أبو محمد ..
17 Jun 2011, 08:33 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العظيم والصلاة والسلام على النبي الأمين وآله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين ..
أما بعد ..
توظيف القدرة العقلية في الحفظ وإهمالها في النسيان
المقال الأول
في كثير من مجالس الخير يتأوه الكثيرون على ما وصلنا إليه في هذا الزمن من مستوى التعليم الشخصي مع التقدم العصري الرقمي وعدم التركيز على تنمية قدرة الطالب في الحفظ ، والاكتفاء بالاهتمام بجانب تطوير قدرة الفهم والاستنباط
كما أننا في قراءاتنا في سير وتراجم المتقدمين نجد أن بيننا وبينهم بوناً شاسعاً حتى لقد يعدهم بعضنا من الأساطير في قوة الحافظة ، فنجد الواحد منهم يحفظ من الأحاديث ما يقارب المليون مع حفظه لأسماء الرجال وتراجمهم وتأريخ وفاتهم وحالهم من العدالة والضبط بجانب ما عنده من حفظ القرآن والتفسير وأقوال العلماء من الصحابة والتابعين واللغة ومفرداتها والشعر وأحوال الشعراء مع ملكة فقهية تمكنه من الاستنباطات والإفتاء في دقائق المسائل إلى غير هذا مما يتعجب اجتماعه في شخص واحد ..
فهل فعلاً أولئك يعدون من الأساطير والمعجزات التي لا يمكن تكررها أو الوصول إليها بالجهد والعمل الدءوب ؟
بل قد يكذب البعض بهذه الأرقام وتدعوه نفسه للتأول بأن هذه الأرقام مبالغ فيها وخيالية ...
لكن المتأمل في هذا الأمر يعلم حقاً أنه ليس بمعجزة ، ولا أن ما بيننا وبينهم هذا البون الشاسع الذي قد تصوره عقولنا لبعد الزمن .. بل على العكس فدرجة الحفظ في زمننا لم تقصر عمن قبلنا إنما وقع القصور والاختلاف في التلقي والنفوس ..
فالناس في باب العقل ما بين النباهة والغفلة درجات
ثم إن الانشغال بحضارة العصر الراهن والكم الهائل من المعلومات المتداخلة على العقل لتشغل مساحة هائلة تمنع المريد من تركيز حفظه وفهمه في مجال معين . .
ولذلك نجد فوارق في درجة الحفظ بين أهل المدن المتحضرة عمن دونهم كما بين أهل البوادي وأهل المدن ، وأعني بالفرق في التركيز على حفظ نص معين .. وقد نسمع عن بعض المغاربة من أهل موريتانيا وبعض الأفارقة في عصرنا الراهن أمثلة نحو ما نقرأه في الكتب عن المتقدمين من حفظ بعض المتون الكبيرة وبسرعة مذهلة ومن صغارهم في أشياء تثير عجبنا وذهولنا حتى ليقال أنه وجد في زمننا من يذكرنا بالأوائل ..
الحقيقة أننا مع زخم المعلومات العصرية في الحضارة المدنية قد شغلنا عقولنا أو شُغِلتْ عقولنا بمعلومات لا قيمة لها اضطرتنا المعيشة إليها اضطراراً من اختلاف الأجهزة والوظائف وأسماء الألوان وأشكالها والآثاث وأنواع الشركات ومجالاتها وأنواع الأجهزة ووظائفها من التبريد والتسخين كهربائيتها وميكانيكيتها أسعارها أنواعها صنعها بلدها جودتها وكلائها مواقع توزيعها وبيعها ، وأسماء الدول والعواصم واللغات والمواصلات وقطع الغيار .. الطرق وتوسعها تغيرها اختصارها .. الأمور السياسية المحلية والإقليمية والعالمية..والمعاملات المحلية والدولية .. العملات وصرفها وقيمتها .. حتى في نظرنا للمباني واختلاف المناظر والأشكال..
كل هذا يشغل حيزاً ضخماً من عقولنا. ألا ترى أن من السلف من كان يوكل غيره في أمور معيشته كالأسواق فلا يعرف عنها من أمور المعاملات والمبايعات كما نقل عن البخاري، فرغوا أنفسهم فأعطتهم . ومنهم من ورد عنه أنه إذا مر بمكان فيه لغط أو غناء سد أذنيه مخافة أن يعلق في ذهنه ويقول عن نفسه : ما أردت أن أحفظ شيئاً إلا حفظته ، كما ورد عن غير واحد .. فلقد أدركوا ذلك فَقَصَروا صرف العقول إلى تحقيق المراد منها ..
