سنا البرق
24 Dec 2004, 12:15 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يذكرُ العلاّمةُ الأديبُ بديعُ هذا الزمانِ : عليٌّ الطنطاويُّ – برّدَ اللهُ مضجعهُ – في أحدِ أجزاءِ كتابهِ " ذكريات" أنّهُ أحصى مجموعَ ما قرأهُ في حياتهِ إلى سنةِ 1405 هـ - أي قبلَ وفاتهِ بأكثرَ من 15 سنةً – فبلغَ 2500000 صفحةً تقريباً ، وذلك لأنّهُ شغلَ ليلهُ ونهارهُ في المطالعةِ والنظرِ ، وأصبحَ يقرأ ما يزيدُ على 100 صفحةٍ يوميّاً .
فكم يا تُرى يبلغُ المجموعُ لو أضفنا عليها السنواتِ الباقيةَ ، وهي 15 سنةً تامّةً وافيةً ، تلكَ السنواتُ التي تفرّغَ فيها للمكثِ في البيتِ ، وانقطعَ عن النّاسِ ، وصارتِ المكتبةُ ملاذهُ وأنسهُ ؟ .
هؤلاءِ هم الرّجالُ حقّاً .
لا بُدَّ لنا من وقفةٍ جادّةٍ صادقةٍ مع هذا العمرِ الذي نُبدّدُهُ شذرَ مذرَ ، دونَ أن نُضيفَ إلى رصيدِنا المعرفيِّ شيئاً يُذكرُ ، تُسرقُ بهجةُ الحياةِ من بينِ أيدِنا بأيدينِا ! ، فمن نُحاكمُ ونحنُ الجناةُ والمجنيُّ عليهم ؟ .
القراءةُ والعلمُ والبحثُ من أجملِ ما في الحياةِ ، حينَ تُنقّلُ فكركَ وعقلكَ في عصورٌ خلتْ ، وأقوامٍ بادتْ وانتهتْ ، تجوبُ الديارَ وتقطعُ المسافاتِ ، وأنتَ قابعٌ في بيتكَ ومكتبكَ ، فتستلهمُ العبرَ وتأخذُ الدروسَ ، وتطربُ طوراً وتحزنُ أخرى ، وتبكي وتضحكُ ، تجمعُ ما تناقضَ من حالكَ في جلسةٍ واحدةٍ ، وتستدعي عباقرةَ العلمِ ودهاقنةَ السياسةِ في مكانٍ واحدٍ ، فتأمرَ هذا بأن يُبينَ وتُخرسُ ذاكَ ، وهكذا دواليكَ .
نعتقدُ أو يعتقدُ بعضُنا أنّهُ سوفَ يبلغُ المجدَ بالكسلِ والتواني ، أو أنّهُ سوفَ يظفرُ بالعلياءِ وهو حِلسُ الجهالةِ أو سميرُ اللعبِ أو نديمُ الفراغِ ، كلاّ وربّي ، لا بُدَّ من الكدِّ والجُهدِ والنصبِ ، حتّى تقطفَ ثمرةَ ذلكَ كلّهُ نجاحاً وفلاحاً .
لا يستوي من أنفقَ دهرهُ علماً وبحثاً ونظراً ، وآخرُ أنفقهُ سهراً وضياعاً ولعباً ، لا يستوي من يقرأ ليلهُ ونهارهُ ، وآخرُ يقضي وقتهُ في الكلامِ ، ويُشتّتُ عمرهُ في ما لا فائدةَ من وراءهِ .
ادفعْ من عمركَ ما شئتَ للجدِّ والمُستقبلِ ، تنلْ مقدارهُ من الحظِّ والمكانةِ والسموِّ ، وادفعْ مثلهُ في اللعبِ والمضيعةِ والتوافهِ ، تنلْ مقدارهُ وأزيدَ من الضعةِ والهوانِ والخمولِ ، لا يستوي عندَ اللهِ ولا عندَ النّاسِ من جدَّ واجتهدَ ، وآخرُ نامَ حتّى نفخَ ، وأكلَ حتّى بشمَ ، وجهلَ حتّى سقطَ .
يذكرُ البروفيسور : مُصطفى فقي – أسعدَ اللهُ أيّامهُ - أنّهُ يقرأ كلُّ أسبوعٍ سبعةَ كُتبٍ ، هكذا ألزمَ نفسهُ وأوجبَ عليها ، لا بُدَّ أن يقرأ ، ولا بُدَّ أن يتثقّفَ ، مع أنّهُ رجلٌ قد ملأ الدّنيا وشغلَ النّاسَ ، وأصبحَ من الأفذاذِ الذين يُشارُ إليهم بالبنانِ .
