**نورالهدى
13 Feb 2012, 10:25 PM
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا *) (الأحزاب :45 -48)
قال ابن كثير رحمه الله :
قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا فليح بن سليمان, حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة, قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } وحرزاً للأميين, أنت عبدي ورسولي, سميتك المتوكل, لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, ولا يدفع السيئة بالسيئة, ولكن يعفو ويصفح ويغفر, ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء, بأن يقولوا لا إله إلا الله, فيفتح بها أعيناً عمياً, وآذاناً صماً, وقلوباً غلفاً...
وقد رواه البخاري في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي به. ورواه في التفسير عن عبد الله,قيل ابن رجاء, وقيل ابن صالح,عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو به. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن رجاء عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به.
وقال البخاري في البيوع: وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه, وقال وهب بن منبه: إِن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء: أن قم في قومك بني إسرائيل فإني منطق لسانك بوحي وأبعث أمياً من الأميين, أبعثه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته, ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه, أبعثه مبشراً ونذيراً لا يقول الخنا, أفتح به أعيناً كمهاً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً, أسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم, وأجعل السكينة لباسه, والبر شعاره, والتقوى ضميره, والحكمة منطقه, والصدق والوفاء طبيعته, والعفو والمعروف خلقه, والحق شريعته, والعدل سيرته والهدى إمامه, والإسلام ملته, وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلال, وأعلم به بعد الجهالة, وأرفع به بعد الخمالة, وأعرف به بعد النكرة, وأكثر به بعد القلة, وأغني به بعد العيلة, وأجمع به بعد الفرقة, وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة, وأهواء متشتتة, وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة, وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين لما جاءت به رسلي, ألهمهم التسبيح والتحميد, والثناء والتكبير والتوحيد, في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم يصلون لي قياماً وقعوداً ويقاتلون في سبيل الله صفوفاً وزحوفاً, ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً, يطهرون الوجوه والأطراف ويشدون الثياب في الأنصاف, قربانهم دماؤهم, وأناجيلهم في صدورهم, رهبان بالليل ليوث بالنهار, وأجعل في أهل بيته, وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين, أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون, وأعز من نصرهم وأؤيد من دعا لهم, وأجعل دائرة السوء على من خالفهم, أو بغى عليهم أو أراد أن ينتزع شيئاً مما في أيديهم, أجعلهم ورثة لنبيهم, والدعاة إلى ربهم, يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهم أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم, ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم. هكذا رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليماني رحمه الله.
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الرحمن بن صالح, حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي عن شيبان النحوي, أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } وقد كان أمَر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن فقال «انطلقا فبشِّرا ولا تنفِّرا, ويسِّرا ولا تعسِّرا, إنه قد أنزل علي {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا }» ورواه الطبراني عن محمد بن نصر بن حميد البزاز البغدادي, عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي, عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي بإسناده مثله, وقال في آخره «فإنه قد أنزل علييَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا على أمتك وَمُبَشِّرًا بالجنة وَنَذِيرًا من النار وَدَاعِياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً بالقرآن».
فقوله تعالى: {شَاهِداً} أي لله بالوحدانية, وأنه لا إله غيره ؛ وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) (النساء : 41 )) كقوله تعالى: { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (البقرة : 143 ) }.
وقوله عز وجل: { وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب, ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب.
وقوله جلت عظمته: { وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ } أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك { وَسِرَاجًا مُنِيرًا } أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشرافها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند. وقوله جل وعلا { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي اصفح وتجاوز عنهم, وكل أمرهم إلى الله تعالى, فإن فيه كفاية لهم, ولهذا قال جل جلاله: { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }....
