ام حفصه
02 Oct 2012, 08:08 AM
http://mercyprophet.org/mul/ar/sites/default/files/images/hl_kn__-_rby.jpg
منذ سنوات، سكن إلى جواري رجل دين نصراني يدعى (الأب نقولا)، فسارعتُ آنذاك إلى الترحيب به، وتقديم يد العون والمساعدة له... ريثما تطمئنُّ نفسه، وتقرُّ عينه، وتنتظم شؤون حياته في مسكنه الجديد. ولم يكن تصرفي هذا سوى التزامٍ مني بتعاليم الإسلام التي توجب على كل مسلم رعاية حُسن الجوار، تجاه أي جار، من أي عِرق كان، ومن أي لون، ومن أي دين.. انطلاقاً من قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورِّثه»[1].ومضت شهور وأعوام... وصار بيني وبين جاري (الأب نقولا) مَودَّة عمادُها الآية الكريمة: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى﴾[2]، وصرنا نتبادل الزيارات في المناسبات والأعياد... ولم نكن نُميتُ تلك الزيارات باللغو والغِيبة والمِراء... بل كنا نحييها بالحديث عن الأديان.. فهو يحدثني عن دينه، وأنا أحدثه عن ديني، فيفيد كلٌّ منا الآخر.. ودام الأمر على هذا المنوال حتى تاريخ 12/9/2006 م، حيث ذاع كلام بابا الفاتيكان (بينيدكت السادس عشر) الذي أساء فيه إلى دين الإسلام، وإلى نبي المسلمين! واستشهد فيه بنصوص من العصور الوسطى، أيام كانت الحروب الدينية تشتعل بين النصارى والمسلمين بفعل مثل هذا الكلام الذي جاء فيه ما مُلخصه: «إن الإسلام انتشر بالسيف، ونبي المسلمين لم يأت بغير السيف». وهي نغمة قديمة كان يروِّج لها مدبّرو الحروب الصليبية، كلما عزموا على إشعال نار حرب جديدة([3]).
وضجَّت وسائل الإعلام بنقل كلام بابا الفاتيكان، وردود الفعل عليه...* * *وصادف أن التقيتُ جاري (الأب نقولا) أمام الباب الخارجي للبناء الذي نقطنه، بعد ذيوع كلام البابا بأيام، فبادر كلّ منا الآخر بالتحية، وتصافحنا على عادتنا، وسأل كلّ منا الآخر عن صحته وأحواله... كما هو دأبنا كلما التقينا... لكنه زاد هذه المرة أن سألني قائلاً:- متى سيبدأ صومكم هذا العام؟.قلت: بعد ثلاثة أو أربعة أيام، بحسب ظهور هلال أول شهر رمضان القمري.قال: إذاً سأزورك في أول يوم من أيام رمضان، لأهنّئك ببدء الصوم.قلت: مرحباً بك.قال: ألديك برنامج محدد مساء يوم الصيام، حتى أتجنب الزيارة في وقت غير مناسب؟قلت: برنامجي مساء يوم الصيام هو التالي: أستمع إلى المؤذن وهو يؤذن لصلاة المغرب معلناً بدء الإفطار ذلك اليوم، ثم أتناول تمراتٍ أو شربة ماء بِنيَّة إنهاء صومي وبدء فطري ذلك اليوم، ثم أصلي المغرب، ثم أتناول طعام الإفطار... ثم أنتظر حتى يؤذَّن لصلاة العشاء، ثم أصلّي العشاء، ثم أصلي بعدها صلاة التراويح، وصلاتي كلها في المسجد. ثم أجلس في منـزلي للراحة، حيث تكون الساعة قد قاربت التاسعة مساءً بالتوقيت الشتوي.قال: إذاً موعدنا أول يوم من رمضان، الساعة التاسعة مساءً.قلت: إن شاء الله.فاستدرك قائلاً: لكن سيصحبني في زيارتي رجل لا تعرفه، يودُّ التعرف عليك، والحديثَ إليك.قلت: على الرُّحب والسَّعة، أنت وصاحبك.ثم ودَّع كلٌّ منا الآخر... وانطلقت أنا إلى وجهتي التي كنت أنتويها، وتابع هو صاعداً درج السلَّم إلى منـزله.* * *1- تفنيد فِرية السيف:وجاء أول يوم من رمضان من العام الهجري /1427/، وعند الساعة التاسعة رن جرس باب منـزلي، ففتحت، واستقبلت الضيفين مرحِّباً بهما... وعرَّفني (الأب نقولا) على صاحبه قائلاً:- صديقي (الأب ستيفانو) من الشعبة الثقافية في السفارة الإيطالية عندنا.فكرَّرت الترحيب بالضيف... وطفقنا نتجاذب أطراف الحديث... ثم قمت بواجب الضيافة...التزاماً مني بتعاليم الإسلام، وانطلاقاً من قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفه»([4]). وفي أثناء ذلك ابتدرني الأب ستيفانو قائلاً بالعربية مَشوبةً بلكنة أجنبية:- لديّ سؤال أرجو أن أجد جوابه عندك.قلت: أبشِر، إن كان الجواب في مقدوري.وأردفت مبتسماً: لعل سؤالك يدور حول عبارات بابا الفاتيكان الأخيرة؟.فتبسم الأب ستيفانو وهو يقول:- لا عليك؛ فهذه العبارات وأمثالها، تُلقى بين آونة وأخرى، بوحيٍ من بعض كبار الساسة، ليصلوا بها إلى أهداف خططهم المرسومة خِفية عن أعين الناس.. بدليل أن أصحاب هذه العبارات غالباً ما يتراجعون عنها، عندما يدركون خطرها..واستدرك قائلاً:- لكنْ على ذِكر كلام بابا الفاتيكان، أترى تهمة انتشار الإسلام بالسيف، حقاً أم باطلاً؟([5]).قلت: ومن أين لي أن أعرف هذا؟قال: من النصوص الأصلية التي تأخذون منها دينكم أنتم المسلمين.قلت: وأين أجد هذه النصوص؟.قال: من الثابت لدى الجميع، أن نصوصكم الأصلية موجودة في آيات (القرآن) كتابِ دِينِكم، وفي الأحاديث الصحيحة التي تروونها عن نبيكم، ثم ما صح من أخبار السيرة النبوية([6])عندكم.قلت: أوَ ترضى أنت بالاحتكام إلى هذه النصوص؟.قال:ولِمَ لا؟ إن جميع الأديان والمذاهب والفلسفات، لا نعرف حقيقتها إلا بالرجوع إلى نصوصها الأصلية التي يصدر عنها أصحابها، هكذا يقول العقل([7]).قلت: لقد أَنصفتَ، ولأعرضنَّ عليك من النصوص الأصلية التي رضيتَها، ثم لك أن تحكم بما يمليه عليك عقلك وإنصافك.قال:إني مُصغٍ.قلت: استمع معي إلى آيات القرآن الكريم التي تعلِّم نبي المسلمين، ثم المسلمين، طريقة نشر الدعوة الإسلامية بين الناس:- تقول الآية القرآنية مخاطبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكلَّ مسلم: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾([8])، أتجد هنا سيفاً أم حواراً؟قال: لا أجد هنا إلا حواراً، بل هو حوار لطيف حسن.قلت: وتقول الآية القرآنية مخاطبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكل مسلم: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾([9])، أتجد هنا سيفاً أم حواراً؟.قال: لا أجد هنا إلا حواراً، بل هو حوار لطيف حسن كسابقه.قلت: وتقول الآية القرآنية: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾([10])، وأهل الكتاب كما تعلم، هم اليهود والنصارى، أتجد هنا سيفاً أم حواراً؟قال: لا أجد هنا إلا حواراً، بل هو حوار لطيف حسن كسابقَيه.واستدرك قائلاً: لكن هل لك أن توضح لي كيف تتم هذه المجادلة بالتي هي أحسن، على أن نبقى ضمن النصوص الأصلية.قلت: لك هذا، ولن أخرج عن النصوص الأصلية قِيدَ أُنملة، فاستمع إلى تمام الآية السالفة ليتوضح لك ما تريد، قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْنَا وَأُنـزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[11]، أي أن علينا نحن المسلمين أن نبيِّن لهم – لليهود والنصارى – حقيقة ديننا الذي يعترف بنبوَّة جميع الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى لهداية البشر، ويصدِّق جميع الكتب التي أنـزلها عليهم، ومنها التوراة والإنجيل اللذان أُنـزلا على موسى وعيسى عليهما السلام.قال الأب ستيفانو: هذا حسن، لكن وردتْ في الآية التي ذكرتَها عبارةٌ أود أن توضحها لي.قلت: ما هي؟قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ من هم هؤلاء الذين استثنتهم الآية من الحوار والمجادلة الحسنة؟