ام حفصه
17 Jun 2011, 12:11 AM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الله -تعالى- لمَّا أرسل نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، أرسله على حين فترة مِن الرسل، أرسله وقت ظلمة عمت الأرض بأهلها، واستحقت مِن الله -تعالى- غضبه وسخطه، لكنَّ الله -عز وجل- برحمته بعباده أرسل النبي محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، فقام نبي الله -صلى الله عليه وسلم- خير قيام، ودعا خير دعوة، واستن بهدي كلِّ مَن جاء قبله مِن إخوانه الأنبياء والمرسلين.
قام النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يدعو قومه ويذكرهم، قام وحده في بادية واسعة، في صحراء شاسعة لا يجد فيها سندًا ولامعينًا، بل يجد العرب أجمعهم، وقريشًا خاصة يعارضونه، بل ويحاربونه!
وجد أنواعًا مِن التنكيل والتعذيب، ما مِن شأنه الصد عن سبيل تلك الدعوة المباركة، لكنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استند إلى الله ربِّ العالمين، وتوكل على الحي الذي لا يموت، وفوَّض أمره إليه -سبحانه-.
وجاءه كفار قومه بعد ما رأوا نجاح تلك الدعوة شيئًا فشيئًا، جاءوه يفاوضونه، يحاولون أن يصلوا إلى مهادنته، لكنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أعلنها لهم، وأعلنها لكل مَن جاء مِن بعدهم، ووضعها علمًا في طريق تلك الدعوة المباركة: (مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَشْعِلُوا لِي مِنْهَا شُعْلَةً) -يَعْنِي: الشَمْس-. (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وأبو يعلى في مسنده، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن، وحسنه الألباني). هكذا أعلنها النبي إعلانًا خالدًا، إعلانًا باقيًا، علمًا في طريق الاستنان بهديه: (مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَشْعِلُوا لِي مِنْهَا شُعْلَةً).
النبي -صلى الله عليه وسلم- علَّمَ النَّاس مراد ربِّ النَّاس، ودعا إلى الإسلام الذي ارتضاه الله -تعالى- لنا دينًا، دعا إلى شريعة تحكم النَّاس في جميع شئونهم، لا الشمس ولا القمر، ولا الدنيا بما فيها تعدل شرف تلك الشريعة، تعدل شرف الانتساب إلى الدعوة إليها، لا يعدل شيء في تلك الدنيا أمرًا مِن أوامر الله -تعالى- في دينه وشرعه، كلُّ أمر مِن أوامر الله -عز وجل- له شرف في نفسه، منفعة في ذاته، لهو منجاة بيْن يدي الله -عز وجل- يوم يقوم النَّاس لربِّ العالمين؛ علِم ذلك رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلَّم ذلك كل النّاس، وأعلنها صريحة واضحة في غير خفاء: "هذا دين الله -تعالى-".
فما هو دين الله -تعالى- هذا الذي أعلن به محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقام سنين طِوالاً يدعو النَّاس إليه، ويُربي أصحابه عليه؟! فإذا به فيمن خلَفه ينحصر، يضيق، يتشتت في أذهان هؤلاء المتدينين به، هؤلاء المؤمنين المسلمين، هؤلاء الذّين انتسبوا إلى دين ربِّ العالمين، شريعة الله -تعالى-، إلى الإسلام.
فما هو الإسلام الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ هل هو ذلك الإسلام المقصور المحصور بيْن جدران مسجد أو زاوية، أو ربما بين جدران جامع كبير؟!
هل هو ذلك الإسلام المقصور المحصور على تلاوة للقرآن أو على ذِكر واستغفار؟! على تهليلات أو تكبيرات في صلاة العيد؟!
هل ذلك الإسلام الذي دعا إليه محمد -صلى الله عليه وسلم-.. هل هو محصور مقصور في عقائد المسلمين؟! في قلوب المؤمنين؟! هل هو محصور مقصور في سرادقات تقام، أو مناسبات يُدعى إليها؟
هذا شيء مما دعا إليه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- قام داعيًا، وربَّى رِجالاً، وأقام دولة، وجاهد بجيش، فقُتِلَ مَن قُتِلَ، ورفع اللهُ مَن رفع، وأذل اللهُ من أذل؛ لأجل كلمة الإسلام، لأجل ذلك الدِّين.