وقال القرطبي رحمه الله :
هذه الآية فيها تأنيس للنبي وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم. وهذه الآية فيها من أسمائه ست أسماء ولنبينا أسماء كثيرة وسمات جليلة، ورد ذكرها في الكتاب والسنة والكتب المتقدمة. وقد سماه الله في كتابه محمدا وأحمد. وقال فيما روى عنه الثقات العدول: (لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب). وفي صحيح مسلم حديث جبير بن مطعم: وقد سماه الله "رؤوفا رحيما" في قوله تعالى.(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 128 )؛ وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله يسمي لنا نفسه أسماء، فيقول: (أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة). وقد تتبع القاضي أبو الفضل عياض في كتابه المسمى (بالشفا) ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول ومما نقل في الكتب المتقدمة، وإطلاق الأمة أسماء كثيرة وصفات عديدة، قد صدقت عليه مسمياتها، ووجدت فيه معانيها. وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه في هذه الآية من أسماء النبي سبعة وستين أسما وذكر صاحب (وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين) عن ابن عباس أن لمحمد مائة وثمانين اسماًََ، من أرادها وجدها هناك. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله عليّاً ومُعاذاً، فبعثهما إلى اليمن، وقال: (اذهبا فبشِّرا ولا تنفِّرا، ويسِّرا ولا تعسِّرا فإنه قد أنزل عليّ) وقرأ هذه الآية.
قوله تعالى: "شَاهِداا" قال سعيد عن قتادة: "شَاهِدا" على أمته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم، ونحو ذلك "وَمُبَشِّرً" معناه للمؤمنين برحمة الله وبالجنة " وَنَذِيرًا " معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد." وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ " الدعاء إلى الله هو تبليغ التوحيد والأخذ به، ومكافحة الكفرة. " بِإِذْنِهِ " هنا معناه: بأمره إياك، وتقديره ذلك في وقته وأوانه. " وَسِرَاجًا مُنِيرًا " هنا استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه. وقيل: "وسِرَاجًاا" أي هاديا من ظلم الضلالة، وأنت كالمصباح المضيء. ووصفه بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء، إذا قلَّ سليطُه ودقت فتيلتُه. وفي كلام بعضهم: عن الموحشين. رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء. وسئل بعضهم عن الموحشين فقال: ظلام ساتر وسراج فاتر...
وأسند النحاس قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الرازي قال حدثنا عبدالرحمن بن صالح الأزدي قال حدثنا عبدالرحمن، بن محمد المحاربي عن شيبان النحوي قال حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت "يَا أَيُّهَاالنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا " دعا رسول الله عليّاً ومُعاذاً فقال: (انطلقا فبشرا ولا تعسرا فإنه قد نزل عليّ الليلة آية "يَا أَيُّهَاالنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - من النار - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ - قال - شهادة أن لا إله إلا الله - بِإِذْنِهِ - بأمره - وَسِرَاجًا مُنِيرًا - قال - بالقرآن".
وقال الزجاج: " وَسِرَاجًا " أي وذا سراج منير، أي كتاب نَيِّر. وأجاز أيضا أن يكون بمعنى: وتالياً كتاب الله.
الآية:
قوله تعالى :{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }
قوله تعالى: " وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ " الواو عاطفة جملة على جملة، والمعنى منقطع من الذي قبله. أمره تعالى أن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله تعالى. وعلى قول الزجاج: ذا سراج منير، أو وتاليا سراجا منيرا، يكون معطوفا على الكاف في "َرْسَلْنَاك".
قال ابن عطية: قال لنا أبي رضي الله عنه: هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى، لأن الله عز وجل قد أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلا كبيرا، وقد بيَّن تعالى الفضل الكبير في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ) (الشورى : 22 ) فالآية التي في هذه السورة خبر، والتي في "حم. عسق" تفسير لها. " وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ " أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك من المداهنة في الدين ولا تمالئهم. " الْكَافِرِينَ ": أبي سفيان وعكرمة وأبي الأعور السلمي، قالوا: يا محمد، لا تذكر آلهتنا بسوء نتبعك. " وَالْمُنَافِقِينَ ": عبدالله بن أبي وعبدالله بن سعد وطعمة بن أبيرق، حثوا النبي على إجابتهم بتعلة المصلحة. " وَدَعْ أَذَاهُمْ " أي دع أن تؤذيهم مجازاة على إذايتهم إياك. فأمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم؛ فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول. ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين، وناسخه آية السيف. وفيه معنى ثان: أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك، ولا تشتغل به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل. وهذا تأويل مجاهد، والآية منسوخة بآية السيف. " وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا " أمره بالتوكل عليه وآنسه بقوله " وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا " وفي قوة الكلام وعد بنصر. والوكيل: الحافظ القاسم على الأمر.