قلت: هؤلاء، هم الذين يسبُّون ويشتمون دين الإسلام ونبي الإسلام، ويعتدون على المسلمين ويظلمونهم، أينفع الحوار والمجادلة الحسنة مع هؤلاء؟.قال: لا، فالمعتدي يجب أن يحاسَب ويعاقَب، هكذا يقول العقل، ولو تركنا المعتدي على هواه، لألحق الأذى والضرر بالأبرياء.وأردف قائلاً: ولا أكتمك أن هذه اللفتة في الآية، فيها حفظ لكرامة المسلمين[12].قلت: لقد أَنصفتَ.قال: أنا أتفق معك من خلال هذه النصوص، أن الإسلام دين يدعو إلى الحوار، لكنْ...وصَمَتَ الأب ستيفانو قليلاً. فقلت مستحثاً إياه على المتابعة:- لكن ماذا؟قال: لكن إذا رفض الذين تحاورونهم الاستجابة إلى دعوتكم، ولم يُجدِ الحوار، فالسيف... أليس كذلك؟قلت: على رِسْلك، أمَا زلنا متفقَين على الاحتكام إلى النصوص الأصلية؟قال: بلى، ولن أعفيك من هذا الاتفاق.قلت: إذاً استمع إلى هذه الآية القرآنية التي تعلم نبي المسلمين وكل مسلم، كيفية الحوار مع النصارى واليهود، وكيفية الرد على الرافضين منهم. تقول الآية: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾[13]، وكرَّرتُ: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.وأردفت: أي إنْ رفَض النصارى واليهود ما تدعونهم إليه من توحيد الله وعبادته سبحانه وحده، فاتركوهم وشأنهم[14]، واثبتوا أنتم على الإسلام. أفي هذا سيف أو عنف أو إكراه؟قال الأب ستيفانو: الحقَّ أقول: لا سيف ولا عنف ولا إكراه.قلت: بل أوضح من هذا وأَبْـيَن، تقول الآية القرآنية مشيرةً إلى جميع البشر، من المِلل كافة: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾[15].
وكرَّرتُ: ﴿مَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾. ثم حساب المؤمن والكافر على الله سبحانه، وليس على البشر.وأردفت: بل أوضح من هذا وأَبْـيَن، تقول الآية القرآنية معلنة المبدأ العام في الدعوة إلى دين الإسلام: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[16]. وانطلاقاً من هذا المبدأ العام، أتدري ماذا فعل نبي المسلمين عندما رفض الكافرون بوحدانية الله الاستجابةَ لدعوته، وامتنعوا عن القبول بعبادة الله وحده، وأصروا على عباداتهم الضالَّة؟قال: ماذا فعل؟قلت: لم يجرِّد عليهم سيفاً، ولم يعنف بهم، ولم يحاول إكراههم بأي وسيلة، إنما التجأ إلى ربه، يدعوه ويستخيره فيما يفعل أو يقول بشأن هؤلاء الكافرين المعاندين، فنـزلت الآيات القرآنية ترشده وتوجهه وتقول له: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ{1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ{2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ{3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ{4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ{5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾[17].وكرَّرتُ: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.وتقول له: ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾[18].وتقول له: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي{14} فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ﴾[19].وأردفت: أهناك حرية دينية فوق هذا؟قال الأب ستيفانو: أشهد أن هذا عين الإنصاف!قلت: أعرفتَ الآن، إن كانت تهمة انتشار الإسلام بالسيف، حقاً أم باطلاً؟قال:أجل عرفت، إنها تهمة باطلة، وأشهد أن الإسلام بريء منها[20].* * *2- الغربيون ودراسة شخصية محمد (صلى الله عليه وسلم):وأردف الأب ستيفانو قائلاً: والآن أودُّ العودة إلى السؤال الذي جئتك لأجله.قلت:وما سؤالك؟.قال: إن بلادي أوفدتني إلى بلادكم رَجلَ دين، لا لأكرِّس وقتي لوعظ الناس... فعندكم من الواعظين المسلمين والنصارى ما يكفي وزيادة..قلت: لقد أَنصفتَ، فما سبب وِفادتك؟.قال: لقد كُلِّفت من قِبل الجهة التي أعمل فيها، بأن أكتب بحثاً عن (مظاهر الرحمة للبشر في شخصية محمد) نبيكم. وأن أدرس من خلال ذلك شخصية هذا النبي، أكانت قاسية رهيبة تتناسب مع تهمة مجيئه بالسيف ونشر دينه به؟ أم أنها كانت شخصية عطوفة رحيمة تتناقض مع هذه التهمة؟.قلت: وما الداعي إلى مثل هذا البحث؟.قال: إن مجتمعاتنا الغربية اليوم – بسبب ما يتردد في وسائل الإعلام – بات الشغلَ الشاغل لها سيرةُ نبيكم محمد.. ولم يجد المعنيون بهذا، وسيلةً أفضل من إعادة دراسة وتقويم سيرة محمد على ضوء الرجوع إلى النصوص الأصلية التي جاء بها، لأجل الوصول إلى الحقيقة غير المشوّهة عن محمد ودينه الذي جاء به. ثم عَرضِ هذه الحقيقة على المجتمعات الغربية، حتى يتسنى لها التخلص من كل ما لا يمتّ إلى الحقيقة بِصِلة.وأردف قائلاً: ولما عزمتُ البدءَ بالكتابة، وجدتني أولاً بحاجة إلى مطالعة ما سبق أن كتبه الغربيون، من مستشرقين ودارسين، عن شخصية محمد... واستغرق هذا مني قرابة سنة، كانت حصيلتها النتيجة التالية:لقد وجدتُ دارسي شخصية محمد من الغربيين ينقسمون فئتين:- فئة كتبت عنه بروح سلبية، وهؤلاء كانوا ينطلقون من وجهة نظر عدائية، كانت تثيرها الكنيسة الغربية منذ القديم.. والغرض منها تشويه صورة محمد في نظر الغربيين، حتى يَنفِروا منه ومن دينه، فلا ينجذبون إليه، ولا يعتنقون دينه!وكان من هؤلاء المشوِّهين قدماءُ ومُحْدَثون:أما القدماء، فقد كشف الفيلسوف الفرنسي (رينان) أمرهم لعامة الناس حتى لا ينخدع أحد بأقوالهم.. وشهد على تحاملهم وحقدهم السافر على محمد، فقال: «لقد كتب المسيحيون تاريخاً غريباً عن محمد.. إنه تاريخ يمتلئ بالحقد والكراهية له. لقد ادّعوا أن محمداً كان يسجد لتمثال من الذهب كانت تخبئه الشياطين له! ولقد وصفه دانتي بالإلحاد في رواية (الجحيم)، وأصبح اسم محمد عنده وعند غيره، مرادفاً لكلمة كافر أو زنديق!ولقد كان محمد في نظر كتّاب العصور الوسطى، تارة ساحراً، وتارةً أخرى فاجراً شنيعاً، ولصاً يسرق الإبل، وكاردينالاً لم يفلح في أن يصبح (بابا) فاخترع ديناً جديداً أسماه (الإسلام) لينتقم من أعدائه! وصارت سيرته رمزاً لكل الموبقات، وموضوعاً لكل الحكايات الفظيعة»[21].وتابع: ويزداد كلام رينان وضوحاً، عندما نقرأ ما كتبه المستشرق السويسري (جون وانبورت) في كتابه (محمد والقرآن) إذ قال: «بقدر ما نرى من صفة محمد الحقيقية بعين البصيرة والتروي في المصادر التاريخية الصحيحة، بقدر ما نرى من ضعف البرهان، وسقوط الأدلة لتأييد الهجو الشديد، والطعن القبيح، الذي انهال عليه من أفواه المغرضين، والذين جهلوا حقيقة محمد ومكانته».وعندما نقرأ ما كتبه (برنارد شو) في كتابه (محمد) الذي أحرقته السلطات البريطانية: «إن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجة للجهل والتعصب، قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة».* * *وتابع الأب ستيفانو قائلاً:- وأما المُحْدَثون من هؤلاء المشوِّهين.. المُحْدَثون الذين يدَّعون أنهم درسوا حياة محمد بحسب المنهج العلمي النقدي، الذي يقول بوجوب طرحِ الدارسِ كلَّ الأهواء والميول الشخصية جانباً، قبل البدء بالدراسة.. هؤلاء يحدثنا المستشرق النمساوي (ليوبولد فايس)[22] في كتابه (الإسلام على مفترق الطرق) عن طريقتهم في دراسة الإسلام والسيرة النبوية قائلاً: «إن طريقة الاستقراء والاستنتاج التي يتبعها أكثر المستشرقين –عند دراستهم للإسلام والسيرة النبوية – تذكِّرنا بوقائع دواوين التفتيش! تلك الدواوين التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية لخصومها في العصور الوسطى، أي أن تلك الطريقة لم يتفق لها أبداً أن نظرت إلى القرائن التاريخية بتجرد، لكنها كانت في كل دعوى تبدأ باستنتاجٍ متفق عليه من قبل، قد أملاه عليها تعصبها لرأيها»[23].ثم يقول في كتابه هذا أيضاً عن هذه الفئة: «أما تحامل المستشرقين على الإسلام، فغريزة موروثة، وخاصةٌ طبيعية، تقوم على المؤثرات التي خلَّفتها الحروب الصليبية بكل مالها من ذيول في عقول الأوروبيين»[24].وتابع الأب ستيفانو قائلاً:- وفي هؤلاء المُحْدَثين من المشوِّهين يقول المستشرق الفرنسي (آتيين دينيه) في كتابه (محمد رسول الله) مصوِّراً الحالة المتدنية التي وصلت إليها كتابة السيرة النبوية على يد بعض المستشرقين: «إنه من المتعذر، بل من المستحيل، أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونـزعاتهم المختلفة، وإنهم – لذلك – قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغاً يخشى على صورتها الحقيقية من شدة التحريف فيها! وبرغم ما يزعمون من اتِّباعهم لأساليب النقد البريئة، ولقوانين البحث العلمي الجاد، فإننا نجد – من خلال كتاباتهم – محمداً يتحدث بلهجة ألمانية إذا كان المؤلف ألمانياً! وبلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطالياً!.. وهكذا تتغير صورة محمد بتغير صورة الكاتب! وإذا بحثنا في هذه السيرة عن الصورة الصحيحة، فإننا لا نجد لها من أثر.إن المستشرقين يقدمون لنا صوراً خيالية هي أبعد ما تكون عن الحقيقة! إنها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التاريخية التي يؤلفها أمثال (ولتر سكوت –وإسكندر ديماس) وذلك أن هؤلاء يصورون أشخاصاً من أبناء قومهم، فليس عليهم إلا أن يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أما المستشرقون فلم يمكنهم أن يلبسوا الصورة الحقيقية لأشخاص السيرة، فصوروهم حسب منطقهم الغربي، وخيالهم العصري».ثم يقول: «ما رأي الأوروبيين في عالِم من أقصى الصين، يتناول المتناقضات التي تكثر عند مؤرخي الفرنسيين، ويمحِّصها بمنطقه الشرقي البعيد، ثم يهدم قصة (الكاردينال ريشيلو) كما نعرفها، ليعيد إلينا (ريشيلو) آخر له عقلية كاهن من كهنة بكين، وسِماته وطبعه؟!.إن مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة فيما يتعلق بسيرة محمد، ويخيل إلينا أننا نسمع محمداً يتحدث في مؤلفاتهم، إما باللهجة الألمانية، أو الإنكليزية، أو الفرنسية، ولا نتمثله قط - بهذه العقلية والطباع التي أُلصقت به - يحدِّث عرباً باللغة العربية»[25].وتابع الأب ستيفانو قائلاً:- ويقول المستشرق (مونتغومري وات) في كتابه (محمد في مكة) عن هؤلاء المشوِّهين:«وإذا حدث أن كانت بعض أراء العلماء الغربيين، غير معقولة عند المسلمين، فذلك لأن العلماء الغربيين لم يكونوا دائماً مخلصين لمبادئهم العلمية، وأن آراءهم يجب إعادة النظر فيها من وجهة النظر التاريخية الدقيقة»[26].ويقول عنهم المستشرق (مكسيم رودنسون) في معرض تقويمه ما كتبه العلماء الغربيون المُحدَثون عن الإسلام ونبي المسلمين: «يمكن القول بصورة عامة، إن العلماء في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان يزيد ضررهم على نفعهم، وذلك لتأثرهم بالأحكام الشائعة لا بالعلم»[27].* * *وأردف الأب ستيفانو قائلاً: أما أنا، فبعدما تعرفتُ على ما كتبه القدماء والمُحدَثون من هذه الفئة المشوِّهة، أدركت أن هؤلاء الكتَّاب كانوا على قدر كبير من الجهل بحياة وسيرة محمد الحقيقية، وأدركتُ أنهم لم يُجَشِّموا أنفسهم عناء الرجوع إلى النصوص والمصادر الأصلية لسيرة محمد[28].وأستطيع أن أقول، وأنا مطمئن الاطمئنانَ كلَّه لما أقول: لقد ساد دراسات هؤلاء الغربيين من مستشرقين ودارسين لحياة محمد، كثير من التعسف في تفسير النصوص والأحداث، بسبب الأهواء الدينية والعنصرية، أو بسبب سوء الفهم للإسلام وأحكامه ونظمه ومقاصده[29].وأردف: ولأجل هذا كله، لم أستطع أن أُفيد من كتابات هذه الفئة المشوِّهة، في بحثي الذي أنا بسبيله.* * *قلت: والفئة الأخرى؟قال: الفئة الأخرى، كتبتْ عن شخصية محمد بروح إيجابية، وهؤلاء كانوا ينطلقون في كتاباتهم إما من وجهة نظر وُدِّية متعاطفة، وإما من وجهة نظر منصفة تَنشدُ الحقيقة[30].وقد حاولت الإفادة مما كتبوه.. إلا أنني بعدما اطلعت على كتبهم، وجدتُني لا أستطيع الاكتفاء بما طالعت منها وقرأت، برغم تلك الصورة الزاهية لمحمد في هذه الكتب.قلت: ولِمَ تعتقد هذا؟قال: لقد وجدتُ هذه الفئة من الدارسين، منهم من درس محمداً العبقري، من خلال مظاهر العبقرية البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من العباقرة في التاريخ البشري.ومنهم من درس محمداً الفيلسوف، من خلال مبادئ الفلسفة البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من الفلاسفة في التاريخ البشري.ومنهم من درس محمداً المصلح الديني، من خلال سُبُل الإصلاح الديني البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من المصلحين الدينيين في التاريخ البشري.ومنهم من درس محمداً القائد العسكري، من خلال النظم العسكرية البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من القواد العسكريين في التاريخ البشري.ومنهم من درس محمداً المُشَرِّع، من خلال التشريعات والقوانين البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من المشرعين وواضعي القوانين في التاريخ البشري.إلى غير هذا من صفات العظمة البشرية التي كانوا يستخلصونها من سيرة محمد، وكانوا في كل صفة منها يضعون محمداً في القمة على رأس الجميع!.قلت: وماذا في ذلك؟قال: فيه أنهم بهذا يدرسون محمداً على أنه عظيم من عظماء البشر، يتمتع بصفات متميزة كغيره من عباقرة الرجال[31]... لكنهم يَغفلون عن مناقشة النتيجة التي كانوا يصلون إليها دائماً، وهي أن محمداً دائماً في القمة بين العظماء جميعاً! مهما كانت صفة العظمة التي يدرسونها فيه. بل هو دائماً يجمع كل صفات العظمة... بينما غيره من العظماء يتوزعون فيما بينهم هذه الصفات.. التي تجمعت فيه وحده! فلماذا؟قلت: وهل في هذا ما يثير التساؤل؟قال: أجل، كان الأجدر بأولئك الدارسين، عندما وصلوا جميعاً إلى نتيجة واحدة، أن يتساءلوا: لماذا محمد دون غيره، هو دائماً في القمة؟ ولماذا محمد دون غيره، تجتمع له صفات العظمة، بينما هي لا تجتمع لغيره من العظماء الذين نعرف سِيَر حياتهم؟وأردف: كان عليهم أن يناقشوا هذا، ويصلوا إلى سرِّ هذه النتيجة.قلت: وهل تنبهتَ أنت لِما غفلوا عنه؟