وهذا العلاّمةُ الكبيرُ : محمودُ شاكر – برّدَ اللهُ مضجعهُ - مكثَ في عزلةٍ فرضها على نفسهِ 40 سنةً يقرأ ويبحثُ ، وأعرضَ في فترتهِ تلكَ عن رِفاقهِ وصحبهِ ، وكانتْ بدايةَ تلكَ العُزلةِ مسألةٌ أثارها الدكتورُ : طه حُسين ، حدت بمحمود شاكر أن يقرأ ويقرأ ، فقرأ جميعَ ما وقعتْ عينهُ عليهِ من كتابٍ في مكتبةِ أبيهِ العامرةِ ، ولهُ في ذلكَ خبرٌ وقصّةٌ مليئةٌ بالعبرِ والعِظاتِ ، مذكورةٌ في مقالاتهِ التي طُبعتْ أخيراً .
ونالَ ما تمنّى ! ، وصارَ أعلمَ أهلِ الأرضِ بالعربيّةِ والتُراثِ ، بل قيلَ : إنّهُ لم يأتِ بعدَ الجاحظِ رجلٌ وسِعَ علمَ العربيّةِ أو كادَ مثلَ محمودٍ – رحمهُ اللهُ - .
تخيّلوا لو كنّا في زمنِ المخطوطاتِ والخطوطِ الدقيقةِ ، هل كنّا سنقرأ شيئاً ؟ ، نحنُ في زمانِ الكُتبِ المزركشةِ والمزخرفةِ ، والمطبوعةِ بأجودِ الورقِ وأفضلِ الألوانِ ، لا نقرأ إلا لماماً ! ، وإذا قرأنا أصابَ الكثيرَ منّا ما أصابهُ من الدّوارِ والصّداعِ ، كأنّما يُساقُ إلى الموتِ وهو ينظرُ ! .
هل يصحُّ أن نسألَ هذه الأيّامَ : كم ساعةً تقرأ في اليومِ ؟ ، خاصّةً وأنّي أعرفُ صديقاً يقرأ من يومهِِ ما يزيدُ على 15 ساعةً ، ولا ينامُ إلا قليلاً .
أكثرُنا لا يعرفُ الكتابَ إلا في الشهرِ مرّةً ، هذا فيما لو عرفهُ ، و يجلسُ بالساعاتِ الطوالِ على قناةِ الجزيرةِ ، أو الإنترنت ، أو على الأحاديثِ العابرةِ في مجلسِ السمرِ والسهرِ ، ولكنّهُ لا يُكلّفُ نفسهُ عناءَ القراءةِ في كتابٍ واحدٍ ، يختمهُ من الجلدةِ إلى الجلدةِ .
وهل أصبحتِ القراءةُ عناءً حتّى أقولَ : يكلّفُ نفسهُ عناءَ القراءةِ ! ، لقد تغيّرَ الزمانُ ، وصارتْ أدواتُ المعرفةِ والبحثِ ضرباً من الجنونِ ، ينفرُ عنها النّاسُ ، ويشعرونَ بالغربةِ حينَ النظرِ فيها ، وترى الكتبَ تغبرُّ ثمَّ تهترىءُ وتتفتتُ ، وهي تجأرُ إلى اللهِ بالدّعاءِ ، أن يُغيثها بمن ينظرُ فيها .
إنَّ قيمةَ كلِّ إنسانٍ هو ما يُحسنهُ ويُتقنهُ ، والعلمُ أشرفُ الأشياءِ ، ويكفيهِ شرفاً أنَّ الكلِّ يدعيهِ ولو عروا عنهُ وخلوا منهُ ، ويكفي الجهلَ سُبّةً وعاراً أنَّ الجميعَ ينفرُ منهُ ولا يرضى أن يُنسبُ له ، حتّى لو كانَ من أهلهِ .
نحنُ – المسلمينَ – أمّةُ المعرفةِ والعلمِ والقراءةِ : (( اقرأ باسمِ ربّكَ الذي خلقَ ، خلقَ الإنسانَ من علقٍ ، اقرأ وربُّكَ الأكرمُ ، الذي علّمَ بالقلمِ ، علّمَ الإنسانَ ما لم يعلمْ )) ، هذه هي بدايةُ الدّينِ ، إنّها المعرفةُ والعلمُ ، وأساسُها القراءةُ والنظرُ ، وبقدرِ ما يعظمُ شأنُ العلمِ وأثرهُ في النفسِ ، يكونُ سموُّ الإنسانِ وارتفاعهُ وعلوّهُ .