فهذا دين عظيم، هذا مراد الله -تعالى- من عباده، إن ذلك الدِّين لَيُبين للنَّاس ما يريد الله منهم، اللهُ -تعالى- الذّي خلقهم، فهو يملكهم فـ (لَهُ الخَلقُ والأمرُ تبارَكَ اللهُ أحسنُ الخَالِقين) (الأعراف:54).
ذلك الدِّين الذي دعا إليه محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَّا بنى مسجده في مدينته -التي نُوِّرَت به -صلى الله عليه وسلم- لم يكن أبدًا يريد أن يَقصِر ذلك الدِّين داخل جدران ذلك المسجد المبارك -ولو كان مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما أراد ذلك!
وإنما أراد أن يشع نوره في كل فرع مِن فروعه، في كل أمر من أموره، في كل أمر من أوامر الله -تعالى-، أن يشع مِن المسجد، أن يشع مِن تلاوة القرآن، أن يشع من الصيام والقيام، أن يشع من الأذكار والاستغفار، أن يشع مِن تهليلات وتكبيرات العيد، أن يشع نوره على الأرض جميعًا؛ ليعم خيره البشرية جميعًا، فهذا تصديق قول الله -تعالى- لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).
فلا تقصروها ولا تحصروها؛ فتلك رحمة واسعة عامة تشمل كلَّ النَّاس، فمن قَبِلَها؛ فله القبول والرضا، ومن أبَى؛ فلا يلومنَّ إلا نفسه؛ ولكن تبقى تلك الشريعة المحمدية شريعةً عامةً شاملة، لا تشمل النَّاس بأجناسهم فحسب، وإنما تشمل النَّاس في أفرادهم، كلُّ فرد في كلِّ شأن مِن شئونه لله -تعالى- عليه فيه طاعة، لله -تعالى- عليه فيه تكليف، لا يخرج أمر مِن أمور النَّاس في جموعهم، ولا في أفراد النَّاس في شخوصهم مِن أمر الله -تعالى-، وشرعه ودينه، فهذا شرع الله (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (غافر:64).
فالذي له الخلق هو الذي له الأمر، والذي يملك الخلق هو الذِّي يملك الأمر، يملك النهي، يملك التشريع، يملك الحكم: (لَهُ الحُكمُ وإِليهِ تُرجعون) (القصص:88)، فمن رضي بالله خالقًا، لابد أن يرضى بدين الله -تعالى- شرعة ومنهاجًا. رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولاً.
عباد الله: هذا دين الله -تعالى- الذي ربى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، فخرج إلى العالم جيل يكاد يتشكل أمام النَّاس مِن "لا إله إلا الله"، ترى فيهم ما تسمع منهم، تكاد تتجسد فيهم أوامر ربهم؛ كان ذلك المجتمع خير مجتمع سار على تلك الأرض، كما كان نبيهم وإمامهم -صلى الله عليه وسلم- خير خلق الله -تعالى-، كذلك كان الصحابة -رضي الله عنهم-!
ما ذلك الجيل العجيب.. ؟! إنه جيل تحقق فيه مفهوم الدِّين بشموله، تحقق فيه مفهوم الإسلام بعمومه، فلم يترك شأنًا مِن شئون هؤلاء الرجال إلا وقد حكمه دين الله -تعالى-؛ فلما كان الأمر كذلك ظهر ذلك الجيل الذي حٌقَّ له أن يحمل بناء الدعوة؛ فإن دعوة الإسلام لم تحملها جدران المساجد فحسب، وإنما حملتها أعناق هؤلاء الرجال، هؤلاء الرجال حقاً بنص الله -تعالى-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب:23).
هؤلاء الرجال الذين صَحِبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- على أوامر الله، على دين الله، كانوا يرجعون إليه في مكةَ والمدينة، في كلِّ شأنٍ مِن شئونهم، ألا تراهم حينما أشار عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في تأبير نخلة، وهو أمر مِن أمور الدنيا، شأن من شئونهم، قد يكون الواحد فيهم بتجربته واشتغاله أكثر خبرة مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، لكنّهم ما ردوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- مشورته، بل أخذوا تلك الكلمة على أنها أمر مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعملوا به، ولم يراجعوه.. مع كونهم يعرفون أن الأفضل لزرعهم خلاف ما قال نبيهم -صلى الله عليه وسلم-!