قال: أجل.قلت: هل لك أن تحدثني بما تنبهتَ له؟قال: لا بد لي من أن أحدثك به، حتى أصل إلى الفائدة التي أتوقعها منك في كتابة بحثي، فأصغ إلي.* * * 3- أثر البيئة والوراثة في عَظَمة النبي (صلى الله عليه وسلم):وتابع قائلاً: من الشائع لدى الباحثين والدارسين، أن أهم ما يتحكم في طبيعة الإنسان - وبخاصة العبقري المتميز - عاملان رئيسان هما: عامل البيئة - و عامل الوراثة.أما عامل البيئة: فمن المتفق عليه أن البيئة التي ينشأ ويتربّى فيها الإنسان، ذات أثر خطير في سجل حياته، وفي إكسابه الكثير من الصفات التي يُطل بها على مجتمعه.فالفيلسوف العبقري، يجب أن يعيش في بيئة فلسفية.. ولم يتهيأ هذا لمحمد في بيئته البدوية الأمّية التجارية.والمصلح الديني العبقري، يجب أن يطالع المذاهب والأديان وحياة المجتمعات.. ضمن بيئة ثقافية تهتم بمثل هذا.. ولم يتهيأ هذا لمحمد في بيئته البدوية الأمّية التجارية.والقائد العسكري العبقري، يجب أن يعيش في بيئة عسكرية محاربة.. ولم يتهيأ هذا لمحمد، ولم نعلَمه يشارك في المعارك والحروب إلا بعد الخمسين من عمره.. بل هو وجد نفسه لأول مرة يقود معركة حربية - هي معركة بدر - وهو يقارب الخامسة والخمسين من عمره، بل هو أخذ بمشورة بعض أصحابه قبل بدء المعركة[32].والمشرِّع العبقري، يجب أن يكون دارساً للقوانين، مطَّلعاً على نظم الحكم في أيامه وقبل أيامه.. ولم يتهيأ هذا لمحمد في بيئته البدوية الأمّية التجارية.إلى آخر ما هنالك من صنوف العبقرية والعظمة..فهل كان للبيئة التي عاشها محمد دور في كونه أعظم العظماء؟ والجواب حتماً: لا، لأن جميع من كانوا حول محمد عاشوا في بيئته، لكن لم يكن فيهم واحد مثله! مع أن منهم - بحسب ما عرفتُه عنهم - من لا يقل كفاءة بشرية عنه.. لكنّ الجميع كانوا يشعرون بأن محمداً الذي كان يعيش بينهم، يتميز عنهم بأمر لا يستطيعونه.. أمرٍ خصه الله سبحانه به دون سائرهم.. ولولا هذا الأمر لأمكن للكثيرين منهم أن ينافسوا محمداً في بعض مظاهر العظمة، منافسة أبناء البيئة الواحدة.* * * وأردف قائلاً: وأما عامل الوراثة: فمن المتفق عليه أن للصفات الوراثية أثر خطير في سجل حياة الإنسان، وفي إكسابه الكثير من الصفات التي يُطل بها على مجتمعه.ولو درسنا شخصيات أجداد محمد وآبائه، من خلال ما حفظته الروايات من أخبارهم، لوجدنا صفاتِ عظمةٍ متناثرةً بينهم.. فقد كانوا من خيرة الناس في مجتمعهم[33]، لكن لن نجد فيهم واحداً مثل محمد[34]، وكذلك لن نجد مثله في ذريته..* * * وأردف الأب ستيفانو متسائلاً:- لماذا لم يَرقَ واحد من بني البشر إلى رتبة محمد؟!- لماذا يقول عنه الشاعر الفرنسي الشهير (لامارتين): «إن محمداً هو أعظم رجل»[35].- ولماذا يقول (لامارتين) أيضاً في كتابه (تاريخ الأتراك): «بالنظر لكل مقاييس العظمة البشرية، أود أن أتساءل: هل هناك من هو أعظم من النبي محمد؟»[36].- ولماذا يقول المستشرق (جون دريبر) في كتابه (تاريخ التطور الفكري الأوربي): «الرجل الذي كان له من دون الرجال جميعاً ، أعظمُ تأثيرٍ على الجنس البشري.. هو محمد»[37].
- ولماذا يقول عنه المستشرق الآسوجي (سينرستن): «هو فوق عظماء التاريخ»[38].- ولماذا يجعله المستشرق (توماس كارليل): «بطل الأبطال»[39].- ولماذا يؤلف الباحث الأمريكي (مايكل هارت) كتاباً عنوانه «الخالدون المئة» ويجعل أعظمهم محمداً[40].- ولماذا تؤلف مجموعة من الباحثين الغربيين كتاباً بعنوان: (الخمسون الذين كانوا أعظم شأناً في التاريخ) فيكون محمد هو الأول من بين هؤلاء الخمسين[41]!.
وأردف متسائلاً بتصميم: ما سرُّ محمد؟!.* * *4- سرّ عَظَمة النبي (صلى الله عليه وسلم):قلت: ما سرّه؟.قال: إن سرّ عظمة محمد المتفرِّدة، لست أنا أول من اكتشفه، لقد سبقني إليه باحثون غربيون آخرون.. لكنهم قِلَّة.. منهم من اعتنق الإسلام، ومنهم من لم يعتنقه. وكان من أوائل هؤلاء، الشاعر الفرنسي (لامارتين) الذي يقول في كتابه (السفر إلى الشرق): «إن محمداً فوق البشر، ودون الإله، فهو رسول بحكم العقل». ثم يقول: «إن اللغز الذي حله محمد في دعوته، فكشف فيه عن القيم الروحية.. هو أعلى ما رسمه الخالق لبني البشر»[42].وأردف الأب ستيفانو قائلاً بابتهاج:- هذا هو السر.. إن محمداً نبي مرسل من الله سبحانه، إن محمداً رسول الله إلى بني البشر، حمل إليهم رسالة فيها أعلى ما رسمه الخالق لبني البشر. ولهذا وجده دارسوه من هذه الفئة ذات الروح الإيجابية من الغربيين، لهذا وجدوه دائماً في قمة العظمة، بجميع مظاهر وصفات العظمة التي يعرفونها.إنه نبي، وصفات النبي تقصِّر دونها مقاييس البشر، لأن عظمة الأنبياء مستمدة من وحي الله تعالى. وتحت عنوان (رسول الله) تحت هذا العنوان فقط يجب أن تدرس شخصية محمد، لأن النبوة والرسالة هي التي وصلت به إلى ما وصل إليه، وإغفالها من دراسة شخصيته هو إغفال للركن الأساس الذي بنيت عليه هذه الشخصية0هكذا يقول العقل.قلت: لقد أَنصفتَ أيها الأب ستيفانو، وأصبتَ كبد الحقيقة، وإنَّ ما توصلت إليه أنت وبعض الباحثين الغربيين عن طريق العقل، هو عين ما جاءت به النصوص الأصلية التي اتفقنا على الاحتكام إليها.قال: ماذا تقول النصوص الأصلية؟قلت: تقول الآية القرآنية مخاطبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾[43]. وتقول الآية القرآنية: ﴿ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾[44].أي أن ما يتميز به محمد عنكم أيها الناس، لا يكمن في صفاته البشرية، إنما يكمن في كونه رسول الله، الذي يوحي إليه الله سبحانه.* * *
منذ سنوات، سكن إلى جواري رجل دين نصراني يدعى (الأب نقولا)، فسارعتُ آنذاك إلى الترحيب به، وتقديم يد العون والمساعدة له... ريثما تطمئنُّ نفسه، وتقرُّ عينه، وتنتظم شؤون حياته في مسكنه الجديد. ولم يكن تصرفي هذا سوى التزامٍ مني بتعاليم الإسلام التي توجب على كل مسلم رعاية حُسن الجوار، تجاه أي جار، من أي عِرق كان، ومن أي لون، ومن أي دين.. انطلاقاً من قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورِّثه»[1].ومضت شهور وأعوام... وصار بيني وبين جاري (الأب نقولا) مَودَّة عمادُها الآية الكريمة: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى﴾[2]، وصرنا نتبادل الزيارات في المناسبات والأعياد... ولم نكن نُميتُ تلك الزيارات باللغو والغِيبة والمِراء... بل كنا نحييها بالحديث عن الأديان.. فهو يحدثني عن دينه، وأنا أحدثه عن ديني، فيفيد كلٌّ منا الآخر.. ودام الأمر على هذا المنوال حتى تاريخ 12/9/2006 م، حيث ذاع كلام بابا الفاتيكان (بينيدكت السادس عشر) الذي أساء فيه إلى دين الإسلام، وإلى نبي المسلمين! واستشهد فيه بنصوص من العصور الوسطى، أيام كانت الحروب الدينية تشتعل بين النصارى والمسلمين بفعل مثل هذا الكلام الذي جاء فيه ما مُلخصه: «إن الإسلام انتشر بالسيف، ونبي المسلمين لم يأت بغير السيف». وهي نغمة قديمة كان يروِّج لها مدبّرو الحروب الصليبية، كلما عزموا على إشعال نار حرب جديدة([3]).