وإذا كانَ هذا هو دينُنا وهذه دعوتهُ إلى العلمِ والمعرفةِ ، فما بالُ أكبرِ مكتبةٍ في العالمِ توجدُ عندَ غيرِ المُسلمينَ ، وهي مكتبةُ الكونغرس ! ، أليسَ فينا من يقضي حقَّ العلمِ ويُقيمُ مكتبةً تُشدُّ إليها الرحالُ من جميعِ الأقطارِ ، ويقصدُها طُلاّبُ العلمِ ؟ ، أولا تجدُ المعرفةُ والحِكمةُ من ينفقُ عليها شيئاً من المالِ ، كما يُنفقُ على اللعبِ والمجونِ من الكثيرِ من النّاسِ ؟ .
لماذا لا ننشئُ جامعاتٍ ومراكزَ بحثٍ ودراسةٍ كما في هارفرد وكامبردج ويال وبرنستون و MIT ، وغيرِها من مراكزِ البحثِ والجامعاتِ الشهيرةِ في العالمِ الغربيِّ ؟ ، ألسنا ألصقَ بالعلمِ والمعرفةِ والبحثِ منهم ؟ ، فلماذا ورثوا عنّا العلمَ والتقدّمَ والقراءةَ ، ونحنُ ورثنا عنهم الركودَ والتخلّفَ ، الذي ناموا عليهِ زماناً من عمرهم ؟ .
يؤسفُني أن أقولَ أنَّ الغربَ أيضاً سبقنا في القراءةِ والكتبِ ، وأصبحوا يتنافسونَ في تحصيلِ الكِتابِ وإقامةِ معارضهِ ، ويدعونَ إليها النّاسَ شرقاً وغرباً ، مع أنّهم أكثرُ النّاسِ ترفيهاً ، وأضيعهم لأوقاتِهم ، ولا يرجونَ موتاً ولا حياةً ولا نشوراً .
هذه الكاتبةُ المغمورةُ " J . K . ROWLING " رولنج ، تكتبُ مجموعةً من الرواياتِ الخاصّةِ بالأطفالِ ، أسمتها " HARRY POTTER " هاري بوتر ، وتنشرُ إبداعاتِها في الغربِ والشرقِ ، ويتوافدُ الصِغارُ على شراءِ رواياتِها ، فتُصبحُ كاتبةً مشهورةٌ بينَ عشيّةٍ وضُحاها ، ولم يقفِ الأمرُ على ذلكَ ، بل أصبحتْ من أثرياءِ العالمِ وباتتْ تُنافسُ بيل قيتس وغيرهُ .
سُبحانَ اللهِ ! ، مُثقفةٌ وكاتبةٌ تكتبُ للأطفالِ ، تُصبحُ من أغنياءِ العالمِ العشرةِ ، والمُثقفُ في عالمِنا العربيِّ والإسلاميِّ ينامُ ويصحو وهو كما هوَ ! ، لا يعرفهُ جارهُ ولا ضجيعهُ ، وإذا أرادَ نشرَ كتابٍ أو طِباعةً مؤلّفٍ ، بذلَ ماءَ وجههِ وأخذَ يستجدي النّاسَ ! .
أمّةٌ بطولِها وعرضِها لا تقومُ بحقِّ أديبٍ أو عالمٍ أو مُثقفٍ ! ، وهي لا تعجزُ – في ذاتِ الوقتِ - أن تُقيمَ الحفلاتِ والسهراتِ للسقطةِ من المغنّيينَ والمُغنيّاتِ ! .
رُحماكَ يا ربِّ .
لن نقومُ إلا بالمعرفةِ والعلمِ ، واللهِ لن تُغنيَ عنّا الجموعُ الكاثرةُ ، ولا الأموالُ الطائلةُ ، وإنّما الذي يُجدي وينفعُ هو المعرفةُ والتحصيلُ ، والتهامُ الكتبِ وافتراسُ البحوثِ ، والغيابُ عن النّاسِ والعالمِ ، والخلودُ إلى واحةِ المعرفةِ ، هذه هي نقطةُ التصحيحِ الأولى ، وما سِوى ذلكَ ضربٌ من الوهمِ والخيالِ .
دمتم جميعاً بخيرٍ .