أخذوا كلمات النبي -صلى الله عليه وسلم- دون معارضة، بل دون مراجعة، دون انتقاء تلك المِصفاة التي منها يُغربل ذلك الدِّين، فيُؤمن ببعض الكتاب ويُكفر ببعض، لم تكن لديهم تلك المِصفاة التي تقول: "أعط ما لله لله، وأعط ما لقيصر لقيصر"! بل إن الأمر كلَّه لله.
فقبل الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلَّ توجيه، كلَّ لَفتة، كلَّ سكنة، هكذا كانوا ينظرون إليه؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه -صلى الله عليه وسلم- الذي يبيِّن لهم مراد الله -تعالى- منهم، في كلِّ حركة، في كلِّ كلمة، في كلِّ سكتة، في كلِّ لحظة، في كلِّ إشارة، فإنك تجد في هديه فيما رواه عنه الصحابة -رضي الله عنهم-، تجد كلَّ ذلك يرويه الصحابة عنه، يعتبرونه دينًا، فإذا سكت: كان السكوت دينًا، وإذا تكلم: كان الكلام دينًا، وإذا نظر: كانت النظرة دينًا، وإذا نام: كان النوم دينًا!
هكذا تربى رجال حول النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا أُقيم دين الله -تعالى-، وهكذا تحمَّل الصحابة -الجيل الأول- ذلك الدِّين، تحمَّلوا وفَهِموا الإسلام، فبلغوه لمن وراءهم؛ ولذلك عُمِّرت البلاد، وفُتِّحت قلوب العباد، على أيدي هؤلاء الرجال.
عباد الله: عندما تربى الصحابة على تلك الشريعة رأينا فيهم أبعاد ذلك الدِّين واضحة في تصرفاتهم، إن هذا الدِّين لم يحكم مِن الصحابة ظواهرهم فحسب، ولا ما جرت به عادتهم فحسب، وإنما حكم ذلك الدِّين كلَّ شأن مِن شئونهم، حكم بواطنهم وقلوبهم، ما لايطلع عليه إلا الله -تعالى-، الذي يعلم السر وأخفى، فلمَّا علموا أنه يعلم السر وأخفى؛ راقبوا الله في سرهم وما كان أخفى.
رأينا ذلك الشرع.. يحكم مِن الصحابة الانفعالات، يحكم أحوال الاستثناءات، يحكم المشاعر، يحكم الغضبة، يحكم الفرحة.. يحكم كلَّ حال مِن شأنها أن تخرج العبد عن عادته وما جرى عليه، بل لا يستطيع قانون ولا دستور ولا رأي مِن البشر، أن يراقب تلك الأحوال التي قد يَحصُل فيها ما لا يعاتب فضلاً عن أن يعاقب عليه ذلك الإنسان!
لكن دين الله وشرعه الذي تربى عليه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حكم ذلك كلَّه، قضى على ذلك كلِّه، فتربى هؤلاء الرجال ورأينا منهم ما لا يوجد في تاريخ الإنسانية مثله، ذلك بأن حكمهم أمر الله -تعالى- وحده، لا دستور، ولا قانون، ولا فلسفة، ولا فكر، ولا نظر، مِن نتاج عقول النَّاس وأهواء البشر، ذلك بأن الله -تعالى- هو ربُّ النَّاس وخالقهم، فتبارك الله أحسن الخالقين.
هذا خُبيب بن عَدي رضي الله عنه، وقد خرج في طائفة مِن الصحابة -رضي الله عنهم-، أرسلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عينًا، فاجتمع عليهم بعض النَّاس مِن المشركين في أحداث انتهت بأسر خُبيب وزيد بن الدَّثِنة -رضي الله عن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، بعد ما قُتِل مَن قُتِل، فسار المشركون بخُبيب، وباعوه في مكةَ إلى أبناء الحارث بن عمرو، وكان خُبيب قد قتل الحارث يوم بدر، فباعوه إليهم؛ ليقتلوه، فحبسوه في الدار حتى تنقضي الأشهر الحرم، فلمَّا أَذِنَ وقت قتله، استعار خُبيب من ابنة للحارث موسى؛ ليستحدَّ به، فأعطته ذلك الموسى، فإذا ببُنيٍ -صبيٍ- لها، درج حتى وصل دون أن تدري إلى خُبيب، فنظرت إلى خُبيب فرأته مُجلسَ البُنيَّ على حجره، قالت: ففزعتُ فزعةً عرفها مني خُبيب.