وقال السعدي رحمه الله :
هذه الأشياء ، التي وصف بها اللهُ تعالى رسولَه محمداً ، هي المقصود من رسالته ، وزبدتها وأصولها ، التي اختص بها وهي خمسة أشياء : أحدها : كونه" شَاهِدا " أي : شاهدا على أمته بما عملوه ، من خير وشر ، كما قال تعالى : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(البقرة : 143 ).وقوله عز وجل: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) (النساء 43 ) فهو شاهد عدل مقبول . الثاني ، والثالث : كونه " وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا " وهذا يستلزم ذكر المبشَّر والمنذَر ، وما يبشِّر به وينذِر ، والأعمال الموجبة لذلك . فالمبشَّرون : المؤمنون المتقون ، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ،وترك المعاصي . لهم البشرى في الحياة الدنيا ، بكل ثواب دنيوي وديني ،رتب على الإيمان والتقوى .وفي الأخرى بالنعيم المقيم . وذلك كله يستلزم ، ذكر تفصيل المذكور ، من تفاصيل الأعمال ، وخصال التقوى ، وأنواع الثواب . والمنذَرون ، هم : المجرمون الظالمون ، أهل الظلم والجهل . لهم النذارة في الدنيا ، من العقوبات الدنيوية والدينية ، المترتبة على الجهل والظلم . وفي الأخرى ، بالعقاب الوبيل ، والعذاب الطويل . وهذه الجملة تفصيلها ، ما جاء به ، من الكتاب والسنة ، المشتمل على ذلك . الرابع : كونه :" وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ " أي : أرسله الله يدعو الخلق إلى ربهم ، ويُشوِّقهم لكرامته ، ويأمرهم بعبادته ، التي خلقوا لها . وذلك يستلزم استقامته ، على ما يدعو إليه ، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه ، بتعريفهم لربهم بصفاته المقدسة ، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله ، وذكر أنواع العبودية ، والدعوة إلى الله بأقرب طريق موصل إليه ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وإخلاص الدعوة إلى الله ، لا إلى نفسه وتعظيمها ، كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام . وذلك كله " بِإِذْنِهِ " تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره . الخامس : كونه " وَسِرَاجًا مُنِيرًا " ، وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة ، لا نور يهتدى به في ظلماتها ، ولا علم يستدل به في جهاتها . حتى جاء الله بهذا النبي الكريم ، فأضاء الله به تلك الظلمات ، وعلم به من الجهالات ، وهدى به ضلالا إلى الصراط المستقيم . فأصبح أهل الاستقامة ، قد وضح لهم الطريق ، فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به الخير والشر ، وأهل السعادة من أهل الشقاوة ، واستناروا به ، لمعرفة معبودهم ، وعرفوه بأوصافه الحميدة ، وأفعاله السديدة ، وأحكامه الرشيدة .
وقوله : " وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ". ذكر في هذه الجملة ، المبشَّرين ، وهم المؤمنون ، وعند ذكر الإيمان بمفرده ، تدخل فيه الأعمال الصالحة . وذكر المبشَّر به ، وهو الفضل الكبير ، أي : العظيم الجليل ، الذي لا يقادر قدره ، من النصر في الدنيا ، وهداية القلوب ، وغفران الذنوب ، وكشف الكروب ، وكثرة الأرزاق الدارة ، وحصول النعم السارة ، والفوز برضا ربهم وثوابه ، والنجاة من سخطه وعقابه . وهذا مما يُنشط العاملين ، أن يذكر لهم ، من ثواب الله على أعمالهم ، ما به يستعينون على سلوك الصراط المستقيم . وهذا من جملة حكم المشرع ، كما أن من حكمه ، أن يذكر في مقام الترهيب ، العقوبات المترتبة على ما يُرهِّب منه ، ليكون عونا على الكف عما حرم الله . ولما كان ثم طائفة من الناس ، مستعدة للقيام بصد الداعين إلى الله ، من الرسل وأتباعهم ، وهم المنافقون ، الذين أظهروا الموافقة في الإيمان ، وهم كفرة فجرة في الباطن ، والكفار ظاهرا وباطنا ، نهى الله رسوله عن طاعتهم ، وحذره ذلك فقال : " وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ " أي : في كل أمر يصد عن سبيل الله . ولكن لا يقتضي هذا أذاهم ، بل لا تطعهم " وَدَعْ أَذَاهُمْ " فإن ذلك ، جالب لهم ، وداع إلى قبول الإسلام ، وإلى كف كثير من أذيتهم له ، ولأهله . " وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ " في إتمام أمرك ، وخذلان عدوك . " وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا " توكل إليه الأمور المهمة ، فيقوم بها ، ويسهلها على عبده ...[
قال ابن كثير رحمه الله :
قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا فليح بن سليمان, حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة, قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } وحرزاً للأميين, أنت عبدي ورسولي, سميتك المتوكل, لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, ولا يدفع السيئة بالسيئة, ولكن يعفو ويصفح ويغفر, ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء, بأن يقولوا لا إله إلا الله, فيفتح بها أعيناً عمياً, وآذاناً صماً, وقلوباً غلفاً...
