رونق الامل
12 Oct 2011, 07:21 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الكاتب فضيلة الشيخ سعد الغامدي
جاء رجل إلى الحسن البصرى رحمه الله يشكو إليه الجدب والقحط فقال له : استغفر الله ، ثم جاء رجل آخر يشكو الحاجة والفقر فقال له استغفر الله ، ثم جاءه ثالث يشكو قلة الولد ، فقال له استغفر الله ، فعجب القوم من إجاباته ، فأرشدهم الحسن البصري إلى الفقه الإيمانى والفهم القرآنى والهدي النبوي ثم قرأ قوله جل جلاله ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ◌ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ◌ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ﴾ ( نوح /10 ، 11 )
تأملوا هذا الفهم العميق والفقه الدقيق في إجابة هذا الإمام من أئمة التابعين ، ليس قولاً مجرداً ولا فلسفة ، وإنما يقين ومعرفة وتجربة وتوكل على الله تبارك وتعالى .
هل فكر أحد منا حينما يصيبه هم أو غم ، أو حينما يقع فى مصيبة مادية أو معنوية ، هل فكر بان المخرج هو مد الحبال إلى الله عز وجل ، دعاءً وتوسلاً واستعانة واستغفاراً كثيراً ، إن هذه الخطوة الإيمانية ، هى سمة المؤمن الذى يؤمن ويوقن بأن المعضلات والعقبات حين تعترض الطريق ، فإن الكاشف الوحيد لها هو الله تبارك وتعالى .
إن الحسن البصرى رحمه الله ، حين أرشد أصحاب الحاجات المختلفة إلى الإستغفار ، فإنه يعلم علم اليقين ، أن الخير عند الله فى السماء ، ولكن يمسكه عن الناس لذنوب أحدثوها ، وفظائع ارتكبوها ، ولولا شيوخ رُكّع وأطفالاً رُضّع وبهائم رُتّع ، ودعوات مستجابات ترفع من أناس الآن، لَحَرُمَ الناس من الخير النازل من السماء ....
من أين فهم الحسن البصرى هذا الفهم ؟ لقد فهمه من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم ، الذين فهموا القرآن وعايشوا المصطفى عليه الصلاة والسلام ، فعلموا ما هى العلاقة بين كثرة الإستغفار والتوبة وبين انهمار الخير من الله على العبد ، .... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ثم قرأ﴿ والذين وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ ( آل عمران / 135 ) (1)
فوائد كثيرة ومنافع عظيمة تفوتنا ونفرط فيها ونغفل عنها ، وربما تجاهلناها وتكاسلنا عنها ، تجد الواحد منا يغرق في الذنوب ، أو يشغل بالدنيا ، أو تحل به المصائب ، فينسى أن يمد يديه الفقيرتين إلى الله الذى بيده خزائن كل شئ ، تراه يذهب إلى فلان من الناس ، يستنجد بهذا أو ذاك ، وربما ما ترك باباً إلا طرقه ، يستجدى الناس أن يخلصوه مما هو فيه ، ولكن ينسى أن يطرق باباً واحداً ، وهو باب الملك تبارك وتعالى !!
إلى هذه الدرجة إلى هذا الحد !! ، جعلت باب الرحيم الرحمن آخر الأبواب طرقاً ؟ أفتظن أن المخلوق أرحم من الخالق ؟ أن المخلوق أقدر من الخالق ؟ .... أتتقلب فى نعم الله ثم تطرق باب غيره ؟
ألم تر إلى رحمة الوالد بولده ،وحنينه وشفقته عليه ، هذه رحمة الوالد بولده ، فكيف برحمة الخالق بخلقه ، الله الذي خلق الخلق هو أرحم بهم وأشفق عليهم ، ..... والخلق إن وقفوا معك ، وصبروا على استجدائك ، فكم سيصبرون ؟ لكل شيء أجل ، ولكن الخالق الرحيم يمهل العبد المذنب الأعوام تلو الأعوام ، ويتجاوز عن السيئات ، ويصفح عن الزلات ، ويمنح العبد عمراً مديداً ، علَّه يتوب ، علَّ يستغفر ، ويصبر ويصبر ومن أسمائه الصبور سبحانه وتعالى ، ويمهل عبده ما لم يحضره الموت أو تشرق الشمس من مغربها ، أفلا يكون باب الإستغفار بعد ذلك هو خير الأبواب ...