فقال لها: أتخشينَ أن أقتله؟! "هذه عادة النَّاس، هذا ما جرى عليه النَّاس، ولا حرج في ذلك يا خُبيب، فأنت مأسور ظلمًا، ومحبوس هضمًا، أنت في حرب مع هؤلاء المشركين، وفي مثل تلك الأحوال قد تبرر الغايةُ الوسيلةَ، مقتولٌ مقتولٌ، فلِمَ لا ينجو بذلك بنفسه؟!".
"أتخشينَ أن أقتله؟!". فيجيبها خُبيبٌ، ويضع الإجابة علَمًا على ذلك الدِّين، ويضع الإجابة رايةً ترفرف على ذلك الجيل، وتعلن أنه تربية محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، على دين الله، الذِّي لا يمكن أبدًا أن يُنتج غيره، ذلك الَّذِي قد حصل. "أتخشينَ أن أقتله؟! لم أكن لأفعل ذلك"! فقط "لم أكن لأفعل ذلك"!
لماذا لم تكن لتفعل ذلك يا خُبيب؟!
لأنه واحد مِن الذين تربَوا على مائدة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الغاية عنده لا تبرر كلَّ وسيلة، لأنه تخلَّق بأخلاق ذلك الدِّين، لأن الدِّين يحكم منه كلَّ أمره، حتى الباطن، حتى الانفعالات، حتى أحوال الاستثناءات، دين الله يقضي، حاكم، غالب، ليس بمقضي عليه، ولا محكوم، ولا مغلوب.
أسامة بن زيد يخرج في غزوة، فإذا برجل مِن المشركين يُعمِلُ سيفه في المسلمين ويُؤذيهم، فيَعمَدُ إليه أسامة مع رجل من الأنصار، فأولَ ما تمكَّنوا منه، قال الرجل: لا إله إلا الله، فامتنع الأنصاري، فإذا بسيف أسامة يهوي على الرجل فيقتله، فيستشعر أسامة في نفسه شيئًا، فيرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسأله، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟!) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا. فَقَالَ له -صلى الله عليه وسلم- "وأسامة هو حِبُه ابن حِبِه -رضي الله عنهم أجمعين-": (أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟!) قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. (رواه البخاري ومسلم).
تربية على منهج الله -تعالى-؛ أتظن أن الله -تعالى- يريد قتل الإنسان فحسب؟!
أتظن أن مَن غاية الدِّين أن يُقتل النَّاس؟! أن يُقتل المشركون؟! لا والله، بل الغاية الأولى أن يُهدَى هؤلاء إلى دين الله -عز وجل-.
هذا الانفعال الذي كان مِن أسامة هو الذي عَجِبَ منه المقداد بن عمرو، ذلك البطل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتيه فيقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلاً مِنْ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا تَقْتُلْهُ). فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ) (رواه مسلم).
ليس هكذا، ليس الأمر كما ترى، ليس الأمر كما يتربى النَّاس على الثأر، على الانفعال، على الغضبة، بل كلُّ ذلك محكوم بأمر الله، في دين الله.
يقول له -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ)!
ما هذا.. ؟! ما ذلك الدِّين الذي لا يسعى إلى تصفية حسابات مع الأعداء؟! الذي لا يسعى إلى شحن الثأر في نفوس أتباعه، ما هذا الدِّين الذي يحكم كلَّ شيء منهم؟! غضبتهم، انفعالاتهم، حماستهم، عاطفتهم، يحكم كلَّ شأنهم.
هذا دين الله.. فإن أردتم عودة إلى مجد الدِّين والإسلام، إن أردتم عودة إلى أن يَحكُمَ المسلمون لا يُحكمون، إن أردتم عودة إلى ازدهارٍ، وإلى إثمارٍ، وفخرٍ، إن أردتم عودة فلتعودوا أولاً إلى الله، فلتعودوا أولاً إلى دين الله، فلتعودوا أولاً إلى تلك الشمولية، إلى ذلك العموم؛ كلُّ شأنكم في دين ربكم محكوم، كلُّ أمركم، كلُّ ظاهركم، كلُّ باطنكم، كلُّ شأن من شئونكم محكوم بأمر ربكم. (أَلا لَهُ الخَلقُ والأمرُ تبارَكَ اللهُ أحسنُ الخَالِقين).