أما التعليم المعاصر الدنيوي فقد اتجه في الفترة الأخيرة إلى تأكيد باب الفهم وعدم شد الطالب للحفظ .. وقد أثار استنكاراً في بعض الأوساط إلا أنني أراه فعلاً هو الخطوة الصحيحة المناسبة لهذا الزمن ، فإن علومنا الدنيوية لا تحتاج منا إلى شغل مساحات عقلية وإرهاقها بحفظ ما ليس تحتاجه ، بل يستخدم المساحة العقلية المتوفرة لتشغيلها على الفهم والاستنباط فإن مسائل زمننا الرياضية والهندسية والفيزيائية عبارة عن قوانين وقواعد الطالب أحوج لممارستها أكثر من حفظ تعاريف وضوابط لن تعطيه الفائدة العملية ونظريات قابلة للنقض والتأكيد
وبالطبع هذا الأمر لا ينطبق على مسائل علوم الشريعة ، بل ينبغي لطالب العلم الشرعي أن يُفَرَغ عما لا يفيده كما ذكرنا ويركز على ما يفيده
فطالب علوم الشريعة يحتاج لفن الفهم والاستنباط حاجة رئيسية إلا أن الحفظ هو رأس ماله ، فمراجعه ومصادره لابد أن تكون ذاتية بخلاف المهندس والطبيب وما يشاكلهما فإن مراجعهم في مكتباتهم ومكاتبهم لا في رؤوسهم فالأبحاث مستمرة والعلوم متجددة والنظريات متعددة ، مؤيدة ومخالفة لما سبقها فهؤلاء يتابعون الجديد ويعرضونه على القديم ويطبقونه مستخدمين الفهم والاستنباط .. بينما طالب الشريعة مصادره ومراجعه ثابتة غير متغيرة ولا متعددة لكن المتجدد هو الفهم والاستنباط للمسائل المتجددة والمتعددة وتنزيل النصوص على الحوادث
ولقائل أن يقول فعلى قولك هذا لماذا لا نرى تقدم ابن الريف على ابن المدينة ؟..
أقول والله تعالى أعلم أن ابن المدينة أعانته المدنية والخلطة واختلاف الأشخاص والأحداث والمواضع على التمتع بقدرات ذهنية نظرية ، أما ابن الريف فقدرته على الحفظ أعلى لكن الغالب أن حياتهم لا تمنحهم الفرصة لاستخدام المجالات العقلية والذهنية فهم عمليون أكثر .. وكلامي السابق إنما يصدق في المقارنة بين متماثلين في القدرات العقلية حيث يحبسون للمطالبة باستخدام العقل للحفظ وهنا تعرف النتائج ..
ملاحظة :
قوة حفظ الشخص تعتمد بجانب الموهبة الفطرية الخلقية إلى قوة الاكتساب الشخصي وبذل الجهد فالعقل كلما درب على الاستعمال أمكن إيجاد مساحة أوسع فيه ولكن يجب أيضاً بجانب الحفظ ، تدريب العقل على مهارة الاسترجاع السريع عند الحاجة وتقليب المواد للوصول للمراد ..
تنبيه :
ليس المراد مما ذكر ما قد يفهم من التقليل من قدر المتقدمين من أهل العلم الذين حفظ الله بهم دينه وشرعه حتى لقد قيل لي : وكيف ننسى التقوى والإيمان الذي كان سمتهم وما فضلوا به ... إلى غير ما قيل
فأقول : ليس المعني مما ذكر قط التعرض لفضلهم وقدرهم ولكن المقصود هو النظر إلى القدرة العقلية للحفظ والفهم .. وفي زمنهم من كان يوازيهم في هذه القدرة مع الاختلاف في الفن ، فإننا نرى الإخباريين ومنهم الأصفهاني الذي كان عرياً عن التقى قد وصف بالحفظ والفهم في مجاله بما وصف أهل العلم به ، وكذا المتكلمين والمتفلسفين كابن سينا وابن رشد وأمثالهم فلقد فاقوا الأقران حفظاً وفهماً
إذاً لم يكن المقصود التقليل من قدر الفاضل من المتقدمين بل كان المعنى هو عدم التقليل من قدراتنا وأن بإمكاننا أن نقدم أمثالاً رائعة فإن اخترنا العلوم الشرعية فلابد أن يصاحبه التقوى ليتم النجاح وإلا كل في فنه ..
