ام حفصه
12 May 2011, 09:36 PM
http://www.islamtoday.net/media_bank/image/2009/2/7/1_200927_2687.jpg
د. عبد المجيد البيانوني
مضى زمن كان التعليم فيهِ بالشدّة والضربِ, وتحطيم شخصيّة الطفل, وإلغاء إرادته, وكبت مواهبه وإبداعِه, وعدم الإصغاء له بكلمة.. وأصبح الناس يذكرون ذلك منتقدين متندّرين.. ولكنّ مسالك أكثر المعلّمين والآباء لم تختلف عن ذلك إلاّ قليلاً, ولم يأخذوا البديل المناسب في طرائق التربية والتعليم وأساليبها.. ولا يقتصر اللوم على المعلّمين والآباء فهم جزء من منظُومة المجتمع الثقافيّة والتربويّة, الذي تقوم علاقاته كلّها علَى هذا الأسلوب, وتدور في فلكه..
ومعَ غيبة التصوّر الصحيح للتربية الإسلاميّة المنهجيّة المؤصّلة أخذَ الناس يتّبعون كلّ صيحة في التربية تَأتي من هنا أو هناك, ويلتقطُون جزئيّات متناثرة, ربّما كانت صحيحة بحجمها وحدّ ذاتها, ولكنّها ليست صحيحة إذا اتّخذت عامّةً شاملة, أو كانت منهجًا مستقلاً بنفسه.. فسمعنا عن التربية بالترفيه.. والتربية الاستقلاليّة, التي يترك فيها للناشئ الحبل على الغارب.. وتوقّع ما شئت في المستقبل القريب وما بعده.. ونبقى أحوج ما نكون إلى نوع من التربية التي تلاحظ كينونة الإنسان الفطريّة, وطبيعته النفسيّة, وعلاقاته الإنسانيّة.. وليس شيء كذلك إلاّ التربية بالحبّ.! ودون إغفال لمطالب الجوانب الأخرى من كينونته..
فلماذَا التربية بالحبّ ؟
يحظى الحبّ برصيد ضخم من الحضور والتأثير في كينونة الإنسان وسلوكه, فلا نبعد في القول إذا قلنا: إنّ الإنسان مخلوق عاطفيّ بالدرجة الأولى, تغلب عليه العاطفة, وتتحكّم بسلوكه, ويقاد منها أكثر من أن يقاد بعقله, أو مطالب جسده..
وهناك جملة من الحقائق والمعاني تؤكّد ذلك, ينبغي أن تكون حاضرة في تصوّر المربّي, وتعامله مع الطفل والناشئ.. ونجمل هذه الحقائق في النقاط التالية:
الحبّ هو الأداة السحريّة في التأثير والتغيير: يُعتَبرُ الحبُّ أرقى أساليب التواصل الإنسَانيّ, الذي يحظى بالقبول العامّ من جميع الناس, على اختلاف أجناسهم وثقافاتهم وقيمهم.. فلا يختلفُ على تقديره والاعتراف به اثنان, فهو من رصيد الفطرةِ, الذي يأبى التحريف والتشويه.. ففي داخل كلّ إنسان سويّ وهاجسه طلبُ الحبّ والتطلّع إليه, فلا عجبَ إذا قُلنا: إنّه الأداة السحريّة في التأثير والتغيير!
الحبّ راحة للقلب من شتّى المتاعب: إنّ عاطفة الحبّ بصورة عامّة هي حالة منَ الانسجام النفسيّ, والاطمئنان الداخليّ, الذي يضفيه الإنسان على ما حوله, فيعينه على أداء عمله أيًّا كان نوعه بحيويّة وإيجابيّة.. ومَن كان الحبّ هاديه وحاديَه في عمله فلن يشعر بشيء من التعب مهما بذل من جهد, وواجه من عقبات..
الحبُّ يجعلُ العملَ مُتعَة نفسيّة وعقليّة, لا محنة وبلاء: ويرقى الحبُّ بالإنسان درجة أخرى, فيستلذُّ التعب, ويستعذبُ البذل والنصب, فيصبر الإنسان ويجالد, ويستعذب الصبر, ولا يحسّ بمعاناته, وهنا بؤرة الإبداع والتألّق ومنطلقه.. ويكونُ لسانُ حال العامل الُمستمتع بعمله, كحال ذلك المُحبّ العاشق إذ يقولُ:
عذابُه فيك عذبُ وبعدُه منك قُربُ
وأنت عندي كرُوحي بل أنتَ منها أحبُّ
يَكفي منَ الحُبّ أنّي لما تُحِبُّ أحِبُّ
وشتّان بين مَن يرى عمله محنة, لا يعرفُ كيفَ يتخلّص منها, ومن يراه متعة نفسه, ولذّة روحه ؟! فكيف يكون عطاؤه وإبداعه, ونجاحه وتأثيره ؟
الحبّ ثروةٌ لك لا تنضب, ورصيدٌ لا ينقُصُ: عندما تبذر الحبّ أيّها المربّي تفتح لنفسك رصيدًا لا يُسرق, ولا ينتُقصُ, بل يزيد مع الأيّام وينمو, من حيث لا ِتحتسب ولا تدري.. فالقلوب التي أحبّتك, وكان لك معها مواقف ومواقف.. لن تنساك, ولن تنسى معروفك معها وإحسانك, وإخلاصك وتضحيتك, ومواقفك التربويّة المؤثّرة..
