ام حفصه
29 Aug 2011, 10:12 AM
الانتفاضات التي حيرت الغرب
جعفر شيخ إدريس
26 رمضان 1432هـ
تُرى كيف ستكون سياسة الغرب مع العالم العربي بعد هذه الانتفاضات التي عمَّت كثيراً من
بلاده، والتي أيَّد أهدافَها آخرون لم تحدث انتفاضات مثلها في بلادهم؟
إن الهدف الأعلى للغرب واضح، وهو: تحقيق كل ما يدخل تحت مسمى المصالح القومية: من اقتصاد، وسياسة، وإستراتيجيات، وأمن، وقوى مادية وناعمة للغرب ولا سيما الولايات المتحدة وإسرائيل. هذا الهدف لن يتغير وستسعى الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة كما سعت من قبل لتحقيق ما تستطيع منه بحسب الوسائل المتاحة في كل مرحلة تاريخية، كانت الوسيلة المفضَّلة هي التعامل مع حكام أفراد مستبدين يمكن إغراؤهم وكسبهم بكل أنواع الإغراءات، هذا النوع من الحكام كان مفضَّلاً لأن التعامل معه سهل لا تعقيد فيه، ولأنه يمكن أن تُبرَم معه كل أنواع الاتفاقات السرية التي يعلم الغرب ويعلم الحكام أن الشعوب سترفضها لو أنها اطلعت عليها، إنَّ كل هذا يتنافى مع الديمقراطية التي يفضلها الغرب لحكم نفسه، ولكن من قال: إن في الديمقراطية مبدأً خُلُقياً يُلزِم البلد الديمقراطي بأن يحب لغيره ما أحب لنفسه؟ إن الديمقراطية هي حكم الشعب، أو هي في الواقع حكم أكثرية نوابه في المجالس التشريعية، أو هي حكم المسؤولين الذين أعطاهم الدستور سلطات يقضون فيها بما يرونه في مصلحة شعوبهم، لكنَّ النواب والمسؤولين- وربما كثير من أفراد الشعب - قد يقولون: نعم، إن الديمقراطية هي النظام المفضَّل لنا في بلادنا، ولكنها ليست هي التي تحقق مصالحنا إذا ما تبنَّاها غيرنا ولا سيما في العالم العربي، هكذا كان يقول بعض قادة الفكر السياسي الغربي في تسويغ ما يعدُّه العرب كيلاً بمكيالين.
لكن مشكلة الغرب أن هذه الحجة لم تعد - حتى بين الغربيين -حجة مقبولة يمكن التصريح بها والدفاع عنها، بل إن مساندة الحكام الدكتاتوريين صارت أمراً محرجاً للساسة الغربيين حتى في داخل بلادهم؛ ولذلك أرادوا أن يخرجوا من هذا الحرج باللجوء إلى وسائل، منها: كثرة الحديث عن الديمقراطية، والقول بأنها ليست مسألة خاصة بالثقافة الغربية؛ وإنما هي حاجة إنسانية صالحة لكل أمة في كل مكان، ومنها إقناع أبواقهم بأن يقوموا بإصلاحات تأخذ شكل الديمقراطية الغربية: انتخابات، مجالس تشريعية، أحزاب، صحف، وغير ذلك، لكن سرعان ما تبيَّن للناس في داخل البلاد التي يحكمها المتعاونون مع الغرب، وفي الغرب نفسه أن كل هذه أشكال زائفة للديمقراطية المعروفة في الغرب.
ثم تبيَّن للغرب كما تبيَّن للمواطنين في البلاد العربية أن النُّظم التي كانت تحكمهم ليست ديمقراطيات زائفة فحسب؛ وإنما هي نظم فاسدة أيضاً، والناس قد يصبرون على الحاكم المستبد أكثر من صبرهم على الحاكم الذي يرونه ينهب أموالهم ويظلمهم، وأكثرَ من صبرهم على الحاكم الكذاب الذي يخون الأمانة ويعقد اتفاقات سرية مع الأعداء.