ورد أثر عظيم من آثار الإستغفار في حديث أبى سعيد الخدري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الشيطان قال : وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب تبارك و تعالى : وعزتي وجلالي : لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ) (2)
هذه مهمة الشيطان مع الخلق ، إغواء وتضليل ما بقيت الأرواح فى الأجساد ، ولكن الإستغفار سلاح لرد الشيطان على عقبيه ، فالمؤمن حين يستغفر كأنه سدَّد سهماً أو ضرب سيفاً فى خاصرة إبليس فرده خائباً قال تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ ( الأعراف /201 )
وأثر آخر للأستغفار، وهو أثر عظيم يحتاجه الإنسان فى وقت عصيب ، فى وقت تنقطع فيه الأسباب وتنعدم فيه الإعانة من كل أحد ، وهو يوم يقف العبد بين يدى ربه سبحانه وتعالى ، فيلتفت ويلتفت ، لعله يجد استغفاراً لهج به لسانه فى الدنيا ، لينقذه مما هو فيه ، ليعلن براءته من الذنب ، وربُّه أعلم به ، ولكن يوم القيامة تخرس الألسن فلا يبقى إلا الصحائف التى سطرت على العبد ، فهى الشاهد على عمله فى الدنيا ولهذا يفرح المؤمن حين يجد فى صحيفته عملاً صالحاً قدمه ، قال النبى صلى الله عليه وسلم " من أحب أن تسره صحيفته ، فليكثر فيها من الاستغفار" (3) ، وقال صلى الله عليه وسلم " طوبى لمن وجد فى صحيفته استغفاراً كثيراً " (4)
وأفضل من طبق المنهج هو سيد العارفين ، وإمام التائبين عليه الصلاة والسلام ، فلقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ومع ذلك فهو عليه الصلاة والسلام يتوب ويستغفر ، يقول النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح " يا أيها الناس ! توبوا إلى الله و استغفروه ، فإني أتوب إلى الله و أستغفره في كل يوم مائة مرة " (5) يستغفر ويتوب من ماذا ؟ وهو الطاهر المطهر وقد غفر الله له ما تقدم من الذنوب وما تأخر ، ونحن هل نستغفر فى يومنا وليلتنا مثل هذا العدد ؟ وهل استغفارنا لو استغفرنا ، مثل استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل حاجتنا ونحن مثقلون بالذنوب والخطايا ، مثل حاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستغفار ؟ ......
إنه عليه الصلاة والسلام حين يستغفر لا يستغفر بسبب ذنب ، حاشاه عليه الصلاة والسلام ولكن لأجل الاستزادة من الخير التي يستحقها ربنا سبحانه وتعالى ،.... نحن أحوج إلى الإستغفار ، نحن نذنب فى اليوم عشرات المرات ، من نظرة محرمة وغيبة ونميمة وكذب وعقوق ، وربما تفريط فى الصلوات وتأخيرٌ لها ، ولا يجلى هذه الذنوب من القلوب إلا الاستغفار ، قال صلى الله عليه وسلم " إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " (6) ....
فالإستغفار تطهير للقلب من الران ، وهذا الران هو الذي يسبب ظلمه القلب ، وهو الذى يسبب القلق الذى لا نعرف له سبباً فى كثير من الأحيان ، تجد الرجل مهموماً مغموماً ، تعلو وجهه غشاوة ، ويشتكى من خوف وقلق ، .... ولو أنه جلس فى مسجده ، أو خلا مع نفسه فى بيته ، ليستغفر ويستغفر مع شعور كاملٍ بحاجته إلى ربه ، لزال ما فى نفسه ، ولصفا ما فى قلبه ، ولكن أين من يجلس للاستغفار والتوبة والندم ، ....
ومن آثار الاستغفار رفع العذاب ودفع المصائب ، قال سبحانه وتعالى ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ ( الأنفال /33 ) وهذا يدل على أن الإنسان معرض للخطأ والذنب ، ولكن مطلوب منه الإنكسار المستمر ، والإستغفار الدائم ، قال صلى الله عليه وسلم " والذى نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله ، فيغفر لهم " (7)
والحديث لا يدل ولا يدعو لمقارفة الذنب وإنما يصور طبيعة الإنسان فى غفلته ووقوعه فى زلته ، وطبيعة ما يجب أن يكون عليه المؤمن ، وهو المبادرة للاستغفار ، فإن لم يفعل ذلك لم يكن محققاً لمعنى العبودية ، ولم يظهر مظاهر التذلل والخضوع التى يحبها الله تبارك وتعالى .