أخوكم : فتى الأدغال .
يذكرُ العلاّمةُ الأديبُ بديعُ هذا الزمانِ : عليٌّ الطنطاويُّ – برّدَ اللهُ مضجعهُ – في أحدِ أجزاءِ كتابهِ " ذكريات" أنّهُ أحصى مجموعَ ما قرأهُ في حياتهِ إلى سنةِ 1405 هـ - أي قبلَ وفاتهِ بأكثرَ من 15 سنةً – فبلغَ 2500000 صفحةً تقريباً ، وذلك لأنّهُ شغلَ ليلهُ ونهارهُ في المطالعةِ والنظرِ ، وأصبحَ يقرأ ما يزيدُ على 100 صفحةٍ يوميّاً .
فكم يا تُرى يبلغُ المجموعُ لو أضفنا عليها السنواتِ الباقيةَ ، وهي 15 سنةً تامّةً وافيةً ، تلكَ السنواتُ التي تفرّغَ فيها للمكثِ في البيتِ ، وانقطعَ عن النّاسِ ، وصارتِ المكتبةُ ملاذهُ وأنسهُ ؟ .
هؤلاءِ هم الرّجالُ حقّاً .
لا بُدَّ لنا من وقفةٍ جادّةٍ صادقةٍ مع هذا العمرِ الذي نُبدّدُهُ شذرَ مذرَ ، دونَ أن نُضيفَ إلى رصيدِنا المعرفيِّ شيئاً يُذكرُ ، تُسرقُ بهجةُ الحياةِ من بينِ أيدِنا بأيدينِا ! ، فمن نُحاكمُ ونحنُ الجناةُ والمجنيُّ عليهم ؟ .
القراءةُ والعلمُ والبحثُ من أجملِ ما في الحياةِ ، حينَ تُنقّلُ فكركَ وعقلكَ في عصورٌ خلتْ ، وأقوامٍ بادتْ وانتهتْ ، تجوبُ الديارَ وتقطعُ المسافاتِ ، وأنتَ قابعٌ في بيتكَ ومكتبكَ ، فتستلهمُ العبرَ وتأخذُ الدروسَ ، وتطربُ طوراً وتحزنُ أخرى ، وتبكي وتضحكُ ، تجمعُ ما تناقضَ من حالكَ في جلسةٍ واحدةٍ ، وتستدعي عباقرةَ العلمِ ودهاقنةَ السياسةِ في مكانٍ واحدٍ ، فتأمرَ هذا بأن يُبينَ وتُخرسُ ذاكَ ، وهكذا دواليكَ .
نعتقدُ أو يعتقدُ بعضُنا أنّهُ سوفَ يبلغُ المجدَ بالكسلِ والتواني ، أو أنّهُ سوفَ يظفرُ بالعلياءِ وهو حِلسُ الجهالةِ أو سميرُ اللعبِ أو نديمُ الفراغِ ، كلاّ وربّي ، لا بُدَّ من الكدِّ والجُهدِ والنصبِ ، حتّى تقطفَ ثمرةَ ذلكَ كلّهُ نجاحاً وفلاحاً .
لا يستوي من أنفقَ دهرهُ علماً وبحثاً ونظراً ، وآخرُ أنفقهُ سهراً وضياعاً ولعباً ، لا يستوي من يقرأ ليلهُ ونهارهُ ، وآخرُ يقضي وقتهُ في الكلامِ ، ويُشتّتُ عمرهُ في ما لا فائدةَ من وراءهِ .
ادفعْ من عمركَ ما شئتَ للجدِّ والمُستقبلِ ، تنلْ مقدارهُ من الحظِّ والمكانةِ والسموِّ ، وادفعْ مثلهُ في اللعبِ والمضيعةِ والتوافهِ ، تنلْ مقدارهُ وأزيدَ من الضعةِ والهوانِ والخمولِ ، لا يستوي عندَ اللهِ ولا عندَ النّاسِ من جدَّ واجتهدَ ، وآخرُ نامَ حتّى نفخَ ، وأكلَ حتّى بشمَ ، وجهلَ حتّى سقطَ .
يذكرُ البروفيسور : مُصطفى فقي – أسعدَ اللهُ أيّامهُ - أنّهُ يقرأ كلُّ أسبوعٍ سبعةَ كُتبٍ ، هكذا ألزمَ نفسهُ وأوجبَ عليها ، لا بُدَّ أن يقرأ ، ولا بُدَّ أن يتثقّفَ ، مع أنّهُ رجلٌ قد ملأ الدّنيا وشغلَ النّاسَ ، وأصبحَ من الأفذاذِ الذين يُشارُ إليهم بالبنانِ .
