ام حفصه
03 Dec 2012, 11:03 AM
حادثة الراهب المسمى " بحيرا " حقيقة لا خرافة
بقلم : الشيخ / محمد ناصر الدين الألباني
قرأت في الأجزاء (77-40) شوال سنة 1378 - من هذه المجلة الكريمة بحثاً من كتاب " المنتقى في تاريخ القرآن " للأستاذ عبد الرؤوف المصري تحت عنوان ( خرافة الراهب بحيرا ) جاء فيه :
" لم يثبت بالسند الصحيح عن الصحابة ولا عن التابعين حادثة بحيرا الراهب ( نسطورس ) ، ولم يثبت بالصحيحين ( كذا ) بأن بحيرا قابل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى في صغره مع عمه أبي طالب في سفره إلى الشام ، ولم يشر -صلى الله عليه وسلم- إلى تلك الحادثة لا تصريحاً ولا تلميحاً في جميع أحاديثه وأدوار حياته ، بل كانت حادثة بحيرا غفلة من بعض كتاب السيرة دسها داس لتعظيم شأن النبي في صغره ونقلها أصحاب السير من غير تمحيص " ثم قال : " . . . واعتمدوا على أمشاج من الروايات لا سند لها . . . " .
هذا لب ما جاء في البحث المذكور ويتلخص منه أن الحادثة لم تثبت في الصحيحين ولا في غيرهما عن أحد من الصحابة والتابعين بالسند الصحيح ، وأن كل ما هنالك إنما هو أمشاج من الروايات التي لا سند لها.
سند الحادثة :
كيف لا تصح هذه الحادثة وقد رواها من الصحابة أبو موسى الأشعري ، ومن التابعين الأجلاء أبو مجلز لاحق بن حميد رحمه الله تعالى ، ورد ذلك عنهما بإسنادين صحيحين ، وهاك البيان :
أما رواية أبي موسى الأشعري فأخرجها الترمذي في سننه (4/496) وأبو نعيم في " دلاثل النبوة " (1/53) والحاكم في " المستدرك " (12 / 615 - 616) وابن عساكر في " تاريخ دمشق " (6/187 - 188/ 1) بأسانيد متعددة عن قراد أبي نوح : أنبأ يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال : خرج أبو طالب إلى الشام ، وخرج معه النبي -صلى الله عليه وسلم- في أشياخ من قريش ، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فعلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب ، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت ، قال : فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال : هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين ، فقال له أشياخ من قريش : ما علمك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ولا يسجدان إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، ثم رجع فصنع لهم طعاماً فلما أتاهم به ، وكان هو في رعية الإبل ، قال : أرسلوا إليه ، فأقبل وعليه غمامة تظله ، فلما دنا من القوم وجد القوم قد سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه ، فقال : انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه . الحديث بطوله .
وحسنه الترمذي وإسناده جيد وقد صححه الحاكم والجزري وقواه العسقلاني والسيوطي وقد بينت صحته على طريقة أهل الحديث قريباً في " مجلة المسلمون " العدد الثامن من سنة 1379 (ص 393 – 397) فليرجع إليه من أراد زيادة في التثبت.
وأما رواية أبي مجلز فأخرجها ابن سعد في " الطبقات الكبرى " قال (1 / 120) : أخبرنا خالد بن خداش : أخبرنا معتمر بن سليمان قال : سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز أن عبد المطلب أو أبا طالب -شك خالد- قال : لما مات عبد الله عطف على محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال فكان لا يسافر سفراً إلا كان معه فيه ، وإنه توجه نحو الشام فنزل منزله فأتاه فيه راهب ، فقال : إن فيكم رجلاً صالحاً ، فقال : إن فينا من يقري الضيف ويفك الأسير ويفعل المعروف ، أو نحواً من هذا ، ثم قال : إث فيكم رجلاً صالحاً ، ثم قال : أين أبو هذا الغلام ؟ قال : ها أنا ذا وليه ، أو قيل . هذا وليه ، قال . احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام ، إن اليهود حسد ، وإني أخشاهم عليه ، قال : ما أنت تقول ذاك ولكن الله يقول ، فرده ، قال . اللهم إني أستودعك محمداً ، ثم إنه مات .
