تحريك الذِّراعين وذَرَّع بيديهتَذْرِيعًا:حرَّكهما في السعْي واستعان بهما عليه، وقيل في صفته صلى الله عليه وسلم: إِنه كانذَرِيعَالمشْي أَي سريعَ المشْي واسعَ الخَطْوة) [لسان العرب].
المعنى الدلالي: من المعروف أن استخدام الذراعين في المشي دلاله على انتظام المشية واتزانها واتزان الجسد كله معها، وهذا دليل على التوازن والاستقرار النفسي مع ما يحمله أيضا من دلالات معنوية أخرى تعبر عن السعي الصريح نحو الحق ووضوح الهدف ومعرفته للطريق الذي سيسلكه وعدم التردد في معرفة الوجهة التي سينتهجها، فالساعي نحو طريق بتردد هل يمضي فيه أم يمضي في غيره لا تراه أبدًا ينتهج هذه المشية، على خلاف عدّائي الماراثون مثلًا، وإن كان استخدامهم للذراعين بطريقة أكبر، وكذلك فيها دليل على تكاثر المسؤوليات والأعباء التي تنتظره، بل ينتظرها ويستقبلها على رحمة ورحب وسعة من أمره بحسبان مسبق منه صلى الله عليه وسلم، ولا تتحمل مشيات أخرى غير تلك المشية.
يتبع---
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
وبعد:
ففي ظلالِ مشيِ خيرِ من وطِئَ الثرى -صلى الله عليه وسلم- نمضي، لنرى معالِمَ طريقه التي خطها لنفسه ولمن بعده من أمته، نعم ربما هي مجردُ مِشية مادية على أرضٍ مدها ربي مدًّا كان يمشيها صلى الله عليه وسلم، لكنها قد تكشف عن كثيرٍ من رموز قد تفك لنا شفرات لطالما عجَزنا عن استيعابها، وعلامات لطريق النور الذي رسمه وأهداه لنا صلى الله عليه وسلم.
ولما كان خلقه القرآن، ولما كان دومًا مثالًا حيًّا على أرض الواقع، فقد كان ثمة تطابق بين سلوكه وسماته الحالية وبين منهجه في الحياة صلى الله عليه وسلم وغاياته الكبرى ومهماته الخطيرة، وكلامي لا يقصد به التركيز على ظاهر هديه صلى الله عليه وسلم دون الباطن، بل هو دليلٌ عليه، وحلقة متصلة وبرنامج متكامل ينسجم فيه الهدي الظاهر والسمات العامة مع الأخلاق والسلوك وأعمال القلوب لتتلاحم مشيته الحالية مع خطى طريق الكفاح الصراح الممتد عبر العصر النبوي إلى أن تتصلَ لَأْلآتُ عبقِه الزاكي في الفوز الكبير والمقام المحمود.
ولقد كان هديُه في مشيه صلى الله عليه وسلم مليئًا بدلالات ومعانٍ قال فيها الشاعر:
لو لم تكن فيه آياتٌ مبينة
كانت بديهتُه تُنبيك بالخبرِ
صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
وينبغي لنا قبل الشروع في هدي مشيه صلى الله عليه وسلم توضيحُ أهمية المشي ومدى ارتباطه بشخصية الإنسان.
المشي عند علماء النفس والفراسة:
فعلماء النفس والفراسة يقولون: إن مشي المرء يعطي مدلولا على شخصيته، بل يعدونه ميزانًا للاستقرار والاتزان النفسي.
وطريقة المشي تعطي الانطباعَ الأول الذي يظل شديدَ الأهمية في العلاقات الإنسانية، فلو مشى الشخص بتثاقل وكأنه يجر رجليه، محنيًّا ظهرُه، كان هذا دليلًا على الانطواء والكآبة، وبعكسه لو مشى معتدلَ القامة بخطى ثابتة، فذلك دليل على اتزان الشخص واستقراره النفسي وقوته النفسية..
المشي في لغة العرب:
ولقد حظي المشي في لغة العرب في الجاهلية بالكثير من الألفاظ والمترادفات الثرية التي تدل على اهتمامهم بالمشيوتَفَهُّمهم للدلالات والمعاني التي ترتبط بطريقة كل مشية، فكان منها الوهص (المشي شديد الوطء)، والرهو (المشي السهل المستقيم)، والجدف (الإسراع في المشي مع سرعة تحريك اليدين) والدلف (مشي مع تقارب الخطى) والبيقرة (أن يمشي مسرعًا مع طأطأة الرأس)، والزياف (أن يمشي في سرعة مع تمايل وكأنه سيستدير)[1].