وقد رواه البخاري في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي به. ورواه في التفسير عن عبد الله,قيل ابن رجاء, وقيل ابن صالح,عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو به. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن رجاء عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به.
وقال البخاري في البيوع: وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه, وقال وهب بن منبه: إِن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء: أن قم في قومك بني إسرائيل فإني منطق لسانك بوحي وأبعث أمياً من الأميين, أبعثه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته, ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه, أبعثه مبشراً ونذيراً لا يقول الخنا, أفتح به أعيناً كمهاً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً, أسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم, وأجعل السكينة لباسه, والبر شعاره, والتقوى ضميره, والحكمة منطقه, والصدق والوفاء طبيعته, والعفو والمعروف خلقه, والحق شريعته, والعدل سيرته والهدى إمامه, والإسلام ملته, وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلال, وأعلم به بعد الجهالة, وأرفع به بعد الخمالة, وأعرف به بعد النكرة, وأكثر به بعد القلة, وأغني به بعد العيلة, وأجمع به بعد الفرقة, وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة, وأهواء متشتتة, وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة, وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين لما جاءت به رسلي, ألهمهم التسبيح والتحميد, والثناء والتكبير والتوحيد, في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم يصلون لي قياماً وقعوداً ويقاتلون في سبيل الله صفوفاً وزحوفاً, ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً, يطهرون الوجوه والأطراف ويشدون الثياب في الأنصاف, قربانهم دماؤهم, وأناجيلهم في صدورهم, رهبان بالليل ليوث بالنهار, وأجعل في أهل بيته, وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين, أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون, وأعز من نصرهم وأؤيد من دعا لهم, وأجعل دائرة السوء على من خالفهم, أو بغى عليهم أو أراد أن ينتزع شيئاً مما في أيديهم, أجعلهم ورثة لنبيهم, والدعاة إلى ربهم, يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهم أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم, ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم. هكذا رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليماني رحمه الله.
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الرحمن بن صالح, حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي عن شيبان النحوي, أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } وقد كان أمَر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن فقال «انطلقا فبشِّرا ولا تنفِّرا, ويسِّرا ولا تعسِّرا, إنه قد أنزل علي {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا }» ورواه الطبراني عن محمد بن نصر بن حميد البزاز البغدادي, عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي, عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي بإسناده مثله, وقال في آخره «فإنه قد أنزل علييَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا على أمتك وَمُبَشِّرًا بالجنة وَنَذِيرًا من النار وَدَاعِياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً بالقرآن».
فقوله تعالى: {شَاهِداً} أي لله بالوحدانية, وأنه لا إله غيره ؛ وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) (النساء : 41 )) كقوله تعالى: { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (البقرة : 143 ) }.
وقوله عز وجل: { وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب, ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب.
وقوله جلت عظمته: { وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ } أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك { وَسِرَاجًا مُنِيرًا } أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشرافها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند. وقوله جل وعلا { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي اصفح وتجاوز عنهم, وكل أمرهم إلى الله تعالى, فإن فيه كفاية لهم, ولهذا قال جل جلاله: { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }....
وقال القرطبي رحمه الله :
هذه الآية فيها تأنيس للنبي وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم. وهذه الآية فيها من أسمائه ست أسماء ولنبينا أسماء كثيرة وسمات جليلة، ورد ذكرها في الكتاب والسنة والكتب المتقدمة. وقد سماه الله في كتابه محمدا وأحمد. وقال فيما روى عنه الثقات العدول: (لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب). وفي صحيح مسلم حديث جبير بن مطعم: وقد سماه الله "رؤوفا رحيما" في قوله تعالى.(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 128 )؛ وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله يسمي لنا نفسه أسماء، فيقول: (أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة). وقد تتبع القاضي أبو الفضل عياض في كتابه المسمى (بالشفا) ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول ومما نقل في الكتب المتقدمة، وإطلاق الأمة أسماء كثيرة وصفات عديدة، قد صدقت عليه مسمياتها، ووجدت فيه معانيها. وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه في هذه الآية من أسماء النبي سبعة وستين أسما وذكر صاحب (وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين) عن ابن عباس أن لمحمد مائة وثمانين اسماًََ، من أرادها وجدها هناك. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله عليّاً ومُعاذاً، فبعثهما إلى اليمن، وقال: (اذهبا فبشِّرا ولا تنفِّرا، ويسِّرا ولا تعسِّرا فإنه قد أنزل عليّ) وقرأ هذه الآية.