وهذا إسناد مرسل صحيح ، فإن أبا مجلز واسمه لاحق بن حميد تابعي ، ثقة ، جليل ، احتج به الشيخان في صحيحيهما ، وبقية أصحاب الكتب الستة ، وأخذ الحديث عن جماعة من الصحابة منهم : عمران بن حصين ، وأم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وأنس ، وجندب بن عبد الله ، وغيرهم ، ومن بينه وبين ابن سعد كلهم عدول ثقات ، احتج بهم مسلم في صحيحه .
وإذا تبين هذا يسقط بداهة قول الأستاذ في خاتمة البحث : " إن خرافة بحيرا ابتدعت في القرن الثاني والثالث الهجري ، ولم يروها الثقات " فقد رواها الثقات من قبل القرن الذي زعم أن الحادثة ابتدعت فيه !
شبهاث حول الحادثة وجوابها:
بعد أن أثبتنا معه الحادثة بالحجة العلمية ، لا بد لنا من الإجابة عن الشبهات التي حملت الأستاذ المصري على الطعن في الحادثة واعتبارها من الخرافات التي راجت على أسلافنا جميعاً من كتاب السيرة ! حتى يأخذ البحث مداه العلمي فأقول :
الشبهة الأولى : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشر إلى تلك الحادثة لا تصريحاً ولا تلويحاً.
والجواب : إنها شبهة يغني حكايتها عن ردها ، إذ كل من عنده ذرة من علم بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرة غيره من العظماء يعلم أن أكثر هذه السيرة وردت عن أصحابهم متحدثين بما يعلمونه عنهم ، لا بما سمعوه منهم ، ومن هذا القسم الشمائل النبوية ، فهل طعن أحد في شيء من ذلك بعد ثبوت الرواية بها ، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يشر إلى ذلك أصلاً ؟!
الشبهة الثانية : قول الأستاذ : " إن بحيرا الراهب كان في القرن الرابع للمسيح ، وادعاء مقابلة بحيرا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- كان في أواخر القرن السادس مع أن بحيرا وجد في القرن الرابع وحادثته التاريخية مشهورة يقصها تاريخ الكنيسة نفسه . . . " .
وجوابنا عن هذه الشبهة من وجوه :
الأول : إن الراهب في تلك الحادثة لم يسم مطلقاً في الرواية الصحيحة التي قدمتها وبذلك تسقط الشبهة من أساسها .
الثاني : إن تسمية الراهب بـ ( بحيرا ) إنما جاء في بعض الروايات الواهية ، في إحداها الواقدي وهو كذاب ، وفي الأخرى محمد بن إسحاق صاحب السيرة رواها بدون إسناد ، وهاتان الروايتان هما عمدة كل المؤرخين الذي سموه بهذا الاسم ، فلا يجوز اعتبارهما ورد الرواية الصحيحة بهما كما هو ظاهر ، على أن بعض مؤرخينا كالمسعودي وغيره ذكر أن اسمه جرجيس ، فلا إشكال أصلاً .
الثالث : إن هذه الشبهة إنما تقوم على ادعاء الأستاذ أن الراهب بحيرا كان في القرن الرابع من الميلاد ، وهي دعوى عارية عن الصحة إذ ليس لديه حجة علمية يستطع بها إثباتها ، وكل ما عنده من الحجة تاريخ الكنيسة ! فيا لله العجب كيف يثق الأستاذ بهذا التاريخ هذه الثقة البالغة إلى درجة أنه يعارض به تاريخ المسلمين ، وهو يعلم أن تاريخهم - مهما كان، في بعض حوادثه نظر من الوجهة الحديثية خاصة - أصح وأنقى بكثير من تاريخ الكنيسة الذي تعجز الكنيسة نفسها عن إثبات صحة كتابها المقدس الذي هو أصل دينها ، فكيف تستطيع أن تثبت تاريخها الذي هو بحق " أمشاج من الروايات التي لا سند لها " كما قاله الأستاذ نفسه لكن في تاريخ المسلمين لا تاريخ الكنيسة !!