الحبّ يختصر الطريق, ويطوي لك المراحل: ومن منّا من لا يريد إنجاز عمله في أقرب وقت, وأقلّ جهد.؟! ولكنّ الطبيعة المتعجّلة للإنسان تحسب أنّ الحبّ وما يتطلّبه من الرفق والحلم عائق عن سرعة الإنجاز, وتحقيق الأهداف.. وتلك من خدع النفوس وتلبيساتها..
الحبّ ضمانة قطعيّة للنجاح بإذن الله.. والناجحون هم الذين يمنحون الحبّ دائمًا, وما لم يتحقّق نجاحه بالحبّ, فهو مستعصٍ على النجاح في أغلب الأحوال.. ولا يعني الحبّ الخروج عن الحكمة في معالجة المواقف, وإعطاء كلّ مقام ما يقتضيه..
الحبّ سبيل اكتشاف المبدعين, ورقيّهم وإبداعهم, فالحبّ يجعل الطفل أو الناشئ يقبل بكلّيّته على العلم, ويستجيب غاية الاستجابة لمعلّمه, ويبذل قصارى جهده في التعلّم, حبًّا بالعلم, وإرضاءً لمعلّمه, فتتفتّح مواهبه, ويظهر إبداعه, وما كان ذلك ليكون لولا حبّه لمعلّمه..
الحبّ يغيّر تفكير المتعلّم وأسلوبه ومواقفه.. فكثيرًا ما يتّخذ بعض المتعلّمين موقفًا من التعلّم عامّة, أو من تعلّم بعض العلوم, لسبب من الأسباب, وربّما كان أهمّها موقف بعض المعلّمين منه أو سلوكه معه, وعندما يتهيّأ له المعلّم المحبّ, يغيّر له تفكير وأسلوبه وموقفه؛ فيقبل على العلم بعد إدبار, ويحبّ المادّة التي كان يبغضها أشدّ البغض, ويكيّف حياته وسلوكه وفق ما يرضي معلّمه المحبوب, ويقرّبه إليه.. وقد رأيت على ذلك من النماذجِ والأمثلة الكثيرَ..
الحبّ دليل العقل وسعة الأفق.. عندما يسلك المعلّم سبيل الحبّ في علاقته بأحبّائه الأطفال والناشئين, فهذا يعني أنّه يعي أهمّيّة الحبّ وثمراته وآثاره, وهذا دليل نضج عقله, وسعة أفقه, لأنّه لا يقف في التعامل معهم عند اللحظة الراهنة..
مغانمُ الحبّ تستحقّ كلّ نصب.. وعندما يطلق المعلّم لخياله العنان في رؤية ما وراء الحبّ من مغانم وآثار إيجابيّة كثيرة, فإنّه لا يستكثرُ ما يتحمّل في سبيله من عناء ونصب..
الحبّ قفزة من الكمّ إلى الكيف, ومن الصورة إلى الحقيقة.. فالأطفال الذين لا يتجاوبون مع معلّميهم, ويتّقون غضبهم وعقوبتهم بالأداء الظاهريّ للأعمال المطلوبة منهم, فتكون أعمالاً شكليّة غير مثمرة, ويتدنّى مستوى تحصيلهم العلميّ تبعًا لذلك.. هؤلاء الأطفال إذا أحبّهم معلّموهم, وأحبّوا معلّميهم يكون لهم مع التعليم شأن آخر, ولن يقف تعليمهم عند الصورة الظاهرة, والأداء الشكليّ دون تفاعل واستجابة حقيقيّة, وإنّما سيكون أداء نوعيًّا متميّزًا, وإتقانًا مبدعًا..
بالحبّ نحلّ المشكلات, ونستغني عن تدخّل الآخرين: وإنّي والله لأشفق من قلبي على أولئك المعلّمين, الذين لا يزالون يستنجدون بإدارة المدرسة أو بأولياء الأمور لحلّ مشكلاتهم مع طلاّبهم.! وكثير من هذه المشكلات تكون تافهة صغيرة, يعرضها المعلّم وكأنّها كبيرة من الكبائر المستعصية على الحلّ.. والأنكى من ذلك أن يكون هذا الموقف من المرشد الطلاّبيّ نفسه.. فلا عتب على المعلّم بعد ذلك ولا جناح.. وخير لهؤلاء أن يستنجدوا بالحب, ليروا من النتائج العجب..
الحبّ هو السبيل إلى تكوين الشخصيـّة السويّة: الأطفال الذين يفتقدون حظّهم من الحبّ يفتقدون حظًّا كبيرًا من السواء النفسيّ, ويسهم المعلّمون والآباء, الذين يفتقدون للحبّ في توريثهم عقدًا وأزمات نفسيّة هم بغنىً عنها.. فأيّ تعليم هذا الذي يبني من جهة, ويخرّب من جهة أخرى.؟!
وأخيرًا فالحبّ من أهمّ قواعد التربية المتوازنة: فالتقصير فيه, أو الخروج عنه خلل في التربية كبير يقود إلى الإخفاق, وعدم تحقيق الأهداف.. وتراكم ذلك في عملك يمنحك لقب: معلّم فاشل.! فهل ترضى لنفسك ذلك.؟!
هذه المعاني ليست أحلامًا وخيالات, ولا فلسفة تعيش مع الورق, أو تحلّق في السماء.. وإنّما هي ثمرات طيّبة لسلوك عمليّ واقعيّ, لاحظته في علاقة ابنتي الصغيرة, عندما دخلت الروضة, وكانت شديدة التعلّق بأبويها, وقد ظننت أوّل الأمر أنّها لن تألف الروضة مهما عملَت معها من أساليب تربويّة جذّابة للأطفال, إلاّ بعد عدّة أسابيع.. ووطّنتُ النفس على أن أستقبل منها كلّ يوم أفانين من القول والفعل للتهرّب من المدرسة..