وكتبه
أبو محمد
ذو القعدة 1431هـ
المقال الثاني :
هل النسيان والذهول علامة على الغفلة وقلة الفطنة وضعف الحفظ ؟
من وجهة نظري القاصرة وهي ليست وجهة نظر أخصائي ، أنه لا تعارض البتة بل على العكس فالنسيان نتيجة ضعف التركيز والاهتمام ، فقد ينسى ويذهل عن البديهيات من يوصفون بالذكاء والعبقرية ،
وأذكر أني قديماً قرأت طرفة أوردها كاتبها على أنها من الواقع ..وهي أن شاباً وجد مسناً يصارع الماء فأنقذه ، وفي البر يقف المسن شارداً ذهنه ليسأله الشاب عن خطبه فيكون الجواب بأنه أحد البروفيسيرات وأنه ممن يحسن السباحة !!
وبالطبع فإن هذه الحكاية قد تكون مبالغ فيها فإن السباحة من الأمور التي لا تعتمد على التركيز بل هي حركات يقوم بها جسم المتقن لا إرادياً ولا تفتقر لاستحضار ذهني والله أعلم ..
ولكن الشاهد أنه قد يكثر النسيان في أهل الذكاء والحفظ وبسبب تداخل المعلومات وإرهاق العقل فيهمل التركيز على بعض الأمور ابتغاء راحة العقل فيدخل في اللامبالاة وهي سبب النسيان
وعلى هذا فإن من درب نفسه على التركيز والاهتمام وترك اللامبالاة في حياته ومواعيده ، فلن يعاني من هذه الظاهرة
أما فقدان الأشياء ونسيان أماكنها فتحتاج للرجوع بالتفكير خطوة خطوة إلى الوراء قبل فقد الشيء ليصل إلى حصر المواضع والوصول للمفقود وهي رياضة عقلية مفيدة ومجربة ..
وعن تذكر البعض لأعيان رآها لمرة واحدة قبل مدة طويلة فهذا دليل على قوة تركيزه وحضور ذهنه آنذاك وهذا طبيعي فكلنا قد يستحضر بعض المواقف والأحداث القديمة التي قد تثير تعجب السامع ولا بد لكل منا من بعض هذا وذلك لأن هذه الأحداث لما وقعت صادف أن أثرت في النفس بطريقة أو أخرى من ناحية عاطفية حفرت في الذهن لها مكاناً ولما أن كانت بقية أحداثنا التي نعيشها بطريقة اللامبالاة لم تحفر في الذهن
لذلك فإن عقول البعض مرتاحة باللامبالاة والأخرى مجهدة بالتركيز الذهني والتفكير المنطقي فيتسع عقل هذا جداً ويضيق أفق الأول جداً ، فجد لنفسك مكاناً بين هذين والله الموفق ..
وكتبه
أبو محمد
ذو القعدة 1431هـ
:: المقال الثالث ::
مسألة تقدم العمر وتعلقها بضعف نشاط العقل ..
يشاع في أوساط الناس منذ زمن قديم أن مع تقدم العمر يضعف العقل عن مهام الذاكرة والتفكير
والذي يظهر لي والله تعالى أعلم - وزيادة في التأكيد أنها ليست وجهة نظر أخصائي-
أنه لا تعلق بينهما إذ الإحساس بالضعف عام وحقيقي ولكن توجيهه لكل وظائف الجسم ليشمل وظائف العقل فيما أظنه أنه وهمٌ ، والمؤدي إليه عوامل التحطيم المعنوي وانهيار النفس لما ترى من تفلت قوتها فتعمم هذا الضعف على جميع القدرات
ولو نظر الشخص بتأمل أكبر لوجد أن ما نقص من كمال القوة والنشاط زاد في مكتسبات العقل من الخبرة والحكمة التي يتفوق بها على من هم أقل منه ،
ولذلك فينبغي على كل فرد أن يديم وضع هذه النقطة في باله ، وألا يفرح بشبابه وقوته ونشاطه فيضيعه هباء ، بل يسعى في هذا النشاط والقوة إلى التركيز على الجوانب العقلية وتنمية قدراتها فإنه سيحتاجها ولا شك في كبره عندما يفقد كنزه من القوة والنشاط