الرابع : إنني رجعت إلى دائرة المعارف الإسلامية تأليف جماعة من المستشرقين ، وإلى دائرة المعارف للبستاني ، وإلى " المنجد " فلم أجدهم ذكروا ما عزاه الأستاذ المصري إلى تاريخ الكنيسة ، بل ظاهر كلامهم أنهم لا يعرفون عنه شيئاً مما يتعلق بتاريخ حياته في أرض العرب ، إلا مما جاء في مصادرنا الإسلامية ، وخاصة ما يتعلق منه بقصة اتصاله بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حسبما تقدم تخريجه ، وإن كانوا يعتبرونها " من الأساطير التي أحاطت بسيرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- " حسبما تقدم تخريجه ، كفراً منهم واستكباراً أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبشراً به في الكتب السماوية السابقة ، ومعروفاً عند المؤمنين بها ، ولذلك علق الأستاذ الفاضل المحقق أحمد محمد شاكر على هذه الكلمة الواردة في " دائرة المعارف الإسلامية " بقوله :
" ليست هذه القصص بالأساطير ، بل كثير منها ثابت بأسانيد صحيحة ، وعلم أهل الكتاب بالبشارة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- في كتبهم ثابت عند المسلمين بنص القرآن الصريح ، وليسوا في حاجة إلى افتعال أساطير يؤيدون بها ما أثبته الوحي المنزل من عند الله ، وهو ثابت أيضاً عند المسلمين فيما قرءوه من كتب أهل الكتاب مما بقي في أيديهم من الصحيح من أقوال أنبيائهم المنقولة في كتبهم " .
الخامس : لنفترض أن ما عزاه الأستاذ إلى تاريخ الكنيسة صحيح ثابت ، وهو أن بحيرا الراهب كان في القرن الرابع من الميلاد ، فذلك لا ينفي أن يأتي شخص آخر على شاكلته في الترهب سمي باسمه منذ ولادته على عادة النصارى وغيرهم من التسمي بأسماء الصالحين عندهم ، أو لقب به بعد ، لظهور شبه فيه به ، هذا كله جائز ليس في العقل السليم ما ينفيه ، وإذا الأمر كذلك ، فبإمكان الأستاذ أن يعتقد وجود شخصين في زمنين متباينين باسم واحد ( بحيرا ) وبذلك يستطيع أن يوفق بين ثقته بالتاريخ الكنسي ، وثقته بالتاريخ الإسلامي ولا يقع في هذه المغالطة التي كتبها بقلمه : " فكيف التقى الزمان القرن الرابع والقرن السادس والتقى المكانان . . ." !!
بقلم : الشيخ / محمد ناصر الدين الألباني
قرأت في الأجزاء (77-40) شوال سنة 1378 - من هذه المجلة الكريمة بحثاً من كتاب " المنتقى في تاريخ القرآن " للأستاذ عبد الرؤوف المصري تحت عنوان ( خرافة الراهب بحيرا ) جاء فيه :
" لم يثبت بالسند الصحيح عن الصحابة ولا عن التابعين حادثة بحيرا الراهب ( نسطورس ) ، ولم يثبت بالصحيحين ( كذا ) بأن بحيرا قابل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى في صغره مع عمه أبي طالب في سفره إلى الشام ، ولم يشر -صلى الله عليه وسلم- إلى تلك الحادثة لا تصريحاً ولا تلميحاً في جميع أحاديثه وأدوار حياته ، بل كانت حادثة بحيرا غفلة من بعض كتاب السيرة دسها داس لتعظيم شأن النبي في صغره ونقلها أصحاب السير من غير تمحيص " ثم قال : " . . . واعتمدوا على أمشاج من الروايات لا سند لها . . . " .
هذا لب ما جاء في البحث المذكور ويتلخص منه أن الحادثة لم تثبت في الصحيحين ولا في غيرهما عن أحد من الصحابة والتابعين بالسند الصحيح ، وأن كل ما هنالك إنما هو أمشاج من الروايات التي لا سند لها.
سند الحادثة :
كيف لا تصح هذه الحادثة وقد رواها من الصحابة أبو موسى الأشعري ، ومن التابعين الأجلاء أبو مجلز لاحق بن حميد رحمه الله تعالى ، ورد ذلك عنهما بإسنادين صحيحين ، وهاك البيان :
أما رواية أبي موسى الأشعري فأخرجها الترمذي في سننه (4/496) وأبو نعيم في " دلاثل النبوة " (1/53) والحاكم في " المستدرك " (12 / 615 - 616) وابن عساكر في " تاريخ دمشق " (6/187 - 188/ 1) بأسانيد متعددة عن قراد أبي نوح : أنبأ يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال : خرج أبو طالب إلى الشام ، وخرج معه النبي -صلى الله عليه وسلم- في أشياخ من قريش ، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فعلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب ، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت ، قال : فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال : هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين ، فقال له أشياخ من قريش : ما علمك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ولا يسجدان إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، ثم رجع فصنع لهم طعاماً فلما أتاهم به ، وكان هو في رعية الإبل ، قال : أرسلوا إليه ، فأقبل وعليه غمامة تظله ، فلما دنا من القوم وجد القوم قد سبقوه إلى فيء الشجرة ، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه ، فقال : انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه . الحديث بطوله .