ولكنّني فوجئت بها حقًّا وهي تحبّ الروضة وتتعلّق بها منذ الأيّام الأولى.. وبحثت عن السبب.. فكان تلك المُعلّمة الفاضلة المتميّزة.. التي لم تكن تحمل شهادة علميّة عليا, ولم تكن ذات ثقافة واسعة, ولكنّها كانت تحبّ الأطفال من قلبها, وذات روح عالية في التعامل الإنسانيّ الراقي معهم.. عرفت ذلك عنها كلّه من مرآة ابنتي الصافية, التي كانت تتحدّث عنها كلّ يوم على سجيّتها, وبتلقائيّة فطريّة؛ تنقل كلماتها.. تذكر مواقفها.. تروي لنا معالجاتها للمشكلات.. تتحدّث عن حبّها للأطفال, وحبّ الأطفال لها, حتّى إنّهم ببراءتهم الطفوليّة حوّلوا أنشودة للأطفال, ليضمّنوا فيها اسمها, وتكون أنشودة يتغنّون بها عندما تدخل عليهم.. ولا أذيع سرًّا إذا قلت: إنّني أدعو لها بكلّ خير كلمّا ذكرت مواقفها مع ابنتي.. وأنا لا أعرف عنها سوى اسمها الأوّل..
فماذا فعلت هذه المُعلّمة.؟ إنّها لم تفعل أشياء صعبة أو مستحيلة.. كلّ ما فعلته أنّها قالت لهم بصدق: إنّي أحبّكم.. وترجمت قولها ببعض الأفعال والمواقف المحبّبة.. كانت تفتتح يومها معهم بهذه الكلمة: إنّي أحبّكم.! فهل أنتم تحبّونني.؟ فيجيبونها بصوت واحد: نعم, نحن نحبّك.. وتمسح على رؤوس الأطفال, وتقبّلهم.. وتكرّر هذه الكلمة على أسماعهم في اليوم عدّة مرّات, وتتّكئ عليها فيما تريد منهم, فما يكون منهم إلاّ الاستجابة السريعة لما تطلب.. وعندما ترى طفلة أو طفلاً حزينًا, أو يبكي تحتضنه, وتقبّله, وتمسح دموعه, ثمّ تسأله عن سبب بكائه.. وربّما أعطته شيئًا من الحلوى.. وأوّل الأسبوع تحتفي بأطفالها احتفاء مميّزًا, وتستقبلهم بالحلوى, والهدايا, والقبلات لكلّ طفل وطفلة, وتعبّر لهم عن شوقها الشديد لرؤيتهم.. فلا تسل عن أثر ذلك في قلوبهم.. فهنيئًا لهذه المُعلّمة مثل هذه الروح العالية.! وهل تعجز أخواتنا المعلّمات أن يكنّ مثلها.؟
ومع هذه الحقائق والمعاني كلّها.. فإنّنا كثيرًا ما نقصّر وننسى.. ونخرجُ عن مقتضى الحبّ ومطالبه, ونندفع وراء حظوظ النفس ورعوناتها, فنحتاج دائمًا إلى استحضار هذه المعاني في علاقاتنا مع الأطفال, وتربية النفس وتدريبها عليها, وضبطها بها, وألاّ نسمح لأنفسنا بتجاوزها, لأنّنا نريد أن يكون الحبّ طبعًا لنا وخُلُقًا.. ويتبادر إلينا سؤال مهمّ:
ما الطريق إلى التربية بالحبّ ؟
مدخل أساس, وأصل لا معدل عنه: إصلاح العلاقة مع الله.. وأن يكون الله ورسوله أحبّ إليك ممّا سواهما: (..والذين آمنوا أشدّ حبًّا لله.. ), وهذا ما يغفل عنه أكثر الناس.. فالحبّ الأوّل والأكبر ينبغي أن يوجّه إلى الهي تعالى, ومن صدق في توجيه قلبه لله ملأ الله قلبه بحبّه والأنس به, ففاض حبّه على علاقته بالناس..
فكّر دائمًا: لماذَا تحبّ.؟ وما البديل عن الحبّ.؟ فالتفكير بذلك يجعلك تستحضر المعاني التي تحدّثنا عنها آنفًا.. كما أنّ التركيز على التفكير بالبديل عن الحبّ يجعلك تعتقد أنّ الحب ضرورة, وليس ترفًا..
الحبّ روح تفيض من الداخل, وليس صورة متصنّعةً, أو مظاهر شكليّة, فالتصنّع لا يثمر ولا يدوم, والمظاهر لا تغني عن الحقائق..
كْن واثقًا بنفسك, إيجابيًّا بعيد النظر, واحذر المتشائمين والمثبّطين, وما أكثر المعلّمين الذين يحملون روح التشاؤم, ويتقنون فنّ التثبيط, وينشرون ذلك في مجالسهم, ولا يتركون فرصة تمرّ دون ذلك.!
انقطع عن دنياك وهمومك الخاصّة, فكثيرًا ما غلبت على المعلّم همومه الخاصّة وضغوطها, فانعكس ذلك على مواقفه وعلاقته مع طلاّبه..
الحبّ كلمة وسلوك.. فاستحضر الحبّ ومتطلّباته في كلّ موقف.. واتّخذ للحبّ وسائله وأساليبه, ونمّ في نفسك ثقافته, وتفنّن في تطوير نفسك في هذا المجال..