وهذا العلاّمةُ الكبيرُ : محمودُ شاكر – برّدَ اللهُ مضجعهُ - مكثَ في عزلةٍ فرضها على نفسهِ 40 سنةً يقرأ ويبحثُ ، وأعرضَ في فترتهِ تلكَ عن رِفاقهِ وصحبهِ ، وكانتْ بدايةَ تلكَ العُزلةِ مسألةٌ أثارها الدكتورُ : طه حُسين ، حدت بمحمود شاكر أن يقرأ ويقرأ ، فقرأ جميعَ ما وقعتْ عينهُ عليهِ من كتابٍ في مكتبةِ أبيهِ العامرةِ ، ولهُ في ذلكَ خبرٌ وقصّةٌ مليئةٌ بالعبرِ والعِظاتِ ، مذكورةٌ في مقالاتهِ التي طُبعتْ أخيراً .
ونالَ ما تمنّى ! ، وصارَ أعلمَ أهلِ الأرضِ بالعربيّةِ والتُراثِ ، بل قيلَ : إنّهُ لم يأتِ بعدَ الجاحظِ رجلٌ وسِعَ علمَ العربيّةِ أو كادَ مثلَ محمودٍ – رحمهُ اللهُ - .
تخيّلوا لو كنّا في زمنِ المخطوطاتِ والخطوطِ الدقيقةِ ، هل كنّا سنقرأ شيئاً ؟ ، نحنُ في زمانِ الكُتبِ المزركشةِ والمزخرفةِ ، والمطبوعةِ بأجودِ الورقِ وأفضلِ الألوانِ ، لا نقرأ إلا لماماً ! ، وإذا قرأنا أصابَ الكثيرَ منّا ما أصابهُ من الدّوارِ والصّداعِ ، كأنّما يُساقُ إلى الموتِ وهو ينظرُ ! .
هل يصحُّ أن نسألَ هذه الأيّامَ : كم ساعةً تقرأ في اليومِ ؟ ، خاصّةً وأنّي أعرفُ صديقاً يقرأ من يومهِِ ما يزيدُ على 15 ساعةً ، ولا ينامُ إلا قليلاً .
أكثرُنا لا يعرفُ الكتابَ إلا في الشهرِ مرّةً ، هذا فيما لو عرفهُ ، و يجلسُ بالساعاتِ الطوالِ على قناةِ الجزيرةِ ، أو الإنترنت ، أو على الأحاديثِ العابرةِ في مجلسِ السمرِ والسهرِ ، ولكنّهُ لا يُكلّفُ نفسهُ عناءَ القراءةِ في كتابٍ واحدٍ ، يختمهُ من الجلدةِ إلى الجلدةِ .
وهل أصبحتِ القراءةُ عناءً حتّى أقولَ : يكلّفُ نفسهُ عناءَ القراءةِ ! ، لقد تغيّرَ الزمانُ ، وصارتْ أدواتُ المعرفةِ والبحثِ ضرباً من الجنونِ ، ينفرُ عنها النّاسُ ، ويشعرونَ بالغربةِ حينَ النظرِ فيها ، وترى الكتبَ تغبرُّ ثمَّ تهترىءُ وتتفتتُ ، وهي تجأرُ إلى اللهِ بالدّعاءِ ، أن يُغيثها بمن ينظرُ فيها .
إنَّ قيمةَ كلِّ إنسانٍ هو ما يُحسنهُ ويُتقنهُ ، والعلمُ أشرفُ الأشياءِ ، ويكفيهِ شرفاً أنَّ الكلِّ يدعيهِ ولو عروا عنهُ وخلوا منهُ ، ويكفي الجهلَ سُبّةً وعاراً أنَّ الجميعَ ينفرُ منهُ ولا يرضى أن يُنسبُ له ، حتّى لو كانَ من أهلهِ .
نحنُ – المسلمينَ – أمّةُ المعرفةِ والعلمِ والقراءةِ : (( اقرأ باسمِ ربّكَ الذي خلقَ ، خلقَ الإنسانَ من علقٍ ، اقرأ وربُّكَ الأكرمُ ، الذي علّمَ بالقلمِ ، علّمَ الإنسانَ ما لم يعلمْ )) ، هذه هي بدايةُ الدّينِ ، إنّها المعرفةُ والعلمُ ، وأساسُها القراءةُ والنظرُ ، وبقدرِ ما يعظمُ شأنُ العلمِ وأثرهُ في النفسِ ، يكونُ سموُّ الإنسانِ وارتفاعهُ وعلوّهُ .
