ام حفصه
07 Nov 2012, 11:55 AM
منذر بن سعيد البلوطي أبو الحكم الأندلسي، بن عبد الله بن عبد الرحمن القرطبي،: قاضى قضاة الأندلس في عصره،. كان فقيها محققا، وخطيبا بليغا مفوها.
كان الخليفة الناصر لدين الله كلِفاً بعمارة الأرض وإقامة معالمها ، وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعز السلطان ؛ فأقضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء ، البناء الذي شاع ذكره: استفرغ وسعه في تنميقها، وإتقان قصورها، وزخرفة مصانعها. فانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه ثلاث جمع متوالية؛
وكان منذر بن سعيد يتولى خطبة الجمعة والقضاء, ورأى- خروجاً من تبعة التقصير فيما أوجبه الله على العلماء - أن يلقي على الخليفة الناصر درسا بليغا يحاسبه فيه على إسرافه وإنفاقه في مدينة الزهراء , ورأى أن يكون ذلك على ملأ من الناس في المسجد الجامع بالزهراء ..
فلما كان يوم الجمعة اعتلى المنبر والخليفة الناصر حاضر والمسجد غاضّ بالمصلين وابتدأ خطبته فقرأ قوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ*وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، [الشعراء: 128-135].
ثم مضى في ذم الإسراف على البناء بكل كلام جزل وقول شديد, ثم تلا قوله تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، [ التوبة 109].
وراح يحذر وينذر ويحاسب حتى ادكر من حضر من الناس وخشعوا وأخذ الناصر من ذلك بأوفر نصيب , وقد علم أنه المقصود به فبكى وندم على تفريطه. غير أن الخليفة لم يحتمل صدره لتلك المحاسبة العلنيّة ولشدة ما سمع، فقال شاكيا لولده الحكم: والله لقد تعمّدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري, فأسرف عليّ وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي، ثم استشاط غيظا عليه متذكّراً كلماته وأراد أن يعاقبه لذلك!!.
فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة الجمعة خاصة, وجعل يلزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف خطيب جامع قرطبة.
ولكن لما رأى ولده الحكم تعلق والده بالزهراء والصلاة في مسجدها العظيم. قال له: ما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة به إذا كرهته؟ ولكن الناصر زجره وانتهره قائلا:
أمثل منذر بن سعيد في فضله وعلمه وخيره (لا أمّ لك) يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الحق؟؟!!،
هذا ما لا يكون, وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه, ولكنه أحرجني فأقسمت, ولوددت أن أجد سبيلا إلى كفارة يميني, بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله, فما أظن أنا نعتاض منه أبدا.
ولما اشتدت الفجوة بين الشيخ منذر بن سعيد والخليفة عبد الرحمن نتيجة محاسبة المنذر له في إسرافه على بناء الزهراء, أراد ولده الحكم أن يزيل ما بينهما فاعتذر له عند الخليفة.
فقال: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح وما أراد إلا خيراً, لو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك (ويريد بالبنية هنا القبة التي بناها الناصر بالزهراء واتخذ قرامدها من فضة وبعضها من مغش بالذهب, وجعل سقفها نوعين صفراء فاقعة إلى بيضاء ناصعة يستلب الأبصار شعاعها).
فلما قال له ولده ذلك أمر ففرشت بفرش الديباج وجلس فيها لأهل دولته. ثم قال لقرابته وزرائه: أرأيتم أم سمعتم ملكا كان قبلي صنع مثل ما صنعت؟. فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين, وإنك الأوحد في شأنك.
فبينما هم على ذلك, إذ دخل منذر بن سعيد ناكساً رأسه, فلما أخذ مجلسه قال له ما قال لقرابته, فأقبلت دموع المنذر تنحدر على لحيته لسوء ما رأى. وقال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ, ولا أن تمكنه من قبلك هذا التمكن مع ما آتاك الله وفضلك به على المسلمين حتى ينزلك منازل الكافرين. فاقشعر الخليفة من قوله وقال له: انظر ما تقول كيف أنزلني الله منازلهم؟. فقال: نعم, أليس الله تعالى يقول: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [ الزخرف: 33]. فوجم الخليفة واطرق مليا, و دموعه تنحدر على لحيته ثم أقبل على المنذر وقال له: جزاك الله خيرا وعن الدين خيرا, فالذي قلت هو الحق. ثم قام من مجلسه, وأمر بنقض سقف القبة وأعادها ترابا على صفة غيرها.
******************************
تاريخ قضاة الأندلس لعبد الله بن الحسن النباهي المالقي (1/68- 72)، وشذرات الذهب لابن العماد (3/ .3)، والسير (16/ 177
الصورة؛
قاعة العرش ومجلس الخليفة عبد الرحمن الناصر من الداخل بعد ترميمه واستعمال سواري رخامية من نفس الالوان الاصلية.
