شوقي الى الله ابكاني
12 Jan 2013, 06:30 AM
القطرة الأولى
على ضفاف الحبّ
كيف يكتب المرء عن حبه لأمّه, ومدى تعلّقه بها ومدى حنينه إلى حضنها!!
وهل لشاعر أن يصف هذا الحبّ؟ أو لكاتب أن يسطّره أو لعباراتٍ أن تحتويَه؟!
وإني لأجزم - والله - إنّ كلّ ما كُتب ونظم عبر العصور والأزمنة والدهور, لا يكافئ سطراً واحداً من حبّ المرء لأمّه.
أمّي الغالية:
يعجز القلم عن رسم شكل من أشكال حبّك أو توضيح لون من ألوانه.
فحبّك أشكال وألوان؛ وأنهار وبحار, وسماء وأمطار؛ وورد تتفتح على خدود آذار.
إنّ الأشكال لتعجز أن تحيط بهذا الحبّ, وإنّ الألوان لتحتار كيف ترسم طيَفه أو ظلاًّ من ظلاله.
وكيف يرسم المرء بقلمٍ أنت فيه البدايةُ والنهاية, وكيف يكتب القلمُ عمّن علّمه مسك القلم؟! وكيف يمدح الحرف من علمه نطق الحروف؟!
حبّك أشكال وألوان, لا يستوعبه شكل, ولا يحدّه لون, ولا تتّسع له آفاق الدنيا.
فيا ترى ماذا يحبّ المرء في أمّه؟
أيحبُّ فيها الحنان الذي ملأ أركانه!
أم التفاني الذي أخجل ضميره وأعيا جنانه!
أم يرى فيها الطّيب الذي ملأ الكون وعطّر أركانه!
في كلّ يوم مع تلاوات آيات الفجر المشهود, أنادي الربَّ المعبود وأتبتّل إليه تبتّل العابدين, أن أكون بين يديك رضيّاً وبخدمتك حَفيّاً.
وكيف لا ومن حصل له الرضا من أمّه, والخدمة لها كان في الجنّة لا محالة بإذن الله.
كلّ زهرات الكون لا تساوي ضحكة من ضحكاتك, وكلّ أنهار الأرض لا تعدل عندي دمعة من دمعاتك؟!
أيّ حضن أهنأ من حضنك؟! وأيّ حِجْر أوسع من حِجْرك وأيّ وسادة أنعم من يديك؟!
وهل جمال الكون إلا بعضٌ من رضاك؟ وهل ضحكات الحياة إلا بعضٌ من ضحكاتك.
وهل يحتاج حبّ المرء لأمّه إلى دليل أو إثبات؟!
لعمري إنّ هذا لهو العقوق الخفيّ.
لكنّ المشكلة أنّ الإنسان من شدّة القرب ينسى الحبّ, ويسبح في عالم الاستغلال والانتهاز لمن يحبّ !
أمّي:
كيف لا يحبّك القلب وهو الذي جاور قلبك تسعة أشهر, يسمع دقّات قلبك, ويسبح في بحر فضلك, ويتّكئ يمنة ويسرة على وسائد الحنان في رَحِمِك؟!
كيف لا يحبّك القلب وقد جعل الله الجنّة تحت قدميك, وجعل دخول الجنّة بسبب الإحسان إليك؟!
لن تجد في الكون إنساناً إلاّ يحبّ أمّه, وإن بدا منه ما يبدو من الأولاد من صدود وردود وجفاء.
كيف لا يحبّها وهي التي حملته كُرْهاً ووضعته كُرْهاً
إنّ أغلب الأولاد لا يرون في أمّهاتهم إلاّ الحنانَ الذي يُنْتَهز والطيبة التي تُسْتَغل, وإنّ أغلب الأمّهات لا يرين في هذا الانتهاز وهذا الاستغلال إلا جمالاً يداعب أجفانهنّ, وحنيناً يلامس أفئدتهنّ , ويا للعجب كيف يحب المرءُ أن يُستغل ويُنْتَهز!!
لكن لا عجب في ذلك إذا كان المستغِلُّ هم الأولاد والمستَغَلَّة هي الأمّ.
أمّي الحبيبة:
إنّ للجنّة دروباً أنت خطاها, وللنّار حجاباً أنت ستائرُه, وإنّ للنجاح سلّماً رضاكِ درجاتُه, وللفشل أودية غضبك دلالاتّه.
فَمُنّي علينا بخطى الجنة وأكرمينا بستائر النار وتفضّلي علينا بدرجات النجاح والتوفيق, على الرغم من تقصيرنا وسوء أدبنا.
أمّي:
لقد جعل الله عقوقك ذُلّاً في الدنيا وخسارةً في الآخرة, فأزيلي عنّا هذا الذلّ وادعي الله لنا أن يجعل تجارتنا رابحة فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « رَغِمَ أنف رَغِمَ أنف رَغِمَ أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما عنده الكبر لم يدخلاه الجنة » [مسند الإمام أحمد مسند أبي هريرة].
أمّي الجميلة:
وهل هناك جمالُ امرأةٍ كجمال وجه الأمِّ؟!
فأوّل امرأة تتفتّح عليها العيون وجهُ الأمِّ فلم لا يأنس به, ويلتجئ إليه, وهو الذي لا يعرف وجه امرأة غيرَه ولا ابتسامةَ ثغرٍ غير ابتسامةِ ثغرها.
كل امرئ يحبُّ وجه أمّه ولو كانت دميمةَ الخِلْقة, فهو الوجه الذي ضحك له في طفولته, وآنسه في رجولته.
أمّي:
كلّما نظرْتُ إليك وأنت تصلّين وتستغفرين شعرت بأمن يسري في كياني, لأنّي قد تيّقنت أنّ هناك من يدعو لي ويترضّى عنّي.
وكلّما ضممت صغاري شعرت بالأمن الذي كنت تمنحين؛ وبالحنان الذي كنت به علينا ووالدي تجودين, وبالجهد الذي كنت وإياه تبذلين.
أجملُ صباحٍ صباحُ وجهك, وأجملُ الأيّام يوم رضاك, وأطيب الطعام طعام يديك
صباح الخير يا حلوه..
صباح الخير يا قدّيستي الحلوة
عرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب..
وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر
ولم أعثر..
على امرأةٍ تمشط شعري الأشقر
وتحمل في حقيبتها..
إليّ عرائس السّكر
وتكسوني إذا أعرى
وتنشلني إذا أعثُر
أيا أمّي..
أيا أمّي..
أنا الولد الذي أبحر
ولا زالت بخاطره
تعيش عروسة السكر
فكيف.. فكيف يا أمي
غدوت أباً.. ولم أكبر؟
سلُوا كلَّ من فَقَد أمّه فإنّه سيقول لكم:
لقد فقدتُ الحياة والبركة والحب والعطف والحنان فقدت الصوت الموجِّه والصدر الحنون, والمرشد النّاصح والمحبّ الخالص.
سلوا كلَّ من فقد أمّه فإنّه سيقول لكم: يمينا لست أنساك
كتبتُ إليكِ يا أمّي
نشيداً في المَدى انسَرَبا
أُعبّرُ فيه يا أمّي
عن الدمع الذي انسَكبا
عن القلبِ الذي اضّطربا
عن الفكر الذي شرَدا
عن الشوق الذي اتَّقدا
ولم أُشعِرْ به أحَدا !
فمنذ رحلتِ يا أمي
وحزني، آهِ مِن حزني !
يُطاردُني
يحاصرُني
فتَفضَحُ عبرةُ العين ِ
بصمتٍ بعضَ أشواقي
فأسجدُ في مَدى الصبر ِ
وتسري نغمةُ الشكر ِ
بأعماقي وأوراقي
..
على الشباّكِ يا أمّي
وقفتُ بظلِّ ذِكراكِ
هنا كنّا بأكنافِ الهَنا نَسمَرْ
بظلّ الليلِ إذ أقمَرْ
هنا الأوراقُ والقلمُ
هنا المصحَفْ
هنا الإيمانُ قد رفرَفْ
..
ولا تدرينَ يا أمي
ولا أدري متى ألقى مُحياّكِ ؟
دعوتُ اللهَ يا أمي
ليجمعَنا بميعادِ
هناكَ بصحبة الهادي
هناكَ سيَنجلي همّي
ويَسعَدُ قلبيَ الباكي
وحتّى ذاكَ يا أمي
يميناً لستُ أنساكِ
[د. عبد المعطي الدالاتي- مصباح الفكر]
أمي:
أحارُ كما يحارُ الملايين!
وأحار كما حار الملايين!
وسأظلُّ أحار كما سيظلُّ يحار الملايين!
سأظلّ أتيه بين أزقّة البيان وأودية الشعر! وأغرق في بيان البلغاء وعبارات الخطباء!
وأستجدي العلماء والأدباء!
أبحث عن جواب لسؤال حيّرهم جميعاً, وأحرجهم جميعاً, واستصغرهم جميعاً!
كيف يمكن أن أفيَك ولو جزءاً من حبِّك؟!
وهل يرقى الإنسان لِيَفيَ أمّه جزءاً من حقّها, أو زفرةً من زفراتها, لعمري إنّ هذا الأمر لتنقطع فيه أعناق الإبل, وتفنى فيه أعمار الرجال, ولا يصلون إليه.
كيف أفيك جزءاً من حقّك وقد جعل الله خدمتك جهاداً يعدل قتال الأعداء؛ في معركة يسيل فيها الدماء, ويُُقتل الرجال, ويُيتَّم الأطفال, وتُسبى النساء فجعل رضاك أثقل من كلِّ ذلك؛ فعن عبد اللهِ بن عمرٍو رضيَ اللهُ عنهما يقول: «جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلم فاستأذَنهُ في الجهادِ فقال: أحيٌّ والِداكَ؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد» [ متفق عليه]
بل كيف أفيكِ حقّك وقد جعل الله ضحكتك تعادل هجرة في سبيله, يترك المرء فيها مالَه وأهلَه وعشيرته, فجعل ضحكتك أنفس من ذلك كلّه؛ فعن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي جِئْتُ أَبَايِعُكَ علَى الهِجرَةِ وَلَقَد تَرَكتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَان قَالَ: « ارْجِعْ إلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا ».[ النسائي كتاب البيعة- باب البيعة على الهجرة].
كيف أفيك حقّك وأنت جواز مروري إلى الجنّة وصكَّ براءتي من النّا,ر وقد جعل الله رضاك توقيعاً يطأطئ له خزنة النار, وتتلقّفه ملائكة الجنّة مستبشرين مسرورين؛ فكما قيل: فليعمل البارّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار, وليعمل العاقّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة [تفسير القرطبي تفسير سورة الإسراء الآية 23].
كيف لا أبرّك وقد جعل الله برّك سبباً لقبول دعائي وتضرّعي إلى الله, فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلّى الله عليه وسلم َيقُولُ: « يَأْتِي عَلَيْكُمْ أوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِن مُرَادٍ، ثُمَّ مِن قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرصٌ فَبَرِئَ مِنهُ إِلاَّ مَوضِعَ دِرهَمٍ, لَهُ وَالِدةٌ هُو بِها بَرٌّ, لَو أَقسَمَ عَلَى اللّهِ لأَبَرَّهُ, فَإِنِ استَطَعتَ أَن يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافعَلْ».قال عمر رضي الله عنه: فَاسْتَغْفِرْ لِي فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.[مسلم كتاب الفضائل- باب فضائل أويس القرني].
أمّي:
أحنّ إليك, وأشتاق لنظرة من عينيك, فأنا الرجل الذي مازال يرى دلاله بين عيني أمّه, وأنا الرجل الذي طالما حننت لأنام على ساعديك واحتاج إلى ضمة إلى صدرك.
أعــودُ إليـــكِ يــا أمّــــي
أعـــودُ لصــدركِ الحـــانــي
أعـــودُ بكــلِّ أشــــواقـي
وأشـــــجانــي وأحـــــــزاني
فضمّينـــي وضمّـــــيني
فإنــَّــكِ ملجـــــــئي الثانـــي
أحـــنُّ لقبــــلةٍ كانــــــتْ
تهدهدنــــــي وتــــرعــــاني
أحــنُّ لصوتـكِ المحزون
أيـــــا وحــــــيي وكتمانـــي
أعـــــودُ إليــكِ يا أمّـــــي
سجينـــاً مـــــلَّ مضجعــــهُ
أعـــــودُ إليــكِ يا عمـري
نشـــيداً ضـــاعَ مطلعــــــهُ
فعـُــدتُ اليــومَ من وجدي
علـــى كفَّــيكِ أجمعـــــــــهُ
وقلبـــــي لـــو كشفتيــــــهِ
وجـــدتِ رضــــاكِ أفرعهُ
ولـــو كـــانَ الجفا رجــلاً
بحــــدِّ الســـيفِ أصــــرعهُ
[عبد الناصر رسلان – ديوان زهرة من بستان الأرقم]
آه ما أجمل ضحكةَ ثغركِ الجميل.
ضحكاتك يا أمي لا مصلحةَ فيها ولا رياء.
فهي تنبعث بسلاسة وبساطة وهدوء.
تضفي على القلب حناناً واطمئناناً وروعة.