الحبّ عطاء بسخاء, فلا تبخل, ولا تنتظر من الناس جزاءًا ولا شكورًا.. فيكفيك أجر الله وجزاؤه..
ابدأ علاقتَك التربويّة بالتعبيرِ عن الحبّ.. كما رأيت في خبر تلك المعلّمة المتميّزة, فهو استفتاح مبارك, ومقدّمة لا بدّ منها.. لأنّها تحدّد مسار سلوكك, وتقودك إلى متطلّباتها..
الحبّ المطلوب والمظاهر المرفوضة
الحبّ الذي نتحدّث عنه ونريده هو الحبّ الحكيم المتّزن, المقدّرُ بقدره, القائم على المنهج بأصوله ومبادئه, لا على دغدغة العواطف الآنيّة, أو المواقف المريبة.. إنّه عاطفة إنسانيّة سامية, وحبّ أبويّ, تمليه الرحمة والشفقة, بعيد عن أيّ شبهة أو ريبة, ولا بدّ من التنبيه عمّا قد يلتبس به الحبّ المطلوب من أمور تخرج به عن مساره, وتستغلّ شرف مكانته, ونبل دوافعه, فيكون منفذًا لسلوك مريب, ومدخلاً للنفوس المريضة, لتقف مواقف الريبة والتهم, وإن لم تقارفها, ومن هنا فقد وجب التنبيه والتأكيد على ضرورة بُعد المعلّم المربّي غاية البعد عن أيّ موقف أو تصرّف من هذا القبيل, وقد جاء في الأثر: "من سلك مسلك التهم اتّهم" و"من أقام نفسه مقام التهمة فلا يلومَنَّ من أساء الظنّ به", وفي لفظ "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم" .
فليراقب المعلّم المؤمن ربّه, وليحاسب نفسه, وليعلم أنّ الناقد بصير, وأنّ الله تعالى مطّلع خبير, لا تخفى عليه خافية, يعلم خائنة الأعين, وما تخفي الصدور, وليحذر مداخل الريب, ومزالق التهم, فهو مهمّة الأنبياء, فلا يدنّسنّها بأفعال السوقة الأشقياء..
وبعد؛ فإنّ الاحتياج للحب أهمّ احتياجات الإنسان وأرقاها.. بل إنّه محور احتياجات الإنسان وقطب رحاها.., فكيف لا يوليه التربويّون الاهتمام المناسب, في وضع البرامج والمناهج, وإقامة الدورات التأهيليّة والتطويريّة.؟! وكيف لا ينال ما يناسب أهمّيّته وقدره من المعلّم الذي هو أهمّ إنسان في حياة الطفل بعد والديه.؟!
أيّها المعلّم المربّي عندما تتعامل مع الطفل والناشئ بالحبّ فأنت تزرع الحبّ في مجتمعه وأسرته, وفي سلوكه ومستقبله.. وحريّ بطفل تربّى بالحبّ أن يكون له في المستقبل عطاء لأمّته بلا حدود..
ويتمّم رسالة التربية بالحبّ معان فاضت بها المشاعر منذ مدّة, يناسب أن ألحقها بهذه المقالة, راجيًا من الله النفع والأجر..
قد رأيتُ الحبَّ نُورًا..
كُن مُحبًّا.. ألفَ مَرّه..
ذاتَ صُبحٍ.. ذاتَ بُكرَه..
قد رأيتُ الحبَّ سِرَّه
يَملأُ الكونَ جمالاً.. وَنُضارًا ومَسَرَّه
قد رأيتُ الحبَّ نُورًا.. عبقريَّ الوِردِ ثَرَّه
شَعَّ ألوانًا حِسَانًا كشَفَت عن قلبِي ضُرَّه
لَفَّني مَنه سَناءٌ.. يتدلّى مِن مَجرّه..
ودنا منّي يناجي.. وحباني منه فِكرَه
وجِبالُ الحبّ تجري.. ثمّ نادتني مُسِرّه:
كُن مُحبًّا.. كُن مُحبًّا..
كُن مُحبًّا.. ألفَ مَرّه..
كُن لهذا الكَونِ زَهرَه
كُن سُمُوًّا.. كُن علاءً..
يعرف الأشرافُ قَدرَه..
كُن كتابًا..
يَتبارَى الكونُ نَشرَه..
لا تُبالي مَن مَلا الأحقادَ صَدرَه
ربُّكَ الأعلى حَسِيبٌ يَكفِكَ الجبّارُ شَرَّه
لا تُخاصِم مَن تَباهى بالمَضرّه
لا تقف بين الدنايا.. كُن كلَيثٍ شَامَ هِرَّه
كُن كصَقرٍ يتسامى.. حَسبه الجوزاء فَخرَه
أنتَ أسمَى مِن حَسودٍ غِلُّه قد زادَ مَكرَه
أنتَ أزكى مِن لئيم يتَوَلّى أبا مُرّه..
أنتَ أسمى من سفيه يقطع الأيّام حَسرَه
أنتَ أثرى من شحيح يجمع الأوهامَ عُمرَه
ازرعِ الحبَّ ابتسامًا واملأ الأرجاء عِطرَه
ازرعِ الحبَّ عطاءً دُونَ مَنّ وَاجنِ خَيرَه
ازرَعِ الحبَّ وفاءً وتنسّم منه نَشرَه
ازرَعِ الحبَّ وحاذِر أن تَظُنَّ الحبَّ مَكرَه
فصَحَا قلبي سَعيدًا..
مذ حباه الحبُّ زَورَه
زال عنّي برؤاها..
غُمّةٌ تهتِكُ صَبرَه..