قوله تعالى: "شَاهِداا" قال سعيد عن قتادة: "شَاهِدا" على أمته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم، ونحو ذلك "وَمُبَشِّرً" معناه للمؤمنين برحمة الله وبالجنة " وَنَذِيرًا " معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد." وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ " الدعاء إلى الله هو تبليغ التوحيد والأخذ به، ومكافحة الكفرة. " بِإِذْنِهِ " هنا معناه: بأمره إياك، وتقديره ذلك في وقته وأوانه. " وَسِرَاجًا مُنِيرًا " هنا استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه. وقيل: "وسِرَاجًاا" أي هاديا من ظلم الضلالة، وأنت كالمصباح المضيء. ووصفه بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء، إذا قلَّ سليطُه ودقت فتيلتُه. وفي كلام بعضهم: عن الموحشين. رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء. وسئل بعضهم عن الموحشين فقال: ظلام ساتر وسراج فاتر...
وأسند النحاس قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الرازي قال حدثنا عبدالرحمن بن صالح الأزدي قال حدثنا عبدالرحمن، بن محمد المحاربي عن شيبان النحوي قال حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت "يَا أَيُّهَاالنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا " دعا رسول الله عليّاً ومُعاذاً فقال: (انطلقا فبشرا ولا تعسرا فإنه قد نزل عليّ الليلة آية "يَا أَيُّهَاالنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - من النار - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ - قال - شهادة أن لا إله إلا الله - بِإِذْنِهِ - بأمره - وَسِرَاجًا مُنِيرًا - قال - بالقرآن".
وقال الزجاج: " وَسِرَاجًا " أي وذا سراج منير، أي كتاب نَيِّر. وأجاز أيضا أن يكون بمعنى: وتالياً كتاب الله.
الآية:
قوله تعالى :{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }
قوله تعالى: " وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ " الواو عاطفة جملة على جملة، والمعنى منقطع من الذي قبله. أمره تعالى أن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله تعالى. وعلى قول الزجاج: ذا سراج منير، أو وتاليا سراجا منيرا، يكون معطوفا على الكاف في "َرْسَلْنَاك".
قال ابن عطية: قال لنا أبي رضي الله عنه: هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى، لأن الله عز وجل قد أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلا كبيرا، وقد بيَّن تعالى الفضل الكبير في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ) (الشورى : 22 ) فالآية التي في هذه السورة خبر، والتي في "حم. عسق" تفسير لها. " وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ " أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك من المداهنة في الدين ولا تمالئهم. " الْكَافِرِينَ ": أبي سفيان وعكرمة وأبي الأعور السلمي، قالوا: يا محمد، لا تذكر آلهتنا بسوء نتبعك. " وَالْمُنَافِقِينَ ": عبدالله بن أبي وعبدالله بن سعد وطعمة بن أبيرق، حثوا النبي على إجابتهم بتعلة المصلحة. " وَدَعْ أَذَاهُمْ " أي دع أن تؤذيهم مجازاة على إذايتهم إياك. فأمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم؛ فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول. ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين، وناسخه آية السيف. وفيه معنى ثان: أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك، ولا تشتغل به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل. وهذا تأويل مجاهد، والآية منسوخة بآية السيف. " وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا " أمره بالتوكل عليه وآنسه بقوله " وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا " وفي قوة الكلام وعد بنصر. والوكيل: الحافظ القاسم على الأمر.