وحسنه الترمذي وإسناده جيد وقد صححه الحاكم والجزري وقواه العسقلاني والسيوطي وقد بينت صحته على طريقة أهل الحديث قريباً في " مجلة المسلمون " العدد الثامن من سنة 1379 (ص 393 – 397) فليرجع إليه من أراد زيادة في التثبت.
وأما رواية أبي مجلز فأخرجها ابن سعد في " الطبقات الكبرى " قال (1 / 120) : أخبرنا خالد بن خداش : أخبرنا معتمر بن سليمان قال : سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز أن عبد المطلب أو أبا طالب -شك خالد- قال : لما مات عبد الله عطف على محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال فكان لا يسافر سفراً إلا كان معه فيه ، وإنه توجه نحو الشام فنزل منزله فأتاه فيه راهب ، فقال : إن فيكم رجلاً صالحاً ، فقال : إن فينا من يقري الضيف ويفك الأسير ويفعل المعروف ، أو نحواً من هذا ، ثم قال : إث فيكم رجلاً صالحاً ، ثم قال : أين أبو هذا الغلام ؟ قال : ها أنا ذا وليه ، أو قيل . هذا وليه ، قال . احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام ، إن اليهود حسد ، وإني أخشاهم عليه ، قال : ما أنت تقول ذاك ولكن الله يقول ، فرده ، قال . اللهم إني أستودعك محمداً ، ثم إنه مات .
وهذا إسناد مرسل صحيح ، فإن أبا مجلز واسمه لاحق بن حميد تابعي ، ثقة ، جليل ، احتج به الشيخان في صحيحيهما ، وبقية أصحاب الكتب الستة ، وأخذ الحديث عن جماعة من الصحابة منهم : عمران بن حصين ، وأم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وأنس ، وجندب بن عبد الله ، وغيرهم ، ومن بينه وبين ابن سعد كلهم عدول ثقات ، احتج بهم مسلم في صحيحه .
وإذا تبين هذا يسقط بداهة قول الأستاذ في خاتمة البحث : " إن خرافة بحيرا ابتدعت في القرن الثاني والثالث الهجري ، ولم يروها الثقات " فقد رواها الثقات من قبل القرن الذي زعم أن الحادثة ابتدعت فيه !
شبهاث حول الحادثة وجوابها:
بعد أن أثبتنا معه الحادثة بالحجة العلمية ، لا بد لنا من الإجابة عن الشبهات التي حملت الأستاذ المصري على الطعن في الحادثة واعتبارها من الخرافات التي راجت على أسلافنا جميعاً من كتاب السيرة ! حتى يأخذ البحث مداه العلمي فأقول :
الشبهة الأولى : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشر إلى تلك الحادثة لا تصريحاً ولا تلويحاً.
والجواب : إنها شبهة يغني حكايتها عن ردها ، إذ كل من عنده ذرة من علم بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرة غيره من العظماء يعلم أن أكثر هذه السيرة وردت عن أصحابهم متحدثين بما يعلمونه عنهم ، لا بما سمعوه منهم ، ومن هذا القسم الشمائل النبوية ، فهل طعن أحد في شيء من ذلك بعد ثبوت الرواية بها ، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يشر إلى ذلك أصلاً ؟!
الشبهة الثانية : قول الأستاذ : " إن بحيرا الراهب كان في القرن الرابع للمسيح ، وادعاء مقابلة بحيرا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- كان في أواخر القرن السادس مع أن بحيرا وجد في القرن الرابع وحادثته التاريخية مشهورة يقصها تاريخ الكنيسة نفسه . . . " .
وجوابنا عن هذه الشبهة من وجوه :
الأول : إن الراهب في تلك الحادثة لم يسم مطلقاً في الرواية الصحيحة التي قدمتها وبذلك تسقط الشبهة من أساسها .