غَرّدَ القلبُ سُرُورًا.. ومَضَى يكتُبُ شِعرَه.
د. عبد المجيد البيانوني
مضى زمن كان التعليم فيهِ بالشدّة والضربِ, وتحطيم شخصيّة الطفل, وإلغاء إرادته, وكبت مواهبه وإبداعِه, وعدم الإصغاء له بكلمة.. وأصبح الناس يذكرون ذلك منتقدين متندّرين.. ولكنّ مسالك أكثر المعلّمين والآباء لم تختلف عن ذلك إلاّ قليلاً, ولم يأخذوا البديل المناسب في طرائق التربية والتعليم وأساليبها.. ولا يقتصر اللوم على المعلّمين والآباء فهم جزء من منظُومة المجتمع الثقافيّة والتربويّة, الذي تقوم علاقاته كلّها علَى هذا الأسلوب, وتدور في فلكه..
ومعَ غيبة التصوّر الصحيح للتربية الإسلاميّة المنهجيّة المؤصّلة أخذَ الناس يتّبعون كلّ صيحة في التربية تَأتي من هنا أو هناك, ويلتقطُون جزئيّات متناثرة, ربّما كانت صحيحة بحجمها وحدّ ذاتها, ولكنّها ليست صحيحة إذا اتّخذت عامّةً شاملة, أو كانت منهجًا مستقلاً بنفسه.. فسمعنا عن التربية بالترفيه.. والتربية الاستقلاليّة, التي يترك فيها للناشئ الحبل على الغارب.. وتوقّع ما شئت في المستقبل القريب وما بعده.. ونبقى أحوج ما نكون إلى نوع من التربية التي تلاحظ كينونة الإنسان الفطريّة, وطبيعته النفسيّة, وعلاقاته الإنسانيّة.. وليس شيء كذلك إلاّ التربية بالحبّ.! ودون إغفال لمطالب الجوانب الأخرى من كينونته..
فلماذَا التربية بالحبّ ؟
يحظى الحبّ برصيد ضخم من الحضور والتأثير في كينونة الإنسان وسلوكه, فلا نبعد في القول إذا قلنا: إنّ الإنسان مخلوق عاطفيّ بالدرجة الأولى, تغلب عليه العاطفة, وتتحكّم بسلوكه, ويقاد منها أكثر من أن يقاد بعقله, أو مطالب جسده..
وهناك جملة من الحقائق والمعاني تؤكّد ذلك, ينبغي أن تكون حاضرة في تصوّر المربّي, وتعامله مع الطفل والناشئ.. ونجمل هذه الحقائق في النقاط التالية:
الحبّ هو الأداة السحريّة في التأثير والتغيير: يُعتَبرُ الحبُّ أرقى أساليب التواصل الإنسَانيّ, الذي يحظى بالقبول العامّ من جميع الناس, على اختلاف أجناسهم وثقافاتهم وقيمهم.. فلا يختلفُ على تقديره والاعتراف به اثنان, فهو من رصيد الفطرةِ, الذي يأبى التحريف والتشويه.. ففي داخل كلّ إنسان سويّ وهاجسه طلبُ الحبّ والتطلّع إليه, فلا عجبَ إذا قُلنا: إنّه الأداة السحريّة في التأثير والتغيير!
الحبّ راحة للقلب من شتّى المتاعب: إنّ عاطفة الحبّ بصورة عامّة هي حالة منَ الانسجام النفسيّ, والاطمئنان الداخليّ, الذي يضفيه الإنسان على ما حوله, فيعينه على أداء عمله أيًّا كان نوعه بحيويّة وإيجابيّة.. ومَن كان الحبّ هاديه وحاديَه في عمله فلن يشعر بشيء من التعب مهما بذل من جهد, وواجه من عقبات..
الحبُّ يجعلُ العملَ مُتعَة نفسيّة وعقليّة, لا محنة وبلاء: ويرقى الحبُّ بالإنسان درجة أخرى, فيستلذُّ التعب, ويستعذبُ البذل والنصب, فيصبر الإنسان ويجالد, ويستعذب الصبر, ولا يحسّ بمعاناته, وهنا بؤرة الإبداع والتألّق ومنطلقه.. ويكونُ لسانُ حال العامل الُمستمتع بعمله, كحال ذلك المُحبّ العاشق إذ يقولُ:
عذابُه فيك عذبُ وبعدُه منك قُربُ
وأنت عندي كرُوحي بل أنتَ منها أحبُّ
يَكفي منَ الحُبّ أنّي لما تُحِبُّ أحِبُّ
وشتّان بين مَن يرى عمله محنة, لا يعرفُ كيفَ يتخلّص منها, ومن يراه متعة نفسه, ولذّة روحه ؟! فكيف يكون عطاؤه وإبداعه, ونجاحه وتأثيره ؟
الحبّ ثروةٌ لك لا تنضب, ورصيدٌ لا ينقُصُ: عندما تبذر الحبّ أيّها المربّي تفتح لنفسك رصيدًا لا يُسرق, ولا ينتُقصُ, بل يزيد مع الأيّام وينمو, من حيث لا ِتحتسب ولا تدري.. فالقلوب التي أحبّتك, وكان لك معها مواقف ومواقف.. لن تنساك, ولن تنسى معروفك معها وإحسانك, وإخلاصك وتضحيتك, ومواقفك التربويّة المؤثّرة..
الحبّ يختصر الطريق, ويطوي لك المراحل: ومن منّا من لا يريد إنجاز عمله في أقرب وقت, وأقلّ جهد.؟! ولكنّ الطبيعة المتعجّلة للإنسان تحسب أنّ الحبّ وما يتطلّبه من الرفق والحلم عائق عن سرعة الإنجاز, وتحقيق الأهداف.. وتلك من خدع النفوس وتلبيساتها..