تجعله آمناً هادئاً
أمّي إني أحبّك وأحبّ لك الخيّر, وأحب لك الهداية, كما أحبَّ أبو هريرة الخيرَ لأمّه والهداية لها فعن أبي هُرَيْرَةَ رصي الله عنها قَالَ: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَىٰ الإِسْلاَمِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْماً فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللّهِ مَا أَكْرَهُ فَأَتَيْتُ رَسُول اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسلاَمِ فَتَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا اليَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللّهَ أَنْ يَهْدِي أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : « اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَة َ» فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِراً بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَىٰ الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَاف فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتِ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ اللّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَىٰ رَسُولِ اللّهِ ، فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَبْشِرْ قَدِ اسْتَجَابَ اللّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَىٰ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ, فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَىٰ عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْراً قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ ادْعُ اللّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَىٰ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : «اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هٰذَا ـ يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ ـ وَأُمَّهُ إِلَىٰ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ. وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ [مسلم كتاب الفضائل -باب من فضائل أبي هريرة]
فهلمّي نقرأ هذه الصفحات ونتمعنْ في هذه العبارات التي مزجت بدمع الحبّ ورقّة العطف وشوق اللقاء, ونُسجت من الكتاب والسنة بنسيج الحبّ والوفاء والإخلاص والصفاء.
فهلمي واجمعي معك كلّ الأمهات اللواتي يسعين للالتحاق بالصالحات القانتات من عباد الله.
القطرة الثانية
أنا صادق في برِّك فأعينيني
لم أكن في يوم من الأيّام عاقّاً أو شقيّاً وإن بدر مني ما يوحي بذلك, فكيف أعقّك وأنت وصيّة نبينا وحبيبنا محمّد صلّى الله عليه وسلم ثلاثاً؛ فعَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوك» [البخاري كتاب الأدب- باب من أحق بحسن الصحبة]
« قال ابن بطّال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البرِّ، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية» [فتح الباري كتاب الأدب- باب من أحق بحسن الصحبة].
أم كيف أعقّك وقد جعلك الله بين الصلاة والجهاد, كأفضل الأعمال عند الله سبحانه وتعالى, ولعمري كيف يفرّط المرء بأفضل أعماله عند الله وهي في متناول يده, فعن عبدِ اللّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سَأَلتُ رَسُولَ اللّهِ : أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللّهِ ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا » قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ « ثُمَّ الّجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ»[متفق عليه].
لكنّها لحظة الضعف, وسكرة العلم, وعنفوان الشباب؛ التي جعلت مني متشوّقاً إلى الأمام, ناسياً ورائي ذلك العهد الجميل الذي كنْتُ فيه ملاكاً صغيراً بين يديك؛ تقلبيني كيف شئتِ وتصنعي منّي ما شئت, حتى إذا دبَّ فيَّ هذا العنفوان نفضتُ عنّي كل ذلك نفضَ المتمرّد غير العاقّ, والمتشوّق غير الناسي, فحلمتُ بعالم جديد؛ عالم فيه أصدقاء وأصحاب وخلاّن وسمّار؛ فيه سهرات وحفلات وأغنيات وأشعار, وطفت أقترب منه غير آبه بنتائجه, فهو العالم الجديد الذي ضحك لي فظننْت ضحكاتِه أجملَ من ضحكاتك, وتقرب إليّ فظننت قربَه أجملَ من قربِك, وأطمعني بسهراته فظننت سهراتِه ألطفَ من سهراتك, وشوّقني لسمره فظننت أن سمَره أهنأ من السمر معك.
ورحت أسكر بسمرهم وضحكاتهم زمناً لا أعده الآن من عمري حتى نسيت حقوقك في عنقي.
رأيت في سمرهم متعة؛ لكن لا تعادل متعة الجلوس معك, ورأيت في ضحكاتهم ترويحاً؛ لكنّها لا تعادل راحة صدري عندما أرى ضحكاتك.
إنّي – والله يا أمّي - لو عاد الزمان بي لما اخترت سهرة إلا وأنت سميرُها ولا أسعدتني ضحكة إلا أنت عبيرُها.
أنا صادق في برّك فاقبلي عذري وسامحيني.
تعالي نمسح ذلك العقوق منّي بكلمة الرضا من شفتيك فقد اشتقت إليها اشتياق أم موسى إلى موسى عليهما السلام.
أعينيني على مسح ما مضى مني بكلمة الرضا تمسحي بها ألمي وتجدّدي بها أملي وتريحي بها فؤادي وضميري.
أمّي أنا صادق في برِّك فأعينيني
وأنا أعتذر منك فهل قلبك يتّسع؟
القطرة الثالثة
اتَّقوا الله واعدلوا بين أولادكم
كالسيل المتصبّب من أعالي الجبال وكالنسر المنقض على فريسته من علّو هي كذلك عاطفة الأمّ, عاطفةٌ جيّاشةٌ لولاها ما صلح أمر البشريّة جمعاء.
فتحمل الأمّ همّ أولادها وهمَّ زوجها وبيتها وتكلّلهم بحنانها على حساب صحّتها ووقتها, فبعاطفتها تزول كلّ آلام الحمل والوضع عند أوّل استهلال لصغيرها.
وبعاطفتها تستيقظ ليلاً مرّات ومرّاتً لتُميطَ الأذى عن فِلْذة كبدها.
وبعاطفتها تمحو أحزان الأولاد, فتُرقّعُ لهم ما هتكَه الزمانُ, وتخيطُ لهم ما يسترُ الأبدان.
لكن هذه العاطفة التي استودعها الله في قلب الأمّ وجعلها مطيّة تحمل عليها جسدَها وكبرياءَها لتلقيهما تحت أقدام أطفالها, فينحني جسدُها, ويتضاءل كبرياؤها, لتحمل من تحت أقدام أولادها وسخ بطونهم, فكان ثوابها أن جعل الله الجنّة تحت أقدامها, فكانت صحبتها أحسن الصحبات, وبرّها أفضل القُرُبات.
فعن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ رَجلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقال: يا رَسُولَ اللَّهِ مَن أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسنِ صَحَابَتِي؟ قَال: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَن؟: قَال: ثمَّ أمُّكَ. قَال: ثُمَّ مَن؟ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَن؟ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ.[ متفق عليه].
قال ابن حجر«قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: (ووصّينا الإنسان بوالديه حملتْه أمّه وهناً على وهن وفصاله في عامين)) فسوّى بينهما في الوصاية، وخصّ الأمّ بالأمور الثلاثة، قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق من الولد الحظِّ الأوفر من البرّ، وتُقدَّم في ذلك على حقّ الأب عند المزاحمة، وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أنّ الأمَّ تُفَضَّل في البرّ على الأب،ونقل المحاسبي الإجماع على أنّ الأمّ مقدّمة في البرّ على الأب» [ فتح الباري كتاب الأدب- باب من أحق الناس بحسن الصحبة].
هذه العاطفة قد تشيب قبل أوانها؛ أو قد تصبو بعد بلوغها؛ فتتلاعب بها عواطف غاشّة وتكهّنات باردة؛ لتحيد بها عن طريق الصواب, فتحرف مسارها و تلقي بها في مهالك دنيويّة قبل الأخروية, فتفضل أخاً على أخ وأختاً على أخت؛ فإذا بها تظنّ نفسها قد أحسنت, فإذا بها قد أساءت ودخلت في نطاق الجور الذي لم يشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رضي الله عنهما قال: «سأَلتْ أُمِّي أبي بعضَ المَوهِبةِ لي من مالِه، ثمَّ بَدا لهُ فوَهَبها لي، فقالت: لا أرضى حتّى تُشهِدَ النبي صلى الله عليه وسلم. فأخَذَ بيدي وأنا غُلامٌ فأتى بيَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ أُمَّهُ بنتَ رَواحة سأَلتْني بعضَ المَوهِبة لهذا. قال: ألكَ وَلَدٌ سواهُ ؟ قال: نعم. قال: فأراهُ قال: لا تُشهِدْني على جَور». [البخاري كتاب الشهادات- باب لا يشهد على شهادة جور].
فكم من أمّ خانتها فراستُها, فمشتْ خلف عواطفها الجيّاشة, ففرقت بين أخوين؛ فرفعت أحدهما وأبعدتِ الآخر, وكم من أمّ ظنّت نفسها حكيمةً فوهبت أحد أولادها وحرمت الآخر.
وكم من أمّ سارت في ركاب المرجفين ففرّقت بين أخوين فأشقتْ عائلةً وأسعدَتْ أخرى.
إنّ الأمّ تشقي نفسها بهذا التفاضل من حيث لا تدري, وتجعل نفسها مطيّة سهلة لانتقادات أولادها قبل أزواجهم وأولادهم.
إنّ الأمهات يجب أن يعلّمْن أنّ الابن الكبير كالابن الصغير, يحبّ كرم أمّه ودلاَلها وعطاءَها كالطفل الصغير تماماً, ويجد في قلبِه ما يجدُه الصغيرُ إن أبعدتُه والدته عنها وقرّبت غيره.
في حياتنا الاجتماعية تتربع العواطف على عقول الأمّهات فتقودهنّ إلى حوافِّ الانهيارات الأسريّة, فكم من أخ عادى أمّه وعقّ أباه لأنهما فضّلا إخوته عليه, وكم من مسرف على نفسه لأنّه لم يجد الحنان عند والديه كما وجده إخوتُه.
إنّ هذا التفاضل بين الإخوة جرّأ إخوة يوسف ليصفُوا والدهم بالضلال وهو النبي ابن النبي ابن النبي فهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال الله تعالى حكاية عنهم
لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ{7} إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ{8}
[يوسف7-8].
فهل ترضين هذه الجرأة من أولادك عليك؟
وهل ترضين أن تكوني في خانة الاتهام؟ إني أخاف عليك فأنت أمّي.
القطرة الرابعة
الأم البديلة
قصة حقيقية
قرأت هذه القصة فأبكتني وأرّقتني وأزعجتني..
قرأت في طياّتها وبين سطورها ألام المحرومين من حنان أمهاتهم, وهنّ أمام أعينهم....
قرأت فيها قسوة قلب طمستْ بصيرتَه الغفلةُ واللهو والعبث...
قرأت فيها شروداً عن الحق والواجبات...
قرأت فيها آلام أطفال لم يعرفوا حضن أمهاتهم بل عرفوا حضن الخادمة وثدي المربية....
قرأت فيها آلام رجال لم يجدوا في ذاكرتهم شيئاً عن حنان أمهاتهم....
فما أحببت أن أمسَّها أو أصوغَها بطريقة أخرى....
أحببت أن أنقلها كما هي, لك أيّتها الأمّ؛ يا صاحبة الحنان؛ لتري كيف يذهب الحنان في زحمة اللهو والمتع؛ في زحمة الاهتمام الزائد والإسراف غير المسوّغ في الأناقة والسهرات والجمال؛ إنها قصّة حقيقية تبكي الحجر, وتنبّه الأمّهات إلى عدم الاعتماد على المربيات في تربية أولادهنّ؛ وإليكم القصّة كما هي:
المكان: قاعة المغادرين في مطار مسقط الدولي.
الزمن :الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل.
أكتب إليك يا أمّي من مطار مسقط الدوليّ ها أنا الآن في القاعة |23| بانتظار الحافلة التي سوف يقلّني إلى سلّم الطائرة الجو بارد ، وأحسُّ بانتعاش لرؤيتي منظر الأطفال نائمين بأحضان أمهاتهم؛ بعض الهدوء يعم القاعة مع صوت خفيف للمذياع يخبر المتأخّرين بالتعجيل لتخليص إجراءاتهم؛ أما أنا أخرجت ورقتي ، وقلمي من سترتي ، وبدأت أكتب إليك مستغلاً الوقت قبل موعد الإقلاع.
أتمنى أن تفكري بكل حرف سوف أخطّه لك ، وتتمعّني به ، وتسترجعي ذاكرتك إلى الوراء قبل أربعة عشر عاماً عندما حملتِ بي تسعة أشهر من المعاناة ، وبعدها خرجت إلى الدنيا ، و تركتني بعد مضي شهرين لتكمل الشغّالة الهندية ((كوماري)) الحمل الثقيل الذي أحسسْتِ بأنّه سوف يقتل أحلامك وطموحك الوظيفيّ وفوق ذلك تفقدين رشاقتك وتذبلين مثل الوردة التي يمنع عنها الماء.
نعم هذه هي الحقيقة التي دأبت (كوماري) عند بلوغي تلقيني هذه الحكاية وكأنها تقصد صقلي ، وتنشئتي على حبها وكرهك أنت حتى لا يضيع تعبُها سدى ولا أعلم ما الذي كان يدور في خَلَدها ؟ الذي أعلمه الآن أنّ حبي لها حقيقي نابع من قلبي الذي عرفها منذ نشأتي
في كلّ مرّة تمنيت بأن تستقطعي من وقتك الثمين ولو بضعَ دقائق لكي أحكي لك ما يدور بخاطري وأشرح لك ألمي لابتعادك عني وابتعاد مشاعري لجهة أخرى وأبوح لك بما أشعر به بعد أن سافرت (كوماري) إلى بلدها الهند ...