ووصف الأعشى محبوبته بالرفاهية والتبختر قائلا:
غرّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارضُها
تمشي الهوينى كما يمشي الوَجِي الوَجِلُ
(أو الوَحِلُ) أي تمشي بتريث كما يمشي الخائف المترقب أو أنها تمشي بتريث لأنها كمن يمشي على الطين الرقيق، وهنا ينعتها بالدلال في مشتها.
دلالات المشي في القرآن والحديث:
وفي القرآن الكريم دلالات تفصح عن العلاقة بين الصفات الإنسانية ومشي المرء وما يخلف ذلك من مؤثرات إما بالخير وإما الشر على الإنسان.
• ففي قول الله تبارك وتعالى:﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18] دليل على ذم الخيلاء والمرح والعجب وذلك من خلال ذم هيئة المشية.
• وفي قوله عز وجل: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ [القصص: 25] دليل على صفة الحياء والتأدب وغض البصر، كل هذا لم يظهر إلا بذكر هيئة المشي التي كانت عليها ابنةُ شعيب في سؤلها لموسى عليه السلام، وكما قال ابنُ كثير في تفسيره: إنه مشي الحرائر، وكأنه يبين الفرق بينه وبين مشي البغايا والإماء المائلات المميلات كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جلَّى ذلك قولُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "جاءت تمشي على استحياء، قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسلفع خَرَّاجة ولاجة". هذا إسناد صحيح. [تفسير ابن كثير سورة القصص].
• ولقد جاءت المشية أحيانًا في السياقات القرآنية لتدل على خبث الفعلة المصاحبة للمشية وقبحها؛ فقال تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11].
وصفة المشي هنا إن كانت مادية فالمقصود بها الحركة والسعي وراء النميمة كما فسرها ابن كثير: (المشاء بنميم: الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم، وينقل الحديث لفساد ذات البين وهي الحالقة).
أو أنها مشية معنوية كما فسرها السعدي في قوله (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي نقل كلام بعض الناس لبعض، لقصد الإفساد بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء. وفيها قال الراغب الأصفهاني: (ويُكْنَى بالمشي عن النميمة)، وفسرها البغوي بقوله: (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) قتَّات يسعى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم.
ويوضحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقًا الموطؤون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إليالمشاؤونبالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبراء العنت" [2].
• كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مشى أبو دجانة متبخترًا أمامه في غزوة أحد: (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن) [3] لأن هذه المشية المفعمة بالكبر والفخر تستعمل لإذلال أعداء الله وإرهابهم.
• ولقد كانت كذلك مشية (الرمل) في الحج، رسالة إعلامية قصيرة فعّالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مشركي مكة تبلغهم قوة النبي وأصحابه ومعافاتهم من السقم وصحتهم البدنية وأنهم أُسودٌ إن دعا داعي الجهاد.
ولما كانت هناك مشيات يبغضها الله عز وجل، وهناك أخرى يحبها الله عز وجل، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يلحظون مشية النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتنون بذلك، ويقتدون بها؛ فأم المؤمنين عائشة تقول في مشية فاطمة سيدة نساء المؤمنين رضي الله عنهما: (فأقبلت فاطمة عليها السلام تمشي، ولا والله ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم) متفق عليه.
فكيف كانت إذًا مشيته بأبي هو وأمي وما مدلولاتها؟
في ظلال مشيه صلى الله عليه وسلم:
وقد اعتنيت في هذا المبحث ببيان النص في حديث هند ابن أبي هالة رضي الله عنه لابن أخته الحسن رضي الله عنه واصفًا مشي النبي صلى الله عليه وسلم، وما يحمله لنا من دلالات[4] تفصح عن محامد صفاته صلى الله عليه وسلم، وتطابقها مع خلقه ومنهجه، وذلك لتيسير الوصول إليها، والاقتداء بها، والاستفادة العملية منها، وذلك بعيدًا عن النظر في بلاغة الألفاظ في حد ذاتها؛ إذ ليس موضع البحث.