الحبّ ضمانة قطعيّة للنجاح بإذن الله.. والناجحون هم الذين يمنحون الحبّ دائمًا, وما لم يتحقّق نجاحه بالحبّ, فهو مستعصٍ على النجاح في أغلب الأحوال.. ولا يعني الحبّ الخروج عن الحكمة في معالجة المواقف, وإعطاء كلّ مقام ما يقتضيه..
الحبّ سبيل اكتشاف المبدعين, ورقيّهم وإبداعهم, فالحبّ يجعل الطفل أو الناشئ يقبل بكلّيّته على العلم, ويستجيب غاية الاستجابة لمعلّمه, ويبذل قصارى جهده في التعلّم, حبًّا بالعلم, وإرضاءً لمعلّمه, فتتفتّح مواهبه, ويظهر إبداعه, وما كان ذلك ليكون لولا حبّه لمعلّمه..
الحبّ يغيّر تفكير المتعلّم وأسلوبه ومواقفه.. فكثيرًا ما يتّخذ بعض المتعلّمين موقفًا من التعلّم عامّة, أو من تعلّم بعض العلوم, لسبب من الأسباب, وربّما كان أهمّها موقف بعض المعلّمين منه أو سلوكه معه, وعندما يتهيّأ له المعلّم المحبّ, يغيّر له تفكير وأسلوبه وموقفه؛ فيقبل على العلم بعد إدبار, ويحبّ المادّة التي كان يبغضها أشدّ البغض, ويكيّف حياته وسلوكه وفق ما يرضي معلّمه المحبوب, ويقرّبه إليه.. وقد رأيت على ذلك من النماذجِ والأمثلة الكثيرَ..
الحبّ دليل العقل وسعة الأفق.. عندما يسلك المعلّم سبيل الحبّ في علاقته بأحبّائه الأطفال والناشئين, فهذا يعني أنّه يعي أهمّيّة الحبّ وثمراته وآثاره, وهذا دليل نضج عقله, وسعة أفقه, لأنّه لا يقف في التعامل معهم عند اللحظة الراهنة..
مغانمُ الحبّ تستحقّ كلّ نصب.. وعندما يطلق المعلّم لخياله العنان في رؤية ما وراء الحبّ من مغانم وآثار إيجابيّة كثيرة, فإنّه لا يستكثرُ ما يتحمّل في سبيله من عناء ونصب..
الحبّ قفزة من الكمّ إلى الكيف, ومن الصورة إلى الحقيقة.. فالأطفال الذين لا يتجاوبون مع معلّميهم, ويتّقون غضبهم وعقوبتهم بالأداء الظاهريّ للأعمال المطلوبة منهم, فتكون أعمالاً شكليّة غير مثمرة, ويتدنّى مستوى تحصيلهم العلميّ تبعًا لذلك.. هؤلاء الأطفال إذا أحبّهم معلّموهم, وأحبّوا معلّميهم يكون لهم مع التعليم شأن آخر, ولن يقف تعليمهم عند الصورة الظاهرة, والأداء الشكليّ دون تفاعل واستجابة حقيقيّة, وإنّما سيكون أداء نوعيًّا متميّزًا, وإتقانًا مبدعًا..
بالحبّ نحلّ المشكلات, ونستغني عن تدخّل الآخرين: وإنّي والله لأشفق من قلبي على أولئك المعلّمين, الذين لا يزالون يستنجدون بإدارة المدرسة أو بأولياء الأمور لحلّ مشكلاتهم مع طلاّبهم.! وكثير من هذه المشكلات تكون تافهة صغيرة, يعرضها المعلّم وكأنّها كبيرة من الكبائر المستعصية على الحلّ.. والأنكى من ذلك أن يكون هذا الموقف من المرشد الطلاّبيّ نفسه.. فلا عتب على المعلّم بعد ذلك ولا جناح.. وخير لهؤلاء أن يستنجدوا بالحب, ليروا من النتائج العجب..
الحبّ هو السبيل إلى تكوين الشخصيـّة السويّة: الأطفال الذين يفتقدون حظّهم من الحبّ يفتقدون حظًّا كبيرًا من السواء النفسيّ, ويسهم المعلّمون والآباء, الذين يفتقدون للحبّ في توريثهم عقدًا وأزمات نفسيّة هم بغنىً عنها.. فأيّ تعليم هذا الذي يبني من جهة, ويخرّب من جهة أخرى.؟!
وأخيرًا فالحبّ من أهمّ قواعد التربية المتوازنة: فالتقصير فيه, أو الخروج عنه خلل في التربية كبير يقود إلى الإخفاق, وعدم تحقيق الأهداف.. وتراكم ذلك في عملك يمنحك لقب: معلّم فاشل.! فهل ترضى لنفسك ذلك.؟!
هذه المعاني ليست أحلامًا وخيالات, ولا فلسفة تعيش مع الورق, أو تحلّق في السماء.. وإنّما هي ثمرات طيّبة لسلوك عمليّ واقعيّ, لاحظته في علاقة ابنتي الصغيرة, عندما دخلت الروضة, وكانت شديدة التعلّق بأبويها, وقد ظننت أوّل الأمر أنّها لن تألف الروضة مهما عملَت معها من أساليب تربويّة جذّابة للأطفال, إلاّ بعد عدّة أسابيع.. ووطّنتُ النفس على أن أستقبل منها كلّ يوم أفانين من القول والفعل للتهرّب من المدرسة..