ومن لم يهتم بهذا ستجده حال كبره لا يفرق عن حاله صغيراً من جهل وضعف عقل بل سيتردى في الضعف عما هو عليه في شبابه مما يدفع اللوم إلى تقدم السن ، وليس هذا في الحقيقة سببه بل سببه كونه فقد القوة والنشاط التي تمكنه من البحث والاكتساب العلمي الذاتي بينما مَنْ أحسن استغلالها في شبابه يُرَى على جانب من الحكمة وذلك لأنه قد كون لنفسه في عقله مكتبة واسعة تحتوي على خبراته وتجاربه ومكتسباته العلمية مما يفرغ نفسه في كبره لباب الاستنباط وتقليب الموجود
وقد يأتي من حاله هذا بحكم ودقائق من المعارف ما يثير استغراب المتعلمين والمتخصصين في فنهم وذلك لكونه متقدم عليهم في المساحة العقلية المستخدمة والمنتفع بها
وإذا أردنا مثالاً حقيقياً فإننا أولاً لا بد أن نسأل أنفسنا عن العلم المكتسب هل يعتمد على القدرات العقلية فيتوقف عند حد معين أم بالاكتساب والاجتهاد يمكن كسر الحواجز وإظهار العجائب
وأذكر على هذا مثالاً واقعياً وجدته وكان رجلاً كبيراً نسبياً ، قروياً لا تظهر عليه سمة ذكاء وفيه من تواضع أهل الريف الذي هو سمة عليهم .. هذا الرجل إذا قمنا بفرض وجود جهاز يقيس قدرته العقلية على الحفظ والتعلم فلا أظن أن الجهاز قد يسمح لكون المتقدم أدنى من الشروط المطلوبة !
ومع ذلك فهو حافظ لصحيح البخاري ومسلم بأسانيدهما والقرآن غير ما لم أعرفه
وفي سببه يحكي لنا قصته وأنه عانى الكثير في سبيل تحقيق هذه النتيجة وبغض النظر عن الدافع للنفس فإنه أصر على إقناع نفسه أنها تستطيع هذا العمل فعمله لكنه بذل جهداً ونصباً فوق ما يستحقه هذا العمل وهذا لأن إمكانياته العقلية تعرضت لعامل الكبر في السن والإهمال التام فكأنه بدأ من البداية
وهكذا يُحكى أيضاً عن أحد الفقهاء وأظنه القفال الشافعي المعروف ويقال أنه ابتدأ الطلب لما بلغ الثلاثين ولك أن تحكم بنفسك على من انتقل من حياة عملية إلى علمية ليبدأ توظيف قدراته بعد سن الشباب ومع ذلك فقد نجح وفاق أقرانه وفيهم من هو في سن أبناءه
ومثال آخر أبو محمد علي ابن حزم الذي كان مهتماً بنواح من الأدب والشعر والمنطق حتى عزم على الولوج في العلم الشرعي وكان قد تعدى نصف العقد الثاني حين شرع في العلوم الشرعية ففاق الأقران وأتى بما يثير العجب من المسائل والردود الدقيقة وفي جوانب متعددة من العلوم الشرعية .. إلا أن هذا قد لا يصلح كمثال لنا لأن عقله لم يزل وقاداً غير مهمل إلا أنه حول اتجاهه من فن لآخر ، ومثله ينقل عن الكسائي
وإلى موضوعنا نعود فنقول ينبغي أن يولي المتقدم بالعمر العناية الأكبر بجانب الاستنباط والفهم إذ الحفظ سيكون عليه أشق من حال شبابه . وما ذلك بسبب عامل السن وحده بل بسبب تراكم المعلومات المكتسبة طوال مدة حياته من خلال تجارب وعلوم وغيرها من مشاغل الحياة ولا يعني أنه لا يستطيع تركيز الحفظ إلا أنه يحتاج بذل جهد أكبر .
ولذا فإننا نرى بعض الكتاب من غير المسلمين يدعو إلى تحقيق الذات وترك التهاون والاحتجاج بالتأخر وعامل السن والضعف ، ويصور في بعض ما يحكي أهمية دفع النفس لتحقيق أعلى ما ترنو إليه وبذل الجهد مع عدم النظر في الصعوبات
وأستطيع أن أقول أن دافعه الأساس هو عدم الإيمان باليوم الآخر والبعث ومحاولة استغلال الحياة بجميع ملذاتها إذ لا عودة ..
ولكن بالنظر والتأمل نجد أن المسلم المؤمن بالبعث أحوج إلى هذا التفكير من غيره
والله المستعان
وكتبه
أبو محمد
الثلاثاء 12/7/1432هـ
الموافق 14/6/2011م
الحمد لله العظيم والصلاة والسلام على النبي الأمين وآله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين ..