صدّقيني أمي وأنأ أناديك بهذا الاسم ولا أشعر به ولا أشعر بأنه من قلبي ، ولكن هي الفطرة وحدها من لقنني هذه الكلمة أما الإحساس الحقيقيّ لا يوجد لديّ لكي أمنحك إياه فقد استهلكتْه شغّالتنا ، وشربتْ منه و ارتوت ورحلَتْ، وتركتْ طفلها الذي لم تلدْه ولكن ربّته على حبّها.
كانت تحكي لي كيف هي الأيام الأولى بعد مضي شهرين من ولادتي كيف تركتِني و عدتِ إلى عملك مع أنّه تمّ منحك إجازة ثلاثةِ أشهر، ولكنّ حبّك لعملك أفقدك إحساسك بطفلك
عند بلوغي سن الفهم كانت (كوماري) تحكي لي قصص بدايات معاناتي ، وصرخاتي ، وأنيني ، وتوجعي حيث كانت تسهر لراحتي وتجلب الدواء لي ، وتسقيني من الحليب المصنّع، و أنت يا من تدَّعين بأنّي طفلك, بالاسم تغطّين في سبات عميق لا تحبين سماع بكائي ،، يؤذيك صراخي وينغّص عليك نومك الهانئ .. فضّلت النوم المريح, حتى تقومي إلى عملك نشيطةً وقبل خروجك تمرّين بي طابعة على خدي قبلة صغيرة و كأني دميةٌ تتركينها صباحاً ثم تعودين إليها بعد الظهر.كم مرّة بكيت و أنا ابن السنتين أجري خلفك صباحاً و أنت ذاهبة إلى العمل ومساء و أنت ذاهبة إلى التسوّق أتمنى أن تأخذيني بحضنك ولكن لا حياة لمن تنادي؛ فقد كانت (كوماري) الحضن الدافئ ، والقلب الحنون والبلسم الشافي.
كبرتُ ولم أجدك أمامي ، وجدْتها هي تلاعبني تلاطفني تسقيني إذا عطشتُ تطعمني إذا جعت, تبدل لي ملابسي إذا اتّسخت, تمسح دمعتي إذا بكيت, تقوم على راحتي حتى عندما أمرض وأحتاج إليك لا أجدك, لكني أجدها, هي من ينام بجانبي يعطيني الدواء ، ويقيس حرارتي ولا تنام إلا إذا أغمضتُ عيني, مرّت السنوات وكبر حبي لها وصغرتِ أنت بعيني ، وبدأت أعي كل ما حولي وأفهم كل شيء ، وكبر تعلقي بها لأنها لم تفارقني منذ اليوم الأول لي بالمدرسة كانت تعدّ لي الإفطار ، وتنتظرني عند موقف الحافلة لكي تتأكد من ركوبي سالماً ، ولا تكتف بذالك إنما تلوح بيدها إلى أن تفارق الحافلة ناظرها, و أنت بالجانب الآخر تضعين المساحيق ، وتتزينين للخروج للعمل ولا تكلفين نفسك بالسؤال عني وعند عودتي من المدرسة أجدها تنتظرني عند باب البيت تحمل حقيبتي عني ، وتغيّر ملابسي وتجهز لي الغداء و أنت يا من تدعين أمي لم أستطع أن أتذكرك ولو بصورة في مخيّلتي أو موقف يشفع لك اليوم, فها أنا قد كبرت وبلغت, و الآن أحمل حقائبي معلناً حسم الصراع الذي يدور في داخلي منذ اليوم الأول لسفر شغّالتنا (كوماري), وإلى اليوم لم أعد أستطيع الجلوس فقد ضاقت الدنيا علي بما رحبت وبلغت من الوجع و الألم والاشتياق مبلغاً لا أريد أن يُؤذى أحد به, فأني أحسّ بأن رأسي سوف ينفجر, ومثلما تركتموني أنت و أبي وأنا طفل صغير ما الذي يضيركم و أنا شاب يافع ابن أربع عشرة أن أختار حياتي وما أريد.
وداعاً أمّاه كم تمنّيت أن تخرج هذه الكلمة من قلبي, حتى و أنا أودّعك الوداع الأخير، ولكن قتلت فيّ كلّ شي جميل كلّ إحساس ومشاعر للأم في .. ذبحتني من الوريد إلى الوريد
هذا ما جنيت و جناه أبي عليّ.
اعذريني الآن فقد جاءت الحافلة الذي يقلنا إلى سلّم الطائرة المتّجهة إلى حيث تعيش أمّي لأعيش معها بقيّة عمري، وصدقيني نصيحة إليك لا تحاولي البحث عنّي أو إرغامي على العودة فإني وإن عدْت أعود جُثة هامدة لا فائدة منه نصيحتي
إليك أنت و أبي إذا أنجبتم ابناً آخر اتخذوني درساً لبقيّة حياتكم.
القطرة الخامسة:
لا تَدْعوا على أولادِكم
ليس في الدنيا أهنأ من سماع دعوات الأم لأولادها؛ تتبتّل إلى الله ليوفقهم ويكرمَهم؛ فدعوات الأمّ لأولادها سياج متين يحميهم؛ وعناية ربّانية ترعاهم؛ ودرب مستقيم يسيرون عليه.
لكنّ بعض الأمهات يقلبن ظهر المجنّ؛ ويَنسينَ عاطفتهنّ الجياشة وحنانهنّ الكبير على أولادهنّ فيغضبْن لبعض تصرفاتهم؛ فإذا بها عالجت خطأه بخطأ أكبر, فتنهال بالدعاء عليه؛ وتوبيخه ولعنِه ؛ وهي لا تدري أن الذي بين يدها فلذة كبدها, تخاف عليه أن يصيبه مكروه, ولكنّها في لحظة واحدة تنسى كلّ شيء؛ تنس لياليها التي قضتها بقربه وهو صغير ؛ تنسى اللقيمات التي وضعتها في فمه؛ تنسى حين تغضب لتنفجر بالدعاء, عليه والرسول صلّى الله عليه وسلم يقول: « لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ, وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ, وَلا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِنَ الله تبارك وتعالى سَاعَةَ نَيْلٍ فيهَا عَطَاءُ فَيَسْجِيبُ لَكُمْ»[أبو داود كتاب الوتر- باب النهي أن يدعوا المرء على أهله وولده].
وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً}.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: « قوله تعالى: {وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَاءَهُ بِٱلْخَيْرِ} قال ابن عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له: اللَّهُمَّ أهلكه، ونحوه. {دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ} أي كدعائه ربَّه أن يَهَب له العافية؛ فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر هلك لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك» [ تفسير القرطبي سورة الإسراء الآية11].
وقد جاءت السيرة النبويّة الشريف بقصّة تبين أمثال هذه الحال, أمثال أمّ غضبت من ابنها, فحملها غضبه أن تدعو عليه وكانت لحظةُ استجابة وساعةٌ فتحت فيها أبواب السماء للدعاء, فقد روى البخاريّ ومسلم عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « كان رجلٌ في بني إسرائيلَ يُقالُ لهُ جُرَيجٌ يُصلّي، فجاءتهُ أُمّهُ فدعَتهُ، فأبى أن يُجيبَها فقال: أُجيبُها أو أُصلّي ؟ ثمّ أتَتْهُ فقالت: اللهمّ لا تُمتهُ حتّى تُريَهُ وُجوهَ المومِساتِ. وكان جُرَيجٌ في صَومَعتهِ، فقالت امرأةٌ: لأَفْتِنَنّ جُرَيجاً. فتعَرّضَتْ لهُ فكلّمَتْهُ، فأبى. فأتَتْ راعياً فأمكَنَتْهُ من نفسِها، فوَلَدَتْ غُلاماً فقالت: هو من جُرَيجٍ. فأتوهُ وكَسروا صَومعتَهُ، وأنزلوهُ وسَبّوهُ، فتوضّأَ وصلّى، ثمّ أتى الغُلامَ فقال: مَن أبوكَ يا غُلامُ ؟ قال: الراعي. قالوا: نبني صَومعتَكَ من ذهب ؟ قال: لا، إلاّ من طينٍ». [متفق عليه].
قال ابن حجر:« وفي الحديث إيثار إجابة الأمّ على صلاة التطوع لأنّ الاستمرارَ فيها نافلةٌ, وإجابةُ الأم وبرها واجب، قال النوويُّ وغيره: إنما دعت عليه فأجيبت لأنه كان يمكنه أن يخفّف ويجيبها، لكن لعله خشي أن تدعُوَه إلى مفارقة صومعته والعود إلى الدنيا وتعلقاتها، كذا قال النووي، وفيه نظر لما تقدم من أنها كانت تأتيه فيكلمها، والظاهر أنها كانت تشتاق إليه فتزوره وتقتنع برؤيته وتكليمه، وكأنه إنما لم يخفف ثم يجبها لأنه خشي أن ينقطع خشوعه، وعن يزيد بن حوشب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« لو كان جريج فقيهاً لعلم أن إجابة أمه أولى من عبادة ربه » أخرجه الحسن بن سفيان، وقال النووي: هذا محمول على أنه كان مباحاً في شرعهم، والأصح عند الشافعية أن الصلاة إن كانت نفلاً وعلم تأذي الوالد بالترك وجبت الإجابة وإلا فلا، وإن كانت فرضاً وضاق الوقت لم تجب الإجابة، وإن لم يضق وجب عند إمام الحرمين، وخالفه غيره لأنها تلزم بالشروع، وعند المالكية أنّ إجابة الوالد في النّافلة أفضل من التمادي فيها، وفي الحديث أيضاً عظم برّ الوالدين وإجابة دعائهما ولو كان الولد معذوراً »[ فتح الباري كتاب الأنبياء -باب قوله تعالى واذكر في الكتاب مريم].
لقد ارتكبت هذه الأمّ بحقّ ولدها خطأ كبيراً, بأن دعتْ عليه لأنّه لم يجبها؛ ووافق ذلك ساعة استجابة ولحظة قبول فقبل الله دعاءها.....
ولعمري لا نعرف ما هو شعور أمِّ جريج عندما عرفت بما أصاب ولدها بسبب دعائها ؛لم يذكر التاريخ لنا ماذا حلَّ بها وإني لأظنها جلست تعضّ أصابعها ندماً تبكي وتتضرع إلى الله أن ينقذ ابنها.
فهل تحبين أن تكوني سبباً في أذيّة ولدك؛ بدعاء تدعين به عليه في لحظة غضب, لخطأ ارتكبَه أو طيش شاب فكره؟
لا أظنَّ أمّاً ترضى بذلك ولو أنها فكرت لحظة واحدة بما تقول لبكت بكاء شديداً, ولجمت لسانها وضبطت عواطفها, ولربّما فعلت بنفسها شيئاً فكيف ترضى أن يُؤذى ولدها وتكون هي السبب...
دعاءُ المُغْضَب وليس دعاء الغضبان!
قد يرتكب بعض الأولاد حماقاتٍ فلا ينتبهون لبرَّ والدتهم, وسماع كلامها, وربما يزعجونها ببعض تصرفاته الصبيانية.
فما الحلّ إذا ً؟
الحلّ يكمن في جزأين:
أما جزؤه الأوّل فما ينبغي في مثل هذه الحال أن تستخدم الأم سلاح الدعاء وتصوبه على أولادها, ولكن تستخدم هذا الدعاء لتصوّب عمل أولادها وتبتهل إلى الله بالدعاء لهم وليس عليهم.
ويمكن أن يكون الدعاء بالهداية مصحوباً بالتذمّر من فعل الأولاد, فهذا لا مانع فيه فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتبسّم تبسّم المغْضَب, كناية عن حبٍّ ولكنْ فيه غضبٌ من بعض الأفعال, فعن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلّفه عن غزوة تبوك قوله: « فلما سلَّمتُ عليه تَبَسَّمَ تبسُّمَ المغضَبِ» [متفق عليه]. وكذلك الأم تستطيع أن تستخدم دعاء المغضَب وليس دعاء الغضبان, بأن تقول بنبرة صوتيّة تدل على الاستنكار: ( الله يهديك).
أما الجزء الثاني من الحلَّ هو عدم اليأس من استجابة الدعاء, فإنّ ذلك ليس مستحيلاً على الله سبحانه وتعالى؛ وفي ذلك ورد الحديث الشريف فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «يُستَجابُ لأحدِكم ما لم يَعْجَل، يقول: دعوتُ فلم يُستجبْ لي».[ متفق عليه].
قال ابن حجر في الفتح:« قال ابن بطال: المعنى أنّه يسأم فيترك الدعاء فيكون كالمانّ بدعائه، أو أنه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة فيصير كالمُبَخِّل للرَّب الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء »[فتح الباري شرح البخاري كتاب الدعوات- باب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْجَل].
هذا هو الحل لكن- والله - ما زلت لا أدري كيف يروق لأم أن تدعو على أولادها؟
القطرة السادسة
هكذا تكونُ الأمَّهاتُ
للوالدين دور كبير في حسن توجيه ولديهما إلى الخير والطريق الصحيح, بل ربما يكون لهما الدور الأكبر في ذلك, فقد أثبتت الدراسات العلمية أنّ أكثر من خمس وسبعين بالمائة من المعارف يتلقاه الأولاد في سنّ الخامسة فمادون.