وضجَّت وسائل الإعلام بنقل كلام بابا الفاتيكان، وردود الفعل عليه...* * *وصادف أن التقيتُ جاري (الأب نقولا) أمام الباب الخارجي للبناء الذي نقطنه، بعد ذيوع كلام البابا بأيام، فبادر كلّ منا الآخر بالتحية، وتصافحنا على عادتنا، وسأل كلّ منا الآخر عن صحته وأحواله... كما هو دأبنا كلما التقينا... لكنه زاد هذه المرة أن سألني قائلاً:- متى سيبدأ صومكم هذا العام؟.قلت: بعد ثلاثة أو أربعة أيام، بحسب ظهور هلال أول شهر رمضان القمري.قال: إذاً سأزورك في أول يوم من أيام رمضان، لأهنّئك ببدء الصوم.قلت: مرحباً بك.قال: ألديك برنامج محدد مساء يوم الصيام، حتى أتجنب الزيارة في وقت غير مناسب؟قلت: برنامجي مساء يوم الصيام هو التالي: أستمع إلى المؤذن وهو يؤذن لصلاة المغرب معلناً بدء الإفطار ذلك اليوم، ثم أتناول تمراتٍ أو شربة ماء بِنيَّة إنهاء صومي وبدء فطري ذلك اليوم، ثم أصلي المغرب، ثم أتناول طعام الإفطار... ثم أنتظر حتى يؤذَّن لصلاة العشاء، ثم أصلّي العشاء، ثم أصلي بعدها صلاة التراويح، وصلاتي كلها في المسجد. ثم أجلس في منـزلي للراحة، حيث تكون الساعة قد قاربت التاسعة مساءً بالتوقيت الشتوي.قال: إذاً موعدنا أول يوم من رمضان، الساعة التاسعة مساءً.قلت: إن شاء الله.فاستدرك قائلاً: لكن سيصحبني في زيارتي رجل لا تعرفه، يودُّ التعرف عليك، والحديثَ إليك.قلت: على الرُّحب والسَّعة، أنت وصاحبك.ثم ودَّع كلٌّ منا الآخر... وانطلقت أنا إلى وجهتي التي كنت أنتويها، وتابع هو صاعداً درج السلَّم إلى منـزله.* * *1- تفنيد فِرية السيف:وجاء أول يوم من رمضان من العام الهجري /1427/، وعند الساعة التاسعة رن جرس باب منـزلي، ففتحت، واستقبلت الضيفين مرحِّباً بهما... وعرَّفني (الأب نقولا) على صاحبه قائلاً:- صديقي (الأب ستيفانو) من الشعبة الثقافية في السفارة الإيطالية عندنا.فكرَّرت الترحيب بالضيف... وطفقنا نتجاذب أطراف الحديث... ثم قمت بواجب الضيافة...التزاماً مني بتعاليم الإسلام، وانطلاقاً من قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفه»([4]). وفي أثناء ذلك ابتدرني الأب ستيفانو قائلاً بالعربية مَشوبةً بلكنة أجنبية:- لديّ سؤال أرجو أن أجد جوابه عندك.قلت: أبشِر، إن كان الجواب في مقدوري.وأردفت مبتسماً: لعل سؤالك يدور حول عبارات بابا الفاتيكان الأخيرة؟.فتبسم الأب ستيفانو وهو يقول:- لا عليك؛ فهذه العبارات وأمثالها، تُلقى بين آونة وأخرى، بوحيٍ من بعض كبار الساسة، ليصلوا بها إلى أهداف خططهم المرسومة خِفية عن أعين الناس.. بدليل أن أصحاب هذه العبارات غالباً ما يتراجعون عنها، عندما يدركون خطرها..واستدرك قائلاً:- لكنْ على ذِكر كلام بابا الفاتيكان، أترى تهمة انتشار الإسلام بالسيف، حقاً أم باطلاً؟([5]).قلت: ومن أين لي أن أعرف هذا؟قال: من النصوص الأصلية التي تأخذون منها دينكم أنتم المسلمين.قلت: وأين أجد هذه النصوص؟.قال: من الثابت لدى الجميع، أن نصوصكم الأصلية موجودة في آيات (القرآن) كتابِ دِينِكم، وفي الأحاديث الصحيحة التي تروونها عن نبيكم، ثم ما صح من أخبار السيرة النبوية([6])عندكم.قلت: أوَ ترضى أنت بالاحتكام إلى هذه النصوص؟.قال:ولِمَ لا؟ إن جميع الأديان والمذاهب والفلسفات، لا نعرف حقيقتها إلا بالرجوع إلى نصوصها الأصلية التي يصدر عنها أصحابها، هكذا يقول العقل([7]).قلت: لقد أَنصفتَ، ولأعرضنَّ عليك من النصوص الأصلية التي رضيتَها، ثم لك أن تحكم بما يمليه عليك عقلك وإنصافك.قال:إني مُصغٍ.قلت: استمع معي إلى آيات القرآن الكريم التي تعلِّم نبي المسلمين، ثم المسلمين، طريقة نشر الدعوة الإسلامية بين الناس:- تقول الآية القرآنية مخاطبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكلَّ مسلم: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾([8])، أتجد هنا سيفاً أم حواراً؟قال: لا أجد هنا إلا حواراً، بل هو حوار لطيف حسن.قلت: وتقول الآية القرآنية مخاطبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكل مسلم: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾([9])، أتجد هنا سيفاً أم حواراً؟.قال: لا أجد هنا إلا حواراً، بل هو حوار لطيف حسن كسابقه.قلت: وتقول الآية القرآنية: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾([10])، وأهل الكتاب كما تعلم، هم اليهود والنصارى، أتجد هنا سيفاً أم حواراً؟قال: لا أجد هنا إلا حواراً، بل هو حوار لطيف حسن كسابقَيه.واستدرك قائلاً: لكن هل لك أن توضح لي كيف تتم هذه المجادلة بالتي هي أحسن، على أن نبقى ضمن النصوص الأصلية.قلت: لك هذا، ولن أخرج عن النصوص الأصلية قِيدَ أُنملة، فاستمع إلى تمام الآية السالفة ليتوضح لك ما تريد، قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْنَا وَأُنـزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[11]، أي أن علينا نحن المسلمين أن نبيِّن لهم – لليهود والنصارى – حقيقة ديننا الذي يعترف بنبوَّة جميع الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى لهداية البشر، ويصدِّق جميع الكتب التي أنـزلها عليهم، ومنها التوراة والإنجيل اللذان أُنـزلا على موسى وعيسى عليهما السلام.قال الأب ستيفانو: هذا حسن، لكن وردتْ في الآية التي ذكرتَها عبارةٌ أود أن توضحها لي.قلت: ما هي؟قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ من هم هؤلاء الذين استثنتهم الآية من الحوار والمجادلة الحسنة؟قلت: هؤلاء، هم الذين يسبُّون ويشتمون دين الإسلام ونبي الإسلام، ويعتدون على المسلمين ويظلمونهم، أينفع الحوار والمجادلة الحسنة مع هؤلاء؟.قال: لا، فالمعتدي يجب أن يحاسَب ويعاقَب، هكذا يقول العقل، ولو تركنا المعتدي على هواه، لألحق الأذى والضرر بالأبرياء.وأردف قائلاً: ولا أكتمك أن هذه اللفتة في الآية، فيها حفظ لكرامة المسلمين[12].قلت: لقد أَنصفتَ.قال: أنا أتفق معك من خلال هذه النصوص، أن الإسلام دين يدعو إلى الحوار، لكنْ...وصَمَتَ الأب ستيفانو قليلاً. فقلت مستحثاً إياه على المتابعة:- لكن ماذا؟قال: لكن إذا رفض الذين تحاورونهم الاستجابة إلى دعوتكم، ولم يُجدِ الحوار، فالسيف... أليس كذلك؟قلت: على رِسْلك، أمَا زلنا متفقَين على الاحتكام إلى النصوص الأصلية؟قال: بلى، ولن أعفيك من هذا الاتفاق.قلت: إذاً استمع إلى هذه الآية القرآنية التي تعلم نبي المسلمين وكل مسلم، كيفية الحوار مع النصارى واليهود، وكيفية الرد على الرافضين منهم. تقول الآية: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾[13]، وكرَّرتُ: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.وأردفت: أي إنْ رفَض النصارى واليهود ما تدعونهم إليه من توحيد الله وعبادته سبحانه وحده، فاتركوهم وشأنهم[14]، واثبتوا أنتم على الإسلام. أفي هذا سيف أو عنف أو إكراه؟قال الأب ستيفانو: الحقَّ أقول: لا سيف ولا عنف ولا إكراه.قلت: بل أوضح من هذا وأَبْـيَن، تقول الآية القرآنية مشيرةً إلى جميع البشر، من المِلل كافة: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾[15].