أما بعد ..
توظيف القدرة العقلية في الحفظ وإهمالها في النسيان
المقال الأول
في كثير من مجالس الخير يتأوه الكثيرون على ما وصلنا إليه في هذا الزمن من مستوى التعليم الشخصي مع التقدم العصري الرقمي وعدم التركيز على تنمية قدرة الطالب في الحفظ ، والاكتفاء بالاهتمام بجانب تطوير قدرة الفهم والاستنباط
كما أننا في قراءاتنا في سير وتراجم المتقدمين نجد أن بيننا وبينهم بوناً شاسعاً حتى لقد يعدهم بعضنا من الأساطير في قوة الحافظة ، فنجد الواحد منهم يحفظ من الأحاديث ما يقارب المليون مع حفظه لأسماء الرجال وتراجمهم وتأريخ وفاتهم وحالهم من العدالة والضبط بجانب ما عنده من حفظ القرآن والتفسير وأقوال العلماء من الصحابة والتابعين واللغة ومفرداتها والشعر وأحوال الشعراء مع ملكة فقهية تمكنه من الاستنباطات والإفتاء في دقائق المسائل إلى غير هذا مما يتعجب اجتماعه في شخص واحد ..
فهل فعلاً أولئك يعدون من الأساطير والمعجزات التي لا يمكن تكررها أو الوصول إليها بالجهد والعمل الدءوب ؟
بل قد يكذب البعض بهذه الأرقام وتدعوه نفسه للتأول بأن هذه الأرقام مبالغ فيها وخيالية ...
لكن المتأمل في هذا الأمر يعلم حقاً أنه ليس بمعجزة ، ولا أن ما بيننا وبينهم هذا البون الشاسع الذي قد تصوره عقولنا لبعد الزمن .. بل على العكس فدرجة الحفظ في زمننا لم تقصر عمن قبلنا إنما وقع القصور والاختلاف في التلقي والنفوس ..
فالناس في باب العقل ما بين النباهة والغفلة درجات
ثم إن الانشغال بحضارة العصر الراهن والكم الهائل من المعلومات المتداخلة على العقل لتشغل مساحة هائلة تمنع المريد من تركيز حفظه وفهمه في مجال معين . .
ولذلك نجد فوارق في درجة الحفظ بين أهل المدن المتحضرة عمن دونهم كما بين أهل البوادي وأهل المدن ، وأعني بالفرق في التركيز على حفظ نص معين .. وقد نسمع عن بعض المغاربة من أهل موريتانيا وبعض الأفارقة في عصرنا الراهن أمثلة نحو ما نقرأه في الكتب عن المتقدمين من حفظ بعض المتون الكبيرة وبسرعة مذهلة ومن صغارهم في أشياء تثير عجبنا وذهولنا حتى ليقال أنه وجد في زمننا من يذكرنا بالأوائل ..
الحقيقة أننا مع زخم المعلومات العصرية في الحضارة المدنية قد شغلنا عقولنا أو شُغِلتْ عقولنا بمعلومات لا قيمة لها اضطرتنا المعيشة إليها اضطراراً من اختلاف الأجهزة والوظائف وأسماء الألوان وأشكالها والآثاث وأنواع الشركات ومجالاتها وأنواع الأجهزة ووظائفها من التبريد والتسخين كهربائيتها وميكانيكيتها أسعارها أنواعها صنعها بلدها جودتها وكلائها مواقع توزيعها وبيعها ، وأسماء الدول والعواصم واللغات والمواصلات وقطع الغيار .. الطرق وتوسعها تغيرها اختصارها .. الأمور السياسية المحلية والإقليمية والعالمية..والمعاملات المحلية والدولية .. العملات وصرفها وقيمتها .. حتى في نظرنا للمباني واختلاف المناظر والأشكال..
كل هذا يشغل حيزاً ضخماً من عقولنا. ألا ترى أن من السلف من كان يوكل غيره في أمور معيشته كالأسواق فلا يعرف عنها من أمور المعاملات والمبايعات كما نقل عن البخاري، فرغوا أنفسهم فأعطتهم . ومنهم من ورد عنه أنه إذا مر بمكان فيه لغط أو غناء سد أذنيه مخافة أن يعلق في ذهنه ويقول عن نفسه : ما أردت أن أحفظ شيئاً إلا حفظته ، كما ورد عن غير واحد .. فلقد أدركوا ذلك فَقَصَروا صرف العقول إلى تحقيق المراد منها ..