فإن الله -تعالى- لمَّا أرسل نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، أرسله على حين فترة مِن الرسل، أرسله وقت ظلمة عمت الأرض بأهلها، واستحقت مِن الله -تعالى- غضبه وسخطه، لكنَّ الله -عز وجل- برحمته بعباده أرسل النبي محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، فقام نبي الله -صلى الله عليه وسلم- خير قيام، ودعا خير دعوة، واستن بهدي كلِّ مَن جاء قبله مِن إخوانه الأنبياء والمرسلين.
قام النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يدعو قومه ويذكرهم، قام وحده في بادية واسعة، في صحراء شاسعة لا يجد فيها سندًا ولامعينًا، بل يجد العرب أجمعهم، وقريشًا خاصة يعارضونه، بل ويحاربونه!
وجد أنواعًا مِن التنكيل والتعذيب، ما مِن شأنه الصد عن سبيل تلك الدعوة المباركة، لكنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استند إلى الله ربِّ العالمين، وتوكل على الحي الذي لا يموت، وفوَّض أمره إليه -سبحانه-.
وجاءه كفار قومه بعد ما رأوا نجاح تلك الدعوة شيئًا فشيئًا، جاءوه يفاوضونه، يحاولون أن يصلوا إلى مهادنته، لكنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أعلنها لهم، وأعلنها لكل مَن جاء مِن بعدهم، ووضعها علمًا في طريق تلك الدعوة المباركة: (مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَشْعِلُوا لِي مِنْهَا شُعْلَةً) -يَعْنِي: الشَمْس-. (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وأبو يعلى في مسنده، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن، وحسنه الألباني). هكذا أعلنها النبي إعلانًا خالدًا، إعلانًا باقيًا، علمًا في طريق الاستنان بهديه: (مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَشْعِلُوا لِي مِنْهَا شُعْلَةً).
النبي -صلى الله عليه وسلم- علَّمَ النَّاس مراد ربِّ النَّاس، ودعا إلى الإسلام الذي ارتضاه الله -تعالى- لنا دينًا، دعا إلى شريعة تحكم النَّاس في جميع شئونهم، لا الشمس ولا القمر، ولا الدنيا بما فيها تعدل شرف تلك الشريعة، تعدل شرف الانتساب إلى الدعوة إليها، لا يعدل شيء في تلك الدنيا أمرًا مِن أوامر الله -تعالى- في دينه وشرعه، كلُّ أمر مِن أوامر الله -عز وجل- له شرف في نفسه، منفعة في ذاته، لهو منجاة بيْن يدي الله -عز وجل- يوم يقوم النَّاس لربِّ العالمين؛ علِم ذلك رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلَّم ذلك كل النّاس، وأعلنها صريحة واضحة في غير خفاء: "هذا دين الله -تعالى-".
فما هو دين الله -تعالى- هذا الذي أعلن به محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقام سنين طِوالاً يدعو النَّاس إليه، ويُربي أصحابه عليه؟! فإذا به فيمن خلَفه ينحصر، يضيق، يتشتت في أذهان هؤلاء المتدينين به، هؤلاء المؤمنين المسلمين، هؤلاء الذّين انتسبوا إلى دين ربِّ العالمين، شريعة الله -تعالى-، إلى الإسلام.
فما هو الإسلام الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ هل هو ذلك الإسلام المقصور المحصور بيْن جدران مسجد أو زاوية، أو ربما بين جدران جامع كبير؟!
هل هو ذلك الإسلام المقصور المحصور على تلاوة للقرآن أو على ذِكر واستغفار؟! على تهليلات أو تكبيرات في صلاة العيد؟!
هل ذلك الإسلام الذي دعا إليه محمد -صلى الله عليه وسلم-.. هل هو محصور مقصور في عقائد المسلمين؟! في قلوب المؤمنين؟! هل هو محصور مقصور في سرادقات تقام، أو مناسبات يُدعى إليها؟
هذا شيء مما دعا إليه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- قام داعيًا، وربَّى رِجالاً، وأقام دولة، وجاهد بجيش، فقُتِلَ مَن قُتِلَ، ورفع اللهُ مَن رفع، وأذل اللهُ من أذل؛ لأجل كلمة الإسلام، لأجل ذلك الدِّين.