وكرَّرتُ: ﴿مَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾. ثم حساب المؤمن والكافر على الله سبحانه، وليس على البشر.وأردفت: بل أوضح من هذا وأَبْـيَن، تقول الآية القرآنية معلنة المبدأ العام في الدعوة إلى دين الإسلام: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[16]. وانطلاقاً من هذا المبدأ العام، أتدري ماذا فعل نبي المسلمين عندما رفض الكافرون بوحدانية الله الاستجابةَ لدعوته، وامتنعوا عن القبول بعبادة الله وحده، وأصروا على عباداتهم الضالَّة؟قال: ماذا فعل؟قلت: لم يجرِّد عليهم سيفاً، ولم يعنف بهم، ولم يحاول إكراههم بأي وسيلة، إنما التجأ إلى ربه، يدعوه ويستخيره فيما يفعل أو يقول بشأن هؤلاء الكافرين المعاندين، فنـزلت الآيات القرآنية ترشده وتوجهه وتقول له: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ{1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ{2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ{3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ{4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ{5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾[17].وكرَّرتُ: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.وتقول له: ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾[18].وتقول له: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي{14} فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ﴾[19].وأردفت: أهناك حرية دينية فوق هذا؟قال الأب ستيفانو: أشهد أن هذا عين الإنصاف!قلت: أعرفتَ الآن، إن كانت تهمة انتشار الإسلام بالسيف، حقاً أم باطلاً؟قال:أجل عرفت، إنها تهمة باطلة، وأشهد أن الإسلام بريء منها[20].* * *2- الغربيون ودراسة شخصية محمد (صلى الله عليه وسلم):وأردف الأب ستيفانو قائلاً: والآن أودُّ العودة إلى السؤال الذي جئتك لأجله.قلت:وما سؤالك؟.قال: إن بلادي أوفدتني إلى بلادكم رَجلَ دين، لا لأكرِّس وقتي لوعظ الناس... فعندكم من الواعظين المسلمين والنصارى ما يكفي وزيادة..قلت: لقد أَنصفتَ، فما سبب وِفادتك؟.قال: لقد كُلِّفت من قِبل الجهة التي أعمل فيها، بأن أكتب بحثاً عن (مظاهر الرحمة للبشر في شخصية محمد) نبيكم. وأن أدرس من خلال ذلك شخصية هذا النبي، أكانت قاسية رهيبة تتناسب مع تهمة مجيئه بالسيف ونشر دينه به؟ أم أنها كانت شخصية عطوفة رحيمة تتناقض مع هذه التهمة؟.قلت: وما الداعي إلى مثل هذا البحث؟.قال: إن مجتمعاتنا الغربية اليوم – بسبب ما يتردد في وسائل الإعلام – بات الشغلَ الشاغل لها سيرةُ نبيكم محمد.. ولم يجد المعنيون بهذا، وسيلةً أفضل من إعادة دراسة وتقويم سيرة محمد على ضوء الرجوع إلى النصوص الأصلية التي جاء بها، لأجل الوصول إلى الحقيقة غير المشوّهة عن محمد ودينه الذي جاء به. ثم عَرضِ هذه الحقيقة على المجتمعات الغربية، حتى يتسنى لها التخلص من كل ما لا يمتّ إلى الحقيقة بِصِلة.وأردف قائلاً: ولما عزمتُ البدءَ بالكتابة، وجدتني أولاً بحاجة إلى مطالعة ما سبق أن كتبه الغربيون، من مستشرقين ودارسين، عن شخصية محمد... واستغرق هذا مني قرابة سنة، كانت حصيلتها النتيجة التالية:لقد وجدتُ دارسي شخصية محمد من الغربيين ينقسمون فئتين:- فئة كتبت عنه بروح سلبية، وهؤلاء كانوا ينطلقون من وجهة نظر عدائية، كانت تثيرها الكنيسة الغربية منذ القديم.. والغرض منها تشويه صورة محمد في نظر الغربيين، حتى يَنفِروا منه ومن دينه، فلا ينجذبون إليه، ولا يعتنقون دينه!وكان من هؤلاء المشوِّهين قدماءُ ومُحْدَثون:أما القدماء، فقد كشف الفيلسوف الفرنسي (رينان) أمرهم لعامة الناس حتى لا ينخدع أحد بأقوالهم.. وشهد على تحاملهم وحقدهم السافر على محمد، فقال: «لقد كتب المسيحيون تاريخاً غريباً عن محمد.. إنه تاريخ يمتلئ بالحقد والكراهية له. لقد ادّعوا أن محمداً كان يسجد لتمثال من الذهب كانت تخبئه الشياطين له! ولقد وصفه دانتي بالإلحاد في رواية (الجحيم)، وأصبح اسم محمد عنده وعند غيره، مرادفاً لكلمة كافر أو زنديق!ولقد كان محمد في نظر كتّاب العصور الوسطى، تارة ساحراً، وتارةً أخرى فاجراً شنيعاً، ولصاً يسرق الإبل، وكاردينالاً لم يفلح في أن يصبح (بابا) فاخترع ديناً جديداً أسماه (الإسلام) لينتقم من أعدائه! وصارت سيرته رمزاً لكل الموبقات، وموضوعاً لكل الحكايات الفظيعة»[21].وتابع: ويزداد كلام رينان وضوحاً، عندما نقرأ ما كتبه المستشرق السويسري (جون وانبورت) في كتابه (محمد والقرآن) إذ قال: «بقدر ما نرى من صفة محمد الحقيقية بعين البصيرة والتروي في المصادر التاريخية الصحيحة، بقدر ما نرى من ضعف البرهان، وسقوط الأدلة لتأييد الهجو الشديد، والطعن القبيح، الذي انهال عليه من أفواه المغرضين، والذين جهلوا حقيقة محمد ومكانته».وعندما نقرأ ما كتبه (برنارد شو) في كتابه (محمد) الذي أحرقته السلطات البريطانية: «إن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجة للجهل والتعصب، قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة».* * *وتابع الأب ستيفانو قائلاً:- وأما المُحْدَثون من هؤلاء المشوِّهين.. المُحْدَثون الذين يدَّعون أنهم درسوا حياة محمد بحسب المنهج العلمي النقدي، الذي يقول بوجوب طرحِ الدارسِ كلَّ الأهواء والميول الشخصية جانباً، قبل البدء بالدراسة.. هؤلاء يحدثنا المستشرق النمساوي (ليوبولد فايس)[22] في كتابه (الإسلام على مفترق الطرق) عن طريقتهم في دراسة الإسلام والسيرة النبوية قائلاً: «إن طريقة الاستقراء والاستنتاج التي يتبعها أكثر المستشرقين –عند دراستهم للإسلام والسيرة النبوية – تذكِّرنا بوقائع دواوين التفتيش! تلك الدواوين التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية لخصومها في العصور الوسطى، أي أن تلك الطريقة لم يتفق لها أبداً أن نظرت إلى القرائن التاريخية بتجرد، لكنها كانت في كل دعوى تبدأ باستنتاجٍ متفق عليه من قبل، قد أملاه عليها تعصبها لرأيها»[23].ثم يقول في كتابه هذا أيضاً عن هذه الفئة: «أما تحامل المستشرقين على الإسلام، فغريزة موروثة، وخاصةٌ طبيعية، تقوم على المؤثرات التي خلَّفتها الحروب الصليبية بكل مالها من ذيول في عقول الأوروبيين»[24].وتابع الأب ستيفانو قائلاً:- وفي هؤلاء المُحْدَثين من المشوِّهين يقول المستشرق الفرنسي (آتيين دينيه) في كتابه (محمد رسول الله) مصوِّراً الحالة المتدنية التي وصلت إليها كتابة السيرة النبوية على يد بعض المستشرقين: «إنه من المتعذر، بل من المستحيل، أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونـزعاتهم المختلفة، وإنهم – لذلك – قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغاً يخشى على صورتها الحقيقية من شدة التحريف فيها! وبرغم ما يزعمون من اتِّباعهم لأساليب النقد البريئة، ولقوانين البحث العلمي الجاد، فإننا نجد – من خلال كتاباتهم – محمداً يتحدث بلهجة ألمانية إذا كان المؤلف ألمانياً! وبلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطالياً!.. وهكذا تتغير صورة محمد بتغير صورة الكاتب! وإذا بحثنا في هذه السيرة عن الصورة الصحيحة، فإننا لا نجد لها من أثر.إن المستشرقين يقدمون لنا صوراً خيالية هي أبعد ما تكون عن الحقيقة! إنها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التاريخية التي يؤلفها أمثال (ولتر سكوت –وإسكندر ديماس) وذلك أن هؤلاء يصورون أشخاصاً من أبناء قومهم، فليس عليهم إلا أن يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أما المستشرقون فلم يمكنهم أن يلبسوا الصورة الحقيقية لأشخاص السيرة، فصوروهم حسب منطقهم الغربي، وخيالهم العصري».ثم يقول: «ما رأي الأوروبيين في عالِم من أقصى الصين، يتناول المتناقضات التي تكثر عند مؤرخي الفرنسيين، ويمحِّصها بمنطقه الشرقي البعيد، ثم يهدم قصة (الكاردينال ريشيلو) كما نعرفها، ليعيد إلينا (ريشيلو) آخر له عقلية كاهن من كهنة بكين، وسِماته وطبعه؟!.إن مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة فيما يتعلق بسيرة محمد، ويخيل إلينا أننا نسمع محمداً يتحدث في مؤلفاتهم، إما باللهجة الألمانية، أو الإنكليزية، أو الفرنسية، ولا نتمثله قط - بهذه العقلية والطباع التي أُلصقت به - يحدِّث عرباً باللغة العربية»[25].وتابع الأب ستيفانو قائلاً:- ويقول المستشرق (مونتغومري وات) في كتابه (محمد في مكة) عن هؤلاء المشوِّهين:«وإذا حدث أن كانت بعض أراء العلماء الغربيين، غير معقولة عند المسلمين، فذلك لأن العلماء الغربيين لم يكونوا دائماً مخلصين لمبادئهم العلمية، وأن آراءهم يجب إعادة النظر فيها من وجهة النظر التاريخية الدقيقة»[26].ويقول عنهم المستشرق (مكسيم رودنسون) في معرض تقويمه ما كتبه العلماء الغربيون المُحدَثون عن الإسلام ونبي المسلمين: «يمكن القول بصورة عامة، إن العلماء في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان يزيد ضررهم على نفعهم، وذلك لتأثرهم بالأحكام الشائعة لا بالعلم»[27].* * *وأردف الأب ستيفانو قائلاً: أما أنا، فبعدما تعرفتُ على ما كتبه القدماء والمُحدَثون من هذه الفئة المشوِّهة، أدركت أن هؤلاء الكتَّاب كانوا على قدر كبير من الجهل بحياة وسيرة محمد الحقيقية، وأدركتُ أنهم لم يُجَشِّموا أنفسهم عناء الرجوع إلى النصوص والمصادر الأصلية لسيرة محمد[28].وأستطيع أن أقول، وأنا مطمئن الاطمئنانَ كلَّه لما أقول: لقد ساد دراسات هؤلاء الغربيين من مستشرقين ودارسين لحياة محمد، كثير من التعسف في تفسير النصوص والأحداث، بسبب الأهواء الدينية والعنصرية، أو بسبب سوء الفهم للإسلام وأحكامه ونظمه ومقاصده[29].وأردف: ولأجل هذا كله، لم أستطع أن أُفيد من كتابات هذه الفئة المشوِّهة، في بحثي الذي أنا بسبيله.* * *قلت: والفئة الأخرى؟قال: الفئة الأخرى، كتبتْ عن شخصية محمد بروح إيجابية، وهؤلاء كانوا ينطلقون في كتاباتهم إما من وجهة نظر وُدِّية متعاطفة، وإما من وجهة نظر منصفة تَنشدُ الحقيقة[30].وقد حاولت الإفادة مما كتبوه.. إلا أنني بعدما اطلعت على كتبهم، وجدتُني لا أستطيع الاكتفاء بما طالعت منها وقرأت، برغم تلك الصورة الزاهية لمحمد في هذه الكتب.قلت: ولِمَ تعتقد هذا؟قال: لقد وجدتُ هذه الفئة من الدارسين، منهم من درس محمداً العبقري، من خلال مظاهر العبقرية البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من العباقرة في التاريخ البشري.ومنهم من درس محمداً الفيلسوف، من خلال مبادئ الفلسفة البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من الفلاسفة في التاريخ البشري.ومنهم من درس محمداً المصلح الديني، من خلال سُبُل الإصلاح الديني البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من المصلحين الدينيين في التاريخ البشري.ومنهم من درس محمداً القائد العسكري، من خلال النظم العسكرية البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من القواد العسكريين في التاريخ البشري.ومنهم من درس محمداً المُشَرِّع، من خلال التشريعات والقوانين البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من المشرعين وواضعي القوانين في التاريخ البشري.إلى غير هذا من صفات العظمة البشرية التي كانوا يستخلصونها من سيرة محمد، وكانوا في كل صفة منها يضعون محمداً في القمة على رأس الجميع!.قلت: وماذا في ذلك؟