أما التعليم المعاصر الدنيوي فقد اتجه في الفترة الأخيرة إلى تأكيد باب الفهم وعدم شد الطالب للحفظ .. وقد أثار استنكاراً في بعض الأوساط إلا أنني أراه فعلاً هو الخطوة الصحيحة المناسبة لهذا الزمن ، فإن علومنا الدنيوية لا تحتاج منا إلى شغل مساحات عقلية وإرهاقها بحفظ ما ليس تحتاجه ، بل يستخدم المساحة العقلية المتوفرة لتشغيلها على الفهم والاستنباط فإن مسائل زمننا الرياضية والهندسية والفيزيائية عبارة عن قوانين وقواعد الطالب أحوج لممارستها أكثر من حفظ تعاريف وضوابط لن تعطيه الفائدة العملية ونظريات قابلة للنقض والتأكيد
وبالطبع هذا الأمر لا ينطبق على مسائل علوم الشريعة ، بل ينبغي لطالب العلم الشرعي أن يُفَرَغ عما لا يفيده كما ذكرنا ويركز على ما يفيده
فطالب علوم الشريعة يحتاج لفن الفهم والاستنباط حاجة رئيسية إلا أن الحفظ هو رأس ماله ، فمراجعه ومصادره لابد أن تكون ذاتية بخلاف المهندس والطبيب وما يشاكلهما فإن مراجعهم في مكتباتهم ومكاتبهم لا في رؤوسهم فالأبحاث مستمرة والعلوم متجددة والنظريات متعددة ، مؤيدة ومخالفة لما سبقها فهؤلاء يتابعون الجديد ويعرضونه على القديم ويطبقونه مستخدمين الفهم والاستنباط .. بينما طالب الشريعة مصادره ومراجعه ثابتة غير متغيرة ولا متعددة لكن المتجدد هو الفهم والاستنباط للمسائل المتجددة والمتعددة وتنزيل النصوص على الحوادث
ولقائل أن يقول فعلى قولك هذا لماذا لا نرى تقدم ابن الريف على ابن المدينة ؟..
أقول والله تعالى أعلم أن ابن المدينة أعانته المدنية والخلطة واختلاف الأشخاص والأحداث والمواضع على التمتع بقدرات ذهنية نظرية ، أما ابن الريف فقدرته على الحفظ أعلى لكن الغالب أن حياتهم لا تمنحهم الفرصة لاستخدام المجالات العقلية والذهنية فهم عمليون أكثر .. وكلامي السابق إنما يصدق في المقارنة بين متماثلين في القدرات العقلية حيث يحبسون للمطالبة باستخدام العقل للحفظ وهنا تعرف النتائج ..
ملاحظة :
قوة حفظ الشخص تعتمد بجانب الموهبة الفطرية الخلقية إلى قوة الاكتساب الشخصي وبذل الجهد فالعقل كلما درب على الاستعمال أمكن إيجاد مساحة أوسع فيه ولكن يجب أيضاً بجانب الحفظ ، تدريب العقل على مهارة الاسترجاع السريع عند الحاجة وتقليب المواد للوصول للمراد ..
تنبيه :
ليس المراد مما ذكر ما قد يفهم من التقليل من قدر المتقدمين من أهل العلم الذين حفظ الله بهم دينه وشرعه حتى لقد قيل لي : وكيف ننسى التقوى والإيمان الذي كان سمتهم وما فضلوا به ... إلى غير ما قيل
فأقول : ليس المعني مما ذكر قط التعرض لفضلهم وقدرهم ولكن المقصود هو النظر إلى القدرة العقلية للحفظ والفهم .. وفي زمنهم من كان يوازيهم في هذه القدرة مع الاختلاف في الفن ، فإننا نرى الإخباريين ومنهم الأصفهاني الذي كان عرياً عن التقى قد وصف بالحفظ والفهم في مجاله بما وصف أهل العلم به ، وكذا المتكلمين والمتفلسفين كابن سينا وابن رشد وأمثالهم فلقد فاقوا الأقران حفظاً وفهماً
إذاً لم يكن المقصود التقليل من قدر الفاضل من المتقدمين بل كان المعنى هو عدم التقليل من قدراتنا وأن بإمكاننا أن نقدم أمثالاً رائعة فإن اخترنا العلوم الشرعية فلابد أن يصاحبه التقوى ليتم النجاح وإلا كل في فنه ..