إذاً فترة عمريّة خطيرة تتلقّى وتخزن هذه المعارف لتعيد صياغتها عندما تكبر, لذلك تأتي أهميّة الوالدين في هذه المرحلة, وماذا يقدّمون لأولادهم من معطيات حول الدِّين والحياة والرّابط بينهما..
إنها أخطر العمليّات في أخطر الفترات .
فعَن أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقولُ: قَالَ رَسولُ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم: « مَا مِنْ مَولُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَىٰ الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ » ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ} الآية [ متفق عليه].
« والجدعاءُ المقطوعةُ الأذن، يريد أنها تولد لا جَدَع فيها, وإنما يجدعُها أهلُها بعد ذلك»[ فتح الباري كتاب الجنائز- باب ما قيل في أولاد المشركين].
وربما تكون الأمّ أكثر تأثيراً وأعظم توجيهاً في حياة أبنائها, وذلك لشدّة قربها منهم, وعظيم تعلُّقها بهم.
فتصرّفاتها وكلامها ينطبع في آذانهم؛ فيتعلّم الأطفالُ منها الكثيرَ الكثير وربّما هي لا تدري.
فالأمّ المراهقة يتعلّم أولادُها المراهقة منها؛ والأمّ المشغولة في الأسواق والزيارات تحفر في أذهان أطفالها ثقافةَ اللّهو من حيث لا تدري؛ والأمُّ القانتة العابدة ترسِّخ في عقول أولادها وقلوبهم الطريق الصحيح والسليم لعبور هذه الدنيا؛ وقد صدق الشاعر حيث قال:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق.
فأيُّ مدرسة أعظم من الأم وهي تربّي جيلاً, وتصنع رجالاً, وتبني أسراً, وتمهّد للوصول إلى جنّات النّعيم.
لذلك تأخذ الأمّ دوراً في توجيه أولادها وتعليمهم وترقيتهم, تحرص عليهم, وتستغلُّ المناسبة لدعوة صالحة لأولادها, إذا زارتها إحدى الصالحات أو زار بيتَها أحدُ الصالحين, ولعمري إنّ أم أنس أسعدت أنساً وهو مازال صغيراً عندما تحيّنت مرور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطلبت دعاء خاصاً لولدها فعن أَنَس بن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللّهِ فَسَمِعَتْ أُمِّي، أُمُّ سُلَيْمٍ صَوْتَهُ فَقَالَتْ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللّهِ أُنَيْسٌ فَدَعَا لِي رَسُولُ اللّهِ ثَلاَثَ دَعَوَاتٍ قَدْ رَأَيْتُ مِنْهَا اثْنَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَرْجُو الثَّالِثَةَ فِي الآخِرَةِ.
وفي رواية عن أنسٍ رضيَ اللَّهِ عنه قال: قالت أمّي: «يا رسولَ اللَّهِ، خادمُك أنسٌ ادْعُ اللَّهَ له قال: اللهمَّ أَكثرْ مالهُ ووَلده، وبارِكْ له فيما أعطَيتَه».
وفي قصة أحمد بن حنبل مع أمّه التي كانت له أمّا وأباً وخادماً ومربياً ومرشداً فقد مات أبوه ، وهو طفل، فكفلته أمّه الزاهدة العابدة الصائمة القائمة.
قال أحمد رحمه الله: فحفَّظتني أمّيَ القرآن، وعمري عشر سنوات، فحفظتُ كتاب الله، واستوعبتُه في صدري.
وقال أيضاًً: كانت أمّي تلبسني اللباس، وتوقظني وتحمّي لي الماء قبل صلاة الفجر، وأنا ابن عشر سنوات، ثم كانت تتخمّر وتتغطى بحجابها، وتذهب معه إلى المسجد؛ لأنّ المسجد بعيد، ولأن الطريق مظلمة.
أو قد تستغل الأم درساً من الحياة لتشرح لأولادها فلسفة الحياة, وكيف يكون النجاح وكيف يكون التفوّق,فهي تحرص الاختيار الصحيح لأولادها لا نفاقاً ولا رياءً ولا مجاملةً, فهذه أم انس رضي الله عنها تستغل موقفاً تـثبت به قيمة عليا عند ولدها, فعَن أَنَسٍ قَالَ:« أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا أَلعَبُ مَعَ الغِلمَانِ قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَينَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ فَأَبْطَأتُ عَلَى أمِّي فَلَمَّا جِئتُ قَالَت: مَا حَبسَكَ؟ قُلتُ: بَعثَنِي رَسولُ اللّهِ لِحاجَةٍ قَالَتْ: مَا حَاجَتهُ؟ قُلتُ: إِنَّهَا سِرٌّ قَالَتْ: لاَ تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللّهِ أَحَداً» [ مسلم كتاب فضائل الصحابة- باب من فضائل أنس].
فالأمّ رحمٌ لابنها حتى بعد أن يخرج من رحمها, تحميه وتعطيه وترعاه, وكلّما اجتهدت في توجيهه نضج وأثمر, وكلما بخلت عليه بذلك تمرّد وابتعد واستكبر.
القطره السابعه
اشغلي أولادَك بالخير قبل أن يشغلهم غيرك بالشرّ
قلبُ الطفل لا يقبل الفراغ, وعقله لا يستوعب أن يكون خالياً من فكرٍ أو نشاطٍ أو حركة, لذلك تراه يخْترع لنفسه ما يشغله, فيلعب بأثمن الأشياء كما يلعب بأتفهها, ليس للثمين عنده قيمة, وليس للتافه عنده ازدراء, فتراه يلعب بالثمين ويزدريه؛ ويلعب بالتّافه فيقتنيه, فهو يرى كل شيء في هذه الحياة قابلاً للعب.
وعلى العكس تماماً فإن أغلب الأمّهات يرين في لعب أولادهن داءً عُضالاً, وشغباً دائماً, وإزعاجا لأهل البيت وإقلاقاً لراحتهم.
لكنّ الطفل يرى الحياة لعباً, ولم لا وهو لا تكليف يحبسه ولا جناح يمنعه وهو الذي لا إثم منه.
لكنّني أعجب من أمًّ تنهال توبيخاً لطفلها لأنّه أفسد بلعبه بعض المقتنيات, وربّما أوجعتْهُ ضرباً لأنّه كسر صحناً أو أوقع ملعقة..
بينما يقول الإسلام للوالدَين: إنّ الضرب لا يستعمل إلا بعد سنّ التمييز ولأمور عظيمة ومهمّة كترك الصلاة, وهو أعلى العقوبات وأشدها فعن عَمرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أَبِيهِ عن جَدَّهِ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « مُرُوا أَوْلاَدَكُم بالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبنَاءُ سَبع سِنِينَ وَاضرِبُوهُمْ عَلَيهَا وَهُم أَبنَاءُ عَشرٍ، وَفَرِّقُوا بَينَهُم في المَضَاجِعِ»[ أبو داود كتاب الصلاة - باب متى يؤمر الغلام بالصلاة].
فمرحلة الطفولة مرحلة توجيهيّة وصدق عليّ رضي الله عنه قال:« لاعِب وَلَدك سبعاً وأدّبه سبعاً واصْحبْه سبعاً».
التربية باللعب:
تعتبر نظرية التربية باللعب من أحدث النظريّات التربويّة إذ يمكن من خلالها توجيه الطفل بشكل غير مباشر إلى أمور عديدة, بالإضافة إلى تعبئة فراغه وتفريغ طاقته.
وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يداعب الأطفال ويشاركهم, ويسمح لهم باللّعب فكان يجعل نفسه جملاً للحسن والحسين رضي الله عنهما, بل إنّه كان يمازحهم في طريقة لعبهم فعن أنس قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس خُلقاً، وكان لي أخٌ يقال له أبو عُمَير ـ قال أحسِبُهُ فطيماً ـ وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير، ما فعلَ النُّغَير؟ نُغَرٌ كان يلعَبُ به، فرُبما حضرَ الصلاة وهو في بَيتِنا، فيأمر بالبساطِ الذي تحتهُ فيُكنَسُ وينضح، ثم يقوم ونقوم خَلفَه فيُصلِّي بنا».
فدل هذا الحديث على اللعب مع الصبيان وممازحتهم وتكنيتهم وغير ذلك..
إضاءة:
قال ابن حجر:
« إنّ بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يَرْوُون أشياءَ لا فائدة فيها، مثل ذلك حديث أبي عمير وما درووا أنّ في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستّين وجهاً، فلخصتها مستوفياً مقاصدها, ففي هذا الحديث:
استحباب التأنّي في المشي، وزيارة الإخوان، وتخصيص الإمام بعض الرعيّة بالزيارة، ومخالطة بعض الرعيّة دون بعض، ومشي الحاكم وحده، وأنّ كثرة الزيارة لا تنقص المودّة، وأن قوله « زر غباً تزدد حباً »مخصوص بمن يزور لطمع، وأنّ النّهي عن كثرة مخالطة الناس مخصوص بمن يخشى الفتنة أو الضرر، وفيه مشروعيّة المصافحة لقول أنس فيه « ما مسستُ كفاً ألينَ من كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم » وتخصيص ذلك بالرجل دون المرأة، وأنّ الذي مضى في صفته صلّى الله عليه وسلّم أنه « كان خشن الكفين » خاصّ بعَبَالَة الجسم لا بخشونة اللّمس، وفيه استحباب صلاة الزائر في بيت المزُور ولا سيّما إن كان الزائر ممن يتبرك به، وجواز الصّلاة على الحصير، وترك التقزز لأنّه علم أنّ في البيت صغيراً وصلّى مع ذلك في البيت وجلس فيه، وفيه أنّ الأشياء على يقين الطهارة لأنّ نضحَهم البساط إنما كان للتّنظيف، وفيه أن ّالاختيار للمصلي أن يقوم على أروح الأحوال وأمكنها، خلافاً لمن استحب من المشددين في العبادة أن يقوم على أجهدها، وفيه جواز حمل العالم علمه إلى من يستفيده منه، وفضيلة لآل أبي طلحة ولبيته إذ صار في بيتهم قبلة يقطع بصحتها، وفيه جواز الممازحة وتكرير المزح, وأنها إباحةُ سنّة لا رُخصة، وأنّ ممازحة الصبيّ الذي لم يميز جائزة، وتكريرُ زيارة الممزوح معه، وفيه ترك التكبّر والترفّع، والفرق بين كون الكبير في الطريق فيَتَوَاقَرُ أو في البيت فَيَمزَح، وأنّ الذي ورد في صفة المنافق أنّ سرّه يخالف علانيته ليس على عمومه، وفيه الحكم على ما يظهر من الأمارات في الوجه, من حزن أو غيره، وفيه جواز الاستدلال بالعين على حال صاحبها، إذ استدلّ صلّى الله عليه وسلّم بالحزن الظاهر على الحزن الكامن حتى حكم بأنه حزين, فسأل أمه عن حزنه، وفيه التلطّف بالصديق صغيراً كان أو كبيراً، والسؤال عن حاله، وفيه قبول خبرِ الواحد لأنّ الذي أجاب عن سبب حزن أبي عمير كان كذلك، وفيه جواز تكنية من لم يولد له، وجواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهّى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه، وقص جناح الطير إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما وأيُّهما كان الواقع التحق به الآخر في الحكم، وفيه جواز إدخال الصيد من الحلّ إلى الحرم وإمساكه بعد إدخاله، خلافاً لمن منع من إمساكه وقاسه على من صاد ثم أحرم فإنّه يجب عليه الإرسال، وفيه جواز تصغير الاسم ولو كان لحيوان، وجواز مواجهة الصغير بالخطاب, خلافاً لمن قال: "الحكيم لا يواجه بالخطاب إلا من يعقل ويفهم"، والصواب الجواز حيث لا يكون هناك طلب جواب، ومن ثم لم يخاطبه في السؤال عن حاله بل سأل غيره، وفيه معاشرة الناس على قدر عقولهم، وفيه جواز قيلولة الشخص في بيتٍ غير بيت زوجته ولو لم تكن فيه زوجتُه، ومشروعية القيلولة، وجواز قيلولة الحاكم في بيت بعض رعيّته ولو كانت امرأة، وفيه إكرام الزائر وأنّ التنعّم الخفيف لا ينافي السنّة، وأنّ تشييع المزور الزائر ليس على الوجوب، وفيه أنّ الكبير إذا زار قوماً واسى بينهم، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم صافح أنساً، ومازح أبا عُمير، ونام على فراش أمِّ سليم، وصلّى بهم في بيتهم حتى نالوا كلّهم من بركته انتهى »[ فتح الباري كتاب الأدب - باب من دعا صاحبه فنقص منه حرفاً].
واليوم إذا لم نشغل أولادنا باللعب المفيد والموجه فإنّ الكثيرَ الكثير جاهزون ليشغلوهم؛ والكثير الكثير من وسائل اللعب صارت في متناول الجميع لكن قسماً كبيراً منها لا يصلح للأطفال ولا يتناسب مع أعمارهم؛ ودور الأمّ في ذلك كبير جداً فبعلمها وصبرها تستطيع أن تستغل كل وقت الطفل بما ينفع ويفيد.