فهذا دين عظيم، هذا مراد الله -تعالى- من عباده، إن ذلك الدِّين لَيُبين للنَّاس ما يريد الله منهم، اللهُ -تعالى- الذّي خلقهم، فهو يملكهم فـ (لَهُ الخَلقُ والأمرُ تبارَكَ اللهُ أحسنُ الخَالِقين) (الأعراف:54).
ذلك الدِّين الذي دعا إليه محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَّا بنى مسجده في مدينته -التي نُوِّرَت به -صلى الله عليه وسلم- لم يكن أبدًا يريد أن يَقصِر ذلك الدِّين داخل جدران ذلك المسجد المبارك -ولو كان مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما أراد ذلك!
وإنما أراد أن يشع نوره في كل فرع مِن فروعه، في كل أمر من أموره، في كل أمر من أوامر الله -تعالى-، أن يشع مِن المسجد، أن يشع مِن تلاوة القرآن، أن يشع من الصيام والقيام، أن يشع من الأذكار والاستغفار، أن يشع مِن تهليلات وتكبيرات العيد، أن يشع نوره على الأرض جميعًا؛ ليعم خيره البشرية جميعًا، فهذا تصديق قول الله -تعالى- لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).
فلا تقصروها ولا تحصروها؛ فتلك رحمة واسعة عامة تشمل كلَّ النَّاس، فمن قَبِلَها؛ فله القبول والرضا، ومن أبَى؛ فلا يلومنَّ إلا نفسه؛ ولكن تبقى تلك الشريعة المحمدية شريعةً عامةً شاملة، لا تشمل النَّاس بأجناسهم فحسب، وإنما تشمل النَّاس في أفرادهم، كلُّ فرد في كلِّ شأن مِن شئونه لله -تعالى- عليه فيه طاعة، لله -تعالى- عليه فيه تكليف، لا يخرج أمر مِن أمور النَّاس في جموعهم، ولا في أفراد النَّاس في شخوصهم مِن أمر الله -تعالى-، وشرعه ودينه، فهذا شرع الله (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (غافر:64).
فالذي له الخلق هو الذي له الأمر، والذي يملك الخلق هو الذِّي يملك الأمر، يملك النهي، يملك التشريع، يملك الحكم: (لَهُ الحُكمُ وإِليهِ تُرجعون) (القصص:88)، فمن رضي بالله خالقًا، لابد أن يرضى بدين الله -تعالى- شرعة ومنهاجًا. رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولاً.
عباد الله: هذا دين الله -تعالى- الذي ربى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، فخرج إلى العالم جيل يكاد يتشكل أمام النَّاس مِن "لا إله إلا الله"، ترى فيهم ما تسمع منهم، تكاد تتجسد فيهم أوامر ربهم؛ كان ذلك المجتمع خير مجتمع سار على تلك الأرض، كما كان نبيهم وإمامهم -صلى الله عليه وسلم- خير خلق الله -تعالى-، كذلك كان الصحابة -رضي الله عنهم-!
ما ذلك الجيل العجيب.. ؟! إنه جيل تحقق فيه مفهوم الدِّين بشموله، تحقق فيه مفهوم الإسلام بعمومه، فلم يترك شأنًا مِن شئون هؤلاء الرجال إلا وقد حكمه دين الله -تعالى-؛ فلما كان الأمر كذلك ظهر ذلك الجيل الذي حٌقَّ له أن يحمل بناء الدعوة؛ فإن دعوة الإسلام لم تحملها جدران المساجد فحسب، وإنما حملتها أعناق هؤلاء الرجال، هؤلاء الرجال حقاً بنص الله -تعالى-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب:23).
هؤلاء الرجال الذين صَحِبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- على أوامر الله، على دين الله، كانوا يرجعون إليه في مكةَ والمدينة، في كلِّ شأنٍ مِن شئونهم، ألا تراهم حينما أشار عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في تأبير نخلة، وهو أمر مِن أمور الدنيا، شأن من شئونهم، قد يكون الواحد فيهم بتجربته واشتغاله أكثر خبرة مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، لكنّهم ما ردوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- مشورته، بل أخذوا تلك الكلمة على أنها أمر مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعملوا به، ولم يراجعوه.. مع كونهم يعرفون أن الأفضل لزرعهم خلاف ما قال نبيهم -صلى الله عليه وسلم-!