وكتبه
أبو محمد
ذو القعدة 1431هـ
المقال الثاني :
هل النسيان والذهول علامة على الغفلة وقلة الفطنة وضعف الحفظ ؟
من وجهة نظري القاصرة وهي ليست وجهة نظر أخصائي ، أنه لا تعارض البتة بل على العكس فالنسيان نتيجة ضعف التركيز والاهتمام ، فقد ينسى ويذهل عن البديهيات من يوصفون بالذكاء والعبقرية ،
وأذكر أني قديماً قرأت طرفة أوردها كاتبها على أنها من الواقع ..وهي أن شاباً وجد مسناً يصارع الماء فأنقذه ، وفي البر يقف المسن شارداً ذهنه ليسأله الشاب عن خطبه فيكون الجواب بأنه أحد البروفيسيرات وأنه ممن يحسن السباحة !!
وبالطبع فإن هذه الحكاية قد تكون مبالغ فيها فإن السباحة من الأمور التي لا تعتمد على التركيز بل هي حركات يقوم بها جسم المتقن لا إرادياً ولا تفتقر لاستحضار ذهني والله أعلم ..
ولكن الشاهد أنه قد يكثر النسيان في أهل الذكاء والحفظ وبسبب تداخل المعلومات وإرهاق العقل فيهمل التركيز على بعض الأمور ابتغاء راحة العقل فيدخل في اللامبالاة وهي سبب النسيان
وعلى هذا فإن من درب نفسه على التركيز والاهتمام وترك اللامبالاة في حياته ومواعيده ، فلن يعاني من هذه الظاهرة
أما فقدان الأشياء ونسيان أماكنها فتحتاج للرجوع بالتفكير خطوة خطوة إلى الوراء قبل فقد الشيء ليصل إلى حصر المواضع والوصول للمفقود وهي رياضة عقلية مفيدة ومجربة ..
وعن تذكر البعض لأعيان رآها لمرة واحدة قبل مدة طويلة فهذا دليل على قوة تركيزه وحضور ذهنه آنذاك وهذا طبيعي فكلنا قد يستحضر بعض المواقف والأحداث القديمة التي قد تثير تعجب السامع ولا بد لكل منا من بعض هذا وذلك لأن هذه الأحداث لما وقعت صادف أن أثرت في النفس بطريقة أو أخرى من ناحية عاطفية حفرت في الذهن لها مكاناً ولما أن كانت بقية أحداثنا التي نعيشها بطريقة اللامبالاة لم تحفر في الذهن
لذلك فإن عقول البعض مرتاحة باللامبالاة والأخرى مجهدة بالتركيز الذهني والتفكير المنطقي فيتسع عقل هذا جداً ويضيق أفق الأول جداً ، فجد لنفسك مكاناً بين هذين والله الموفق ..
وكتبه
أبو محمد
ذو القعدة 1431هـ
:: المقال الثالث ::
مسألة تقدم العمر وتعلقها بضعف نشاط العقل ..
يشاع في أوساط الناس منذ زمن قديم أن مع تقدم العمر يضعف العقل عن مهام الذاكرة والتفكير
والذي يظهر لي والله تعالى أعلم - وزيادة في التأكيد أنها ليست وجهة نظر أخصائي-
أنه لا تعلق بينهما إذ الإحساس بالضعف عام وحقيقي ولكن توجيهه لكل وظائف الجسم ليشمل وظائف العقل فيما أظنه أنه وهمٌ ، والمؤدي إليه عوامل التحطيم المعنوي وانهيار النفس لما ترى من تفلت قوتها فتعمم هذا الضعف على جميع القدرات
ولو نظر الشخص بتأمل أكبر لوجد أن ما نقص من كمال القوة والنشاط زاد في مكتسبات العقل من الخبرة والحكمة التي يتفوق بها على من هم أقل منه ،
ولذلك فينبغي على كل فرد أن يديم وضع هذه النقطة في باله ، وألا يفرح بشبابه وقوته ونشاطه فيضيعه هباء ، بل يسعى في هذا النشاط والقوة إلى التركيز على الجوانب العقلية وتنمية قدراتها فإنه سيحتاجها ولا شك في كبره عندما يفقد كنزه من القوة والنشاط