المرجع : كتاب إليك أمي قطرات من بحر حبك للمؤلف عبد اللطيف محمد سعد الله البريجاوي
على ضفاف الحبّ
كيف يكتب المرء عن حبه لأمّه, ومدى تعلّقه بها ومدى حنينه إلى حضنها!!
وهل لشاعر أن يصف هذا الحبّ؟ أو لكاتب أن يسطّره أو لعباراتٍ أن تحتويَه؟!
وإني لأجزم - والله - إنّ كلّ ما كُتب ونظم عبر العصور والأزمنة والدهور, لا يكافئ سطراً واحداً من حبّ المرء لأمّه.
أمّي الغالية:
يعجز القلم عن رسم شكل من أشكال حبّك أو توضيح لون من ألوانه.
فحبّك أشكال وألوان؛ وأنهار وبحار, وسماء وأمطار؛ وورد تتفتح على خدود آذار.
إنّ الأشكال لتعجز أن تحيط بهذا الحبّ, وإنّ الألوان لتحتار كيف ترسم طيَفه أو ظلاًّ من ظلاله.
وكيف يرسم المرء بقلمٍ أنت فيه البدايةُ والنهاية, وكيف يكتب القلمُ عمّن علّمه مسك القلم؟! وكيف يمدح الحرف من علمه نطق الحروف؟!
حبّك أشكال وألوان, لا يستوعبه شكل, ولا يحدّه لون, ولا تتّسع له آفاق الدنيا.
فيا ترى ماذا يحبّ المرء في أمّه؟
أيحبُّ فيها الحنان الذي ملأ أركانه!
أم التفاني الذي أخجل ضميره وأعيا جنانه!
أم يرى فيها الطّيب الذي ملأ الكون وعطّر أركانه!
في كلّ يوم مع تلاوات آيات الفجر المشهود, أنادي الربَّ المعبود وأتبتّل إليه تبتّل العابدين, أن أكون بين يديك رضيّاً وبخدمتك حَفيّاً.
وكيف لا ومن حصل له الرضا من أمّه, والخدمة لها كان في الجنّة لا محالة بإذن الله.
كلّ زهرات الكون لا تساوي ضحكة من ضحكاتك, وكلّ أنهار الأرض لا تعدل عندي دمعة من دمعاتك؟!
أيّ حضن أهنأ من حضنك؟! وأيّ حِجْر أوسع من حِجْرك وأيّ وسادة أنعم من يديك؟!
وهل جمال الكون إلا بعضٌ من رضاك؟ وهل ضحكات الحياة إلا بعضٌ من ضحكاتك.
وهل يحتاج حبّ المرء لأمّه إلى دليل أو إثبات؟!
لعمري إنّ هذا لهو العقوق الخفيّ.
لكنّ المشكلة أنّ الإنسان من شدّة القرب ينسى الحبّ, ويسبح في عالم الاستغلال والانتهاز لمن يحبّ !
أمّي:
كيف لا يحبّك القلب وهو الذي جاور قلبك تسعة أشهر, يسمع دقّات قلبك, ويسبح في بحر فضلك, ويتّكئ يمنة ويسرة على وسائد الحنان في رَحِمِك؟!
كيف لا يحبّك القلب وقد جعل الله الجنّة تحت قدميك, وجعل دخول الجنّة بسبب الإحسان إليك؟!
لن تجد في الكون إنساناً إلاّ يحبّ أمّه, وإن بدا منه ما يبدو من الأولاد من صدود وردود وجفاء.
كيف لا يحبّها وهي التي حملته كُرْهاً ووضعته كُرْهاً
إنّ أغلب الأولاد لا يرون في أمّهاتهم إلاّ الحنانَ الذي يُنْتَهز والطيبة التي تُسْتَغل, وإنّ أغلب الأمّهات لا يرين في هذا الانتهاز وهذا الاستغلال إلا جمالاً يداعب أجفانهنّ, وحنيناً يلامس أفئدتهنّ , ويا للعجب كيف يحب المرءُ أن يُستغل ويُنْتَهز!!
لكن لا عجب في ذلك إذا كان المستغِلُّ هم الأولاد والمستَغَلَّة هي الأمّ.
أمّي الحبيبة:
إنّ للجنّة دروباً أنت خطاها, وللنّار حجاباً أنت ستائرُه, وإنّ للنجاح سلّماً رضاكِ درجاتُه, وللفشل أودية غضبك دلالاتّه.
فَمُنّي علينا بخطى الجنة وأكرمينا بستائر النار وتفضّلي علينا بدرجات النجاح والتوفيق, على الرغم من تقصيرنا وسوء أدبنا.
أمّي:
لقد جعل الله عقوقك ذُلّاً في الدنيا وخسارةً في الآخرة, فأزيلي عنّا هذا الذلّ وادعي الله لنا أن يجعل تجارتنا رابحة فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « رَغِمَ أنف رَغِمَ أنف رَغِمَ أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما عنده الكبر لم يدخلاه الجنة » [مسند الإمام أحمد مسند أبي هريرة].
أمّي الجميلة:
وهل هناك جمالُ امرأةٍ كجمال وجه الأمِّ؟!
فأوّل امرأة تتفتّح عليها العيون وجهُ الأمِّ فلم لا يأنس به, ويلتجئ إليه, وهو الذي لا يعرف وجه امرأة غيرَه ولا ابتسامةَ ثغرٍ غير ابتسامةِ ثغرها.
كل امرئ يحبُّ وجه أمّه ولو كانت دميمةَ الخِلْقة, فهو الوجه الذي ضحك له في طفولته, وآنسه في رجولته.
أمّي:
كلّما نظرْتُ إليك وأنت تصلّين وتستغفرين شعرت بأمن يسري في كياني, لأنّي قد تيّقنت أنّ هناك من يدعو لي ويترضّى عنّي.
وكلّما ضممت صغاري شعرت بالأمن الذي كنت تمنحين؛ وبالحنان الذي كنت به علينا ووالدي تجودين, وبالجهد الذي كنت وإياه تبذلين.
أجملُ صباحٍ صباحُ وجهك, وأجملُ الأيّام يوم رضاك, وأطيب الطعام طعام يديك
صباح الخير يا حلوه..
صباح الخير يا قدّيستي الحلوة
عرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب..
وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر
ولم أعثر..
على امرأةٍ تمشط شعري الأشقر
وتحمل في حقيبتها..
إليّ عرائس السّكر
وتكسوني إذا أعرى
وتنشلني إذا أعثُر
أيا أمّي..
أيا أمّي..
أنا الولد الذي أبحر
ولا زالت بخاطره
تعيش عروسة السكر
فكيف.. فكيف يا أمي
غدوت أباً.. ولم أكبر؟
سلُوا كلَّ من فَقَد أمّه فإنّه سيقول لكم:
لقد فقدتُ الحياة والبركة والحب والعطف والحنان فقدت الصوت الموجِّه والصدر الحنون, والمرشد النّاصح والمحبّ الخالص.
سلوا كلَّ من فقد أمّه فإنّه سيقول لكم: يمينا لست أنساك
كتبتُ إليكِ يا أمّي
نشيداً في المَدى انسَرَبا
أُعبّرُ فيه يا أمّي
عن الدمع الذي انسَكبا
عن القلبِ الذي اضّطربا
عن الفكر الذي شرَدا
عن الشوق الذي اتَّقدا
ولم أُشعِرْ به أحَدا !
فمنذ رحلتِ يا أمي
وحزني، آهِ مِن حزني !
يُطاردُني
يحاصرُني
فتَفضَحُ عبرةُ العين ِ
بصمتٍ بعضَ أشواقي
فأسجدُ في مَدى الصبر ِ
وتسري نغمةُ الشكر ِ
بأعماقي وأوراقي
..
على الشباّكِ يا أمّي
وقفتُ بظلِّ ذِكراكِ
هنا كنّا بأكنافِ الهَنا نَسمَرْ
بظلّ الليلِ إذ أقمَرْ
هنا الأوراقُ والقلمُ
هنا المصحَفْ
هنا الإيمانُ قد رفرَفْ
..
ولا تدرينَ يا أمي
ولا أدري متى ألقى مُحياّكِ ؟
دعوتُ اللهَ يا أمي
ليجمعَنا بميعادِ
هناكَ بصحبة الهادي
هناكَ سيَنجلي همّي
ويَسعَدُ قلبيَ الباكي
وحتّى ذاكَ يا أمي
يميناً لستُ أنساكِ
[د. عبد المعطي الدالاتي- مصباح الفكر]
أمي:
أحارُ كما يحارُ الملايين!
وأحار كما حار الملايين!
وسأظلُّ أحار كما سيظلُّ يحار الملايين!
سأظلّ أتيه بين أزقّة البيان وأودية الشعر! وأغرق في بيان البلغاء وعبارات الخطباء!
وأستجدي العلماء والأدباء!
أبحث عن جواب لسؤال حيّرهم جميعاً, وأحرجهم جميعاً, واستصغرهم جميعاً!
كيف يمكن أن أفيَك ولو جزءاً من حبِّك؟!
وهل يرقى الإنسان لِيَفيَ أمّه جزءاً من حقّها, أو زفرةً من زفراتها, لعمري إنّ هذا الأمر لتنقطع فيه أعناق الإبل, وتفنى فيه أعمار الرجال, ولا يصلون إليه.
كيف أفيك جزءاً من حقّك وقد جعل الله خدمتك جهاداً يعدل قتال الأعداء؛ في معركة يسيل فيها الدماء, ويُُقتل الرجال, ويُيتَّم الأطفال, وتُسبى النساء فجعل رضاك أثقل من كلِّ ذلك؛ فعن عبد اللهِ بن عمرٍو رضيَ اللهُ عنهما يقول: «جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلم فاستأذَنهُ في الجهادِ فقال: أحيٌّ والِداكَ؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد» [ متفق عليه]
بل كيف أفيكِ حقّك وقد جعل الله ضحكتك تعادل هجرة في سبيله, يترك المرء فيها مالَه وأهلَه وعشيرته, فجعل ضحكتك أنفس من ذلك كلّه؛ فعن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي جِئْتُ أَبَايِعُكَ علَى الهِجرَةِ وَلَقَد تَرَكتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَان قَالَ: « ارْجِعْ إلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا ».[ النسائي كتاب البيعة- باب البيعة على الهجرة].
كيف أفيك حقّك وأنت جواز مروري إلى الجنّة وصكَّ براءتي من النّا,ر وقد جعل الله رضاك توقيعاً يطأطئ له خزنة النار, وتتلقّفه ملائكة الجنّة مستبشرين مسرورين؛ فكما قيل: فليعمل البارّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار, وليعمل العاقّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة [تفسير القرطبي تفسير سورة الإسراء الآية 23].
كيف لا أبرّك وقد جعل الله برّك سبباً لقبول دعائي وتضرّعي إلى الله, فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلّى الله عليه وسلم َيقُولُ: « يَأْتِي عَلَيْكُمْ أوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِن مُرَادٍ، ثُمَّ مِن قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرصٌ فَبَرِئَ مِنهُ إِلاَّ مَوضِعَ دِرهَمٍ, لَهُ وَالِدةٌ هُو بِها بَرٌّ, لَو أَقسَمَ عَلَى اللّهِ لأَبَرَّهُ, فَإِنِ استَطَعتَ أَن يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافعَلْ».قال عمر رضي الله عنه: فَاسْتَغْفِرْ لِي فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.[مسلم كتاب الفضائل- باب فضائل أويس القرني].
أمّي:
أحنّ إليك, وأشتاق لنظرة من عينيك, فأنا الرجل الذي مازال يرى دلاله بين عيني أمّه, وأنا الرجل الذي طالما حننت لأنام على ساعديك واحتاج إلى ضمة إلى صدرك.
أعــودُ إليـــكِ يــا أمّــــي
أعـــودُ لصــدركِ الحـــانــي
أعـــودُ بكــلِّ أشــــواقـي
وأشـــــجانــي وأحـــــــزاني
فضمّينـــي وضمّـــــيني
فإنــَّــكِ ملجـــــــئي الثانـــي
أحـــنُّ لقبــــلةٍ كانــــــتْ
تهدهدنــــــي وتــــرعــــاني
أحــنُّ لصوتـكِ المحزون
أيـــــا وحــــــيي وكتمانـــي
أعـــــودُ إليــكِ يا أمّـــــي
سجينـــاً مـــــلَّ مضجعــــهُ
أعـــــودُ إليــكِ يا عمـري
نشـــيداً ضـــاعَ مطلعــــــهُ
فعـُــدتُ اليــومَ من وجدي
علـــى كفَّــيكِ أجمعـــــــــهُ
وقلبـــــي لـــو كشفتيــــــهِ
وجـــدتِ رضــــاكِ أفرعهُ
ولـــو كـــانَ الجفا رجــلاً
بحــــدِّ الســـيفِ أصــــرعهُ
[عبد الناصر رسلان – ديوان زهرة من بستان الأرقم]
آه ما أجمل ضحكةَ ثغركِ الجميل.
ضحكاتك يا أمي لا مصلحةَ فيها ولا رياء.
فهي تنبعث بسلاسة وبساطة وهدوء.
تضفي على القلب حناناً واطمئناناً وروعة.