وإذا كانَ هذا هو دينُنا وهذه دعوتهُ إلى العلمِ والمعرفةِ ، فما بالُ أكبرِ مكتبةٍ في العالمِ توجدُ عندَ غيرِ المُسلمينَ ، وهي مكتبةُ الكونغرس ! ، أليسَ فينا من يقضي حقَّ العلمِ ويُقيمُ مكتبةً تُشدُّ إليها الرحالُ من جميعِ الأقطارِ ، ويقصدُها طُلاّبُ العلمِ ؟ ، أولا تجدُ المعرفةُ والحِكمةُ من ينفقُ عليها شيئاً من المالِ ، كما يُنفقُ على اللعبِ والمجونِ من الكثيرِ من النّاسِ ؟ .
لماذا لا ننشئُ جامعاتٍ ومراكزَ بحثٍ ودراسةٍ كما في هارفرد وكامبردج ويال وبرنستون و MIT ، وغيرِها من مراكزِ البحثِ والجامعاتِ الشهيرةِ في العالمِ الغربيِّ ؟ ، ألسنا ألصقَ بالعلمِ والمعرفةِ والبحثِ منهم ؟ ، فلماذا ورثوا عنّا العلمَ والتقدّمَ والقراءةَ ، ونحنُ ورثنا عنهم الركودَ والتخلّفَ ، الذي ناموا عليهِ زماناً من عمرهم ؟ .
يؤسفُني أن أقولَ أنَّ الغربَ أيضاً سبقنا في القراءةِ والكتبِ ، وأصبحوا يتنافسونَ في تحصيلِ الكِتابِ وإقامةِ معارضهِ ، ويدعونَ إليها النّاسَ شرقاً وغرباً ، مع أنّهم أكثرُ النّاسِ ترفيهاً ، وأضيعهم لأوقاتِهم ، ولا يرجونَ موتاً ولا حياةً ولا نشوراً .
هذه الكاتبةُ المغمورةُ " J . K . ROWLING " رولنج ، تكتبُ مجموعةً من الرواياتِ الخاصّةِ بالأطفالِ ، أسمتها " HARRY POTTER " هاري بوتر ، وتنشرُ إبداعاتِها في الغربِ والشرقِ ، ويتوافدُ الصِغارُ على شراءِ رواياتِها ، فتُصبحُ كاتبةً مشهورةٌ بينَ عشيّةٍ وضُحاها ، ولم يقفِ الأمرُ على ذلكَ ، بل أصبحتْ من أثرياءِ العالمِ وباتتْ تُنافسُ بيل قيتس وغيرهُ .
سُبحانَ اللهِ ! ، مُثقفةٌ وكاتبةٌ تكتبُ للأطفالِ ، تُصبحُ من أغنياءِ العالمِ العشرةِ ، والمُثقفُ في عالمِنا العربيِّ والإسلاميِّ ينامُ ويصحو وهو كما هوَ ! ، لا يعرفهُ جارهُ ولا ضجيعهُ ، وإذا أرادَ نشرَ كتابٍ أو طِباعةً مؤلّفٍ ، بذلَ ماءَ وجههِ وأخذَ يستجدي النّاسَ ! .
أمّةٌ بطولِها وعرضِها لا تقومُ بحقِّ أديبٍ أو عالمٍ أو مُثقفٍ ! ، وهي لا تعجزُ – في ذاتِ الوقتِ - أن تُقيمَ الحفلاتِ والسهراتِ للسقطةِ من المغنّيينَ والمُغنيّاتِ ! .
رُحماكَ يا ربِّ .
لن نقومُ إلا بالمعرفةِ والعلمِ ، واللهِ لن تُغنيَ عنّا الجموعُ الكاثرةُ ، ولا الأموالُ الطائلةُ ، وإنّما الذي يُجدي وينفعُ هو المعرفةُ والتحصيلُ ، والتهامُ الكتبِ وافتراسُ البحوثِ ، والغيابُ عن النّاسِ والعالمِ ، والخلودُ إلى واحةِ المعرفةِ ، هذه هي نقطةُ التصحيحِ الأولى ، وما سِوى ذلكَ ضربٌ من الوهمِ والخيالِ .
دمتم جميعاً بخيرٍ .
أخوكم : فتى الأدغال .