قال: فيه أنهم بهذا يدرسون محمداً على أنه عظيم من عظماء البشر، يتمتع بصفات متميزة كغيره من عباقرة الرجال[31]... لكنهم يَغفلون عن مناقشة النتيجة التي كانوا يصلون إليها دائماً، وهي أن محمداً دائماً في القمة بين العظماء جميعاً! مهما كانت صفة العظمة التي يدرسونها فيه. بل هو دائماً يجمع كل صفات العظمة... بينما غيره من العظماء يتوزعون فيما بينهم هذه الصفات.. التي تجمعت فيه وحده! فلماذا؟قلت: وهل في هذا ما يثير التساؤل؟قال: أجل، كان الأجدر بأولئك الدارسين، عندما وصلوا جميعاً إلى نتيجة واحدة، أن يتساءلوا: لماذا محمد دون غيره، هو دائماً في القمة؟ ولماذا محمد دون غيره، تجتمع له صفات العظمة، بينما هي لا تجتمع لغيره من العظماء الذين نعرف سِيَر حياتهم؟وأردف: كان عليهم أن يناقشوا هذا، ويصلوا إلى سرِّ هذه النتيجة.قلت: وهل تنبهتَ أنت لِما غفلوا عنه؟قال: أجل.قلت: هل لك أن تحدثني بما تنبهتَ له؟قال: لا بد لي من أن أحدثك به، حتى أصل إلى الفائدة التي أتوقعها منك في كتابة بحثي، فأصغ إلي.* * * 3- أثر البيئة والوراثة في عَظَمة النبي (صلى الله عليه وسلم):وتابع قائلاً: من الشائع لدى الباحثين والدارسين، أن أهم ما يتحكم في طبيعة الإنسان - وبخاصة العبقري المتميز - عاملان رئيسان هما: عامل البيئة - و عامل الوراثة.أما عامل البيئة: فمن المتفق عليه أن البيئة التي ينشأ ويتربّى فيها الإنسان، ذات أثر خطير في سجل حياته، وفي إكسابه الكثير من الصفات التي يُطل بها على مجتمعه.فالفيلسوف العبقري، يجب أن يعيش في بيئة فلسفية.. ولم يتهيأ هذا لمحمد في بيئته البدوية الأمّية التجارية.والمصلح الديني العبقري، يجب أن يطالع المذاهب والأديان وحياة المجتمعات.. ضمن بيئة ثقافية تهتم بمثل هذا.. ولم يتهيأ هذا لمحمد في بيئته البدوية الأمّية التجارية.والقائد العسكري العبقري، يجب أن يعيش في بيئة عسكرية محاربة.. ولم يتهيأ هذا لمحمد، ولم نعلَمه يشارك في المعارك والحروب إلا بعد الخمسين من عمره.. بل هو وجد نفسه لأول مرة يقود معركة حربية - هي معركة بدر - وهو يقارب الخامسة والخمسين من عمره، بل هو أخذ بمشورة بعض أصحابه قبل بدء المعركة[32].والمشرِّع العبقري، يجب أن يكون دارساً للقوانين، مطَّلعاً على نظم الحكم في أيامه وقبل أيامه.. ولم يتهيأ هذا لمحمد في بيئته البدوية الأمّية التجارية.إلى آخر ما هنالك من صنوف العبقرية والعظمة..فهل كان للبيئة التي عاشها محمد دور في كونه أعظم العظماء؟ والجواب حتماً: لا، لأن جميع من كانوا حول محمد عاشوا في بيئته، لكن لم يكن فيهم واحد مثله! مع أن منهم - بحسب ما عرفتُه عنهم - من لا يقل كفاءة بشرية عنه.. لكنّ الجميع كانوا يشعرون بأن محمداً الذي كان يعيش بينهم، يتميز عنهم بأمر لا يستطيعونه.. أمرٍ خصه الله سبحانه به دون سائرهم.. ولولا هذا الأمر لأمكن للكثيرين منهم أن ينافسوا محمداً في بعض مظاهر العظمة، منافسة أبناء البيئة الواحدة.* * * وأردف قائلاً: وأما عامل الوراثة: فمن المتفق عليه أن للصفات الوراثية أثر خطير في سجل حياة الإنسان، وفي إكسابه الكثير من الصفات التي يُطل بها على مجتمعه.ولو درسنا شخصيات أجداد محمد وآبائه، من خلال ما حفظته الروايات من أخبارهم، لوجدنا صفاتِ عظمةٍ متناثرةً بينهم.. فقد كانوا من خيرة الناس في مجتمعهم[33]، لكن لن نجد فيهم واحداً مثل محمد[34]، وكذلك لن نجد مثله في ذريته..* * * وأردف الأب ستيفانو متسائلاً:- لماذا لم يَرقَ واحد من بني البشر إلى رتبة محمد؟!- لماذا يقول عنه الشاعر الفرنسي الشهير (لامارتين): «إن محمداً هو أعظم رجل»[35].- ولماذا يقول (لامارتين) أيضاً في كتابه (تاريخ الأتراك): «بالنظر لكل مقاييس العظمة البشرية، أود أن أتساءل: هل هناك من هو أعظم من النبي محمد؟»[36].- ولماذا يقول المستشرق (جون دريبر) في كتابه (تاريخ التطور الفكري الأوربي): «الرجل الذي كان له من دون الرجال جميعاً ، أعظمُ تأثيرٍ على الجنس البشري.. هو محمد»[37].
- ولماذا يقول عنه المستشرق الآسوجي (سينرستن): «هو فوق عظماء التاريخ»[38].- ولماذا يجعله المستشرق (توماس كارليل): «بطل الأبطال»[39].- ولماذا يؤلف الباحث الأمريكي (مايكل هارت) كتاباً عنوانه «الخالدون المئة» ويجعل أعظمهم محمداً[40].- ولماذا تؤلف مجموعة من الباحثين الغربيين كتاباً بعنوان: (الخمسون الذين كانوا أعظم شأناً في التاريخ) فيكون محمد هو الأول من بين هؤلاء الخمسين[41]!.
وأردف متسائلاً بتصميم: ما سرُّ محمد؟!.* * *4- سرّ عَظَمة النبي (صلى الله عليه وسلم):قلت: ما سرّه؟.قال: إن سرّ عظمة محمد المتفرِّدة، لست أنا أول من اكتشفه، لقد سبقني إليه باحثون غربيون آخرون.. لكنهم قِلَّة.. منهم من اعتنق الإسلام، ومنهم من لم يعتنقه. وكان من أوائل هؤلاء، الشاعر الفرنسي (لامارتين) الذي يقول في كتابه (السفر إلى الشرق): «إن محمداً فوق البشر، ودون الإله، فهو رسول بحكم العقل». ثم يقول: «إن اللغز الذي حله محمد في دعوته، فكشف فيه عن القيم الروحية.. هو أعلى ما رسمه الخالق لبني البشر»[42].وأردف الأب ستيفانو قائلاً بابتهاج:- هذا هو السر.. إن محمداً نبي مرسل من الله سبحانه، إن محمداً رسول الله إلى بني البشر، حمل إليهم رسالة فيها أعلى ما رسمه الخالق لبني البشر. ولهذا وجده دارسوه من هذه الفئة ذات الروح الإيجابية من الغربيين، لهذا وجدوه دائماً في قمة العظمة، بجميع مظاهر وصفات العظمة التي يعرفونها.إنه نبي، وصفات النبي تقصِّر دونها مقاييس البشر، لأن عظمة الأنبياء مستمدة من وحي الله تعالى. وتحت عنوان (رسول الله) تحت هذا العنوان فقط يجب أن تدرس شخصية محمد، لأن النبوة والرسالة هي التي وصلت به إلى ما وصل إليه، وإغفالها من دراسة شخصيته هو إغفال للركن الأساس الذي بنيت عليه هذه الشخصية0هكذا يقول العقل.قلت: لقد أَنصفتَ أيها الأب ستيفانو، وأصبتَ كبد الحقيقة، وإنَّ ما توصلت إليه أنت وبعض الباحثين الغربيين عن طريق العقل، هو عين ما جاءت به النصوص الأصلية التي اتفقنا على الاحتكام إليها.قال: ماذا تقول النصوص الأصلية؟قلت: تقول الآية القرآنية مخاطبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾[43]. وتقول الآية القرآنية: ﴿ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾[44].أي أن ما يتميز به محمد عنكم أيها الناس، لا يكمن في صفاته البشرية، إنما يكمن في كونه رسول الله، الذي يوحي إليه الله سبحانه.* * *