الثاني : إن تسمية الراهب بـ ( بحيرا ) إنما جاء في بعض الروايات الواهية ، في إحداها الواقدي وهو كذاب ، وفي الأخرى محمد بن إسحاق صاحب السيرة رواها بدون إسناد ، وهاتان الروايتان هما عمدة كل المؤرخين الذي سموه بهذا الاسم ، فلا يجوز اعتبارهما ورد الرواية الصحيحة بهما كما هو ظاهر ، على أن بعض مؤرخينا كالمسعودي وغيره ذكر أن اسمه جرجيس ، فلا إشكال أصلاً .
الثالث : إن هذه الشبهة إنما تقوم على ادعاء الأستاذ أن الراهب بحيرا كان في القرن الرابع من الميلاد ، وهي دعوى عارية عن الصحة إذ ليس لديه حجة علمية يستطع بها إثباتها ، وكل ما عنده من الحجة تاريخ الكنيسة ! فيا لله العجب كيف يثق الأستاذ بهذا التاريخ هذه الثقة البالغة إلى درجة أنه يعارض به تاريخ المسلمين ، وهو يعلم أن تاريخهم - مهما كان، في بعض حوادثه نظر من الوجهة الحديثية خاصة - أصح وأنقى بكثير من تاريخ الكنيسة الذي تعجز الكنيسة نفسها عن إثبات صحة كتابها المقدس الذي هو أصل دينها ، فكيف تستطيع أن تثبت تاريخها الذي هو بحق " أمشاج من الروايات التي لا سند لها " كما قاله الأستاذ نفسه لكن في تاريخ المسلمين لا تاريخ الكنيسة !!
الرابع : إنني رجعت إلى دائرة المعارف الإسلامية تأليف جماعة من المستشرقين ، وإلى دائرة المعارف للبستاني ، وإلى " المنجد " فلم أجدهم ذكروا ما عزاه الأستاذ المصري إلى تاريخ الكنيسة ، بل ظاهر كلامهم أنهم لا يعرفون عنه شيئاً مما يتعلق بتاريخ حياته في أرض العرب ، إلا مما جاء في مصادرنا الإسلامية ، وخاصة ما يتعلق منه بقصة اتصاله بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حسبما تقدم تخريجه ، وإن كانوا يعتبرونها " من الأساطير التي أحاطت بسيرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- " حسبما تقدم تخريجه ، كفراً منهم واستكباراً أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبشراً به في الكتب السماوية السابقة ، ومعروفاً عند المؤمنين بها ، ولذلك علق الأستاذ الفاضل المحقق أحمد محمد شاكر على هذه الكلمة الواردة في " دائرة المعارف الإسلامية " بقوله :
" ليست هذه القصص بالأساطير ، بل كثير منها ثابت بأسانيد صحيحة ، وعلم أهل الكتاب بالبشارة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- في كتبهم ثابت عند المسلمين بنص القرآن الصريح ، وليسوا في حاجة إلى افتعال أساطير يؤيدون بها ما أثبته الوحي المنزل من عند الله ، وهو ثابت أيضاً عند المسلمين فيما قرءوه من كتب أهل الكتاب مما بقي في أيديهم من الصحيح من أقوال أنبيائهم المنقولة في كتبهم " .
الخامس : لنفترض أن ما عزاه الأستاذ إلى تاريخ الكنيسة صحيح ثابت ، وهو أن بحيرا الراهب كان في القرن الرابع من الميلاد ، فذلك لا ينفي أن يأتي شخص آخر على شاكلته في الترهب سمي باسمه منذ ولادته على عادة النصارى وغيرهم من التسمي بأسماء الصالحين عندهم ، أو لقب به بعد ، لظهور شبه فيه به ، هذا كله جائز ليس في العقل السليم ما ينفيه ، وإذا الأمر كذلك ، فبإمكان الأستاذ أن يعتقد وجود شخصين في زمنين متباينين باسم واحد ( بحيرا ) وبذلك يستطيع أن يوفق بين ثقته بالتاريخ الكنسي ، وثقته بالتاريخ الإسلامي ولا يقع في هذه المغالطة التي كتبها بقلمه : " فكيف التقى الزمان القرن الرابع والقرن السادس والتقى المكانان . . ." !!