أخذوا كلمات النبي -صلى الله عليه وسلم- دون معارضة، بل دون مراجعة، دون انتقاء تلك المِصفاة التي منها يُغربل ذلك الدِّين، فيُؤمن ببعض الكتاب ويُكفر ببعض، لم تكن لديهم تلك المِصفاة التي تقول: "أعط ما لله لله، وأعط ما لقيصر لقيصر"! بل إن الأمر كلَّه لله.
فقبل الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلَّ توجيه، كلَّ لَفتة، كلَّ سكنة، هكذا كانوا ينظرون إليه؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه -صلى الله عليه وسلم- الذي يبيِّن لهم مراد الله -تعالى- منهم، في كلِّ حركة، في كلِّ كلمة، في كلِّ سكتة، في كلِّ لحظة، في كلِّ إشارة، فإنك تجد في هديه فيما رواه عنه الصحابة -رضي الله عنهم-، تجد كلَّ ذلك يرويه الصحابة عنه، يعتبرونه دينًا، فإذا سكت: كان السكوت دينًا، وإذا تكلم: كان الكلام دينًا، وإذا نظر: كانت النظرة دينًا، وإذا نام: كان النوم دينًا!
هكذا تربى رجال حول النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا أُقيم دين الله -تعالى-، وهكذا تحمَّل الصحابة -الجيل الأول- ذلك الدِّين، تحمَّلوا وفَهِموا الإسلام، فبلغوه لمن وراءهم؛ ولذلك عُمِّرت البلاد، وفُتِّحت قلوب العباد، على أيدي هؤلاء الرجال.
عباد الله: عندما تربى الصحابة على تلك الشريعة رأينا فيهم أبعاد ذلك الدِّين واضحة في تصرفاتهم، إن هذا الدِّين لم يحكم مِن الصحابة ظواهرهم فحسب، ولا ما جرت به عادتهم فحسب، وإنما حكم ذلك الدِّين كلَّ شأن مِن شئونهم، حكم بواطنهم وقلوبهم، ما لايطلع عليه إلا الله -تعالى-، الذي يعلم السر وأخفى، فلمَّا علموا أنه يعلم السر وأخفى؛ راقبوا الله في سرهم وما كان أخفى.
رأينا ذلك الشرع.. يحكم مِن الصحابة الانفعالات، يحكم أحوال الاستثناءات، يحكم المشاعر، يحكم الغضبة، يحكم الفرحة.. يحكم كلَّ حال مِن شأنها أن تخرج العبد عن عادته وما جرى عليه، بل لا يستطيع قانون ولا دستور ولا رأي مِن البشر، أن يراقب تلك الأحوال التي قد يَحصُل فيها ما لا يعاتب فضلاً عن أن يعاقب عليه ذلك الإنسان!
لكن دين الله وشرعه الذي تربى عليه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حكم ذلك كلَّه، قضى على ذلك كلِّه، فتربى هؤلاء الرجال ورأينا منهم ما لا يوجد في تاريخ الإنسانية مثله، ذلك بأن حكمهم أمر الله -تعالى- وحده، لا دستور، ولا قانون، ولا فلسفة، ولا فكر، ولا نظر، مِن نتاج عقول النَّاس وأهواء البشر، ذلك بأن الله -تعالى- هو ربُّ النَّاس وخالقهم، فتبارك الله أحسن الخالقين.
هذا خُبيب بن عَدي رضي الله عنه، وقد خرج في طائفة مِن الصحابة -رضي الله عنهم-، أرسلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عينًا، فاجتمع عليهم بعض النَّاس مِن المشركين في أحداث انتهت بأسر خُبيب وزيد بن الدَّثِنة -رضي الله عن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، بعد ما قُتِل مَن قُتِل، فسار المشركون بخُبيب، وباعوه في مكةَ إلى أبناء الحارث بن عمرو، وكان خُبيب قد قتل الحارث يوم بدر، فباعوه إليهم؛ ليقتلوه، فحبسوه في الدار حتى تنقضي الأشهر الحرم، فلمَّا أَذِنَ وقت قتله، استعار خُبيب من ابنة للحارث موسى؛ ليستحدَّ به، فأعطته ذلك الموسى، فإذا ببُنيٍ -صبيٍ- لها، درج حتى وصل دون أن تدري إلى خُبيب، فنظرت إلى خُبيب فرأته مُجلسَ البُنيَّ على حجره، قالت: ففزعتُ فزعةً عرفها مني خُبيب.