ومن لم يهتم بهذا ستجده حال كبره لا يفرق عن حاله صغيراً من جهل وضعف عقل بل سيتردى في الضعف عما هو عليه في شبابه مما يدفع اللوم إلى تقدم السن ، وليس هذا في الحقيقة سببه بل سببه كونه فقد القوة والنشاط التي تمكنه من البحث والاكتساب العلمي الذاتي بينما مَنْ أحسن استغلالها في شبابه يُرَى على جانب من الحكمة وذلك لأنه قد كون لنفسه في عقله مكتبة واسعة تحتوي على خبراته وتجاربه ومكتسباته العلمية مما يفرغ نفسه في كبره لباب الاستنباط وتقليب الموجود
وقد يأتي من حاله هذا بحكم ودقائق من المعارف ما يثير استغراب المتعلمين والمتخصصين في فنهم وذلك لكونه متقدم عليهم في المساحة العقلية المستخدمة والمنتفع بها
وإذا أردنا مثالاً حقيقياً فإننا أولاً لا بد أن نسأل أنفسنا عن العلم المكتسب هل يعتمد على القدرات العقلية فيتوقف عند حد معين أم بالاكتساب والاجتهاد يمكن كسر الحواجز وإظهار العجائب
وأذكر على هذا مثالاً واقعياً وجدته وكان رجلاً كبيراً نسبياً ، قروياً لا تظهر عليه سمة ذكاء وفيه من تواضع أهل الريف الذي هو سمة عليهم .. هذا الرجل إذا قمنا بفرض وجود جهاز يقيس قدرته العقلية على الحفظ والتعلم فلا أظن أن الجهاز قد يسمح لكون المتقدم أدنى من الشروط المطلوبة !
ومع ذلك فهو حافظ لصحيح البخاري ومسلم بأسانيدهما والقرآن غير ما لم أعرفه
وفي سببه يحكي لنا قصته وأنه عانى الكثير في سبيل تحقيق هذه النتيجة وبغض النظر عن الدافع للنفس فإنه أصر على إقناع نفسه أنها تستطيع هذا العمل فعمله لكنه بذل جهداً ونصباً فوق ما يستحقه هذا العمل وهذا لأن إمكانياته العقلية تعرضت لعامل الكبر في السن والإهمال التام فكأنه بدأ من البداية
وهكذا يُحكى أيضاً عن أحد الفقهاء وأظنه القفال الشافعي المعروف ويقال أنه ابتدأ الطلب لما بلغ الثلاثين ولك أن تحكم بنفسك على من انتقل من حياة عملية إلى علمية ليبدأ توظيف قدراته بعد سن الشباب ومع ذلك فقد نجح وفاق أقرانه وفيهم من هو في سن أبناءه
ومثال آخر أبو محمد علي ابن حزم الذي كان مهتماً بنواح من الأدب والشعر والمنطق حتى عزم على الولوج في العلم الشرعي وكان قد تعدى نصف العقد الثاني حين شرع في العلوم الشرعية ففاق الأقران وأتى بما يثير العجب من المسائل والردود الدقيقة وفي جوانب متعددة من العلوم الشرعية .. إلا أن هذا قد لا يصلح كمثال لنا لأن عقله لم يزل وقاداً غير مهمل إلا أنه حول اتجاهه من فن لآخر ، ومثله ينقل عن الكسائي
وإلى موضوعنا نعود فنقول ينبغي أن يولي المتقدم بالعمر العناية الأكبر بجانب الاستنباط والفهم إذ الحفظ سيكون عليه أشق من حال شبابه . وما ذلك بسبب عامل السن وحده بل بسبب تراكم المعلومات المكتسبة طوال مدة حياته من خلال تجارب وعلوم وغيرها من مشاغل الحياة ولا يعني أنه لا يستطيع تركيز الحفظ إلا أنه يحتاج بذل جهد أكبر .
ولذا فإننا نرى بعض الكتاب من غير المسلمين يدعو إلى تحقيق الذات وترك التهاون والاحتجاج بالتأخر وعامل السن والضعف ، ويصور في بعض ما يحكي أهمية دفع النفس لتحقيق أعلى ما ترنو إليه وبذل الجهد مع عدم النظر في الصعوبات
وأستطيع أن أقول أن دافعه الأساس هو عدم الإيمان باليوم الآخر والبعث ومحاولة استغلال الحياة بجميع ملذاتها إذ لا عودة ..
ولكن بالنظر والتأمل نجد أن المسلم المؤمن بالبعث أحوج إلى هذا التفكير من غيره
والله المستعان
وكتبه
أبو محمد
الثلاثاء 12/7/1432هـ
الموافق 14/6/2011م