إن معرفة الغرب بهذه الحقائق هي التي جعلته يسارع إلى تأييد ثورات الشباب واعتبار أهدافها من الأمور التي كان يدعو إليها، بل التي يعدُّها جزءاً من حضارته وثقافته ونُظُمه السياسية، كيف يعترض الغرب على ثورات تطالب بالحرية والديمقراطية والشفافية والمساءلة وتكوين الأحزاب وغير ذلك؟
لكن الغرب رغم هذا التأييد الظاهر الذي كان لا بد منه يظل حائراً إزاء هذه الأوضاع الجديدة في العالم العربي: ما السياسات الجديدة التي ستؤدي إليها الحريات التي طالب بها المتظاهرون إذا صارت أمراً واقعاً؟ كيف يمكننا أن نتعاون مع برلمانات مكونة من أحزاب شتى لكل منها تأثير مهما كان ضئيلاً على سياسة البلاد؟ كيف سنتعامل مع حكومات قد لا تستطيع أن تجعل اتفاقاتنا معها باقية في حيز الكتمان في ظل المطالبة بالشفافية؟
ثم السؤال الأكبر: كيف سنتصرف وكيف ستتصرف إسرائيل مع أوضاع سيكون للتيارات الإسلامية فيها قوة وتأثير لا ريب فيه؟ لقد أظهرت هذه التظاهرات أن التيارات الإسلامية تزحف على كثير من الأراضي التي كانت تحتلها التيارات العَلمانية، إننا في الغرب لا نتصور أن تنطلق تظاهرات سياسية في القرن العشرين من أماكن للعبادة، لا نتصور - مثلاً - أن تنطلق تظاهرات سياسية من الكنائس بعد أداء القداس يوم الأحد، لكن هذا هو الذي حدث في العالم العربي في كل التظاهرات، لقد انطلقت كلها من المساجد وعقب صلاة الجمعة، بل إن أعداداً هائلة من المتظاهرين كانت تؤدي صلاة الجماعة في الميادين التي يطالبون فيها بالتغيير السياسي، والسلفيون الذين كانوا بعيدين عن السياسية قرروا الآن الدخول في حلبتها بشكل أو آخر، وهو أمر مقلق؛ لأنه سيزيد من قوة ما نسميه بالإسلام السياسي.
جعفر شيخ إدريس
26 رمضان 1432هـ
تُرى كيف ستكون سياسة الغرب مع العالم العربي بعد هذه الانتفاضات التي عمَّت كثيراً من
بلاده، والتي أيَّد أهدافَها آخرون لم تحدث انتفاضات مثلها في بلادهم؟
إن الهدف الأعلى للغرب واضح، وهو: تحقيق كل ما يدخل تحت مسمى المصالح القومية: من اقتصاد، وسياسة، وإستراتيجيات، وأمن، وقوى مادية وناعمة للغرب ولا سيما الولايات المتحدة وإسرائيل. هذا الهدف لن يتغير وستسعى الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة كما سعت من قبل لتحقيق ما تستطيع منه بحسب الوسائل المتاحة في كل مرحلة تاريخية، كانت الوسيلة المفضَّلة هي التعامل مع حكام أفراد مستبدين يمكن إغراؤهم وكسبهم بكل أنواع الإغراءات، هذا النوع من الحكام كان مفضَّلاً لأن التعامل معه سهل لا تعقيد فيه، ولأنه يمكن أن تُبرَم معه كل أنواع الاتفاقات السرية التي يعلم الغرب ويعلم الحكام أن الشعوب سترفضها لو أنها اطلعت عليها، إنَّ كل هذا يتنافى مع الديمقراطية التي يفضلها الغرب لحكم نفسه، ولكن من قال: إن في الديمقراطية مبدأً خُلُقياً يُلزِم البلد الديمقراطي بأن يحب لغيره ما أحب لنفسه؟ إن الديمقراطية هي حكم الشعب، أو هي في الواقع حكم أكثرية نوابه في المجالس التشريعية، أو هي حكم المسؤولين الذين أعطاهم الدستور سلطات يقضون فيها بما يرونه في مصلحة شعوبهم، لكنَّ النواب والمسؤولين- وربما كثير من أفراد الشعب - قد يقولون: نعم، إن الديمقراطية هي النظام المفضَّل لنا في بلادنا، ولكنها ليست هي التي تحقق مصالحنا إذا ما تبنَّاها غيرنا ولا سيما في العالم العربي، هكذا كان يقول بعض قادة الفكر السياسي الغربي في تسويغ ما يعدُّه العرب كيلاً بمكيالين.