وقال السعدي رحمه الله :
هذه الأشياء ، التي وصف بها اللهُ تعالى رسولَه محمداً ، هي المقصود من رسالته ، وزبدتها وأصولها ، التي اختص بها وهي خمسة أشياء : أحدها : كونه" شَاهِدا " أي : شاهدا على أمته بما عملوه ، من خير وشر ، كما قال تعالى : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(البقرة : 143 ).وقوله عز وجل: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) (النساء 43 ) فهو شاهد عدل مقبول . الثاني ، والثالث : كونه " وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا " وهذا يستلزم ذكر المبشَّر والمنذَر ، وما يبشِّر به وينذِر ، والأعمال الموجبة لذلك . فالمبشَّرون : المؤمنون المتقون ، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ،وترك المعاصي . لهم البشرى في الحياة الدنيا ، بكل ثواب دنيوي وديني ،رتب على الإيمان والتقوى .وفي الأخرى بالنعيم المقيم . وذلك كله يستلزم ، ذكر تفصيل المذكور ، من تفاصيل الأعمال ، وخصال التقوى ، وأنواع الثواب . والمنذَرون ، هم : المجرمون الظالمون ، أهل الظلم والجهل . لهم النذارة في الدنيا ، من العقوبات الدنيوية والدينية ، المترتبة على الجهل والظلم . وفي الأخرى ، بالعقاب الوبيل ، والعذاب الطويل . وهذه الجملة تفصيلها ، ما جاء به ، من الكتاب والسنة ، المشتمل على ذلك . الرابع : كونه :" وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ " أي : أرسله الله يدعو الخلق إلى ربهم ، ويُشوِّقهم لكرامته ، ويأمرهم بعبادته ، التي خلقوا لها . وذلك يستلزم استقامته ، على ما يدعو إليه ، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه ، بتعريفهم لربهم بصفاته المقدسة ، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله ، وذكر أنواع العبودية ، والدعوة إلى الله بأقرب طريق موصل إليه ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وإخلاص الدعوة إلى الله ، لا إلى نفسه وتعظيمها ، كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام . وذلك كله " بِإِذْنِهِ " تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره . الخامس : كونه " وَسِرَاجًا مُنِيرًا " ، وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة ، لا نور يهتدى به في ظلماتها ، ولا علم يستدل به في جهاتها . حتى جاء الله بهذا النبي الكريم ، فأضاء الله به تلك الظلمات ، وعلم به من الجهالات ، وهدى به ضلالا إلى الصراط المستقيم . فأصبح أهل الاستقامة ، قد وضح لهم الطريق ، فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به الخير والشر ، وأهل السعادة من أهل الشقاوة ، واستناروا به ، لمعرفة معبودهم ، وعرفوه بأوصافه الحميدة ، وأفعاله السديدة ، وأحكامه الرشيدة .
وقوله : " وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ". ذكر في هذه الجملة ، المبشَّرين ، وهم المؤمنون ، وعند ذكر الإيمان بمفرده ، تدخل فيه الأعمال الصالحة . وذكر المبشَّر به ، وهو الفضل الكبير ، أي : العظيم الجليل ، الذي لا يقادر قدره ، من النصر في الدنيا ، وهداية القلوب ، وغفران الذنوب ، وكشف الكروب ، وكثرة الأرزاق الدارة ، وحصول النعم السارة ، والفوز برضا ربهم وثوابه ، والنجاة من سخطه وعقابه . وهذا مما يُنشط العاملين ، أن يذكر لهم ، من ثواب الله على أعمالهم ، ما به يستعينون على سلوك الصراط المستقيم . وهذا من جملة حكم المشرع ، كما أن من حكمه ، أن يذكر في مقام الترهيب ، العقوبات المترتبة على ما يُرهِّب منه ، ليكون عونا على الكف عما حرم الله . ولما كان ثم طائفة من الناس ، مستعدة للقيام بصد الداعين إلى الله ، من الرسل وأتباعهم ، وهم المنافقون ، الذين أظهروا الموافقة في الإيمان ، وهم كفرة فجرة في الباطن ، والكفار ظاهرا وباطنا ، نهى الله رسوله عن طاعتهم ، وحذره ذلك فقال : " وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ " أي : في كل أمر يصد عن سبيل الله . ولكن لا يقتضي هذا أذاهم ، بل لا تطعهم " وَدَعْ أَذَاهُمْ " فإن ذلك ، جالب لهم ، وداع إلى قبول الإسلام ، وإلى كف كثير من أذيتهم له ، ولأهله . " وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ " في إتمام أمرك ، وخذلان عدوك . " وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا " توكل إليه الأمور المهمة ، فيقوم بها ، ويسهلها على عبده ...[