تجعله آمناً هادئاً
أمّي إني أحبّك وأحبّ لك الخيّر, وأحب لك الهداية, كما أحبَّ أبو هريرة الخيرَ لأمّه والهداية لها فعن أبي هُرَيْرَةَ رصي الله عنها قَالَ: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَىٰ الإِسْلاَمِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْماً فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللّهِ مَا أَكْرَهُ فَأَتَيْتُ رَسُول اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسلاَمِ فَتَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا اليَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللّهَ أَنْ يَهْدِي أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : « اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَة َ» فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِراً بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَىٰ الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَاف فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتِ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ اللّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَىٰ رَسُولِ اللّهِ ، فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَبْشِرْ قَدِ اسْتَجَابَ اللّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَىٰ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ, فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَىٰ عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْراً قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ ادْعُ اللّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَىٰ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : «اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هٰذَا ـ يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ ـ وَأُمَّهُ إِلَىٰ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ. وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ [مسلم كتاب الفضائل -باب من فضائل أبي هريرة]
فهلمّي نقرأ هذه الصفحات ونتمعنْ في هذه العبارات التي مزجت بدمع الحبّ ورقّة العطف وشوق اللقاء, ونُسجت من الكتاب والسنة بنسيج الحبّ والوفاء والإخلاص والصفاء.
فهلمي واجمعي معك كلّ الأمهات اللواتي يسعين للالتحاق بالصالحات القانتات من عباد الله.
القطرة الثانية
أنا صادق في برِّك فأعينيني
لم أكن في يوم من الأيّام عاقّاً أو شقيّاً وإن بدر مني ما يوحي بذلك, فكيف أعقّك وأنت وصيّة نبينا وحبيبنا محمّد صلّى الله عليه وسلم ثلاثاً؛ فعَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوك» [البخاري كتاب الأدب- باب من أحق بحسن الصحبة]
« قال ابن بطّال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البرِّ، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية» [فتح الباري كتاب الأدب- باب من أحق بحسن الصحبة].
أم كيف أعقّك وقد جعلك الله بين الصلاة والجهاد, كأفضل الأعمال عند الله سبحانه وتعالى, ولعمري كيف يفرّط المرء بأفضل أعماله عند الله وهي في متناول يده, فعن عبدِ اللّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سَأَلتُ رَسُولَ اللّهِ : أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللّهِ ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا » قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ « ثُمَّ الّجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ»[متفق عليه].
لكنّها لحظة الضعف, وسكرة العلم, وعنفوان الشباب؛ التي جعلت مني متشوّقاً إلى الأمام, ناسياً ورائي ذلك العهد الجميل الذي كنْتُ فيه ملاكاً صغيراً بين يديك؛ تقلبيني كيف شئتِ وتصنعي منّي ما شئت, حتى إذا دبَّ فيَّ هذا العنفوان نفضتُ عنّي كل ذلك نفضَ المتمرّد غير العاقّ, والمتشوّق غير الناسي, فحلمتُ بعالم جديد؛ عالم فيه أصدقاء وأصحاب وخلاّن وسمّار؛ فيه سهرات وحفلات وأغنيات وأشعار, وطفت أقترب منه غير آبه بنتائجه, فهو العالم الجديد الذي ضحك لي فظننْت ضحكاتِه أجملَ من ضحكاتك, وتقرب إليّ فظننت قربَه أجملَ من قربِك, وأطمعني بسهراته فظننت سهراتِه ألطفَ من سهراتك, وشوّقني لسمره فظننت أن سمَره أهنأ من السمر معك.
ورحت أسكر بسمرهم وضحكاتهم زمناً لا أعده الآن من عمري حتى نسيت حقوقك في عنقي.
رأيت في سمرهم متعة؛ لكن لا تعادل متعة الجلوس معك, ورأيت في ضحكاتهم ترويحاً؛ لكنّها لا تعادل راحة صدري عندما أرى ضحكاتك.
إنّي – والله يا أمّي - لو عاد الزمان بي لما اخترت سهرة إلا وأنت سميرُها ولا أسعدتني ضحكة إلا أنت عبيرُها.
أنا صادق في برّك فاقبلي عذري وسامحيني.
تعالي نمسح ذلك العقوق منّي بكلمة الرضا من شفتيك فقد اشتقت إليها اشتياق أم موسى إلى موسى عليهما السلام.
أعينيني على مسح ما مضى مني بكلمة الرضا تمسحي بها ألمي وتجدّدي بها أملي وتريحي بها فؤادي وضميري.
أمّي أنا صادق في برِّك فأعينيني
وأنا أعتذر منك فهل قلبك يتّسع؟
القطرة الثالثة
اتَّقوا الله واعدلوا بين أولادكم
كالسيل المتصبّب من أعالي الجبال وكالنسر المنقض على فريسته من علّو هي كذلك عاطفة الأمّ, عاطفةٌ جيّاشةٌ لولاها ما صلح أمر البشريّة جمعاء.
فتحمل الأمّ همّ أولادها وهمَّ زوجها وبيتها وتكلّلهم بحنانها على حساب صحّتها ووقتها, فبعاطفتها تزول كلّ آلام الحمل والوضع عند أوّل استهلال لصغيرها.
وبعاطفتها تستيقظ ليلاً مرّات ومرّاتً لتُميطَ الأذى عن فِلْذة كبدها.
وبعاطفتها تمحو أحزان الأولاد, فتُرقّعُ لهم ما هتكَه الزمانُ, وتخيطُ لهم ما يسترُ الأبدان.
لكن هذه العاطفة التي استودعها الله في قلب الأمّ وجعلها مطيّة تحمل عليها جسدَها وكبرياءَها لتلقيهما تحت أقدام أطفالها, فينحني جسدُها, ويتضاءل كبرياؤها, لتحمل من تحت أقدام أولادها وسخ بطونهم, فكان ثوابها أن جعل الله الجنّة تحت أقدامها, فكانت صحبتها أحسن الصحبات, وبرّها أفضل القُرُبات.
فعن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ رَجلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقال: يا رَسُولَ اللَّهِ مَن أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسنِ صَحَابَتِي؟ قَال: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَن؟: قَال: ثمَّ أمُّكَ. قَال: ثُمَّ مَن؟ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَن؟ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ.[ متفق عليه].
قال ابن حجر«قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: (ووصّينا الإنسان بوالديه حملتْه أمّه وهناً على وهن وفصاله في عامين)) فسوّى بينهما في الوصاية، وخصّ الأمّ بالأمور الثلاثة، قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق من الولد الحظِّ الأوفر من البرّ، وتُقدَّم في ذلك على حقّ الأب عند المزاحمة، وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أنّ الأمَّ تُفَضَّل في البرّ على الأب،ونقل المحاسبي الإجماع على أنّ الأمّ مقدّمة في البرّ على الأب» [ فتح الباري كتاب الأدب- باب من أحق الناس بحسن الصحبة].
هذه العاطفة قد تشيب قبل أوانها؛ أو قد تصبو بعد بلوغها؛ فتتلاعب بها عواطف غاشّة وتكهّنات باردة؛ لتحيد بها عن طريق الصواب, فتحرف مسارها و تلقي بها في مهالك دنيويّة قبل الأخروية, فتفضل أخاً على أخ وأختاً على أخت؛ فإذا بها تظنّ نفسها قد أحسنت, فإذا بها قد أساءت ودخلت في نطاق الجور الذي لم يشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رضي الله عنهما قال: «سأَلتْ أُمِّي أبي بعضَ المَوهِبةِ لي من مالِه، ثمَّ بَدا لهُ فوَهَبها لي، فقالت: لا أرضى حتّى تُشهِدَ النبي صلى الله عليه وسلم. فأخَذَ بيدي وأنا غُلامٌ فأتى بيَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ أُمَّهُ بنتَ رَواحة سأَلتْني بعضَ المَوهِبة لهذا. قال: ألكَ وَلَدٌ سواهُ ؟ قال: نعم. قال: فأراهُ قال: لا تُشهِدْني على جَور». [البخاري كتاب الشهادات- باب لا يشهد على شهادة جور].
فكم من أمّ خانتها فراستُها, فمشتْ خلف عواطفها الجيّاشة, ففرقت بين أخوين؛ فرفعت أحدهما وأبعدتِ الآخر, وكم من أمّ ظنّت نفسها حكيمةً فوهبت أحد أولادها وحرمت الآخر.
وكم من أمّ سارت في ركاب المرجفين ففرّقت بين أخوين فأشقتْ عائلةً وأسعدَتْ أخرى.
إنّ الأمّ تشقي نفسها بهذا التفاضل من حيث لا تدري, وتجعل نفسها مطيّة سهلة لانتقادات أولادها قبل أزواجهم وأولادهم.
إنّ الأمهات يجب أن يعلّمْن أنّ الابن الكبير كالابن الصغير, يحبّ كرم أمّه ودلاَلها وعطاءَها كالطفل الصغير تماماً, ويجد في قلبِه ما يجدُه الصغيرُ إن أبعدتُه والدته عنها وقرّبت غيره.
في حياتنا الاجتماعية تتربع العواطف على عقول الأمّهات فتقودهنّ إلى حوافِّ الانهيارات الأسريّة, فكم من أخ عادى أمّه وعقّ أباه لأنهما فضّلا إخوته عليه, وكم من مسرف على نفسه لأنّه لم يجد الحنان عند والديه كما وجده إخوتُه.
إنّ هذا التفاضل بين الإخوة جرّأ إخوة يوسف ليصفُوا والدهم بالضلال وهو النبي ابن النبي ابن النبي فهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال الله تعالى حكاية عنهم
لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ{7} إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ{8}
[يوسف7-8].
فهل ترضين هذه الجرأة من أولادك عليك؟
وهل ترضين أن تكوني في خانة الاتهام؟ إني أخاف عليك فأنت أمّي.
القطرة الرابعة
الأم البديلة
قصة حقيقية
قرأت هذه القصة فأبكتني وأرّقتني وأزعجتني..
قرأت في طياّتها وبين سطورها ألام المحرومين من حنان أمهاتهم, وهنّ أمام أعينهم....
قرأت فيها قسوة قلب طمستْ بصيرتَه الغفلةُ واللهو والعبث...
قرأت فيها شروداً عن الحق والواجبات...
قرأت فيها آلام أطفال لم يعرفوا حضن أمهاتهم بل عرفوا حضن الخادمة وثدي المربية....
قرأت فيها آلام رجال لم يجدوا في ذاكرتهم شيئاً عن حنان أمهاتهم....
فما أحببت أن أمسَّها أو أصوغَها بطريقة أخرى....
أحببت أن أنقلها كما هي, لك أيّتها الأمّ؛ يا صاحبة الحنان؛ لتري كيف يذهب الحنان في زحمة اللهو والمتع؛ في زحمة الاهتمام الزائد والإسراف غير المسوّغ في الأناقة والسهرات والجمال؛ إنها قصّة حقيقية تبكي الحجر, وتنبّه الأمّهات إلى عدم الاعتماد على المربيات في تربية أولادهنّ؛ وإليكم القصّة كما هي:
المكان: قاعة المغادرين في مطار مسقط الدولي.
الزمن :الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل.
أكتب إليك يا أمّي من مطار مسقط الدوليّ ها أنا الآن في القاعة |23| بانتظار الحافلة التي سوف يقلّني إلى سلّم الطائرة الجو بارد ، وأحسُّ بانتعاش لرؤيتي منظر الأطفال نائمين بأحضان أمهاتهم؛ بعض الهدوء يعم القاعة مع صوت خفيف للمذياع يخبر المتأخّرين بالتعجيل لتخليص إجراءاتهم؛ أما أنا أخرجت ورقتي ، وقلمي من سترتي ، وبدأت أكتب إليك مستغلاً الوقت قبل موعد الإقلاع.
أتمنى أن تفكري بكل حرف سوف أخطّه لك ، وتتمعّني به ، وتسترجعي ذاكرتك إلى الوراء قبل أربعة عشر عاماً عندما حملتِ بي تسعة أشهر من المعاناة ، وبعدها خرجت إلى الدنيا ، و تركتني بعد مضي شهرين لتكمل الشغّالة الهندية ((كوماري)) الحمل الثقيل الذي أحسسْتِ بأنّه سوف يقتل أحلامك وطموحك الوظيفيّ وفوق ذلك تفقدين رشاقتك وتذبلين مثل الوردة التي يمنع عنها الماء.
نعم هذه هي الحقيقة التي دأبت (كوماري) عند بلوغي تلقيني هذه الحكاية وكأنها تقصد صقلي ، وتنشئتي على حبها وكرهك أنت حتى لا يضيع تعبُها سدى ولا أعلم ما الذي كان يدور في خَلَدها ؟ الذي أعلمه الآن أنّ حبي لها حقيقي نابع من قلبي الذي عرفها منذ نشأتي
في كلّ مرّة تمنيت بأن تستقطعي من وقتك الثمين ولو بضعَ دقائق لكي أحكي لك ما يدور بخاطري وأشرح لك ألمي لابتعادك عني وابتعاد مشاعري لجهة أخرى وأبوح لك بما أشعر به بعد أن سافرت (كوماري) إلى بلدها الهند ...