1- علو الهمة والمثابرة في العمل مع التواضع:
صفتان عظيمتان قلما اجتمعا معا، فكثيرٌ ممن أهمتهم همتهم وطموحاتهم المستقبلية تلوثوا بغثيان الكبر والاغترار والعجب، وكثير ممن أهمهم التواضع تراهم أفرطوا في التذلل إلى حد الزهد في طلب الهمم، فما عزموا على معالجة أنفسهم من داء العجب بالتواضع إلا وأصابوها بداء العزوف عن طلب الهمة والاستزادة من الطموح ومعالي الأمور، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني لنا مثالاً جديدًا وسطًا بين هذا وذاك، يتضح ذلك في وصف مشيته صلى الله عليه وسلم؛ يقول هند بن أبي هالة رضي الله عنه واصفًا النبي صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه: (كان إذا زال زال قَلِعا)
المعنى اللغوي: (الزَّوَّال: الذي يتحرَّك في مشيه كثيرًا وما يقطعه من المسافة قليل) [لسان العرب]، وهو دليل المثابرة في نيل الأمور، (وقَلِعا: معناه أنه إذا مشي وتَقَلَّعَ في مَشْيَتِه: مشَى كأَنه يَنْحَدِرُ، أَراد قوّة مشيه، وأَنه كان يرفع رجليه من الأَرض إِذا مشى رَفْعًا بائنًا بقوّة، لا كمن يَمْشِي اخْتِيالًا وتَنَعُّمًا، ويُقارِبُ خُطاه، فإِنّ ذلك من مَشْي النساء ويُوصَفْنَ به، وقال الأزهريّ: يقال هو كقوله: كأَنما يَنْحَطُّ في صَبَبٍ، وقال ابن الأَثير: الانْحِدارُ من الصَّبَبِ، والتَّقَلُّعُ من الأَرض قريب بعضه من بعض، أَراد أَنه كان يستعمل التَّثَبُّّت ولا يَبِينُ منه في هذه الحال اسْتعجال ومُبادرة شديدة) [لسان العرب].
وفي غريب الحديث ("إذا زال زال قلعًا" هو بمنزلة قول علي عليه السلام في وصفه: "إذا مشى تقلع") [غريب الحديث لابن قتيبة]، (التقلع:القوة في المشي مع تتابع الخطى) [دلائل النبوة للبيهقي].
(إذا مشى كأنما ينحط من صبب) (وكأَنما يَنْحَطُّفي صَعَد؛ هكذا جاءَ في رواية، يعني موضعًا عاليًا يَصْعَدُ فيهو ينحطّ،والمشهور: (كأَنما ينحط في صَبَبٍ) أَي في موضع مُنْحدر؛ وقال ابن عباس: أَراد به أَنه قويّ البدن، فإِذا مشى فكأَنه يمشي على صَدْر قدميه من القوة) [لسان العرب].
المعنى الدلالي: إذًا فقد كانت مشيتُه صلى الله عليه وسلم مفعمة بالحيوية والنشاط والهمة والحركة الشاملة المنتظمة مع القوة وتتابع الخطي الثابتة الرزينة بلا توقف ولا عجلة ولا اختيال أو تنعم أو تبختر، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع رجليه من الأرض رفعًا بائنًا بقوة، ويمشي صلى الله عليه وسلم كأنما يصعد موضعًا عاليًا، وهذا الوصف دليل على التواضع والمثابرة وعلو الهمة أيضًا، والنشاط والتفاؤل، والتوكل والاحتساب، والحلم والصبر، وثبات المبدأ، ولم تختلف هذه المشية ولم تتبدل في العصرين المكي والمدني، بل كانت دومًا ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، في مرحلة الاستضعاف ومرحلة الجهاد، في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، إنها مشية ينبغي للنبلاء محاكاتها؛ ففيها الكثير من الرفعة وعلو الشأن والقدرة على إحكام الأمور وبسط الظل.
وقال هند بن أبي هالة رضي الله عنه:(ذريع المشية)
المعنى اللغوي: (والتَّذْرِيعُفي المشي: تحريك الذِّراعين وذَرَّع بيديهتَذْرِيعًا:حرَّكهما في السعْي واستعان بهما عليه، وقيل في صفته صلى الله عليه وسلم: إِنه كانذَرِيعَالمشْي أَي سريعَ المشْي واسعَ الخَطْوة) [لسان العرب].
المعنى الدلالي: من المعروف أن استخدام الذراعين في المشي دلاله على انتظام المشية واتزانها واتزان الجسد كله معها، وهذا دليل على التوازن والاستقرار النفسي مع ما يحمله أيضا من دلالات معنوية أخرى تعبر عن السعي الصريح نحو الحق ووضوح الهدف ومعرفته للطريق الذي سيسلكه وعدم التردد في معرفة الوجهة التي سينتهجها، فالساعي نحو طريق بتردد هل يمضي فيه أم يمضي في غيره لا تراه أبدًا ينتهج هذه المشية، على خلاف عدّائي الماراثون مثلًا، وإن كان استخدامهم للذراعين بطريقة أكبر، وكذلك فيها دليل على تكاثر المسؤوليات والأعباء التي تنتظره، بل ينتظرها ويستقبلها على رحمة ورحب وسعة من أمره بحسبان مسبق منه صلى الله عليه وسلم، ولا تتحمل مشيات أخرى غير تلك المشية.
يتبع---