لكن مشكلة الغرب أن هذه الحجة لم تعد - حتى بين الغربيين -حجة مقبولة يمكن التصريح بها والدفاع عنها، بل إن مساندة الحكام الدكتاتوريين صارت أمراً محرجاً للساسة الغربيين حتى في داخل بلادهم؛ ولذلك أرادوا أن يخرجوا من هذا الحرج باللجوء إلى وسائل، منها: كثرة الحديث عن الديمقراطية، والقول بأنها ليست مسألة خاصة بالثقافة الغربية؛ وإنما هي حاجة إنسانية صالحة لكل أمة في كل مكان، ومنها إقناع أبواقهم بأن يقوموا بإصلاحات تأخذ شكل الديمقراطية الغربية: انتخابات، مجالس تشريعية، أحزاب، صحف، وغير ذلك، لكن سرعان ما تبيَّن للناس في داخل البلاد التي يحكمها المتعاونون مع الغرب، وفي الغرب نفسه أن كل هذه أشكال زائفة للديمقراطية المعروفة في الغرب.
ثم تبيَّن للغرب كما تبيَّن للمواطنين في البلاد العربية أن النُّظم التي كانت تحكمهم ليست ديمقراطيات زائفة فحسب؛ وإنما هي نظم فاسدة أيضاً، والناس قد يصبرون على الحاكم المستبد أكثر من صبرهم على الحاكم الذي يرونه ينهب أموالهم ويظلمهم، وأكثرَ من صبرهم على الحاكم الكذاب الذي يخون الأمانة ويعقد اتفاقات سرية مع الأعداء.
إن معرفة الغرب بهذه الحقائق هي التي جعلته يسارع إلى تأييد ثورات الشباب واعتبار أهدافها من الأمور التي كان يدعو إليها، بل التي يعدُّها جزءاً من حضارته وثقافته ونُظُمه السياسية، كيف يعترض الغرب على ثورات تطالب بالحرية والديمقراطية والشفافية والمساءلة وتكوين الأحزاب وغير ذلك؟
لكن الغرب رغم هذا التأييد الظاهر الذي كان لا بد منه يظل حائراً إزاء هذه الأوضاع الجديدة في العالم العربي: ما السياسات الجديدة التي ستؤدي إليها الحريات التي طالب بها المتظاهرون إذا صارت أمراً واقعاً؟ كيف يمكننا أن نتعاون مع برلمانات مكونة من أحزاب شتى لكل منها تأثير مهما كان ضئيلاً على سياسة البلاد؟ كيف سنتعامل مع حكومات قد لا تستطيع أن تجعل اتفاقاتنا معها باقية في حيز الكتمان في ظل المطالبة بالشفافية؟
ثم السؤال الأكبر: كيف سنتصرف وكيف ستتصرف إسرائيل مع أوضاع سيكون للتيارات الإسلامية فيها قوة وتأثير لا ريب فيه؟ لقد أظهرت هذه التظاهرات أن التيارات الإسلامية تزحف على كثير من الأراضي التي كانت تحتلها التيارات العَلمانية، إننا في الغرب لا نتصور أن تنطلق تظاهرات سياسية في القرن العشرين من أماكن للعبادة، لا نتصور - مثلاً - أن تنطلق تظاهرات سياسية من الكنائس بعد أداء القداس يوم الأحد، لكن هذا هو الذي حدث في العالم العربي في كل التظاهرات، لقد انطلقت كلها من المساجد وعقب صلاة الجمعة، بل إن أعداداً هائلة من المتظاهرين كانت تؤدي صلاة الجماعة في الميادين التي يطالبون فيها بالتغيير السياسي، والسلفيون الذين كانوا بعيدين عن السياسية قرروا الآن الدخول في حلبتها بشكل أو آخر، وهو أمر مقلق؛ لأنه سيزيد من قوة ما نسميه بالإسلام السياسي.