ولكنّني فوجئت بها حقًّا وهي تحبّ الروضة وتتعلّق بها منذ الأيّام الأولى.. وبحثت عن السبب.. فكان تلك المُعلّمة الفاضلة المتميّزة.. التي لم تكن تحمل شهادة علميّة عليا, ولم تكن ذات ثقافة واسعة, ولكنّها كانت تحبّ الأطفال من قلبها, وذات روح عالية في التعامل الإنسانيّ الراقي معهم.. عرفت ذلك عنها كلّه من مرآة ابنتي الصافية, التي كانت تتحدّث عنها كلّ يوم على سجيّتها, وبتلقائيّة فطريّة؛ تنقل كلماتها.. تذكر مواقفها.. تروي لنا معالجاتها للمشكلات.. تتحدّث عن حبّها للأطفال, وحبّ الأطفال لها, حتّى إنّهم ببراءتهم الطفوليّة حوّلوا أنشودة للأطفال, ليضمّنوا فيها اسمها, وتكون أنشودة يتغنّون بها عندما تدخل عليهم.. ولا أذيع سرًّا إذا قلت: إنّني أدعو لها بكلّ خير كلمّا ذكرت مواقفها مع ابنتي.. وأنا لا أعرف عنها سوى اسمها الأوّل..
فماذا فعلت هذه المُعلّمة.؟ إنّها لم تفعل أشياء صعبة أو مستحيلة.. كلّ ما فعلته أنّها قالت لهم بصدق: إنّي أحبّكم.. وترجمت قولها ببعض الأفعال والمواقف المحبّبة.. كانت تفتتح يومها معهم بهذه الكلمة: إنّي أحبّكم.! فهل أنتم تحبّونني.؟ فيجيبونها بصوت واحد: نعم, نحن نحبّك.. وتمسح على رؤوس الأطفال, وتقبّلهم.. وتكرّر هذه الكلمة على أسماعهم في اليوم عدّة مرّات, وتتّكئ عليها فيما تريد منهم, فما يكون منهم إلاّ الاستجابة السريعة لما تطلب.. وعندما ترى طفلة أو طفلاً حزينًا, أو يبكي تحتضنه, وتقبّله, وتمسح دموعه, ثمّ تسأله عن سبب بكائه.. وربّما أعطته شيئًا من الحلوى.. وأوّل الأسبوع تحتفي بأطفالها احتفاء مميّزًا, وتستقبلهم بالحلوى, والهدايا, والقبلات لكلّ طفل وطفلة, وتعبّر لهم عن شوقها الشديد لرؤيتهم.. فلا تسل عن أثر ذلك في قلوبهم.. فهنيئًا لهذه المُعلّمة مثل هذه الروح العالية.! وهل تعجز أخواتنا المعلّمات أن يكنّ مثلها.؟
ومع هذه الحقائق والمعاني كلّها.. فإنّنا كثيرًا ما نقصّر وننسى.. ونخرجُ عن مقتضى الحبّ ومطالبه, ونندفع وراء حظوظ النفس ورعوناتها, فنحتاج دائمًا إلى استحضار هذه المعاني في علاقاتنا مع الأطفال, وتربية النفس وتدريبها عليها, وضبطها بها, وألاّ نسمح لأنفسنا بتجاوزها, لأنّنا نريد أن يكون الحبّ طبعًا لنا وخُلُقًا.. ويتبادر إلينا سؤال مهمّ:
ما الطريق إلى التربية بالحبّ ؟
مدخل أساس, وأصل لا معدل عنه: إصلاح العلاقة مع الله.. وأن يكون الله ورسوله أحبّ إليك ممّا سواهما: (..والذين آمنوا أشدّ حبًّا لله.. ), وهذا ما يغفل عنه أكثر الناس.. فالحبّ الأوّل والأكبر ينبغي أن يوجّه إلى الهي تعالى, ومن صدق في توجيه قلبه لله ملأ الله قلبه بحبّه والأنس به, ففاض حبّه على علاقته بالناس..
فكّر دائمًا: لماذَا تحبّ.؟ وما البديل عن الحبّ.؟ فالتفكير بذلك يجعلك تستحضر المعاني التي تحدّثنا عنها آنفًا.. كما أنّ التركيز على التفكير بالبديل عن الحبّ يجعلك تعتقد أنّ الحب ضرورة, وليس ترفًا..
الحبّ روح تفيض من الداخل, وليس صورة متصنّعةً, أو مظاهر شكليّة, فالتصنّع لا يثمر ولا يدوم, والمظاهر لا تغني عن الحقائق..
كْن واثقًا بنفسك, إيجابيًّا بعيد النظر, واحذر المتشائمين والمثبّطين, وما أكثر المعلّمين الذين يحملون روح التشاؤم, ويتقنون فنّ التثبيط, وينشرون ذلك في مجالسهم, ولا يتركون فرصة تمرّ دون ذلك.!
انقطع عن دنياك وهمومك الخاصّة, فكثيرًا ما غلبت على المعلّم همومه الخاصّة وضغوطها, فانعكس ذلك على مواقفه وعلاقته مع طلاّبه..
الحبّ كلمة وسلوك.. فاستحضر الحبّ ومتطلّباته في كلّ موقف.. واتّخذ للحبّ وسائله وأساليبه, ونمّ في نفسك ثقافته, وتفنّن في تطوير نفسك في هذا المجال..
الحبّ عطاء بسخاء, فلا تبخل, ولا تنتظر من الناس جزاءًا ولا شكورًا.. فيكفيك أجر الله وجزاؤه..