فقال لها: أتخشينَ أن أقتله؟! "هذه عادة النَّاس، هذا ما جرى عليه النَّاس، ولا حرج في ذلك يا خُبيب، فأنت مأسور ظلمًا، ومحبوس هضمًا، أنت في حرب مع هؤلاء المشركين، وفي مثل تلك الأحوال قد تبرر الغايةُ الوسيلةَ، مقتولٌ مقتولٌ، فلِمَ لا ينجو بذلك بنفسه؟!".
"أتخشينَ أن أقتله؟!". فيجيبها خُبيبٌ، ويضع الإجابة علَمًا على ذلك الدِّين، ويضع الإجابة رايةً ترفرف على ذلك الجيل، وتعلن أنه تربية محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، على دين الله، الذِّي لا يمكن أبدًا أن يُنتج غيره، ذلك الَّذِي قد حصل. "أتخشينَ أن أقتله؟! لم أكن لأفعل ذلك"! فقط "لم أكن لأفعل ذلك"!
لماذا لم تكن لتفعل ذلك يا خُبيب؟!
لأنه واحد مِن الذين تربَوا على مائدة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الغاية عنده لا تبرر كلَّ وسيلة، لأنه تخلَّق بأخلاق ذلك الدِّين، لأن الدِّين يحكم منه كلَّ أمره، حتى الباطن، حتى الانفعالات، حتى أحوال الاستثناءات، دين الله يقضي، حاكم، غالب، ليس بمقضي عليه، ولا محكوم، ولا مغلوب.
أسامة بن زيد يخرج في غزوة، فإذا برجل مِن المشركين يُعمِلُ سيفه في المسلمين ويُؤذيهم، فيَعمَدُ إليه أسامة مع رجل من الأنصار، فأولَ ما تمكَّنوا منه، قال الرجل: لا إله إلا الله، فامتنع الأنصاري، فإذا بسيف أسامة يهوي على الرجل فيقتله، فيستشعر أسامة في نفسه شيئًا، فيرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسأله، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟!) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا. فَقَالَ له -صلى الله عليه وسلم- "وأسامة هو حِبُه ابن حِبِه -رضي الله عنهم أجمعين-": (أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟!) قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. (رواه البخاري ومسلم).
تربية على منهج الله -تعالى-؛ أتظن أن الله -تعالى- يريد قتل الإنسان فحسب؟!
أتظن أن مَن غاية الدِّين أن يُقتل النَّاس؟! أن يُقتل المشركون؟! لا والله، بل الغاية الأولى أن يُهدَى هؤلاء إلى دين الله -عز وجل-.
هذا الانفعال الذي كان مِن أسامة هو الذي عَجِبَ منه المقداد بن عمرو، ذلك البطل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتيه فيقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلاً مِنْ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا تَقْتُلْهُ). فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ) (رواه مسلم).
ليس هكذا، ليس الأمر كما ترى، ليس الأمر كما يتربى النَّاس على الثأر، على الانفعال، على الغضبة، بل كلُّ ذلك محكوم بأمر الله، في دين الله.
يقول له -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ)!
ما هذا.. ؟! ما ذلك الدِّين الذي لا يسعى إلى تصفية حسابات مع الأعداء؟! الذي لا يسعى إلى شحن الثأر في نفوس أتباعه، ما هذا الدِّين الذي يحكم كلَّ شيء منهم؟! غضبتهم، انفعالاتهم، حماستهم، عاطفتهم، يحكم كلَّ شأنهم.
هذا دين الله.. فإن أردتم عودة إلى مجد الدِّين والإسلام، إن أردتم عودة إلى أن يَحكُمَ المسلمون لا يُحكمون، إن أردتم عودة إلى ازدهارٍ، وإلى إثمارٍ، وفخرٍ، إن أردتم عودة فلتعودوا أولاً إلى الله، فلتعودوا أولاً إلى دين الله، فلتعودوا أولاً إلى تلك الشمولية، إلى ذلك العموم؛ كلُّ شأنكم في دين ربكم محكوم، كلُّ أمركم، كلُّ ظاهركم، كلُّ باطنكم، كلُّ شأن من شئونكم محكوم بأمر ربكم. (أَلا لَهُ الخَلقُ والأمرُ تبارَكَ اللهُ أحسنُ الخَالِقين).