ومن آثار الإستغفار ، أنه يبقى القلب سليماً وضاءً قوياً في مواجهة فتنة الشبهات ، وهو ما يحتاجه المؤمن فى مثل هذه الأزمان التي كثرت فيها الفتن ، فلو لم يكن مليئاً قلبه بالتوحيد والإيمان واليقين والسكينة ، فسوف يضعف عن مجابهة الفتن ، ولذلك أرشدنا النبى صلى الله عليه وسلم بقوله " إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نكت فى قلبه نكته سوداء ، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه ، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ، وهو الران الذي ذكر الله " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون "(8)
ومن آثار الإستغفار ، أنه علامة من علامات عبودية العبد ، فكون المسلم يحتاج إلى الإستغفار فذلك دليل على أنه محتاج إلى ربه فى كل وقت ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال : أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنباً ، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، ثم عاد فأذنب ، فقال أي رب ! اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنباً ، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، ثم عاد فأذنب فقال : أي رب ! اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنباً ، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، اعمل ما شئت قد غفرت لك " (9)
· ما أحوجنا إلى الاستغفار حتى تصفو قلوبنا وتسموا أرواحنا ....
· ما أحوجنا إلى الاستغفار حتى يبارك الله فى ذرياتنا وأموالنا وأزواجنا .....
· ما أحوجنا إلى الاستغفار حتى نكون قريبين من ربنا جل جلاله ، معلنين تقصيرنا وضعفنا وذلنا ، فهي صفات يحبها الله تبارك وتعالى من عبده .
نسأل الله جل فى علاه ، أن يرطب ألسنتنا بالاستغفار ، وأن ينجينا من عذاب النار ، .
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروا إنه هو الغفور الرحيم
----------------------------------------------------------------------------------
(1) الجامع للترمذي ( 3006) (2) المستدرك على الصحيحين للحاكم ( 7672 )
(3) المعجم الأوسط للطبراني ( 839 ) (4) سنن ابن ماجه ( 3818)
(5) مسند الأمام أحمد ( 17829 ) (6) مسلم ( 6798 )
(7) مسلم ( 6899 ) (8) الجامع للترمذي ( 3334 )
(9) مسلم ( 6919 )
من موقع فضيلة الشيخ سعد الغامدي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الكاتب فضيلة الشيخ سعد الغامدي
جاء رجل إلى الحسن البصرى رحمه الله يشكو إليه الجدب والقحط فقال له : استغفر الله ، ثم جاء رجل آخر يشكو الحاجة والفقر فقال له استغفر الله ، ثم جاءه ثالث يشكو قلة الولد ، فقال له استغفر الله ، فعجب القوم من إجاباته ، فأرشدهم الحسن البصري إلى الفقه الإيمانى والفهم القرآنى والهدي النبوي ثم قرأ قوله جل جلاله ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ◌ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ◌ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ﴾ ( نوح /10 ، 11 )
تأملوا هذا الفهم العميق والفقه الدقيق في إجابة هذا الإمام من أئمة التابعين ، ليس قولاً مجرداً ولا فلسفة ، وإنما يقين ومعرفة وتجربة وتوكل على الله تبارك وتعالى .
هل فكر أحد منا حينما يصيبه هم أو غم ، أو حينما يقع فى مصيبة مادية أو معنوية ، هل فكر بان المخرج هو مد الحبال إلى الله عز وجل ، دعاءً وتوسلاً واستعانة واستغفاراً كثيراً ، إن هذه الخطوة الإيمانية ، هى سمة المؤمن الذى يؤمن ويوقن بأن المعضلات والعقبات حين تعترض الطريق ، فإن الكاشف الوحيد لها هو الله تبارك وتعالى .
إن الحسن البصرى رحمه الله ، حين أرشد أصحاب الحاجات المختلفة إلى الإستغفار ، فإنه يعلم علم اليقين ، أن الخير عند الله فى السماء ، ولكن يمسكه عن الناس لذنوب أحدثوها ، وفظائع ارتكبوها ، ولولا شيوخ رُكّع وأطفالاً رُضّع وبهائم رُتّع ، ودعوات مستجابات ترفع من أناس الآن، لَحَرُمَ الناس من الخير النازل من السماء ....