كان الخليفة الناصر لدين الله كلِفاً بعمارة الأرض وإقامة معالمها ، وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعز السلطان ؛ فأقضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء ، البناء الذي شاع ذكره: استفرغ وسعه في تنميقها، وإتقان قصورها، وزخرفة مصانعها. فانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه ثلاث جمع متوالية؛
وكان منذر بن سعيد يتولى خطبة الجمعة والقضاء, ورأى- خروجاً من تبعة التقصير فيما أوجبه الله على العلماء - أن يلقي على الخليفة الناصر درسا بليغا يحاسبه فيه على إسرافه وإنفاقه في مدينة الزهراء , ورأى أن يكون ذلك على ملأ من الناس في المسجد الجامع بالزهراء ..
فلما كان يوم الجمعة اعتلى المنبر والخليفة الناصر حاضر والمسجد غاضّ بالمصلين وابتدأ خطبته فقرأ قوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ*وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، [الشعراء: 128-135].
ثم مضى في ذم الإسراف على البناء بكل كلام جزل وقول شديد, ثم تلا قوله تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، [ التوبة 109].
وراح يحذر وينذر ويحاسب حتى ادكر من حضر من الناس وخشعوا وأخذ الناصر من ذلك بأوفر نصيب , وقد علم أنه المقصود به فبكى وندم على تفريطه. غير أن الخليفة لم يحتمل صدره لتلك المحاسبة العلنيّة ولشدة ما سمع، فقال شاكيا لولده الحكم: والله لقد تعمّدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري, فأسرف عليّ وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي، ثم استشاط غيظا عليه متذكّراً كلماته وأراد أن يعاقبه لذلك!!.
فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة الجمعة خاصة, وجعل يلزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف خطيب جامع قرطبة.
ولكن لما رأى ولده الحكم تعلق والده بالزهراء والصلاة في مسجدها العظيم. قال له: ما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة به إذا كرهته؟ ولكن الناصر زجره وانتهره قائلا:
أمثل منذر بن سعيد في فضله وعلمه وخيره (لا أمّ لك) يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الحق؟؟!!،
هذا ما لا يكون, وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه, ولكنه أحرجني فأقسمت, ولوددت أن أجد سبيلا إلى كفارة يميني, بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله, فما أظن أنا نعتاض منه أبدا.
ولما اشتدت الفجوة بين الشيخ منذر بن سعيد والخليفة عبد الرحمن نتيجة محاسبة المنذر له في إسرافه على بناء الزهراء, أراد ولده الحكم أن يزيل ما بينهما فاعتذر له عند الخليفة.
فقال: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح وما أراد إلا خيراً, لو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك (ويريد بالبنية هنا القبة التي بناها الناصر بالزهراء واتخذ قرامدها من فضة وبعضها من مغش بالذهب, وجعل سقفها نوعين صفراء فاقعة إلى بيضاء ناصعة يستلب الأبصار شعاعها).
فلما قال له ولده ذلك أمر ففرشت بفرش الديباج وجلس فيها لأهل دولته. ثم قال لقرابته وزرائه: أرأيتم أم سمعتم ملكا كان قبلي صنع مثل ما صنعت؟. فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين, وإنك الأوحد في شأنك.
فبينما هم على ذلك, إذ دخل منذر بن سعيد ناكساً رأسه, فلما أخذ مجلسه قال له ما قال لقرابته, فأقبلت دموع المنذر تنحدر على لحيته لسوء ما رأى. وقال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ, ولا أن تمكنه من قبلك هذا التمكن مع ما آتاك الله وفضلك به على المسلمين حتى ينزلك منازل الكافرين. فاقشعر الخليفة من قوله وقال له: انظر ما تقول كيف أنزلني الله منازلهم؟. فقال: نعم, أليس الله تعالى يقول: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [ الزخرف: 33]. فوجم الخليفة واطرق مليا, و دموعه تنحدر على لحيته ثم أقبل على المنذر وقال له: جزاك الله خيرا وعن الدين خيرا, فالذي قلت هو الحق. ثم قام من مجلسه, وأمر بنقض سقف القبة وأعادها ترابا على صفة غيرها.
******************************
تاريخ قضاة الأندلس لعبد الله بن الحسن النباهي المالقي (1/68- 72)، وشذرات الذهب لابن العماد (3/ .3)، والسير (16/ 177
الصورة؛
قاعة العرش ومجلس الخليفة عبد الرحمن الناصر من الداخل بعد ترميمه واستعمال سواري رخامية من نفس الالوان الاصلية.