صدّقيني أمي وأنأ أناديك بهذا الاسم ولا أشعر به ولا أشعر بأنه من قلبي ، ولكن هي الفطرة وحدها من لقنني هذه الكلمة أما الإحساس الحقيقيّ لا يوجد لديّ لكي أمنحك إياه فقد استهلكتْه شغّالتنا ، وشربتْ منه و ارتوت ورحلَتْ، وتركتْ طفلها الذي لم تلدْه ولكن ربّته على حبّها.
كانت تحكي لي كيف هي الأيام الأولى بعد مضي شهرين من ولادتي كيف تركتِني و عدتِ إلى عملك مع أنّه تمّ منحك إجازة ثلاثةِ أشهر، ولكنّ حبّك لعملك أفقدك إحساسك بطفلك
عند بلوغي سن الفهم كانت (كوماري) تحكي لي قصص بدايات معاناتي ، وصرخاتي ، وأنيني ، وتوجعي حيث كانت تسهر لراحتي وتجلب الدواء لي ، وتسقيني من الحليب المصنّع، و أنت يا من تدَّعين بأنّي طفلك, بالاسم تغطّين في سبات عميق لا تحبين سماع بكائي ،، يؤذيك صراخي وينغّص عليك نومك الهانئ .. فضّلت النوم المريح, حتى تقومي إلى عملك نشيطةً وقبل خروجك تمرّين بي طابعة على خدي قبلة صغيرة و كأني دميةٌ تتركينها صباحاً ثم تعودين إليها بعد الظهر.كم مرّة بكيت و أنا ابن السنتين أجري خلفك صباحاً و أنت ذاهبة إلى العمل ومساء و أنت ذاهبة إلى التسوّق أتمنى أن تأخذيني بحضنك ولكن لا حياة لمن تنادي؛ فقد كانت (كوماري) الحضن الدافئ ، والقلب الحنون والبلسم الشافي.
كبرتُ ولم أجدك أمامي ، وجدْتها هي تلاعبني تلاطفني تسقيني إذا عطشتُ تطعمني إذا جعت, تبدل لي ملابسي إذا اتّسخت, تمسح دمعتي إذا بكيت, تقوم على راحتي حتى عندما أمرض وأحتاج إليك لا أجدك, لكني أجدها, هي من ينام بجانبي يعطيني الدواء ، ويقيس حرارتي ولا تنام إلا إذا أغمضتُ عيني, مرّت السنوات وكبر حبي لها وصغرتِ أنت بعيني ، وبدأت أعي كل ما حولي وأفهم كل شيء ، وكبر تعلقي بها لأنها لم تفارقني منذ اليوم الأول لي بالمدرسة كانت تعدّ لي الإفطار ، وتنتظرني عند موقف الحافلة لكي تتأكد من ركوبي سالماً ، ولا تكتف بذالك إنما تلوح بيدها إلى أن تفارق الحافلة ناظرها, و أنت بالجانب الآخر تضعين المساحيق ، وتتزينين للخروج للعمل ولا تكلفين نفسك بالسؤال عني وعند عودتي من المدرسة أجدها تنتظرني عند باب البيت تحمل حقيبتي عني ، وتغيّر ملابسي وتجهز لي الغداء و أنت يا من تدعين أمي لم أستطع أن أتذكرك ولو بصورة في مخيّلتي أو موقف يشفع لك اليوم, فها أنا قد كبرت وبلغت, و الآن أحمل حقائبي معلناً حسم الصراع الذي يدور في داخلي منذ اليوم الأول لسفر شغّالتنا (كوماري), وإلى اليوم لم أعد أستطيع الجلوس فقد ضاقت الدنيا علي بما رحبت وبلغت من الوجع و الألم والاشتياق مبلغاً لا أريد أن يُؤذى أحد به, فأني أحسّ بأن رأسي سوف ينفجر, ومثلما تركتموني أنت و أبي وأنا طفل صغير ما الذي يضيركم و أنا شاب يافع ابن أربع عشرة أن أختار حياتي وما أريد.
وداعاً أمّاه كم تمنّيت أن تخرج هذه الكلمة من قلبي, حتى و أنا أودّعك الوداع الأخير، ولكن قتلت فيّ كلّ شي جميل كلّ إحساس ومشاعر للأم في .. ذبحتني من الوريد إلى الوريد
هذا ما جنيت و جناه أبي عليّ.
اعذريني الآن فقد جاءت الحافلة الذي يقلنا إلى سلّم الطائرة المتّجهة إلى حيث تعيش أمّي لأعيش معها بقيّة عمري، وصدقيني نصيحة إليك لا تحاولي البحث عنّي أو إرغامي على العودة فإني وإن عدْت أعود جُثة هامدة لا فائدة منه نصيحتي
إليك أنت و أبي إذا أنجبتم ابناً آخر اتخذوني درساً لبقيّة حياتكم.
القطرة الخامسة:
لا تَدْعوا على أولادِكم
ليس في الدنيا أهنأ من سماع دعوات الأم لأولادها؛ تتبتّل إلى الله ليوفقهم ويكرمَهم؛ فدعوات الأمّ لأولادها سياج متين يحميهم؛ وعناية ربّانية ترعاهم؛ ودرب مستقيم يسيرون عليه.
لكنّ بعض الأمهات يقلبن ظهر المجنّ؛ ويَنسينَ عاطفتهنّ الجياشة وحنانهنّ الكبير على أولادهنّ فيغضبْن لبعض تصرفاتهم؛ فإذا بها عالجت خطأه بخطأ أكبر, فتنهال بالدعاء عليه؛ وتوبيخه ولعنِه ؛ وهي لا تدري أن الذي بين يدها فلذة كبدها, تخاف عليه أن يصيبه مكروه, ولكنّها في لحظة واحدة تنسى كلّ شيء؛ تنس لياليها التي قضتها بقربه وهو صغير ؛ تنسى اللقيمات التي وضعتها في فمه؛ تنسى حين تغضب لتنفجر بالدعاء, عليه والرسول صلّى الله عليه وسلم يقول: « لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ, وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ, وَلا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِنَ الله تبارك وتعالى سَاعَةَ نَيْلٍ فيهَا عَطَاءُ فَيَسْجِيبُ لَكُمْ»[أبو داود كتاب الوتر- باب النهي أن يدعوا المرء على أهله وولده].
وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً}.
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: « قوله تعالى: {وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَاءَهُ بِٱلْخَيْرِ} قال ابن عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يستجاب له: اللَّهُمَّ أهلكه، ونحوه. {دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ} أي كدعائه ربَّه أن يَهَب له العافية؛ فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر هلك لكن بفضله لا يستجيب له في ذلك» [ تفسير القرطبي سورة الإسراء الآية11].
وقد جاءت السيرة النبويّة الشريف بقصّة تبين أمثال هذه الحال, أمثال أمّ غضبت من ابنها, فحملها غضبه أن تدعو عليه وكانت لحظةُ استجابة وساعةٌ فتحت فيها أبواب السماء للدعاء, فقد روى البخاريّ ومسلم عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « كان رجلٌ في بني إسرائيلَ يُقالُ لهُ جُرَيجٌ يُصلّي، فجاءتهُ أُمّهُ فدعَتهُ، فأبى أن يُجيبَها فقال: أُجيبُها أو أُصلّي ؟ ثمّ أتَتْهُ فقالت: اللهمّ لا تُمتهُ حتّى تُريَهُ وُجوهَ المومِساتِ. وكان جُرَيجٌ في صَومَعتهِ، فقالت امرأةٌ: لأَفْتِنَنّ جُرَيجاً. فتعَرّضَتْ لهُ فكلّمَتْهُ، فأبى. فأتَتْ راعياً فأمكَنَتْهُ من نفسِها، فوَلَدَتْ غُلاماً فقالت: هو من جُرَيجٍ. فأتوهُ وكَسروا صَومعتَهُ، وأنزلوهُ وسَبّوهُ، فتوضّأَ وصلّى، ثمّ أتى الغُلامَ فقال: مَن أبوكَ يا غُلامُ ؟ قال: الراعي. قالوا: نبني صَومعتَكَ من ذهب ؟ قال: لا، إلاّ من طينٍ». [متفق عليه].
قال ابن حجر:« وفي الحديث إيثار إجابة الأمّ على صلاة التطوع لأنّ الاستمرارَ فيها نافلةٌ, وإجابةُ الأم وبرها واجب، قال النوويُّ وغيره: إنما دعت عليه فأجيبت لأنه كان يمكنه أن يخفّف ويجيبها، لكن لعله خشي أن تدعُوَه إلى مفارقة صومعته والعود إلى الدنيا وتعلقاتها، كذا قال النووي، وفيه نظر لما تقدم من أنها كانت تأتيه فيكلمها، والظاهر أنها كانت تشتاق إليه فتزوره وتقتنع برؤيته وتكليمه، وكأنه إنما لم يخفف ثم يجبها لأنه خشي أن ينقطع خشوعه، وعن يزيد بن حوشب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« لو كان جريج فقيهاً لعلم أن إجابة أمه أولى من عبادة ربه » أخرجه الحسن بن سفيان، وقال النووي: هذا محمول على أنه كان مباحاً في شرعهم، والأصح عند الشافعية أن الصلاة إن كانت نفلاً وعلم تأذي الوالد بالترك وجبت الإجابة وإلا فلا، وإن كانت فرضاً وضاق الوقت لم تجب الإجابة، وإن لم يضق وجب عند إمام الحرمين، وخالفه غيره لأنها تلزم بالشروع، وعند المالكية أنّ إجابة الوالد في النّافلة أفضل من التمادي فيها، وفي الحديث أيضاً عظم برّ الوالدين وإجابة دعائهما ولو كان الولد معذوراً »[ فتح الباري كتاب الأنبياء -باب قوله تعالى واذكر في الكتاب مريم].
لقد ارتكبت هذه الأمّ بحقّ ولدها خطأ كبيراً, بأن دعتْ عليه لأنّه لم يجبها؛ ووافق ذلك ساعة استجابة ولحظة قبول فقبل الله دعاءها.....
ولعمري لا نعرف ما هو شعور أمِّ جريج عندما عرفت بما أصاب ولدها بسبب دعائها ؛لم يذكر التاريخ لنا ماذا حلَّ بها وإني لأظنها جلست تعضّ أصابعها ندماً تبكي وتتضرع إلى الله أن ينقذ ابنها.
فهل تحبين أن تكوني سبباً في أذيّة ولدك؛ بدعاء تدعين به عليه في لحظة غضب, لخطأ ارتكبَه أو طيش شاب فكره؟
لا أظنَّ أمّاً ترضى بذلك ولو أنها فكرت لحظة واحدة بما تقول لبكت بكاء شديداً, ولجمت لسانها وضبطت عواطفها, ولربّما فعلت بنفسها شيئاً فكيف ترضى أن يُؤذى ولدها وتكون هي السبب...
دعاءُ المُغْضَب وليس دعاء الغضبان!
قد يرتكب بعض الأولاد حماقاتٍ فلا ينتبهون لبرَّ والدتهم, وسماع كلامها, وربما يزعجونها ببعض تصرفاته الصبيانية.
فما الحلّ إذا ً؟
الحلّ يكمن في جزأين:
أما جزؤه الأوّل فما ينبغي في مثل هذه الحال أن تستخدم الأم سلاح الدعاء وتصوبه على أولادها, ولكن تستخدم هذا الدعاء لتصوّب عمل أولادها وتبتهل إلى الله بالدعاء لهم وليس عليهم.
ويمكن أن يكون الدعاء بالهداية مصحوباً بالتذمّر من فعل الأولاد, فهذا لا مانع فيه فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتبسّم تبسّم المغْضَب, كناية عن حبٍّ ولكنْ فيه غضبٌ من بعض الأفعال, فعن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلّفه عن غزوة تبوك قوله: « فلما سلَّمتُ عليه تَبَسَّمَ تبسُّمَ المغضَبِ» [متفق عليه]. وكذلك الأم تستطيع أن تستخدم دعاء المغضَب وليس دعاء الغضبان, بأن تقول بنبرة صوتيّة تدل على الاستنكار: ( الله يهديك).
أما الجزء الثاني من الحلَّ هو عدم اليأس من استجابة الدعاء, فإنّ ذلك ليس مستحيلاً على الله سبحانه وتعالى؛ وفي ذلك ورد الحديث الشريف فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «يُستَجابُ لأحدِكم ما لم يَعْجَل، يقول: دعوتُ فلم يُستجبْ لي».[ متفق عليه].
قال ابن حجر في الفتح:« قال ابن بطال: المعنى أنّه يسأم فيترك الدعاء فيكون كالمانّ بدعائه، أو أنه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة فيصير كالمُبَخِّل للرَّب الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء »[فتح الباري شرح البخاري كتاب الدعوات- باب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْجَل].
هذا هو الحل لكن- والله - ما زلت لا أدري كيف يروق لأم أن تدعو على أولادها؟
القطرة السادسة
هكذا تكونُ الأمَّهاتُ
للوالدين دور كبير في حسن توجيه ولديهما إلى الخير والطريق الصحيح, بل ربما يكون لهما الدور الأكبر في ذلك, فقد أثبتت الدراسات العلمية أنّ أكثر من خمس وسبعين بالمائة من المعارف يتلقاه الأولاد في سنّ الخامسة فمادون.