من أين فهم الحسن البصرى هذا الفهم ؟ لقد فهمه من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم ، الذين فهموا القرآن وعايشوا المصطفى عليه الصلاة والسلام ، فعلموا ما هى العلاقة بين كثرة الإستغفار والتوبة وبين انهمار الخير من الله على العبد ، .... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ثم قرأ﴿ والذين وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ ( آل عمران / 135 ) (1)
فوائد كثيرة ومنافع عظيمة تفوتنا ونفرط فيها ونغفل عنها ، وربما تجاهلناها وتكاسلنا عنها ، تجد الواحد منا يغرق في الذنوب ، أو يشغل بالدنيا ، أو تحل به المصائب ، فينسى أن يمد يديه الفقيرتين إلى الله الذى بيده خزائن كل شئ ، تراه يذهب إلى فلان من الناس ، يستنجد بهذا أو ذاك ، وربما ما ترك باباً إلا طرقه ، يستجدى الناس أن يخلصوه مما هو فيه ، ولكن ينسى أن يطرق باباً واحداً ، وهو باب الملك تبارك وتعالى !!
إلى هذه الدرجة إلى هذا الحد !! ، جعلت باب الرحيم الرحمن آخر الأبواب طرقاً ؟ أفتظن أن المخلوق أرحم من الخالق ؟ أن المخلوق أقدر من الخالق ؟ .... أتتقلب فى نعم الله ثم تطرق باب غيره ؟
ألم تر إلى رحمة الوالد بولده ،وحنينه وشفقته عليه ، هذه رحمة الوالد بولده ، فكيف برحمة الخالق بخلقه ، الله الذي خلق الخلق هو أرحم بهم وأشفق عليهم ، ..... والخلق إن وقفوا معك ، وصبروا على استجدائك ، فكم سيصبرون ؟ لكل شيء أجل ، ولكن الخالق الرحيم يمهل العبد المذنب الأعوام تلو الأعوام ، ويتجاوز عن السيئات ، ويصفح عن الزلات ، ويمنح العبد عمراً مديداً ، علَّه يتوب ، علَّ يستغفر ، ويصبر ويصبر ومن أسمائه الصبور سبحانه وتعالى ، ويمهل عبده ما لم يحضره الموت أو تشرق الشمس من مغربها ، أفلا يكون باب الإستغفار بعد ذلك هو خير الأبواب ...
ورد أثر عظيم من آثار الإستغفار في حديث أبى سعيد الخدري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الشيطان قال : وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب تبارك و تعالى : وعزتي وجلالي : لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ) (2)
هذه مهمة الشيطان مع الخلق ، إغواء وتضليل ما بقيت الأرواح فى الأجساد ، ولكن الإستغفار سلاح لرد الشيطان على عقبيه ، فالمؤمن حين يستغفر كأنه سدَّد سهماً أو ضرب سيفاً فى خاصرة إبليس فرده خائباً قال تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾ ( الأعراف /201 )
وأثر آخر للأستغفار، وهو أثر عظيم يحتاجه الإنسان فى وقت عصيب ، فى وقت تنقطع فيه الأسباب وتنعدم فيه الإعانة من كل أحد ، وهو يوم يقف العبد بين يدى ربه سبحانه وتعالى ، فيلتفت ويلتفت ، لعله يجد استغفاراً لهج به لسانه فى الدنيا ، لينقذه مما هو فيه ، ليعلن براءته من الذنب ، وربُّه أعلم به ، ولكن يوم القيامة تخرس الألسن فلا يبقى إلا الصحائف التى سطرت على العبد ، فهى الشاهد على عمله فى الدنيا ولهذا يفرح المؤمن حين يجد فى صحيفته عملاً صالحاً قدمه ، قال النبى صلى الله عليه وسلم " من أحب أن تسره صحيفته ، فليكثر فيها من الاستغفار" (3) ، وقال صلى الله عليه وسلم " طوبى لمن وجد فى صحيفته استغفاراً كثيراً " (4)
وأفضل من طبق المنهج هو سيد العارفين ، وإمام التائبين عليه الصلاة والسلام ، فلقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ومع ذلك فهو عليه الصلاة والسلام يتوب ويستغفر ، يقول النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح " يا أيها الناس ! توبوا إلى الله و استغفروه ، فإني أتوب إلى الله و أستغفره في كل يوم مائة مرة " (5) يستغفر ويتوب من ماذا ؟ وهو الطاهر المطهر وقد غفر الله له ما تقدم من الذنوب وما تأخر ، ونحن هل نستغفر فى يومنا وليلتنا مثل هذا العدد ؟ وهل استغفارنا لو استغفرنا ، مثل استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل حاجتنا ونحن مثقلون بالذنوب والخطايا ، مثل حاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستغفار ؟ ......