ابدأ علاقتَك التربويّة بالتعبيرِ عن الحبّ.. كما رأيت في خبر تلك المعلّمة المتميّزة, فهو استفتاح مبارك, ومقدّمة لا بدّ منها.. لأنّها تحدّد مسار سلوكك, وتقودك إلى متطلّباتها..
الحبّ المطلوب والمظاهر المرفوضة
الحبّ الذي نتحدّث عنه ونريده هو الحبّ الحكيم المتّزن, المقدّرُ بقدره, القائم على المنهج بأصوله ومبادئه, لا على دغدغة العواطف الآنيّة, أو المواقف المريبة.. إنّه عاطفة إنسانيّة سامية, وحبّ أبويّ, تمليه الرحمة والشفقة, بعيد عن أيّ شبهة أو ريبة, ولا بدّ من التنبيه عمّا قد يلتبس به الحبّ المطلوب من أمور تخرج به عن مساره, وتستغلّ شرف مكانته, ونبل دوافعه, فيكون منفذًا لسلوك مريب, ومدخلاً للنفوس المريضة, لتقف مواقف الريبة والتهم, وإن لم تقارفها, ومن هنا فقد وجب التنبيه والتأكيد على ضرورة بُعد المعلّم المربّي غاية البعد عن أيّ موقف أو تصرّف من هذا القبيل, وقد جاء في الأثر: "من سلك مسلك التهم اتّهم" و"من أقام نفسه مقام التهمة فلا يلومَنَّ من أساء الظنّ به", وفي لفظ "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم" .
فليراقب المعلّم المؤمن ربّه, وليحاسب نفسه, وليعلم أنّ الناقد بصير, وأنّ الله تعالى مطّلع خبير, لا تخفى عليه خافية, يعلم خائنة الأعين, وما تخفي الصدور, وليحذر مداخل الريب, ومزالق التهم, فهو مهمّة الأنبياء, فلا يدنّسنّها بأفعال السوقة الأشقياء..
وبعد؛ فإنّ الاحتياج للحب أهمّ احتياجات الإنسان وأرقاها.. بل إنّه محور احتياجات الإنسان وقطب رحاها.., فكيف لا يوليه التربويّون الاهتمام المناسب, في وضع البرامج والمناهج, وإقامة الدورات التأهيليّة والتطويريّة.؟! وكيف لا ينال ما يناسب أهمّيّته وقدره من المعلّم الذي هو أهمّ إنسان في حياة الطفل بعد والديه.؟!
أيّها المعلّم المربّي عندما تتعامل مع الطفل والناشئ بالحبّ فأنت تزرع الحبّ في مجتمعه وأسرته, وفي سلوكه ومستقبله.. وحريّ بطفل تربّى بالحبّ أن يكون له في المستقبل عطاء لأمّته بلا حدود..
ويتمّم رسالة التربية بالحبّ معان فاضت بها المشاعر منذ مدّة, يناسب أن ألحقها بهذه المقالة, راجيًا من الله النفع والأجر..
قد رأيتُ الحبَّ نُورًا..
كُن مُحبًّا.. ألفَ مَرّه..
ذاتَ صُبحٍ.. ذاتَ بُكرَه..
قد رأيتُ الحبَّ سِرَّه
يَملأُ الكونَ جمالاً.. وَنُضارًا ومَسَرَّه
قد رأيتُ الحبَّ نُورًا.. عبقريَّ الوِردِ ثَرَّه
شَعَّ ألوانًا حِسَانًا كشَفَت عن قلبِي ضُرَّه
لَفَّني مَنه سَناءٌ.. يتدلّى مِن مَجرّه..
ودنا منّي يناجي.. وحباني منه فِكرَه
وجِبالُ الحبّ تجري.. ثمّ نادتني مُسِرّه:
كُن مُحبًّا.. كُن مُحبًّا..
كُن مُحبًّا.. ألفَ مَرّه..
كُن لهذا الكَونِ زَهرَه
كُن سُمُوًّا.. كُن علاءً..
يعرف الأشرافُ قَدرَه..
كُن كتابًا..
يَتبارَى الكونُ نَشرَه..
لا تُبالي مَن مَلا الأحقادَ صَدرَه
ربُّكَ الأعلى حَسِيبٌ يَكفِكَ الجبّارُ شَرَّه
لا تُخاصِم مَن تَباهى بالمَضرّه
لا تقف بين الدنايا.. كُن كلَيثٍ شَامَ هِرَّه
كُن كصَقرٍ يتسامى.. حَسبه الجوزاء فَخرَه
أنتَ أسمَى مِن حَسودٍ غِلُّه قد زادَ مَكرَه
أنتَ أزكى مِن لئيم يتَوَلّى أبا مُرّه..
أنتَ أسمى من سفيه يقطع الأيّام حَسرَه
أنتَ أثرى من شحيح يجمع الأوهامَ عُمرَه
ازرعِ الحبَّ ابتسامًا واملأ الأرجاء عِطرَه
ازرعِ الحبَّ عطاءً دُونَ مَنّ وَاجنِ خَيرَه
ازرَعِ الحبَّ وفاءً وتنسّم منه نَشرَه
ازرَعِ الحبَّ وحاذِر أن تَظُنَّ الحبَّ مَكرَه
فصَحَا قلبي سَعيدًا..
مذ حباه الحبُّ زَورَه
زال عنّي برؤاها..
غُمّةٌ تهتِكُ صَبرَه..
غَرّدَ القلبُ سُرُورًا.. ومَضَى يكتُبُ شِعرَه.