إذاً فترة عمريّة خطيرة تتلقّى وتخزن هذه المعارف لتعيد صياغتها عندما تكبر, لذلك تأتي أهميّة الوالدين في هذه المرحلة, وماذا يقدّمون لأولادهم من معطيات حول الدِّين والحياة والرّابط بينهما..
إنها أخطر العمليّات في أخطر الفترات .
فعَن أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقولُ: قَالَ رَسولُ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم: « مَا مِنْ مَولُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَىٰ الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ » ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ} الآية [ متفق عليه].
« والجدعاءُ المقطوعةُ الأذن، يريد أنها تولد لا جَدَع فيها, وإنما يجدعُها أهلُها بعد ذلك»[ فتح الباري كتاب الجنائز- باب ما قيل في أولاد المشركين].
وربما تكون الأمّ أكثر تأثيراً وأعظم توجيهاً في حياة أبنائها, وذلك لشدّة قربها منهم, وعظيم تعلُّقها بهم.
فتصرّفاتها وكلامها ينطبع في آذانهم؛ فيتعلّم الأطفالُ منها الكثيرَ الكثير وربّما هي لا تدري.
فالأمّ المراهقة يتعلّم أولادُها المراهقة منها؛ والأمّ المشغولة في الأسواق والزيارات تحفر في أذهان أطفالها ثقافةَ اللّهو من حيث لا تدري؛ والأمُّ القانتة العابدة ترسِّخ في عقول أولادها وقلوبهم الطريق الصحيح والسليم لعبور هذه الدنيا؛ وقد صدق الشاعر حيث قال:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق.
فأيُّ مدرسة أعظم من الأم وهي تربّي جيلاً, وتصنع رجالاً, وتبني أسراً, وتمهّد للوصول إلى جنّات النّعيم.
لذلك تأخذ الأمّ دوراً في توجيه أولادها وتعليمهم وترقيتهم, تحرص عليهم, وتستغلُّ المناسبة لدعوة صالحة لأولادها, إذا زارتها إحدى الصالحات أو زار بيتَها أحدُ الصالحين, ولعمري إنّ أم أنس أسعدت أنساً وهو مازال صغيراً عندما تحيّنت مرور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطلبت دعاء خاصاً لولدها فعن أَنَس بن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللّهِ فَسَمِعَتْ أُمِّي، أُمُّ سُلَيْمٍ صَوْتَهُ فَقَالَتْ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللّهِ أُنَيْسٌ فَدَعَا لِي رَسُولُ اللّهِ ثَلاَثَ دَعَوَاتٍ قَدْ رَأَيْتُ مِنْهَا اثْنَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَرْجُو الثَّالِثَةَ فِي الآخِرَةِ.
وفي رواية عن أنسٍ رضيَ اللَّهِ عنه قال: قالت أمّي: «يا رسولَ اللَّهِ، خادمُك أنسٌ ادْعُ اللَّهَ له قال: اللهمَّ أَكثرْ مالهُ ووَلده، وبارِكْ له فيما أعطَيتَه».
وفي قصة أحمد بن حنبل مع أمّه التي كانت له أمّا وأباً وخادماً ومربياً ومرشداً فقد مات أبوه ، وهو طفل، فكفلته أمّه الزاهدة العابدة الصائمة القائمة.
قال أحمد رحمه الله: فحفَّظتني أمّيَ القرآن، وعمري عشر سنوات، فحفظتُ كتاب الله، واستوعبتُه في صدري.
وقال أيضاًً: كانت أمّي تلبسني اللباس، وتوقظني وتحمّي لي الماء قبل صلاة الفجر، وأنا ابن عشر سنوات، ثم كانت تتخمّر وتتغطى بحجابها، وتذهب معه إلى المسجد؛ لأنّ المسجد بعيد، ولأن الطريق مظلمة.
أو قد تستغل الأم درساً من الحياة لتشرح لأولادها فلسفة الحياة, وكيف يكون النجاح وكيف يكون التفوّق,فهي تحرص الاختيار الصحيح لأولادها لا نفاقاً ولا رياءً ولا مجاملةً, فهذه أم انس رضي الله عنها تستغل موقفاً تـثبت به قيمة عليا عند ولدها, فعَن أَنَسٍ قَالَ:« أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا أَلعَبُ مَعَ الغِلمَانِ قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَينَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ فَأَبْطَأتُ عَلَى أمِّي فَلَمَّا جِئتُ قَالَت: مَا حَبسَكَ؟ قُلتُ: بَعثَنِي رَسولُ اللّهِ لِحاجَةٍ قَالَتْ: مَا حَاجَتهُ؟ قُلتُ: إِنَّهَا سِرٌّ قَالَتْ: لاَ تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللّهِ أَحَداً» [ مسلم كتاب فضائل الصحابة- باب من فضائل أنس].
فالأمّ رحمٌ لابنها حتى بعد أن يخرج من رحمها, تحميه وتعطيه وترعاه, وكلّما اجتهدت في توجيهه نضج وأثمر, وكلما بخلت عليه بذلك تمرّد وابتعد واستكبر.
القطره السابعه
اشغلي أولادَك بالخير قبل أن يشغلهم غيرك بالشرّ
قلبُ الطفل لا يقبل الفراغ, وعقله لا يستوعب أن يكون خالياً من فكرٍ أو نشاطٍ أو حركة, لذلك تراه يخْترع لنفسه ما يشغله, فيلعب بأثمن الأشياء كما يلعب بأتفهها, ليس للثمين عنده قيمة, وليس للتافه عنده ازدراء, فتراه يلعب بالثمين ويزدريه؛ ويلعب بالتّافه فيقتنيه, فهو يرى كل شيء في هذه الحياة قابلاً للعب.
وعلى العكس تماماً فإن أغلب الأمّهات يرين في لعب أولادهن داءً عُضالاً, وشغباً دائماً, وإزعاجا لأهل البيت وإقلاقاً لراحتهم.
لكنّ الطفل يرى الحياة لعباً, ولم لا وهو لا تكليف يحبسه ولا جناح يمنعه وهو الذي لا إثم منه.
لكنّني أعجب من أمًّ تنهال توبيخاً لطفلها لأنّه أفسد بلعبه بعض المقتنيات, وربّما أوجعتْهُ ضرباً لأنّه كسر صحناً أو أوقع ملعقة..
بينما يقول الإسلام للوالدَين: إنّ الضرب لا يستعمل إلا بعد سنّ التمييز ولأمور عظيمة ومهمّة كترك الصلاة, وهو أعلى العقوبات وأشدها فعن عَمرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أَبِيهِ عن جَدَّهِ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « مُرُوا أَوْلاَدَكُم بالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبنَاءُ سَبع سِنِينَ وَاضرِبُوهُمْ عَلَيهَا وَهُم أَبنَاءُ عَشرٍ، وَفَرِّقُوا بَينَهُم في المَضَاجِعِ»[ أبو داود كتاب الصلاة - باب متى يؤمر الغلام بالصلاة].
فمرحلة الطفولة مرحلة توجيهيّة وصدق عليّ رضي الله عنه قال:« لاعِب وَلَدك سبعاً وأدّبه سبعاً واصْحبْه سبعاً».
التربية باللعب:
تعتبر نظرية التربية باللعب من أحدث النظريّات التربويّة إذ يمكن من خلالها توجيه الطفل بشكل غير مباشر إلى أمور عديدة, بالإضافة إلى تعبئة فراغه وتفريغ طاقته.
وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يداعب الأطفال ويشاركهم, ويسمح لهم باللّعب فكان يجعل نفسه جملاً للحسن والحسين رضي الله عنهما, بل إنّه كان يمازحهم في طريقة لعبهم فعن أنس قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس خُلقاً، وكان لي أخٌ يقال له أبو عُمَير ـ قال أحسِبُهُ فطيماً ـ وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير، ما فعلَ النُّغَير؟ نُغَرٌ كان يلعَبُ به، فرُبما حضرَ الصلاة وهو في بَيتِنا، فيأمر بالبساطِ الذي تحتهُ فيُكنَسُ وينضح، ثم يقوم ونقوم خَلفَه فيُصلِّي بنا».
فدل هذا الحديث على اللعب مع الصبيان وممازحتهم وتكنيتهم وغير ذلك..
إضاءة:
قال ابن حجر:
« إنّ بعض الناس عاب على أهل الحديث أنهم يَرْوُون أشياءَ لا فائدة فيها، مثل ذلك حديث أبي عمير وما درووا أنّ في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستّين وجهاً، فلخصتها مستوفياً مقاصدها, ففي هذا الحديث:
استحباب التأنّي في المشي، وزيارة الإخوان، وتخصيص الإمام بعض الرعيّة بالزيارة، ومخالطة بعض الرعيّة دون بعض، ومشي الحاكم وحده، وأنّ كثرة الزيارة لا تنقص المودّة، وأن قوله « زر غباً تزدد حباً »مخصوص بمن يزور لطمع، وأنّ النّهي عن كثرة مخالطة الناس مخصوص بمن يخشى الفتنة أو الضرر، وفيه مشروعيّة المصافحة لقول أنس فيه « ما مسستُ كفاً ألينَ من كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم » وتخصيص ذلك بالرجل دون المرأة، وأنّ الذي مضى في صفته صلّى الله عليه وسلّم أنه « كان خشن الكفين » خاصّ بعَبَالَة الجسم لا بخشونة اللّمس، وفيه استحباب صلاة الزائر في بيت المزُور ولا سيّما إن كان الزائر ممن يتبرك به، وجواز الصّلاة على الحصير، وترك التقزز لأنّه علم أنّ في البيت صغيراً وصلّى مع ذلك في البيت وجلس فيه، وفيه أنّ الأشياء على يقين الطهارة لأنّ نضحَهم البساط إنما كان للتّنظيف، وفيه أن ّالاختيار للمصلي أن يقوم على أروح الأحوال وأمكنها، خلافاً لمن استحب من المشددين في العبادة أن يقوم على أجهدها، وفيه جواز حمل العالم علمه إلى من يستفيده منه، وفضيلة لآل أبي طلحة ولبيته إذ صار في بيتهم قبلة يقطع بصحتها، وفيه جواز الممازحة وتكرير المزح, وأنها إباحةُ سنّة لا رُخصة، وأنّ ممازحة الصبيّ الذي لم يميز جائزة، وتكريرُ زيارة الممزوح معه، وفيه ترك التكبّر والترفّع، والفرق بين كون الكبير في الطريق فيَتَوَاقَرُ أو في البيت فَيَمزَح، وأنّ الذي ورد في صفة المنافق أنّ سرّه يخالف علانيته ليس على عمومه، وفيه الحكم على ما يظهر من الأمارات في الوجه, من حزن أو غيره، وفيه جواز الاستدلال بالعين على حال صاحبها، إذ استدلّ صلّى الله عليه وسلّم بالحزن الظاهر على الحزن الكامن حتى حكم بأنه حزين, فسأل أمه عن حزنه، وفيه التلطّف بالصديق صغيراً كان أو كبيراً، والسؤال عن حاله، وفيه قبول خبرِ الواحد لأنّ الذي أجاب عن سبب حزن أبي عمير كان كذلك، وفيه جواز تكنية من لم يولد له، وجواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهّى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه، وقص جناح الطير إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد منهما وأيُّهما كان الواقع التحق به الآخر في الحكم، وفيه جواز إدخال الصيد من الحلّ إلى الحرم وإمساكه بعد إدخاله، خلافاً لمن منع من إمساكه وقاسه على من صاد ثم أحرم فإنّه يجب عليه الإرسال، وفيه جواز تصغير الاسم ولو كان لحيوان، وجواز مواجهة الصغير بالخطاب, خلافاً لمن قال: "الحكيم لا يواجه بالخطاب إلا من يعقل ويفهم"، والصواب الجواز حيث لا يكون هناك طلب جواب، ومن ثم لم يخاطبه في السؤال عن حاله بل سأل غيره، وفيه معاشرة الناس على قدر عقولهم، وفيه جواز قيلولة الشخص في بيتٍ غير بيت زوجته ولو لم تكن فيه زوجتُه، ومشروعية القيلولة، وجواز قيلولة الحاكم في بيت بعض رعيّته ولو كانت امرأة، وفيه إكرام الزائر وأنّ التنعّم الخفيف لا ينافي السنّة، وأنّ تشييع المزور الزائر ليس على الوجوب، وفيه أنّ الكبير إذا زار قوماً واسى بينهم، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم صافح أنساً، ومازح أبا عُمير، ونام على فراش أمِّ سليم، وصلّى بهم في بيتهم حتى نالوا كلّهم من بركته انتهى »[ فتح الباري كتاب الأدب - باب من دعا صاحبه فنقص منه حرفاً].
واليوم إذا لم نشغل أولادنا باللعب المفيد والموجه فإنّ الكثيرَ الكثير جاهزون ليشغلوهم؛ والكثير الكثير من وسائل اللعب صارت في متناول الجميع لكن قسماً كبيراً منها لا يصلح للأطفال ولا يتناسب مع أعمارهم؛ ودور الأمّ في ذلك كبير جداً فبعلمها وصبرها تستطيع أن تستغل كل وقت الطفل بما ينفع ويفيد.
المرجع : كتاب إليك أمي قطرات من بحر حبك للمؤلف عبد اللطيف محمد سعد الله البريجاوي