إنه عليه الصلاة والسلام حين يستغفر لا يستغفر بسبب ذنب ، حاشاه عليه الصلاة والسلام ولكن لأجل الاستزادة من الخير التي يستحقها ربنا سبحانه وتعالى ،.... نحن أحوج إلى الإستغفار ، نحن نذنب فى اليوم عشرات المرات ، من نظرة محرمة وغيبة ونميمة وكذب وعقوق ، وربما تفريط فى الصلوات وتأخيرٌ لها ، ولا يجلى هذه الذنوب من القلوب إلا الاستغفار ، قال صلى الله عليه وسلم " إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " (6) ....
فالإستغفار تطهير للقلب من الران ، وهذا الران هو الذي يسبب ظلمه القلب ، وهو الذى يسبب القلق الذى لا نعرف له سبباً فى كثير من الأحيان ، تجد الرجل مهموماً مغموماً ، تعلو وجهه غشاوة ، ويشتكى من خوف وقلق ، .... ولو أنه جلس فى مسجده ، أو خلا مع نفسه فى بيته ، ليستغفر ويستغفر مع شعور كاملٍ بحاجته إلى ربه ، لزال ما فى نفسه ، ولصفا ما فى قلبه ، ولكن أين من يجلس للاستغفار والتوبة والندم ، ....
ومن آثار الاستغفار رفع العذاب ودفع المصائب ، قال سبحانه وتعالى ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ ( الأنفال /33 ) وهذا يدل على أن الإنسان معرض للخطأ والذنب ، ولكن مطلوب منه الإنكسار المستمر ، والإستغفار الدائم ، قال صلى الله عليه وسلم " والذى نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله ، فيغفر لهم " (7)
والحديث لا يدل ولا يدعو لمقارفة الذنب وإنما يصور طبيعة الإنسان فى غفلته ووقوعه فى زلته ، وطبيعة ما يجب أن يكون عليه المؤمن ، وهو المبادرة للاستغفار ، فإن لم يفعل ذلك لم يكن محققاً لمعنى العبودية ، ولم يظهر مظاهر التذلل والخضوع التى يحبها الله تبارك وتعالى .
ومن آثار الإستغفار ، أنه يبقى القلب سليماً وضاءً قوياً في مواجهة فتنة الشبهات ، وهو ما يحتاجه المؤمن فى مثل هذه الأزمان التي كثرت فيها الفتن ، فلو لم يكن مليئاً قلبه بالتوحيد والإيمان واليقين والسكينة ، فسوف يضعف عن مجابهة الفتن ، ولذلك أرشدنا النبى صلى الله عليه وسلم بقوله " إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نكت فى قلبه نكته سوداء ، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه ، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ، وهو الران الذي ذكر الله " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون "(8)
ومن آثار الإستغفار ، أنه علامة من علامات عبودية العبد ، فكون المسلم يحتاج إلى الإستغفار فذلك دليل على أنه محتاج إلى ربه فى كل وقت ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال : أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنباً ، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، ثم عاد فأذنب ، فقال أي رب ! اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنباً ، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، ثم عاد فأذنب فقال : أي رب ! اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنباً ، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، اعمل ما شئت قد غفرت لك " (9)
· ما أحوجنا إلى الاستغفار حتى تصفو قلوبنا وتسموا أرواحنا ....
· ما أحوجنا إلى الاستغفار حتى يبارك الله فى ذرياتنا وأموالنا وأزواجنا .....
· ما أحوجنا إلى الاستغفار حتى نكون قريبين من ربنا جل جلاله ، معلنين تقصيرنا وضعفنا وذلنا ، فهي صفات يحبها الله تبارك وتعالى من عبده .
نسأل الله جل فى علاه ، أن يرطب ألسنتنا بالاستغفار ، وأن ينجينا من عذاب النار ، .
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروا إنه هو الغفور الرحيم
----------------------------------------------------------------------------------
(1) الجامع للترمذي ( 3006) (2) المستدرك على الصحيحين للحاكم ( 7672 )
(3) المعجم الأوسط للطبراني ( 839 ) (4) سنن ابن ماجه ( 3818)
(5) مسند الأمام أحمد ( 17829 ) (6) مسلم ( 6798 )
(7) مسلم ( 6899 ) (8) الجامع للترمذي ( 3334 )
(9) مسلم ( 6919 )
من موقع فضيلة الشيخ سعد الغامدي